الفصل الثاني عشر

كان أفضلَ كثيرًا بالأمس

يشعر رجلٌ شُخصت حالة أمه بالإصابة بداء ألزهايمر أنهما على الأقل استقرَّا على وتيرة يمكن التعويل عليها. إذ ظلَّت حالتها مستقرَّة نسبيًّا قرابة عام. وحين أوضحت أنها لا ترغب في مغادرة بيتها، عَيَّن مقدِّمَة رعايةٍ بدوامٍ جزئي لتبقى رفقتها أربع ساعات يوميًّا. وتدبَّر هو أمر توفير الطعام بحيث كان كلُّ ما يتعيَّن عليها فِعله هو وضعه في فرن المايكروويف. عادةً، حين تغادر مقدِّمة الرعاية في الظهيرة، تكون أمُّه على وَشْك أن تأخذ قيلولة. ويطمئن هو عليها حين يعود من العمل، ويجلس معها لبعض الوقت، ثم يتركها تشاهد التلفاز. تنسى أمُّه الأسماء والتواريخ وتُصاب بالاضطراب في بعض الأحيان، لكن يبدو أنها تكيَّفت مع تلك الوتيرة التي ترسَّخت بينهما.

ثم ذات يوم يصل إلى منزلها بعد عمله كما يفعل على الدوام، فيجد البابَ الأمامي مفتوحًا على مصراعيه. لقد اختفت. يتصل بمقدِّمة الرعاية فتخبره أنها كانت على ما يُرام حين أنهت دوامها. ولم يبدُ أيُّ شيءٍ مختلفًا. يطرق أبواب الجيران، لكنهم لم يروها. يتصل بالشرطة ويبلغ عن فقدِها؛ ويتعيَّن عليه أن يخبرهم أنها مصابةٌ بداء ألزهايمر. تمرُّ الساعات ولا يرغب في العودة إلى منزله تحسبًا لأن تعود.

وبعد وقت طويل من غروب الشمس، تتوقَّف سيارة وتخرج منها أمه. أوصلها رجل إلى بيتها. وجدها الرجل واقفةً في ساحة صف السيارات لمتجر بقالة، وكان باديًا عليها أنها تائهة ومضطربة. يقول الرجل إنها لم تتذكَّر عنوانها، لكن حقيبة يدها كانت معها وكانت لا تزال معها رخصةُ قيادة قديمة. والآن تبدو الأمُّ غير مبالية؛ فهي لا تعي البتةَ ما حدث. يشكر الابنُ الرجلَ الغريبَ، لكن فكرة مزعجة تجعله يتساءل عما إن كان معها نقود في محفظتها وإن كانت النقود لا تزال موجودة. ولا سبيل لمعرفة ذلك لأنها لا تملك أدنى فكرة عما كان في محفظتها.

يصرُّ على أن تأتيَ معه إلى البيت وتقضي ليلتها هناك، ولا يترك لها مجالًا للرفض. لكن ماذا بعد؟ عليه أن يعمل، ولا يمكنه تعيين مقدِّم رعاية بدوام كامل في اليوم التالي مباشرةً. وفجأة، أصبح كلُّ ما كان مستقرًّا ومنظَّمًا في حياته في حالة من الفوضى. سيتعيَّن عليه أن يلتمس إجازة من العمل ليعيِّن أحدًا ما ليرعاها أكثر؛ ويدرك الرجل أنه لا يمكن له أن يتيقن من أن أمَّه ستنام في الليل ولن تستيقظ وتخرج من المنزل.

يشعر الرجل أنه مثقلٌ، ليس بفعل الظروف وحسب، ولكن بشعور بالفشل أيضًا؛ شعور بأنه كان يتحتَّم عليه أن يعرف أن هذا كان سيحدث، وكان ينبغي أن يكون مستعدًّا له. وتداهمه حقيقةُ أن أمه قد لا تكون قادرةً على البقاء في بيتها. والسبيل الوحيد الذي سيستطيع به تحمُّل تكاليف إقامتها في منشأة رعايةٍ هو بيع منزلها، فكيف سيشرح لها ذلك؟

هذا مثال واحد وحسب على التحوُّلات السريعة التي يمكن أن يتسبَّب بها داء ألزهايمر، أو أيُّ نوعٍ من أنواع الخرف. تقضي الطبيعة البشرية بأن نتعوَّد على نمطٍ رتيبٍ معيَّن، أن نشعر بدرجةٍ ما أن الحياة ستمضي قُدُمًا بطريقةٍ مألوفةٍ دون عناء. ونميل إلى الاعتقاد أن ستكون ثمَّة علاماتٌ على أن شيئًا ما على وَشْك أن يتغيَّر. نظن أنه ربما سيعاني الشخص العزيز علينا فجأةً من فقدان للذاكرة أطول من المعتاد، الأمر الذي يُشير إلى أن المرض يتفاقم. قد يحدث هذا، لكنه أيضًا قد لا يحدث. يشقُّ داء ألزهايمر طريقَه دون أي إمكانيةٍ للتنبُّؤ بخطواته، ودون علاماتٍ إرشاديةٍ على الطريق. يمكن للضحية أن يتحوَّل من شخصٍ لا يزال قادرًا على إعداد طعامه بنفسه إلى شخصٍ يخرج من المنزل، معتقدًا أنه ذاهب إلى المنزل الذي قضى فيه طفولته.

والاستعداد لما هو محتوم، رغم أننا نشعر بأنه غير طبيعي ونقاومه، هو أفضل طريقة لتجنُّب حالة من الذعر. فحين تتكاثر عليك الكوارث — سواء كانت حقيقية أو متوهَّمة أو مرجَّحًا حدوثها — يكون من الصعب التفكير بصورة سليمة. ومن الأسهل أن تبدأ باتخاذ الخطوة الأولى نحو المرحلة التالية حيث تكون في حالةٍ ذهنيةٍ أكثر هدوءًا. وإن كنت تعرف أن السبيل الوحيد مستقبلًا لتحمل تكاليف منشأة رعاية لوالدك هو بيعُ بيته، فعيِّن سمسار عقارات مسبقًا، وادرس السوق، واستعد. تفقَّد منشآت الرعاية، واكتشف ما لا يعجبك، وأيها قد يكون صالحًا لوالدك. ولا يتعيَّن عليك أن تخبر والدك — في الواقع، أقترح عليك ألَّا تفعل — لكنَّ انتهاءك من الأعمال التحضيرية سيجعلك مستعدًّا لما هو قادم.

تفكر جيدًا في كل الأشياء التي يمكن أن تحدث؛ كل المخاطر التي يمكن لمريض بالخرف أن يتعثر فيها. فقد سمعت عن شخص مصاب بداء ألزهايمر يضبط درجةَ حرارة فرن المايكروويف على درجة خطيرة ثم ينسى أمره، ولحسن حظه أن الدائرة الكهربية انطفأت قبل أن تندلع النار في المنزل. وأعرف امرأة شرِبت من غسول الشعر لأن العبوة كانت تشبه عبوة مياه إيفيان التي كانت عادةً تشرب منها، ورجلًا خرج من المنزل وحاول عبور الطريق السريع، وامرأة تاهت على بُعد بناية واحدة من منزلها وقبلت توصيلة من غريبٍ والذي عاد لاحقًا، بعدما رأى أنها هدف سهل.

بالطبع، حتى ولو توقَّعت كل كارثة محتملة يمكن أن تخطر على ذهنك، يمكن للخطوب أن تقع. فأنت ببساطة لا تستطيع توقُّع ما سيفعله الخرف أو متى سيفعله. إنه توازن غريب، أن تتعلم أن تعيش في اللحظة الراهنة — وهي عادةً اللحظة التي يعيش فيها المريض بداء ألزهايمر — وأن تخطط لمستقبلٍ يمكن أن يبدو كفوضى معقَّدة. ستباغتك أشياءُ في بعض الأحيان؛ هذا أمرٌ مفروغ منه. خطِّط بقَدْر ما تستطيع، واستبق الأمور في ذهنك قَدْر ما تستطيع، وبعدها تذكَّر فحسب أن تحافظ على هدوئك واتزانك.

•••

كما قلت من قبل، في حالة والدي كان لدينا قضبان حماية مدمجة، وكان عملاء الخدمة السرية في المكان. ما كان أبي سيهيم على وجهه، لكن هذا لم يكن يعني أنه لا يمكن أن يقعَ في مأزق. وقد أتت مرحلةٌ كان يجد فيها صعوبةً في تعرُّف أشياءَ معينة؛ كما هو الحال مع معظم مصابي داء ألزهايمر. كان من شأنه أن يحدِّق إلى تلك الأشياء، ما يجعل من الواضح أنه لم يكن واثقًا من ماهية شوكة الطعام أو فرشاة الشعر. ومن الشائع جدًّا لدى المصابين بداء ألزهايمر أن يبدءوا في وَضْع الأشياء في أفواههم، مثلما يفعل الأطفال؛ لذا فتلك مخاطرة يلزم توقُّعها.

وكانت ثمة دلالة أخرى على أن والدي كان قد سقط من المستوى المستقر نسبيًّا الذي ظلَّ عليه طيلةَ سنوات، وهي أنه صار يُصاب بتفكك إدراكي (وهو انهيار فجائي وغير متوقَّع في القدرات المعرفية) في نهاية اليوم. يمكن لمتلازمة الغروب أن تصبح أقربَ إلى حدثٍ يستمر طوال اليوم مع تفاقم المرض. يظل أولئك الذين يعانون تلك المتلازمة في أفضل أحوالهم في الصباح، أما في بقية اليوم فتكون الأمور غير مستقرة. ولا يعود بإمكانك الاعتماد على الوقت من اليوم لقياس الكيفية التي سيتصرَّف بها الشخص العزيز عليك.

استمرت وتيرة أبي، المتمثلة في الذهاب إلى مكتبه كلَّ يوم عمل في الأسبوع ولساعات قليلة، سنواتٍ عديدة. وكان الزائرون يُفحَصون بدقة ويُسمح لهم بقضاء بضع دقائق معه، والتقاط الصور والتفاعل معه. فلم يكن لديه ما يفعله في المكتب أكثرَ من ذلك. وكان أكثرُ ما يُحزن حيال زيارته في المكتب هو رؤية مكتبه. لم يكن عليه شيء سوى حامل أقلام، وساعة ودفتر أصفر اللون ليرسم عليه. والمذهل أنه كان لا يزال يذكر كيف يرسم الخربشاتِ التي كان يرسمها دائمًا؛ أشكالًا ووجوهًا وأحيانًا خيولًا، وكان دائمًا يرسمها بسرعة وكأنه كان رسَّام كاريكاتير في حياةٍ سابقة. لكن خواء المساحة أمامه فيما يجلس إلى مكتبه كان يعتصر قلبي في كل مرة.

كانت أمي بسماحها له بالذهاب إلى المكتب تسير على خطٍّ رفيع يفصل بين توفير حالة طبيعية له — شذرة من الحياة التي عرفها سابقًا — وحفظ ماء وجهه. وأنا متأكدة تمامًا من أن زيارةً بعينها للمكتب هي التي جعلتها تقرِّر أن الوقت قد حان لإبقائه في البيت. في عام ١٩٩٨، حين شارف العمل على حاملة الطائرات الأمريكية «يو إس إس رونالد ريجان» على الانتهاء، حدَّد عدة رجال من الجيش موعدًا لمقابلة والدي ليعرضوا عليه نموذجًا — شيئًا أشبه بحفل صغير لكشف النقاب عن حاملة الطائرات. وضع الرجال النموذجَ على طاولة، وأزالوا الغطاء من فوقه، وأخبروه عن ماهيته وعن الاسم الذي سيُطلَق عليه. نظر والدي إلى النموذج وسأل: «أيمكنكم امتطاء الخيل عليها؟» لم يخبرني أحد قط إن كان أي شخصٍ قد أجابه، وإن كان يتعين عليَّ أن أفترض أن أحدهم قال شيئًا. ضحكت حين سمعت بالقصة لأنها كانت لطيفة ومحببة، وفي واقع الأمر كانت ستصبح طرفة من طرف والدي لو كانت قد قيلت في أوقاتٍ كان فيها أكثر صحة. لكن أمي لم يرُق لها الأمر. إذ وجدت أن ذلك محرج، وبدا أن الأمر أجبرها على اتخاذ قرار بأنه لم يَعُد ينبغي له الذهاب إلى المكتب.

كانت تلك واقعة أخرى شعرت فيها بشكلٍ حادٍّ بما يبعث على الحزن في عائلتي؛ وهو أننا لم نكن قَط نناقش القرارات كمجموعة واحدة. كان بقيتنا إما يبلَّغون، أو لا يبلَّغون، بالقرارات التي اتخذتها أمي، ولم يبدُ عليها مطلقًا أنها أدركت أبدًا أنها لم يكن يتعيَّن عليها أن تكون وحيدةً بهذا الشكل في رحلتها. أعتقد أننا جميعًا كنا سنلتفُّ حولها، رغم ماضينا المنقسم، لكن ذلك لم يحدث. سينتهي المطاف بأمي بأن تموت وحيدةً في منتصف الليل، دون أن تعرف أبدًا أنه كان لديها أحفاد رائعون. تزوَّج ابن مايكل، واسمه كاميرون، وله ابنتان صغيرتان، لكن أمي كانت قد أبعدت مايكل وأسرتَه. ولم تذهب قط إلى سياتل، حيث عاش رون طيلة عقود؛ لذا لم يكن لديها أدنى فكرةٍ عما كانت عليه حياته هناك. وكنت أتساءل في بعض الأحيان عما إن كنا نضع نهايةَ حياتنا بكل قرار نتخذه.

حين تغيَّر روتين والدي اليومي ليصبح في الواقع دون روتين على الإطلاق، استُعيض عن مقدِّم الرعاية الذي كان معيَّنًا لأربع ساعات يوميًّا بامرأة كانت فيما مضى قد مَرَّضَت أبي حتى استرد عافيته، بعد إصابته بطلقٍ ناري في عام ١٩٨١. كانت المرأة لا تزال ممرضةً مسجَّلةً لكنها لم تَعُد تعمل في المستشفيات؛ لذا كانت متفرِّغةً للمعيشة في منزل والديَّ ورعاية أبي. كانت تجلس إلى جوار أبي على طاولة العشاء، وكانت علامة فارقة ومحزنة أخرى حين تناولتُ العشاء معهم ذات مرة ورأيتها تُقَطِّع له الطعام.

سرعان ما ركن والدي إلى الصمت، فكان لا يتحدث إلا قليلًا، وأفصحت عيناه عن أن وعيه كان في مكان بعيد. وأيًّا كان ذلك المكان الذي كان قد انجرف إليه وعيه فقد بدا مكانًا هادئًا. ولو كان ثَم عزاء في تفاقم المرض، فكان أنه لم يَعُد يصاب بنوبات يبدو فيها خائفًا أو مضطربًا. كان قد حُمل إلى أعماق سحيقة تتجاوز هذه المشاعر والانفعالات.

ذات ليلة حين ذهبت إلى منزل والديَّ لتناول العشاء، كان قمر عملاق يرتفع في السماء. وفيما جلسنا إلى الطاولة، سطع ضوء القمر عبر النوافذ الزجاجية، محتلًّا مساحةً كبيرة من السماء. تتزامن ظاهرة القمر العملاق مع وصوله إلى نقطة الحضيض القمري، حين يتحرَّك القمر ليصبح أقرب ما يمكن إلى الأرض في مداره البيضاوي. في وقت آخر كان أبي سيحب الحديث عن ذلك. وظنًّا مني أنني قد أختلس من المرض لحظة، قلت: «انظر إلى القمر يا أبي. إنه قمر عملاق. وهو أقربُ ما يكون إلى الأرض الآن.»

رفع والدي ناظرَيه لكني لست واثقة أن عينيه كانتا مركِّزتين، ولم يقُل شيئًا؛ لم يفعل شيئًا سوى أن توقَّف للحظة ثم عاود النظر إلى صحنه. حين كنت فتاة صغيرة، كنت أظنُّ أن أبي هو من علَّق القمر في السماء. والآن، لم أستطِع مشاركته جلال المشهد.

•••

إن إدراك أن المرض يتفاقم — بغض النظر عن الطريقة التي يحدث بها ذلك — هو أقسى المنعطفات وأصعبها على الأسرة وعلى أحبائنا. فمهما كنا نفكِّر بذهن صافٍ، ومهما كان حوارنا الداخلي مع أنفسنا واقعيًّا — بأنْ نخبر أنفسنا بأنَّ المرض بالطبع سيتفاقم — فإننا نميل إلى التمسك بالحال الذي كان عليه المصاب في المراحل الأولى. إن هذا يكاد يكون غريزة بقاء فينا. فعقولنا تعرف أن الأمور ستزداد سوءًا، لكن مشاعرنا وعواطفنا لا تستجيب.

وفيما عدا داء ألزهايمر المبكِّر والخرف الجبهي الصدغي، فمن الشائع أن يظل المصابون بالخرف في مستوى نسبي الاستقرار لفترة بعد تشخيص إصابتهم بالمرض. لذا من الطبيعي أن يعتادَ مقدِّمو الرعاية على هذا الحال وأن يسكِّنهم أن يقولوا في أنفسهم: «لو أنه فقط بقيَ على هذا الحال، لأمكنني التعامل مع الأمر.» ومن الشائع أيضًا، إن كان المصاب طاعنًا في السن، أن تراودنا فكرة مزعجة قليلًا نميل إلى أن نحتفظ بها لأنفسنا: وهي أن الموت وشيكٌ بسبب تقدُّمه في السن. ربما سيأتي الموت قبل أن يتفاقم المرض، ما يعفيه من المراحل المتأخرة.

كان أبي في الثالثة والثمانين من عمره حين شُخِّصت حالته، وقد راودتني تلك الفكرة ولا شك. أردتُ أن يُعفى من حالة التفاقم المتقدِّمة للمرض. بدا الموت هو البديل الألطف. وعلى استحياء أقرَّ بعض الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي أنهم هم أيضًا فكَّروا في هذا. من الصعب جدًّا الإقرار بذلك، حتى لنفسك. فنحن لدينا أفكار معقَّدة ومتضاربة عن الموت، ومعظمنا يخجل منها. ومن ثَم فقولنا: «أجل، أرى الموت راحة وإعفاءً من أسوأ مراحل المرض» إما يشعرنا بالذنب أو على الأقل يجعلنا نتساءل إن كان ينبغي أن نشعر بالذنب. والحقيقة أننا سنكون جميعًا في حالةٍ أفضل من السكينة إن كنا أكثرَ راحة في الحديث عن الموت — عن مخاوفنا، وخيالاتنا، والأسئلة التي تطاردنا، بل وحتى فكرة أن الموت يمكن أن يكون نعمة في بعض الأحيان. لكن ثقافتنا، أكثر من بعض الثقافات الأخرى، هي التي جعلت الموت موضوعًا يكاد يكون محظورًا.

ثم يدخل الخرف في حياتنا، ويُصبح الموت فكرة نضمرها في أعماق أنفسنا؛ ربما سيرحل الشخص العزيز عليَّ قبل أن يُنتَزَع من كلِّ ما كان يعرفه. ولأن هذه الفكرة في داخلنا، فإننا نتألم كثيرًا حين يسقط هذا الشخص من حالة الاستقرار النسبي التي دامت أشهرًا أو حتى سنواتٍ، وتسوء حالته بشكل واضح. تندفع مخاوفنا، ويتلاشى الأمل فينا، ونشعر بحدةٍ أكبر بالخواء الذي كان عليه الشخص العزيز علينا سابقًا. إنها المرحلة التي نصطدم فيها بالحقيقة الكاملة لهذا المرض.

•••

إن العالم الآن في خضم جائحة فيروس كورونا أثناء كتابتي لهذه الكلمات. أُغلِقت ولايات بأكملها فعليًّا. وفي كاليفورنيا حيث أقطن، تجد أرففَ متاجر البقالة خاويةً. والمتاجر مغلقةً. والناس مرعوبين. يمكنك أن تشعر بالقلق والخوف في كل مكان، إلى جانب إحساس بالعجز. لا مَهْرَب من هذا الفيروس، لا ولاية أخرى ولا بلد آخر؛ فقد وصل هذا الفيروس إلى العالم أجمع. وغياب الحياة كما نعرفها هائل وملحوظ من حولنا، ويذكِّرنا كل ساعة بما لم يَعُد الآن بحوزتنا. إنني أستيقظ كل صباح وأتذكَّر أن هذا يحدث بالفعل. الأيام هادئة؛ حتى السماء خَفَتَ صوتها لأن معظم الطائرات متوقِّفة. وأتذكَّر الصباح فيما مضى حين كنت أستيقظ فأدرك أن أبي، ذلك الرجل المراوِغ الذي كنت أتوق دومًا لمعرفته بشكل أفضل، كان يُختطف شيئًا فشيئًا وليس بمقدوري فِعل شيء لتغيير ذلك.

حين بدأ فيروس كورونا، فكَّرتُ في أن المشاعر المختلطة — كالخوف والقلق والأسى — تعيش في مكان مألوف بداخلنا جميعًا، نحن مَن عايشنا تحدِّي وجود مرض عُضال لا دواء له. يعلن الخرف نفسه في شكل إحساس متفشٍّ بالعجز. هذا الإحساس موجود من البداية، حين تتسلَّم التشخيص، وهو موجودٌ في المراحل الأولى. لكن في اللحظة التي تدرك فيها أن المرض يتفاقم بتسارعٍ وليس لديك أدنى فكرةٍ عما سيحدث بعد ذلك، يطوِّقك هذا الإحساس.

ويوجد فارق واحد واضح بين الإحساس بالعجز لإصابة أحد أحبائك بالخرف وإحساس العجز الذي تزخر به جائحة كورونا؛ وهو أن في الحالة الأخيرة يطال التأثير الجميع. حين نمرُّ بأناس يمشون في الشارع ونتحرك مبتعدين لنبقى على مسافة آمنة منهم، لا تزال توجد صلة شعورية بيننا، إقرار بأننا جميعًا نشعر بنفس مشاعر القلق والضغط. كلُّ مَن على الأرض يمرُّون بذلك بدرجة أو بأخرى. تتلاقى أعين الغرباء ويتبادلون التحية؛ قبل أن يكونوا قد مرُّوا. نقول: «كيف حالك؟» لأناس لا نعرفهم ونرغب فعلًا في سماع الإجابة. على النقيض، فإن إصابة عزيز لك بداء ألزهايمر، مع أن هذا الأمر ليس فريدًا من نوعه، تُشعرك بالانعزال وكأن ليس بمقدور أحد آخر أن يشعر بما عايشناه.

سمح لي زوجان، التقيت بهما حين أتيا إلى مجموعة الدعم الخاصة بي في سنواتها الأولى والتزما بالحضور كل أسبوع، بأن أشارك قصتهما التي هي تصوير قوي لمنحنى التعلُّم الذي يتطلب منك داء ألزهايمر أن تمر به، إضافة إلى مراحل الحزن والفقد.

بعد زواجهما بفترة قصيرة، نقل الزوجان، اللذان سأُطلق عليهما كارا وتوماس، والدة كارا واسمها ميشيل إلى بيتهما. كان لهما من الأبناء اثنان، صبي وفتاة، وكانت ميشيل جَدة تتسم بالوعي والاهتمام. كان كارا وتوماس يديران عملهما الخاص؛ لذا كان وجودها في المنزل يجعل الحياة أسهل. في الليلة الأولى التي أتيا فيها مجموعة الدعم، وصفا بعض التغييرات التي كانوا يرونها في ميشيل. فسألتهما أين هي الآن فيما هما يحضُران إلى المجموعة. فقالا إن ولدَيهما الآن أكبر سنًّا وهما خارج المنزل بالفعل؛ لذا كانت ميشيل وحيدة في المنزل. وأضافت كارا أنها على ما يرام. فقلتُ أنا والميسِّر المشارك معي بصوت واحد: «لا، ليست كذلك.»

وإليك الكيفية التي تصف بها كارا مسار المرض:

عاشت أمي معنا ثلاثين سنة، وقد منحنا ذلك الحرية في حياتنا بحيث تفرغنا للعمل، وبحيث كان بمقدورنا القيام برحلات متباعدة، نحن الاثنان فقط. كان ذلك التوازن الذي أوجدته أمي في المنزل أحدَ الأشياء الجميلة التي كنا نخبر الناس عنها باستمرار. أطلقنا على ذلك بهجة منزل به ثلاثة أجيال. أجل، كنا «جيل الوسط»؛ حيث كنا نتولى رعايةَ جيل أكبر وكذلك جيل أصغر، لكننا شعرنا أننا نعيش أفضل حياة. وكنا نستمتع كثيرًا بسماع قصصها عن «الأيام الخوالي» وكان الطفلان يحبان الطريقة التي تلقي بها الدعابات والطريقة التي تحميهما بها (منا، نحن الوالدين القاسيين المريعين اللذين كانا يفرضان — معاذ الله — قواعد!) حين يخطئان. لكن بمرور الوقت، صار وجود والدتي أشبه كثيرًا بوجود طفلٍ ثالثٍ لكنه بالغ.

وبدأنا نلاحظ أن الأمور كانت تزداد غرابة. إذ كَشَطَت الطلاء من على غطاء مقدِّم سيارتنا ببطاقة ائتمانية؛ ظنًّا منها أنها تنظِّفه بعد أن ألقى عليه الأطفال بيضةً ليلة عيد جميع القديسين. كانت سيارتنا بلون أخضر قاتم حين غادرنا للعمل ذات يوم، وعُدنا لنجدها سوداء؛ كان ذلك هو لون الطلاء التحتي. وحين سألنا عما حدث، لم يكن لديها أدنى فكرة. ثم ذات مرة كشطت اللاكيه كله من على خزائن المطبخ؛ ظنًّا منها أنها تنظفها. لم نكن نعرف حينها، لكن هذا السلوك الشديد الهوس هو من السلوكيات المعهودة لدى مرضى الخرف. أخذناها لتقييم طبيٍّ بعد هاتَين الحادثتَين، وقيل لنا إنها تعاني خللًا إدراكيًّا طفيفًا، وإن علينا أن نراقبها عن كثب.

ثم أصيبت ببعض الأمراض ما تطلَّب تدخلًا جراحيًّا. وهنا تدهورت صحتها بسرعة كبيرة. لم نكن نعرف حينها أن التخدير يفاقم أعراضَ الخرف بصورة كبيرة. فجأة أصبحت متقلبة المزاج وصارت تعاني مشاكلَ في النوم، وسريعة الغضب. لكنها كانت لا تزال تقود السيارة. كنا في حالة إنكار لمدى سوء الأمور. كما بدت متمتعة بالأهلية من نواحٍ كثيرة، لكنها في واقع الأمر لم تكن كذلك على الإطلاق. فابنتنا، التي كانت قد التحقت بالكلية، عادت إلى المنزل ولاحظت أن الأمور تغيَّرت مع أمي بصورة جذرية. ثم زارنا صديقٌ آخر لم يكن قد رأى أمي منذ عام، وقال الشيء نفسه. حينها علمنا أن علينا أن نبعدَ عنها مفاتيح السيارة. ثارت لذلك، وغضبت؛ إذ كانت تفقد حريَّتها. لكنها بعد ذلك هدأت. كان الأمر صعبًا لكننا نجحنا. رفعنا عن كاهلنا أحدَ مصادر التوتر.

وحين كان لدينا في المنزل مقدِّمو رعاية على مدار الساعة، كان الجميع في حالة من البؤس. لم نستطِع إيجاد الشخص المناسب. وحاولنا أن نجد أحدًا يقدِّم الرعاية ويعيش معنا في المنزل مقابل راتب وإقامة وطعام، لكن كان ذلك عبئًا وعائقًا. كانت أمي تكره كل مقدِّمي الرعاية. مرة أخرى كانت تعاني فيما يتعلَّق بحريتها وخصوصيتها وعالمها. وكان نقلها إلى منشأة رعاية هو الحل الأفضل، لكن ذلك في البداية كان أيضًا مليئًا بصعوبات وتوتر وعدم يقين.

وأخيرًا، وجدنا المكان المناسب. وافقوا على طلاء الغرفة بنفس لون طلاء غرفتها في البيت؛ ونقلنا فيها كل أثاثها (كان ذلك أشبه بمشهد فكاهي فوضوي من أحد الأفلام التي يظهر فيها رجال شرطة كيستون غير الأكفاء) في يوم واحد. أخذتُها إلى التسوق فيما نقل توماس وأصدقاؤنا أثاثها وديكورها إلى المكان الجديد. ثم أخذتُها لتناول الغداء وأعطيتها عقارًا مرخيًا للعضلات كان طبيبها قد وصفه لها، وأخذتها إلى المنشأة، وتركتها هناك. ظنَّت أنها في البيت. وكان ذلك رائعًا، أو هكذا حسبنا. وكان الأطباء قد نصحونا بألَّا نزورها مدة أسبوعَين حتى يتسنَّى لها أن تتأقلم؛ وخلال هذَين الأسبوعَين كانت تتصل بنا وهي مهتاجةٌ تبكي وتصرخ. ولكن بعد ذلك اعتادت المكان. وأخيرًا زرناها. كانت لا تزال غاضبة، لكننا تجاوزنا ذلك. وأصبحت تحب المنشأة ومقدِّمي الرعاية، وما زالت تحبنا. (استغرق مني الأمر ثلاث سنوات في مجموعة الدعم كي أتجاوز الشعور بالذنب.)

أذكُر جيدًا شعور كارا المستمر بالذنب. لكني أذكر أيضًا كيف عَمِلَتْ بدأب على إزالته وإلغائه. كانت تعرف منطقيًّا أن وَضْع أمها في منشأةٍ تحصل فيها على رعاية على مدار الساعة هو الخيار الأمثل. ولم تكن توجد طريقة تمكث بها ميشيل في بيتهما من دون تبعات كارثية. لكن مشاعرنا دائمًا ما تتخلف عن مواكبة ما نعلم أنه حقيقي.

عاشت ميشيل بقيةَ أيامِها في منشأة الرعاية وكانت أسرتها كثيرًا ما تزورها، وحولها الأشياء المألوفة لها على مدار حياتها. لقد كانت عملية طويلة بدءًا بالإقرار بأن الأمور كانت قد تدهورت إلى قبول أن أفضل خيارٍ لهم جميعًا كان يتمثَّل في منشأة رعاية. والجدير بالملاحظة، أن كارا وتوماس جاءا في البداية إلى مجموعة الدعم بعد أن رأيا إعلانًا عنها في جريدة جامعة كاليفورنيا، بلوس أنجلوس. وقالت كارا: «فكَّرت أن ذلك ربما سيشعرني بتحسُّن.» ولم يكن أيٌّ منهما يتوقَّع المضي في رحلة طويلة من الاكتشاف والرفقة؛ رحلة من شأنها أن تُغيِّر تفكيرهما، وتشكل لهما تحديًا، وفي نهاية المطاف تمنحهما الطمأنينة.

•••

في يناير من عام ٢٠٠١، سقط والدي في منزل والديَّ وكُسرت وَرِكه. لم يكن حينها قد ذهب إلى المكتب منذ سنوات؛ في واقع الأمر، لم يكن له حقًّا أي جدول مواعيد من أي نوع. عادةً ما كان ينام حتى ساعة متأخرة من الصباح. كان لا يزال يُؤخذ للتمشِّي فيما بعد الظهيرة، وكان مقدِّمو الرعاية يتناوبون عليه على مدار اليوم؛ لذا كان يوجد دائمًا شخص يرعاه. ووضعوا إلى جوار سريره بساطًا حساسًا للضغط: كان البساط يصدر صوتًا إذا نزل أبي من السرير ووطأه. لكن ذات صباح، ولسببٍ ما، نسي أحدٌ ما أن يُشغِّل البساط. وفي ساعةٍ متأخرةٍ من الصباح، أطلَّ أحد مقدِّمي الرعاية على غرفة نومه ليرى إن كان قد استيقظ فوجده راقدًا على الأرض إلى جوار السرير. لم يكن يصدر أي صوت، مع أنه لا بد أنه كان يتألم. حملته سيارة إسعاف إلى مستشفى سانت جونز، حيث وجدوا أن وركه كانت مكسورةً كسرًا بالغًا، وأنه سيحتاج إلى تدخُّلٍ جراحي. تلقيتُ مكالمةً من امرأةٍ تعمل لدى والديَّ، كما حدث مع أفراد الأسرة الآخرين، وبطريقةٍ غريبةٍ كان من شأننا أن نعتادها جميعًا فيما بعد، كنا نعرف الأخبار عن حالة والدنا الصحية من مشاهدة الأخبار. وفي اليوم التالي سُمِح لنا برؤيته.

كان مستشفى سانت جونز قد أصبح نوعًا ما مألوفًا لي في ذلك الوقت؛ إذ كانت أختي مورين تتلقَّى به العلاج من سرطان الخلايا الصبغية الذي كان قد عاد بضراوة. كان السرطان قد انتشر في سائر جسدها، لكنها كانت مصرَّةً على ألَّا تستسلم؛ لذا كانوا يجربون معها كل أنواع العلاج بما في ذلك الثاليدومايد، الذي ظنُّوا، بناءً على التجارب، أنه قد يقضي على بعض الأورام. كانت أختي تبعد عن أبي بضعة طوابق، لكنها لم تستطِع رؤيته لأن جسدها كان موصولًا بالكثير من الأجهزة. كان رؤيةُ ما بها من حزنٍ وغضبٍ ويأسٍ يفطر قلبي. ظننت حينها، وما زلت أظن، أنها كانت تستمسك بالحياة لأنها لم تكن تريد أن تموت قبل أبينا. كانت حالتها في الأساس ميئوسًا منها، وتمنيت في نفسي أن تتقبَّل تلك الحقيقة وتخفِّف من مقاومتها للموت. أردت لها نهايةً أسهل. أردت لها أن «تمضي بلطف في تلك الليلة الطيبة» كما يقول الشاعر ديلان توماس. لكن ذلك لم يحدث. حيث كان سيتسنى لها رؤية والدي مرةً أخيرةً في منزل والديَّ، بعد أن خرج من المستشفى وذهب إلى البيت وخرجت هي لتذهب إلى بيتها في ساكرامنتو، حيث وافتها المنية بعد سبعة أشهر؛ أيْ في شهر أغسطس.

رؤية والدي في حجرته بالمستشفى في اليوم التالي لخضوعه للعملية الجراحية هي صورةٌ ظلَّت تلازمني. إذ لاحظت شحوبه — وهو ما كان متوقَّعًا — وهشاشته. وقد بدت بشرته شبه شفافة تحت ضوء الفلوريسنت الحاد. لكن أكثرَ ما انطبع في مخيلتي بقوةٍ كان أن عينيه بدتا أكثرَ تباعدًا. تحسَّست يده وكانت باردة. والتقت عيناي عينيه، لكنه كان بعيدًا عنا بمسافات ضوئية. وظننت أنه لا بد أنهم أعطوه أدوية مثبطة للألم؛ يمكن لذلك أن يفسِّر لِمَ بدا مختلفًا. أيضًا، من المؤكد أن صدمة السقوط وفقد الإحساس بالمكان كانا عاملين مؤثِّرين.

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي أدلف فيها إلى حجرة في مستشفًى لأرى والدي. فقبل ذلك بعشرين عامًا، أي عام ١٩٨١، بعد أن أطلق عليه جون هينكلي النار، دنوت من سريره في المستشفى وتفحَّصت عينيه. في ذلك اليوم، رأيت فيهما نورًا يختلف عن أي شيء رأيته من قبل. بدا وكأن النور في عينيه من عالمٍ آخر. ومنذ ذلك اليوم، ما زلت أعتقد أن والدي مرَّ بتجربة الاقتراب من الموت. ربما لم يُوَثَّق ذلك، وربما لم يمت سريريًّا، لكن بالنسبة إليَّ، كانت عيناه تحكيان القصة. وفي الأيام التي تلت ذلك، حكى أبي أنه استيقظ في وحدة العناية المركَّزة، فرأى رجالًا في ملابس بيضاء يقفون حول سريره، وأنه سألهم إن كان على قيد الحياة. الأمر الغريب بشأن تلك القصة أن الأطباء كانوا يرتدون الزي الطبي التقليدي في وحدة العناية المركزة، وليست المعاطف البيضاء. ومثَّل لي هذا دليلًا آخرَ على أن ما رأيته في عينيه كان نظرة رجل عبر إلى الجانب الآخر وعاد.

حين رأيت والدي في المستشفى بعد أن عالجوا وَرِكه، كانت النظرة في عينَيه مختلفة. كان ثمة شيءٌ راسخٌ وجسيمٌ بشأن التباعد فيهما. شعرت أنه لن يعود لما كان عليه قبل أن يسقط. بعد سنوات، علمت، من بعضِ ما كنت أقوم به من أبحاث لمجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، وأيضًا من خلال الحديث مع الميسِّرين المشاركين في المجال الطبي، أن التخدير عادةً ما يُفاقم أعراض الخرف.1 لا يعني هذا أن التخدير يسبِّب الخرف؛ فلا يوجد دليل على ذلك. لكن الشخص المصاب بالخرف الذي يوضع تحت التخدير العام قد لا يخرج منه بنفس مستوى الإدراك الذي كان عليه قبل إجراء الجراحة. وينطبق الأمر نفسه على إصابات الرأس. إذا كانت الإصابة بالغةً بما يكفي، فمن المرجح أن الأعراض لدى المصاب بالخرف الذي سقط وأُصيب في رأسه ستسوء بشدة.

ولا شك أن أبي تغيَّر بعد الجراحة. كان هذا ملحوظًا لنا جميعًا، لكن أظنُّ أننا افترضنا أن سبب ذلك كان صدمةَ ما مر به. وحتى لو كنا نعرف بشأن الرابط بين التخدير وأعراض الخرف، لم يكن يوجد ما يمكننا فعله على نحوٍ مختلف. كان الكسر في وركه بالغًا واستلزم علاجه جراحيًّا؛ ببساطة لم يكن يوجد خيار سوى وَضْعه تحت تخدير عام.

ما استحوذ على انتباه الجميع في تلك المرحلة هو حالته الجسدية والتغييرات التي كانت في حاجةٍ لأن تحدث في بيئة المنزل. حصل أبي على مشاية وكان سيحتاج إلى علاج طبيعي بالمنزل. كما كان سيحتاج إلى رعاية تمريضٍ على مدار الساعة. وفي مرحلةٍ ما، اتُّخِذ القرار بأن يوضع في سرير طبي في الحجرة التي كانت فيما مضى مكتبه، أما الآن، ولما تبقَّى من أيامه في الحياة، فكان سيُطلَق عليها «حجرته» فحسب.

كان أبي في هذه المرحلة التي كان عليَّ فيها أن أواجه أصعبَ تحدٍّ والذي تمثَّل في التمسُّك بإيماني الذي كنت أعوِّل عليه، إيماني الذي كان يُخبرني بأن بوسعي تجاوزَ داء ألزهايمر وبطريقةٍ ما العثور على أبي. في العَقد الذي مرض فيه أبي كانت هذه الفترة أحلكَ ما مرَّ على روحي من فترات. كما كان متوقَّعًا، صرتُ أبكي في الليل، وكثيرًا ما كان يعقب دموعي كوابيس. في أحد الكوابيس، كنا قد عُدنا إلى المنزل الذي ترعرعت فيه في حي باسيفيك باليسيدز. كان والداي وأخي رون هناك، بالإضافة إلى إحدى كلابنا، التي كانت تتألَّم كثيرًا، لتقدُّمها في العمر، حتى إنه تعيَّن علينا أن نتخذ قرارًا صعبًا بقتلها قتلًا رحيمًا. في الكابوس، ظننت أننا كنا نأخذها إلى الطبيب البيطري لذلك الغرض، لكن أبي قال لا، أنتم تأخذونني لتنهوا حياتي. استيقظتُ من النوم لاهثة أبكي، خائفة من أن أعاود النوم لأن الكابوس كان حقيقيًّا جدًّا.

تمنيت كثيرًا لو أمكنني مشاركةُ ما اعتبرتُه أزمةً روحيةً مع شخص من أسرتي، لكن ذلك كان مستحيلًا. فأخي رون كان ملحدًا. وإن تواصلت مع مايكل، كانت أمي ستنبذني. وكانت مورين تُحتَضَر. وكانت مناقشة الأمور الروحية مع أمي شيئًا لم أستطِع حتى أن أتصوَّره. وكنت قد قررت، قبل ذلك بسنوات، ألَّا أثقل كاهل أصدقائي برحلتي عبر عالم داء ألزهايمر؛ لذا كنت وحيدةً إلى حد كبير. كان الشخص الوحيد الذي كنت في أي وقت مضى أطرح عليه التساؤلات والمعضلات الروحية هو أبي.

حتى حين كنتُ طفلة صغيرة، كنت كثيرًا ما أسأله عن الرب. وكان يوجد تلٌّ خلف منزلنا كان أبي يأخذني إليه لنلعب بالطائرات الورقية. في أحد تلك الأيام — عصر يوم صافٍ شَدِيد الرِّيح — رفعت جسدي على أطراف أصابع قدميَّ، ومددت ذراعيَّ إلى السماء، وسألته كم يلزمني أن أمدَّ ذراعيَّ لأتمكن من أن ألمس الرب. ركع أبي إلى جواري وأوضح لي أنني لست في حاجةٍ لأن أمدَّ ذراعيَّ على الإطلاق. قال لي إن الرب في كل مكان. في كل مكان في العالم، وفي كل مكانٍ بداخلي، لا يلزمني إلا الحديث إليه. وهذه إحدى الذكريات المحفورة بداخلي — أبي راكع على الدرب الترابي، وسُحُب بيضاء كثيفة تسبح من فوقنا — ودرس عن الرب سأتذكَّره طيلة حياتي.

ولكن، بعد ذلك بسنوات عِدَّة، في تلك المرحلة من مرض والدي التي انجرف فيها بعيدًا عنا بسنين ضوئية، شعرت بأن الرب هو الآخر بعيدٌ جدًّا عني. وقرَّرت أن الشيء الوحيد الذي بإمكاني فِعله هو محاولة إحياء الإيمان الذي كان قد ظلَّ يثبِّتني حتى تلك المرحلة، وأنه كان يلزمني أن أمضي إلى والدي طلبًا للعون. في الأيام التي كنتُ أزور فيها والديَّ، كنتُ أختار الأوقات التي تكون أمي فيها مشغولةً ثم أطلب من الممرضات أن أمضي بعض الوقت على انفراد مع أبي. وبمجرد أن نصبح وحدنا، كنتُ أتحدث إليه همسًا. أخبرته بالكثير من الأشياء؛ عن أسفي على الطرق التي آذيته بها بتمرُّدي، وأن قلبي يستمسك بالدروس التي علَّمني إياها وأنا طفلة، دروس عن الإيمان والثقة في ربٍّ يرى كل شيء. أخبرته أنني أشعر بالضياع، وكأن الإيمان ينسلخ عني، وتمنيت لو كان بإمكاني الحصول على إشارة في حياتي، كما كان يحدث معه وهو شاب يستيقظ وهو يشعر بيدٍ خفية على كتفه. كنتُ أحب تلك القصة، وجعلته يقصُّها كثيرًا. كان يحكي أنه جلس في السرير، وهو يشعر بأن أعمقَ أحاسيس الحب والحماية في الكون تغلفه، وكان يعرف أن اليد التي كان يشعر بها على كتفه هي يد الرب. طيلة حياتي كنت أتمنى إشارة. وبينما كنت أخبره عن ذلك، تلألأ شيء في عينه، وسمعت عميقًا بداخلي رسالة تقول إن الإشارات في كل مكان؛ لم يكن عليَّ سوى أن أنتبه.

أدركت أن الإيمان ليس شيئًا يسهُل الإبقاء عليه والتمسك به. يمكن للإيمان أن ينسلَّ منا، وحينها يتعيَّن علينا أن ننبش بحثًا عنه، غالبًا في البقاع الوعرة لشكوكنا. لكن ربما لم أخسر بقدرِ ما ظننت. كان الإيمان هو ما أتى بي إلى جوار سرير والدي، أبحث عنه ليُذَكِّرني ثانيةً أن الرب موجود في كل مكان. لست بحاجة لأن أرفع جسدي على أطراف أصابع قدميَّ، لست بحاجة لأن أمدَّ ذراعيَّ، أنا فقط بحاجة إلى الثقة. لم أحظَ يومًا بالتجربة الدرامية التي حظي بها أبي باستيقاظه شاعرًا بيد خفية على كتفه. كان عليَّ أن أبحث أكثر، وأن أصارع الشكوك. فأحيانًا ما يكون الإيمان شعلة صغيرة تقاوم في مهب الريح. وأحيانًا يكون الرب موجودًا في ومضة عابرة في عينين زرقاوين انطفأ بريقهما وحيويتهما.

أفكِّر في تلك الأوقات في حجرة أبي، حيث كنت أحيانًا أجلس في صمت تام، في أعمق المحادثات التي حظينا بها يومًا وأصدقها. أعدَّتني تلك اللحظات لما كان سيأتي بعدها، ولم أشكَّ يومًا في أن روحه استقرَّت في هدوء وعافية فيما وراء ضباب داء ألزهايمر. وليس خافيًا عني أن الرجل الذي أمضيت حياتي أرغب في أن أقترب منه، وأن أعرفه أكثر، اتخذ لنفسه مُستَقَرًّا في روحي كانت في أَمَسِّ الحاجة إليه. أعادني هذا الرجل إلى الرب حين شعرت بالهجران، مثلما أرشدني إلى الطريق إلى الرب حين كنت بعدُ طفلة. بعد عقود عدة من الشعور بأني لم أستطِع أن أجد أبي، أدركت أنه كان موجودًا طوال الوقت، فقط ليس بالطرق التي كنت أتوق إليها. لم يكن الوالد المتاح، الذي يشارك في حياة أطفاله، فيصحبهم إلى الأحداث الرياضية والعروض المدرسية. لم يكن يعرف أسماء أصدقائي أو اهتماماتي. لكنه كان صوتًا بداخلي حين كنت مراهقة مدمنة على المخدرات، طفلة تائهة لا يمكنها أن تتبين سببًا يبقيها على قيد الحياة. كان أبي على بُعد آلاف الأميال، في ولاية أخرى في تلك الليلة، ليس لديه أدنى فكرة عما كنت أمرُّ به، لكن صوته كان مستقرًّا في أعماقي وقد سحبني بعيدًا عن حافة الهاوية. كان موجودًا حين طلبت مغفرةَ الرب عن كل الطرق التي آذيته بها علنًا باحتجاجاتي السياسية غير المدروسة. كان قد أخبرني وأنا طفلة أن الرب يغفر لكل أبنائه الذين يطلبون المغفرة، وفي مكانٍ ما يتجاوز دموعي بكثير، سمعت صداه. سمعته حتى حين أخرس داء ألزهايمر صوته.

إن آباءنا لا يَظهرون دومًا لدعمنا بالطرق التي نرغب منهم أن يظهروا بها. لكن أحيانًا، إذا كنا من أصحاب الحظ الحسن وإذا ما أولينا انتباهًا وثيقًا، يمكننا أن نجدهم في مواضعَ مخفية في حياتنا حيث كانوا ينتظرون طوال الوقت. وبعضنا يظلُّ مع مجرد ذكرى للحظات منعزلة مع والد له لم يستطِع أن يقترب منه أكثر، لكن تلك اللحظات مهمة. إذا بحثت في ماضيك مع ذلك الوالد، فثمة احتمال أنك ستجد أنه انتبه لك بحنوٍّ ومحبة ولو لمرة واحدة على الأقل. وحتى لو كان ذلك لمرة واحدة فقط، فهي ذكرى أنت في حاجةٍ لأن تسلِّط الضوء عليها وتتأملها كثيرًا. وأنا محظوظة بأني تشاركت الكثير من الذكريات مع أبي والتي لا تزال تمدُّني بالعون؛ ربما ليست كثيرةً بقدرِ ما يحظى به بعض الناس مع والديهم، لكنها كافية. كان الحال مختلفًا مع أمي، وفي نهاية حياتها، حين كتبت تأبيني لها، أقرُّ أنني بذلت جهدًا جهيدًا في استخراج لحظاتٍ من الحنو. لكن كانت توجد بعض اللحظات، وما زلت أفكر فيها. إحدى منافع فِعل ذلك أنه يتسنى لك رؤيةُ ما فات على والدك. كان يوجد حبٌّ بينكما؛ فقط لم يختَر ذلك الوالد أن يرعاه. والآن، فيما يغادر هذا العالم جرَّاء داء لن يسمح له أبدًا بأن يتغيَّر، لديك فرصة أن تشعر بالشفقة عليه وبالتعاطف معه.

إن الأشخاص الذين يُصاب والد لهم بداء الخرف عادةً ما يصلون إلى مرحلة يسوء فيها المرض، مرحلة يتصادم فيها الماضي بالحاضر، ويكون الماضي الذي يتشاركونه مثل لوحة أمامهم. وتلك المرحلة تكون مؤلمة ومحورية على حد سواء. سيحدد اختيارك لكيفية استجابتك لتلك المرحلة الكيفيةَ التي ستقطع بها بقية الرحلة.

•••

بعد الجراحة التي أجراها والدي، بذلنا جهدًا مضنيًا لحمله على الخضوع للعلاج الطبيعي حتى يتمكن من السير مجددًا، أو حتى يذهب للتمشِّي حول الحديقة المحلية، الأمر الذي كان قد أصبح نزهة مأمونة له. لا أذكُر الآن كيف بدأ يصبح جليًّا أن هذا لن يجدي نفعًا. كان أبي متعبًا، ولم يرغب في أن يخضع للعلاج الطبيعي. أراد النوم والتحديق إلى الفراغ فيما تمرُّ ساعات اليوم. كان في التسعين من عمره، ومصابًا بداء عُضال يقضي على المزيد منه بمرور الوقت. لم يكن يشاركنا رغبتنا، ومما يُحسب لأمي أنها أدركت ذلك.

عادةً ما يكون لدينا برنامج عمل مع الشخص العزيز علينا، ويكون هذا البرنامج متعلقًا بنا أكثر من كونه متعلقًا به. فلو كان باستطاعة أبي أن يسير مجددًا، ولو كان باستطاعته العودة إلى ما كان عليه قبل أن يسقط ويُجري جراحة في وركه، لبدا الأمر وكأننا حظينا بشيء من السلطان على داء ألزهايمر؛ وكأننا فزنا بجولة في مباراة الملاكمة التي سنخسرها في النهاية. لكن لا سلطان لك على داء ألزهايمر. وكما قلت، الداء هو الذي يتحكم في كل شيء.

على مر السنين، استمعت إلى أناسٍ يتحدثون عن أنهم يظنون أن سيكون في صالح الشخص العزيز عليهم لو استمر في الخروج للتمشِّي أو ارتداء ثيابه بنفسه، في حين أنه يوجد دليلٌ على أنه لم يَعُد يعرف كيف يفعل ذلك. وفي بعض الأحيان كان أناس يشجِّعون الوالد أو شريك الحياة على أن يعيد تنشيط اهتمامه بأعمال البستنة، واثقين من أنهم يعملون على أساس ما هو أفضل للشخص العزيز عليهم. لكن حين يُشار إليهم برفق أنهم ربما يحاولون تهدئةَ مخاوفهم ويأسهم هم أنفسهم، تحدث لهم استنارة. عادةً، على أي حال؛ يغضب بعض الناس مني.

إن كان الشخص العزيز عليك مسنًّا ومريضًا ولا يريد أن يسير أو يستخدم عضلاته، فدعه وشأنه. أعتقد بشدة أنه يستعد في مكانٍ ما في روحه للنهاية التي يعرف أنها قادمة. إن كان يريد الجلوس إلى النافذة والتحديق إلى الخارج، فما الضير في ذلك؟ لم يَعُد يتعيَّن عليه أن يكون له برنامج عمل؛ لا يتعيَّن عليه أن يُسجَّل له قدر معين من الخطوات على إحدى تقنيات فيتبيت. إنه يواجه نهاية حياته، وبقيتنا في حاجة لأن يحترموا ذلك.

قبل سنوات، عرفت امرأة تحتضر من سرطان الرئة. لم يكن ثمة شيء بمقدور الأطباء فِعله. كنت أتناول العشاء معها ومع صديق آخر، حين أشعلت سيجارة. أصيب الصديق بالصدمة وعبَّر عن دهشته. ابتسمت المرأة فيما كانت تنفث الدخان وقالت: «ما الفارق؟ أنا أحتضر. وهذا يجعلني سعيدة.» كانت تتمتع بالقدرة على أن تخبرنا بشعورها، في حين لا يستطيع المصابون بداء ألزهايمر ذلك، لكن هذا لا يعني أنهم لا يفكِّرون في الموت في أعماقهم ويميلون إلى أن يفعلوا ما يجعلهم سعداء. ربما يحبون عزلةَ الجلوس إلى النافذة ساعاتٍ وحسب.

لذا، إن أوضح أبي أنه غير سعيد بالخضوع للعلاج الطبيعي، كنا نطلب من الممرضين أن يتراجعوا. وقد بدأ هذا يحدث في كل مرة. ومع تقدُّم الحالة، أصبح بالأساس طريحَ الفراش. لم يَعُد باستطاعته استخدام جهاز المشي، ولم يبدُ أن وضعه على كرسي مدولب ذو جدوى، حيث كان تحريكه من السرير إلى الكرسي المدولب صعبًا عليه وغير مريح له. وفي هذا الوقت نفسه تقريبًا، أفصحت أمي عن أنه قيل لها أن تتوقع أنه لن يعيش إلا ثلاثة أشهر أخرى. ذلك هو الرأي السائد حين يُكسَر ورك شخص طاعن في السن ويعاني مشاكلَ صحية خطيرة؛ ذلك هو الإطار الزمني المألوف لدى الأطباء. عاش أبي ثلاث سنوات أخرى، لكنه أمضى تلك السنوات في سرير طبي أمام صف من النوافذ المطلة على أشجار البلوط وأجواء متغيِّرة. شاهد أبي الفصول تتغيَّر، شاهد العواصف تهدر في السماء وضوء الشمس يتخلل فروع الأشجار. ولم يتحدث إلا بالقليل. وكانت ثمة صورة لأمي في حجرته، وكان يحدِّق إليها في بعض الأحيان، وغالبًا حين كنت أعرِّج عليه من أجل تناول العشاء كنا نأكل على طاولات قابلة للطي في حجرته.

حين ماتت مورين، سألتُ أمي إن كانت قد أخبرت أبي بوفاتها. فنفت، لأنه ما كان سيفهم. فانتظرت حتى حظيتُ بزيارة خاصة له، وهمست له أن مورين رحلت إلى الديار عند الرب؛ هكذا كان أبي يصف لي الموت وأنا طفلة. فنظر إليَّ ورمش بعينيه مرتين، لكنني لم أرَ فيهما وميضَ إدراك، لم أرَ إشارة على أنني تجاوزت حجاب داء ألزهايمر. لكن لم يكن ذلك مهمًّا؛ فقد كنت قد استعدت إيماني وكنت أعتقد أنه سمعني. أخبرته أنه ومورين سيلتقيان ثانية على الجانب الآخر، وأنها على الأرجح تنتظره وسيكون لديها الكثير من الأشياء لتخبره بها، وكان هذا هو حالها حين كانت على قيد الحياة. ولم تكن لديَّ أي نيَّة للإتيان على ذكر الموضوع مرة أخرى، ولم أفعل مطلقًا. لكنني شعرت بشدة أنه يستحق أن يعرف أن ابنته تُوفِّيت. لم أُرِد أن أنشغل بمعضلة «إنه لن يفهم».

وبعد مرور سنوات، حين كان الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي في موقفٍ مشابه، وتساءلوا إن كان ينبغي لهم أن يخبروا عزيزًا لهم بأن فردًا من الأسرة أو صديقًا له قد مات، دائمًا ما كنت أشدد على أن الأمر يعتمد على مرحلة المرض التي وصل إليها الشخص العزيز عليهم. إن كان ثمة احتمال أن الشخص العزيز عليهم سيظل يطرح الأسئلة بشأن ذلك الشخص، فإن الأمر ينطوي على قدرٍ من المجازفة. وإن كان ثمة احتمال أن الشخص العزيز عليهم سيظل يفكِّر في واقع أن شخصًا عزيزًا عليه قد مات، ولن يكون قادرًا على تخطي ذلك، فقد يكون من الأفضل ألَّا يُخبروه. في حالة والدي، كان قد انجرف بعيدًا جدًّا حتى إن هذه السيناريوهات كانت مستبعدة. شعرتُ أنه كان من الصائب أن أخبره في المرحلة التي كنتُ أعتقد فيها أن بوسعه أن يسمعني، لكن في تلك المرة وحدَها فقط. ومثل جوانب أخرى عديدة من داء ألزهايمر، فإن هذا قرار مبني على حُكمك. تحتاج لأن تحدِّد ماهية الأفضل والأقل إرهاقًا لك وللشخص العزيز عليك على حدٍّ سواء.

«لا يوجد معلِّم أكثر جورًا وتأثيرًا من الفقد.»

بات كونروي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤