الفصل العاشر

فقدان شريك الحياة

تلك حسرةٌ لا أحد مستعد لها. حين تُشَخَّص إصابة زوج أحدهم أو شريك حياته بالخرف، يكون اليأس متغلغلًا، وتكون الوحدة شديدةَ الوطأة، ويبدو وكأن الدنيا انقلبت رأسًا على عقب. حين نرتبط في علاقة بشخص آخر، نعرف أنه قد يموت قبلنا إن قدَّر الرب ذلك. لكن لا يكون أحد مستعدًّا لأن يغادره شريكه فيما لا يزال جسده حاضرًا. لا يمكن لأحد أن يتنبَّأ بمدى الفراغ الشاسع حين يكون شريك حياتك الذي بجوارك، والذي تشاركت معه سنواتٍ من عمرك، بعيدَ المنال. تعرف كل بوصة من جسده، تعرف ارتفاعَ صدره وهبوطه وهو نائم، صوتَ وقع أقدامه على الأرض، لمسةَ يده على وجهك. وكل هذا موجود، إلى جوارك تمامًا، لكن الطبيعة التي كان عليها دائمًا تبعُد عنك ملايين الأميال. يُصبح الوقت هو العدوَّ؛ كل يوم، كل أسبوع، يتباعد شريكك عنك أكثر. تُصبح الذكريات مؤلمة؛ لأنها لك وحدَك الآن. ومع أن ثمة أوجهَ تشابُه بالطبع بين فقدان شريك الحياة وفقدان أحد الوالدين بسبب الخرف، فإن جُرح فَقْد الشريك يكون أعمقَ في القلب، ويكون الناس أكثرَ إحجامًا عن الحديث عنه.

كان أبي على بُعد أشهرٍ قليلة من النهاية حين انهارت أمي أمامي وأنا أغادر منزل والديَّ. قالت وهي تنتحب: «لا شيء سيكون كسابق عهده من دونه.» طوَّقتها بذراعيَّ وحاولت تهدئتها. كان ذلك غير مألوف تمامًا. لم أكن أعرف كيف هو شعور عِناق أمي. كنتُ قد رأيت ذلك في الأفلام العائلية حين كنت صغيرة؛ لذا كنتُ أعرف أنه كان ثمة أوقاتٌ طوَّقتني فيها بذراعيها بشدَّة، لكن لم يكن لديَّ أي ذكرى عن ذلك، وعند مرحلةٍ ما على طول الطريق شعرت هي أنها غيرُ راغبةٍ في هذا النوع من العاطفة والمودَّة. لذا وفي المقابل، لم أعانقها قط، على الأقل ليس في السنوات التي تلت مرحلة الطفولة.

كان الوقت منتصفَ ما بعد الظهيرة. وقد تدفَّق ضوءٌ شاحبٌ عبر النوافذ الزجاجية الطويلة وانجرف على أرضية المدخل حيث نقف. وتسرَّبت دموعها عبر قميصي إلى بشرتي. وحال بيننا عمرٌ طويل. على يميني كانت اللوحة التي رسمها نورمان روكويل لأبي معلَّقة؛ عدة صور لوجهه، وعيناه الزرقاوان فيها لامعتان ومتَّقدتان. وفي آخر الرواق، في الحجرة التي كان يرقد فيها في سريرٍ طبي، كانت عيناه مغلقتَين معظم الوقت، وحين كان يفتحهما، لم تكونا بنفس تلك الزُّرقة. ظللت أحثُّ قلبي على تذكُّر هذه اللوحة عن ظهر قلب.

مرَّت عشر سنواتٍ تقريبًا منذ كتب أبي خطابًا بدأه بقوله: «إخوتي المواطنين الأمريكيين، أُطلِعتُ مؤخَّرًا على أنني واحد من بين ملايين الأمريكيين الذين سيعانون داءَ ألزهايمر.» وأنهى ذلك الخطاب بقوله: «أبدأ الآن الرحلة التي ستأخذني إلى غروب حياتي.» وخلال السنوات التي تلت ذلك، بدأت أنظر إلى علاقة والديَّ بعينٍ أكثرَ عطفًا. في معظم حياتي، كنت قد أرجعت بعضًا من السخط إلى الطبيعة الإقصائية لعلاقتهما. إذ شكَّلا دائرةً كاملة، يدور الجميع حولها من خارجها، حتى أطفالهما. لكن إذ دمَّر داء ألزهايمر عالمهما الذي كان فيما سبق آمنًا، رأيت أنه كانت ثمة تكلفة للعيش في عالمٍ مكوَّن من شخصين. لم يكن لدى أمي أدنى فكرة عن كيفية إدخال أحد إلى حياتها ليقدِّم لها السلوى والعزاء؛ ولا حتى أطفالها، ولا أي أحد.

في وقتٍ مبكِّر من مرض والدي، لاحظتُ أن أمي كانت لا تزال تطرح الأسئلة على أبي. كان من الواضح أنه بدا مشوَّشًا جانبًا كبيرًا من الوقت، ولم يكن يعرف كيف يجيبها، خاصة لو بدأت سؤالًا بقولها: «عزيزي، هل تذكر …؟» في البداية وجدت نفسي منزعجة. ألم تلاحظ أن هذه ليست فكرة جيِّدة؟ لكني بعدها أدركت أنها لم تكن تعرف كيف تتصرف مع والدي بشكلٍ مغاير. كانت هذه هي الطريقة التي تواصلا بها طيلةَ عقود. فرأيت بوضوح شديدٍ ما تشعر به من وحدة. رأيتها تسعى إلى التواصل معه، تسعى إلى مشاركته لها التي كانت فيما مضى سهلة، لكنها الآن قد ولَّت. أدركتُ أن فقدان أبي كان لها بمثابة فقدان عضو من أعضائها. سيتعيَّن عليها أن تعيش بطريقة مختلفة تمامًا.

جُرْح فقدان شريك حياتك جرَّاء إصابته بالخرف يكون جُرحًا عميقًا سواء كنتما معًا مدة خمس سنوات أو خمسين سنة، سواء كان الحال هو إصابة بداء ألزهايمر المبكِّر أو الخرف الذي يشن هجومه في وقت لاحق من الحياة. لكنني أظنُّ أنه يوجد المزيد من التعقيدات حين يكون الزوجان قد أمضيا معًا عقودًا كثيرة، يلتحمان أحدهما حول الآخر كجذور شجرة، يتلقى أحدهما دعمَ الآخر فترةً طويلة بحيث لا يمكن تصوُّر أنه سيتعين عليهما أن يعيشا منفصلين.

وفي لحظة ضَعف نادرة من جانبها، أقرَّت أمي لي بأنها كثيرًا ما كانت تثرثر لوالدي، وهي تعرف أنه لن يجيبها؛ لأن إحساس الوحدة كان طاغيًا عليها. وقالت إنها، لذلك السبب نفسه، كانت تُبقي التلفاز مفتوحًا ساعاتٍ طويلة كل يوم — لتملأ المنزل بأصوات أناسٍ يتحدثون. وقالت: «يجعلني ذلك أشعر بوحدةٍ أقل.» ذات مرة قلت لها بحذر إن طرح الأسئلة عليه قد لا يكون فكرة جيدة. فأجابت: «أعرف. أنا فقط لا أعرف كيف أتحدَّث إليه على نحوٍ غير ذلك.»

وعلى نحوٍ متقطِّع أثناء فترة مرض والدي، كانت أمي تُجري مقابلات مع لاري كينج في برنامجه الحواري. وفي إحدى مرات ظهورها، حين كان يسألها عن الآثار التي كان ألزهايمر يتسبب بها لها من الناحية النفسية، أجابته بأنها كانت آثارًا صعبة بصورة مريعة، إلا أن لها شبكة من الأصدقاء الداعمين لها. ولم تقُل شيئًا عن أفراد أسرتها. ربما جرحني ذلك، لكن أسلوب الإقصاء كان مألوفًا. حينها، كان قد صار أمرًا معتادًا. لذا، وبدلًا من أن أطمئن على نفسي لأرى إن كانت قد سبَّبت لي ألمًا، فكَّرتُ في أنه كان محزنًا جدًّا لها أنها لم تُدخل أطفالها وأطفال زوجها إلى حياتها من قبلُ مطلقًا، بحيث حين تمرُّ بها أوقات عصيبة تكون ثمة أسرةٌ من حولها يمكن بسهولةٍ وبطريقةٍ طبيعيةٍ أن تخفِّف ما بها من ألم. فعلى قَدْر ما يتسبَّب به هذا الداء من شعور بالوحدة، يمكن لوجود أسرة من حولك، تستوعب بعضَ ما تشعر به من ألم، أن يشكِّل فارقًا كبيرًا. وقد شهدتُ أوقاتًا حاول فيها أخي غير الشقيق مايكل أن يتجاوز سخط أمي الدائم عليه ليواسيها، لكنها لم تكن تسمح له بذلك. ولا أظن أنها أدركت يومًا ما فقدته بإبعادنا عنها.

إن رؤيتك لأحد والديك وقد تغلَّب عليه الخرف في حين أن الآخر فريسة لمشاعر الفقد والخسارة؛ هو أمرٌ يمكن أن يكون مثبِّطًا وباعثًا على الكآبة. يمكن أن يبدو وكأن لا شيء تفعله لوالدك الذي يقدِّم الرعايةَ، كافٍ. إن كنت في مثل هذا الموقف، فاعلم أن وجودك ودعمك مهمَّان. فأنت بذلك تُذهِب شيئًا من الوحشة، وتخفِّف من ألمِ ما به من حزن، حتى ولو كنت لا تستطيع دفْع ذلك الحزن عنه بالكامل. ويمكن للوالد مقدِّم الرعاية أن يكون مثقلًا بما هو فيه لدرجةٍ لا تجعله يخبرك بأنك تحدِث فارقًا، لكن اعلم أنك تفعل. فهذا طريقٌ في علاقة والديك عليهما أن يستكشفاه بنفسيهما. يمكنك أن تكون موجودًا، ويمكنك أن تقدِّم العزاء والسلوان، لكن سيتعيَّن على مقدِّم الرعاية أن يستكشف طريقه بنفسه.

أدلى لي رجلٌ قابلته في محاضرةٍ ألقيتها قبل سنوات باعتراف شجاع. كانت زوجته التي تزوَّجها طيلةَ أربعة وأربعين عامًا قد تفاقم داء ألزهايمر لديها كثيرًا؛ عند تلك المرحلة كانت تحظى برعاية على مدار الساعة. أخبرني الرجل أن جزءًا منه كان يشعر بالغضب منها، رغم أن ذلك لم يكن منطقيًّا أو عقلانيًّا، لتركها له بهذه الطريقة، بعدما استولى عليها مرض لا يرحم. وقال إنهما كانا قد تناقشا قبل سنوات كثيرة بشأن مسألة الموت، وبشأن أمنيات نهاية العمر؛ وكانا قد أعدَّا الوثائق المناسبة لذلك. كان الرجل قد تصوَّر أن موتها سيسبق موته. لكنه لم يتصوَّر مطلقًا أنها ستتخلى عنه بهذه الطريقة، بأن تغيب فيما لا يزال جسدها حاضرًا، وأغضبه ذلك. وسرعان ما أكَّد أنه يعرف أن ذلك ليس بخطأ منها: فلم يكن يلومها، لكنه كان واعيًا جدًّا بالمشاعر التي تخالجه. وقد هداني ذلك لحقيقةِ أن ثمة الكثير من الأشياء التي تثير الغضب بشأن هذا المرض، وإن كان باستطاعتنا أن نكون منفتحين لنتحدَّث بشأن المشاعر التي تخالجنا، فسيكون أمامنا فرصة أفضل لتجاوزها.

ولن أعرف أبدًا كلَّ المشاعر التي غشيت أمي وخالجتها، المشاعر التي كانت تبقيها مستيقظة في سكون الليل؛ فعلاقتنا لم تسمح بتبادل الأسرار على هذا النحو. لكن بإمكان أولئك الذين يحظون بعلاقة وثيقة مع والديهم أن يعرفوا الكثير عنهم أثناء السنوات العسيرة للإصابة بالخرف. في معظم الأحيان، لا ينظر أيٌّ منا إلى والديه على أنهما أي شيء آخر عدا أنهما والداه. فنحن ننسى بسهولة أنهما حظيا بحياةٍ معًا قبل أن يكونا والدينا. لكن مقدِّم الرعاية الذي يعايش الفقدَ البطيء لشريك حياته قد يرغب في مشاركة معاناته الداخلية بينما يتفاقم المرض؛ لذا من المهم أن نكون منتبهين لتلك الإشارات. وحتى لو لم يرغب مقدِّم الرعاية في ذلك، فبمجرَّد انتباهك، يمكنك أن تكون قادرًا على رؤية أشياءَ بشأن والديك لم تلاحظها من قبل.

وما تلاحظه لا يتعلَّق بهما وحدهما وحسب، بل هو يتعلَّق بنا جميعًا؛ بقوَّتنا وهشاشتنا كبشر. فالمغزى من النظر إلى الأمور بطريقة مختلفة هو الحصول على رؤيةٍ أشمل. إنني حين أنظر إلى والديَّ في أفلامنا العائلية، التي كانا فيها زوجين يافعين معهما طفلتهما الجديدة الممتلئة، فإنني أنظر إليهما نظرةً مختلفة. ولا أكون في تلك النظرة محصورةً في المساحة الضيقة المتمثلة في كونهما والديَّ. وقد ساعدني ذلك مع اقتراب النهاية؛ لأنني استطعت أن أنظر إلى أمي بصفتها امرأةً تمر بالألم الفظيع لفقدان رفيق روحها، ولم يخالط أيُّ شيء من ماضيَّ معها تعاطفي معها.

في مجموعة الدعم الخاصة بي، كثيرًا ما يأتي الناس على ذكرِ أشياءَ لاحظوها في علاقات والديهم بعد أن يجري تشخيصُ أحدهما بالخرف. عادةً ما تكون نمطًا أو عادة سلوكية كانت موجودة دائمًا إلا أنها فجأةً بدت تمثل مشكلةً، وذلك بسبب الواقع الجديد للأسرة. ويمكن أن تكون أي شيءٍ ما بين المشاحنات الخفيفة إلى التسلُّط والتذمُّر. وفي ظلِّ أجواء داء ألزهايمر المتزايدة، يمكن للأشياء التي بدت فيما مضى طبيعيةً أن تبدو الآن مثيرةً للقلق. إن التراجع للخلف خطوةً والنظرَ إلى الأشياء بعين مختلفة مهمَّان حقًّا في هذا التوقيت. إن كان والداك قد أمضيا حياتهما معًا على هذا النحو دومًا، فهذا ما يناسبهما. وبالطبع، إذا ساءت المشاحنات مثلًا وزادت وتيرتها، أو تحوَّلت إلى إساءات، فثمة حاجة للتطرق إلى ذلك. لكن إذا كان والداك يتعاملان بالطريقة التي كانا يتعاملان بها دائمًا، فهما على ما يُرام. تلك الأدوار المألوفة مريحةٌ لهما. وستأتي مرحلةٌ تتغيَّر فيها الأمور، مثلما تحتَّم على والدتي أن تُدرك أنها لم يَعُد باستطاعتها أن تتحدَّث إلى والدي بالطريقة ذاتها. لم يكن باستطاعتها الاستغراقُ معه في الذكريات، ولم يكن باستطاعتها طرحُ الأسئلة عليه. كان ذلك موجعًا لها، وكان من المحزن رؤية ذلك.

هذا الفصل من حياة والديك لا يمثِّل كلَّ حكايتهما. وأيضًا لا يمثِّل حكايتك كلها. إنه ما وضعته الحياة في طريقك الآن، وحين ينتهي، وسوف ينتهي، أمامك فرصة لأن تغرس الدروس التي تعلَّمتها فيما بقي من حياتك. فأنا ما زلت أكتشف أشياءَ تعلَّمتها من إصابة والدي بداء ألزهايمر. لكن أحد الأشياء التي أنا واثقة بشأنها أن كل شيء تعلَّمته نبع من تذكير نفسي المستمر بأن أنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة.

•••

بعد فترة قصيرة من احتياج والدي لأن يكون في سرير طبي، قالت أمي إنها لم تَعُد تستطيع النومَ في سريرهما الكبير. إذ كانت المساحة حولها شاسعة من دونه إلى جوارها، على جانبه من السرير. فتخلَّصت من السرير وجاءت بآخرَ أصغر حجمًا، لكن وبدلًا من أن تبتاع أغطيةً جديدة، أخذت أغطيةَ السرير الكبير إلى الخياطة وطلبت قصَّها. أشرتُ عليها بأن شراء أغطية جديدة بحجمٍ أصغر سيكون على الأرجح أقلَّ كلفة، لكنها رفعت ذقنها بتصميم ورمقتني بنظرة من نظراتها المعتادة، وقالت: «أحب تلك الأغطية. لقد نمت أنا ووالدك عليها سنواتٍ.» فتراجعتُ.

وجدتُ أنه من المذهل أنها أرادت أن تُخرِج سريرهما من الغرفة، لكنها كانت بحاجة إلى شيء مألوف لتتشبَّث به. وحين أُحضِرَ السرير الجديد، كان على البساط علامةٌ ظاهرة في الموضع الذي كان السرير القديم موضوعًا فيه طيلةَ سنوات. وكان لون بقية البساط قد بَهِت، لكن الجزء الذي كان تحت السرير القديم كان أكثرَ قتامةً ببضع درجات. فكان ملحوظًا جدًّا. وانتظرت لأرى إن كانت ستقول شيئًا حيالَ ذلك — ربما تستبدل البساط كله — لكنها لم تقُل شيئًا مطلقًا. وبمرور الوقت، بَهِت لون الجزء القاتم أيضًا. لكن لشهور طويلة، كلما دخلتُ غرفتها، كنت أرى البِساطَ طيفًا لجزء من علاقتهما التي سُلِبَت منهما. كان أبي لا يزال حيًّا على الجانب الآخر من الحائط الآن، في غرفة مختلفة، في سرير طبي يتم تعديله دوريًّا حتى لا يُصاب بقُرَح الفِراش. وكانت الممرضات ترعاه ليل نهار، لكنه إن راوده حُلم، لم يكن باستطاعته أن يتقلَّب على الجانب الآخر ويخبر أمي بشأنه. لا أعرف إن كان حصولها على سريرٍ أصغرَ قد ساعدها، إن كان قد هدَّأ من شعورها بالوحشة. أظن أنها شعرت فحسب أن عليها أن تغيِّر شيئًا. وحتى نهاية حياتها، كانت لا تزال تنام على «جانبها» من السرير.

•••

بمراقبتي لعلاقة والديَّ فيما كان داء ألزهايمر يفرض سيطرتَه بضراوة، وبسماعي لقصص الأزواج وشركاء الحياة في مجموعة الدعم، فكَّرت كثيرًا في درجات الحب والرومانسية. في الحب وفي أن تكون في علاقة حب.

العلاقة السليمة تحوي كليهما بالطبع. لعلَّ شريك حياتك هو أقرب أصدقائك وكذا محبوبك. نعرف جميعًا أن في العلاقات الطويلة أيامًا لا تستطيع فيها الابتعادَ عن شريكك، يكون كلُّ ما تريد فيها هو أن تنفرد به وتمارسا الحب، وأيامًا لا تطيق فيها حتى طريقةَ مضغه للطعام. لكن في تلك الأيام حين يكون وجود شريكك مزعجًا لك، فإن الحب يظلُّ موجودًا. ربما غابت الشهوة، لكن قلبك وروحك ما زالا معلَّقين به. ذلك النوع من الحب هو الذي سيصمد.

يمكن لداء ألزهايمر أن يدمِّر الكثيرَ من الأشياء، لكنني لا أعتقد أن بإمكانه تدميرَ علاقة وطيدة بين روحين. فهو ليس قويًّا بما يكفي ليفعل ذلك. لكن بإمكانه تدمير الرومانسية، وهو يدمِّرها بالفعل. وهذا من المواضيع التي يصعُب على الناس التطرُّق إليها، كما أنه ينطوي على قدْرٍ كبير من الإحراج. يكاد يكون من المستحيل أن تظلَّ منجذبًا جنسيًّا إلى شريكٍ يتصرَّف الآن كالأطفال، ولا يتمتع بأي قدرةٍ ليردَّ بالمثل. ففيما يتفاقم المرض، لا يمكن لذلك الشريك أن يستحم وحده أو أن يقضي حاجته بنفسه. وهو في حاجةٍ لأن يُطعِمه أحد، غالبًا باليد لأن أدوات المائدة يمكن أن تكون خطِرة عليه. ولست واثقةً مما إذا كانت الصدمة الناتجة عن هذا تتلاشى يومًا ما، وغالبًا ما يعقب الاكتئابُ الصدمة.

هذه مرحلة مختلفة من العلاقة، مرحلة يثقلها الفَقْد. إنَّ فَقْدك للشخص الذي مارست الحب معه، واحتضنته طوال ساعات الليل، وكنت تتوق إليه في ساعاتٍ غير متوقَّعة من اليوم؛ هو جُرحٌ في القلب لا يُمكن أن يندمل أبدًا. فأنت تشاهد ذلك الشخص يذوي يومًا بعد يوم؛ وتنسل إلى فراشك في الليل، آملًا أن يكون قد استغرق في النوم. كلُّ شيء يُذَكِّرك بما فقدت. ومشاعر الوحدة ساحقة ولا ترحم.

في مجموعة الدعم الخاصة بي، غالبًا ما كان الناس الذين يفقدون شريكَ حياتهم يفقدونه بسبب داء ألزهايمر المبكِّر، الذي يتفاقم بوتيرةٍ أسرع. في ذلك الوضع، يمكن أن تشعر، أثناء محاولتك فَهْم مشاعر الألم والفقد، أنك في سباق أنت متخلِّف فيه دائمًا. ولا تستطيع أن تفعل إلا ما يمكنك فِعله. ستأتي أيامٌ تشعر فيها أنك أكثر تعقلًا ورسوخًا في حبِّك للشخص الذي اخترت أن تشاركه حياتك، وستأتي أيامٌ تتألم فيها من اشتياقك لكلِّ ما لم يَعُد بإمكانك مشاركته. وما لاحظته فيمن يواجهون هذا الموقف أنهم بمرور الوقت يزدادون ثقةً فيما بقي لديهم من مشاعر حب، وفي الوقت ذاته يكونون أكثرَ استعدادًا لأن يفتحوا حدودَ حياتهم بجرأة. ويمكن لهذا أن يعنيَ الاختلاط اجتماعيًّا أكثرَ دون أن يكون شريكهم إلى جوارهم؛ كما يمكن أن يعنيَ أن ينفتحوا هم أنفسهم على علاقة أخرى.

•••

في عام ٢٠١٩، ظهرت قصةٌ خبرية عن بي سميث، خبيرة نمط الحياة، وزوجها دان جاسبي.1 كان قد صار معروفًا للجميع أن بي قد شُخِّصَت إصابتها بداء ألزهايمر المبكِّر عام ٢٠١٣، حين كانت في الثالثة والستين من عمرها. وكان الزوجان منفتحَين بصورةٍ رائعةٍ وصريحَين بشأنِ ما بها من داء؛ كيف كان يؤثِّر على حياتهما، وكيف كانا يتعاملان مع التغيرات. بل إنهما حتى ألَّفا كتابًا حول ما كانا يُعايشانه في تجربةِ ما بعد تشخيص حالتها. لكن هذه المرة كانت الأنباء مختلفة. إذ كشف جاسبي عن أنه وقع في الغرام ثانيةً، مع امرأةٍ تُدعى أليكس ليرنر، التي كانت تمكث في أغلب الأحيان في المنزل الذي يعيش فيه مع زوجته، بل إنها ساعدَت في رعايتها. حين قرأت القصة، كان أول رد فِعل لي: «يا ويلاه.» كنت أعرف أن أبوابًا ستنفتح على مصراعيها بالأحكام والنقد اللذين سينهالان عليهما من كل جانب، وهو ما حدث بالضبط. وكان بعض التعليقات قاسيًا، بشأنه وكذلك بشأن أليكس. ولا يسعني سوى افتراض أن معظم مَن كانوا يهاجمونهم، إن لم يكونوا جميعهم، لا يملكون أيَّ تجربة مع داء ألزهايمر؛ لأن أي شخص مرَّ به يعلم كم تُصبح الحياة معقَّدة.

ومما يُحسب لهما أنهما لم يتراجعا. وأجريا المقابلات، وفسَّرا بصراحة، وفي أحيان كثيرة بفصاحة، ما يحدُث في علاقة شُخِّصَت إصابةُ أحد أطرافها بداء ألزهايمر. كان الإنجاز الذي حقَّقه دان وأليكس هو فتح حوار حول أزواج أو شركاء حياة شخص شُخِّصت حالته بالإصابة بداء ألزهايمر المبكِّر، وما إن كان يحقُّ لذلك الشريك أن يحظى بالسعادة والرفقة في حياته. وفي إحدى المقابلات، تحدَّث دان جاسبي حول اليوم الذي تلقَّى فيه هو وبي تشخيصَ حالتها. وقصَّ أنها قالت له إنها لا تُريده أن يُضحِّي بالسعادة في حياته، وإنها ترغب في أن يحظى بحياة. ثم وصف بعدها الوحشةَ الشديدة التي شعر بها لدى جلوسه معها كلَّ مساءٍ وهي لا تستطيع أن تبادله الحديث، حين كانت غير واعيةٍ بما يحدُث في العالم أو حتى في الغرفة. وقال إنه انغمس في الاكتئاب وحاوَل أن يداويَ نفسه بالخمر.

وذكر شيئًا قلتُه للكثير من مقدِّمي الرعاية للمصابين بالخرف؛ وهو أن إحصاءات مقدِّمي الرعاية الذين يموتون قبل أحبائهم وأعزائهم تدعو إلى التوقُّف ومثيرة للقلق. إن الوحشة وما يستتبعها من شعور بالاكتئاب يمكن أن يجرَّا مجموعة من الأمراض، وليس من المبالغة في شيء أن نقول إنهما قد يقضيان عليك. وقد ذكر دان جاسبي مرارًا أنه لم يتوقف قَط عن حبِّ بي؛ إذ رعاها في المنزل بمساعدة ابنته وبعد ذلك بمساعدة أليكس. وما وصفه كان موقفًا مفعمًا بالحب من كل جانب. أكان ذلك ترتيبًا غير تقليدي؟ بالطبع. لكن لا شيء طبيعي في العيش مع شخص مصاب بالخرف. فالقواعد التي تنطبق على ظروفٍ أخرى لا تلائم عالم الخرف.2

كان أحد أسباب رغبتي في بدء مجموعة الدعم الخاصة بي أنني أردت أن يعرف مقدِّمو الرعاية أنهم لا يزالون يستحقون أن يحظَوا بحياة رغدةٍ وسعيدة. يمكن للفرح أن يُوجد مع الحزن. إن وقوعك في الحب ثانيةً لا يعني أنك لم تَعُد تحب الشخص المريض. ولا يتحتَّم أن تكون الوحدة سجنك وعقابك. وحين تُصبح مشاعر افتقادك للشخص المريض غامرةً، أليس من الأفضل أن تكون قادرًا على الانهيار بين ذراعَي شخص يحبك ويهتم لأمرك، شخص يتفهَّم؟ البديل هو أن تفترسك الحسرة ويستنزفك الفَقْد. من السهل جدًّا أن تنزلق إلى ذلك الواقع وينتهي بك الحال مطوَّقًا باليأس، غير قادر على الحركة. إن بلوغك السعادة بينما يحيطك الأسى من كل جانبٍ أمرٌ يتطلَّب جهدًا جهيدًا، لكن ما يتطلب جهدًا أكثر هو فتح قلبك لحب جديد وأنت لا تزال تتألم اشتياقًا للشخص الذي ما زلت تحبه، لكنك الآن لا تكاد تتبيَّنه. أنا لا أُومِن بأننا جئنا على هذه الأرض لنستسلم للألم؛ نُقِرُّ به، أجل، ونتعلَّم منه، قطعًا. لكن المغزى من وجودنا هو أن نشق طريقنا في الحياة نحو ميدان مفتوح تنتظرنا فيه إمكانات واحتمالات أخرى.

ماتت بي سميث في فبراير من عام ٢٠٢٠. وكانت في السبعين من عمرها. وسيتذكَّر الناس عملها باعتبارها خبيرةَ نمط حياة، لكنَّ جزءًا كبيرًا من إرثها سيكون حول الكيفية التي سيطرت بها هي وزوجها على داءٍ أحكمَ قبضته عليها في سنٍّ صغيرة، وحوَّلت خبرتها إلى درسٍ حياتيٍّ يستفيد منه الآخرون. فحتى وسط مساحات داء ألزهايمر الشاسعة والخاوية كانت لا تزال تبتسم. كانت هي وزوجها لا يزالان يجدان بهجةً في الحياة. وأثبتا أن داء ألزهايمر لا يستطيع التغلب على ذلك.

«لا بد لمن يتعلَّم أن يعاني. وحتى أثناء نومنا يتقطر الألم، الذي لا نستطيع نسيانه، على القلب قطرةً قطرة، وفي خِضم يأسنا، ورغمًا عن إرادتنا، تأتينا الحكمة بمدد الله العظيم.»

إسخيلوس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤