الفصل الرابع عشر

القرار الأصعب

يرتبط قرار وضع الشخص العزيز عليك في منشأة رعاية بدرجات صعوبة مختلفة، لكنني لم ألتقِ أحدًا اتخذ هذا القرار بسهولة. إنه قرار يكتسب، بمجرد اتخاذه، بالأساس صفةَ الديمومة، ويمثِّل علامةً مقيتة على طريق المرض. في حالة صديقيَّ كارا وتوماس — وهما من الحاضرين لمجموعة الدعم الخاصة بي منذ زمن طويل — كان من الصعب للغاية أن يقرِّرا وَضْع ميشيل أُم كارا في منشأة رعاية بدوام كامل. وحتى بعد فترة طويلة من معرفتهما بأنهما اتخذا القرار الصائب، كان الشعور بالذنب لا يزال يتسلل إليهما.

من المفيد دائمًا أن تتوغل إلى الأسباب الجذرية لكل شعور يخالجك. وحين يُطرح موضوع وضع الشخص العزيز عليك في منشأة رعاية، يتغذَّى الشعور بالذنب على الشعور بالخوف من أنك ربما تهجره. لذا، لنتطرَّق إلى ذلك الشعور أولًا. هجران أحدهم هو أن تقود به السيارة إلى صحراء موهافي، وتلقي به إلى خارج السيارة وتتركه هناك. أو أي شكل آخر من أشكال هذا السيناريو. أما وضْعُ الشخص العزيز عليك في منشأة رعاية، حيث سيحظى بالعناية على مدار الساعة، وحيث يكون خطرُ أن يهيم على وجهه ضئيلًا أو منعدمًا، وحيث يوجد هيكل موثوق لكل يوم يقضيه بالإضافة إلى أنشطة تحفِّزه وتسليه؛ فذلك ليس هجرانًا، بل رعاية تتسم بالمسئولية. فثمة مرحلة في هذا المرض تكون فيها — بالنسبة إلى معظم الناس — رعايةُ مريض مصاب بالخرف في المنزل أمرًا لا يمكن أن يستديم. أحد الأسباب أنها باهظة التكلفة. أنا أعرف تقريبيًّا تكلفة رعاية والدي في المنزل، وقد كانت باهظة للغاية. لحسن الحظ كانت تلك تكلفة باستطاعة والديَّ تحمُّلها؛ علاوة على ذلك، لأن والدي كان رئيسًا وكانت دائمًا ثمة مخاوف تتعلق بأمنه، لم تُطرَح مطلقًا مسألة وضعه في مكان آخر.

أحد الأمور التي تجعل القرار بهذه الصعوبة، وأحد الأسباب التي تجعل الناس يرغبون في تجنب اتخاذه؛ أنه بمثابة علامة فارقة أخرى. والموقف المتمثِّل في انتظار خلوِّ مكانٍ في دار رعاية للمسنين يضعك في مواجهة الموت. فالسبيل الوحيد لأن يوجد مكان شاغر هو حين يموت أحدهم. إنها تذكِرةٌ أخرى بأنك لا تملك أيَّ سيطرةٍ على هذا المرض. فأينما التفتَّ، فثمَّة شبح ينتظر في صبر، شبح سيأتي يومًا ما لنا جميعًا. وكلنا لدينا مشكلة مع مواجهته.

في أواخر التسعينيات، حين بدأت أحاضر عن تجربتي مع خسارة أحد والديَّ جراء داء ألزهايمر، كان عالَم دُور المسنين ومنشآت رعاية مرضى الخرف قد صار مألوفًا لي. فقد جُبت بعض هذه المنشآت في تلك الفترة. ومع أن هذا السيناريو لم يكن حقيقةً واقعةً لأسرتي، فإنني كنت واعيةً تمامًا بأننا أقلية، وأن أسرًا كثيرةً كانت مجبرةً على الاختيار بين وَضْع الشخص العزيز عليهم في دارٍ للمسنين أو ما شابه أو لا، وإن كانوا سيودعونه الدار، فأي الدُّورِ أفضل. وبعد مرور سنوات، حين بدأتُ مجموعة الدعم الخاصة بي، كان هذا الموضوع يُطرح كلَّ أسبوعٍ تقريبًا. إنه أمرٌ مفزع، وليس له حلٌّ واحد يناسب جميع الحالات.

أثناء كتابتي لهذه الكلمات، تتداول الأخبار قصصًا مرعبةً عن دُور رعاية المسنين. وفي ظل وجود جائحة فيروس كورونا، وقعت أعداد وفيات هائلة في منشآت الرعاية في أرجاء البلاد. وقد فعلت بعض هذه الأماكن أفضلَ ما يمكنها فِعله؛ فهي في نهاية المطاف بيئاتٌ محصورة، وأي فيروس يدخل إليها من المرجَّح أن يتفشَّى ويُصيب مجموعةً من النزلاء الذين هم بالفعل عُرضة للإصابة. لكن سلوك بعض منشآت الرعاية كان غير مسئولٍ وقاصرًا قصورًا صارخًا. ففي إحدى دُور رعاية المسنين في نيوجيرسي، كُدِّسَت سبع عشرة جثةً في حجرةٍ خلفية.1 والآن يطلب مركز الرعاية الصحية والخدمات الطبية من كل منشآت الرعاية أن تبلِّغ مراكزَ السيطرة على الأمراض والوقاية منها، عن أي حالات إصابة بفيروس كوفيد-١٩.

ومع أن تأثيرات هذه الجائحة مريعة، لا يمكن أن تكون ذريعة للناس لأن يقرِّروا ألَّا يضعوا الأشخاص الأعزاء عليهم في منشأة رعاية، عندما يكون جليًّا أن وَضْعهم المعيشي الحالي لم يَعُد صالحًا. للأسف سيُصبح هذا الأمر أحدَ الأمور الأخرى التي عليك تحرِّيها، لكن ينبغي أن تكون ثمة سجلَّاتٌ واضحةٌ عن المنشآت التي تأثَّرت بجائحة كوفيد-١٩، والكيفية التي تعاملت بها تلك المنشآت مع الجائحة. ينبغي حقًّا أن يكون تعامل تلك المنشآت مع الجائحة مسألةً يتدخَّل فيها تقديرك للأمور، وليس ما إذا كان الفيروس قد ظهر بين نزلائها أم لا، حيث نعرف الآن أن هذا الفيروس خبيثٌ ومعدٍ بدرجةٍ كبيرة. لكن تأمَّل بعناية المعلومات المتاحة لك؛ فبعض المنشآت التي لم تتعامَل مع الأزمة بمسئوليةٍ قد تغيَّر مالكوها وإدارتها.

•••

مهما حاولت أن تستعد بطريقةٍ منهجيةٍ لما سيجلبه الخرف إلى حياتك، فلا مفرَّ من أنه سيُفاجئك. فقد يكون والدك أو زوجك أو قريبك لا يزال على ما يرام يوم الإثنين، ثم يوم الجمعة يكون مشوَّشًا تمامًا وغير قادرٍ على تذكُّر أي شيء. وفي بعض الأحيان كانت ثمة إشاراتٌ على الطريق لم تلاحظها أنت؛ تحذيرات فاتتك. وأحيانًا يقفز المرض قفزةً هائلةً إلى المرحلة التالية. وأحيانًا يلاحظ بعض أفراد الأسرة أن الأمور تتغير في حين لا يلاحظ الآخرون ذلك.

يُحضِر رجل أمَّه إلى بيته لتعيش معه وأسرته، وهو واثقٌ من أن هذا هو القرار الأفضل. تُوافقه زوجته وأبناؤه المراهقون على قراره، وفي بداية الأمر لم يكن ذلك مسببًا لخلل كبير. إذ كانت حالة الأم قد شُخِّصَت بأنها قصور إدراكي بسيط، الأمر الذي يعني أنها تكون في معظم الأحيان على ما يرام وبإمكانها التفاعل مع الجميع، ومن بينهم المراهقون. وبإمكانها أن تساعد في أعمال المطبخ، والخوض في محادثاتٍ حول الأحداث الراهنة؛ كما تقضي وقتًا بالخارج في القراءة في الحديقة.

لكن الرجل يذهب إلى عمله كل يوم، والأبناء يذهبون إلى المدرسة. وتبقى الزوجة في المنزل ترعى حماتها؛ الزوجة هي مَن يشهد تدهور إدراك الأم، والفجوات في الذاكرة التي تصبح أكثر تواترًا. الزوجة هي مَن يتحتَّم عليها أن تنتبه إلى عجوزٍ لا يمكن حقًّا الوثوق بها الآن في المطبخ، ويمكن أن يشرد فكرُها في أي لحظة. إنه انقلابٌ في حياتها التي كانت تعرفها. وحين تحاول أن تتحدَّث إلى زوجها بشأن ذلك، يكون متعبًا بعد العمل ولا يريد حقًّا أن يسمع ما لديها. لم يكن إنكاره بشأن حال أمه وحسب، إنما أيضًا بشأن حقيقة أن زواجه ينهار. زوجته منهكةٌ ومتوترةٌ وتشعر أن من الجور أنه قد زُجَّ بها إلى دَور مقدِّم الرعاية الأساسي لحماتها دون أن يسألها أحدٌ مطلقًا إن كانت توافق على ذلك.

وينفجر الموقف حين تخرج أمُّ الرجل من الباب الخلفي بينما زوجة ابنها في الطابق العلوي من المنزل. وبحلول الوقت الذي يُلاحَظ فيه غياب العجوز، يكون قد مرَّ وقتٌ كافٍ بحيث يمكن أن تكون في أي مكان. تُستدعى الشرطة، ويُنشر تنبيه عن أن امرأة مصابة بالخرف مفقودة، ثم أخيرًا يجدونها جالسة على حافة طريق سريع من أربع حارات. لحسن الحظ لم تُصب العجوز بأذًى، لكن التصدعات التي بدأت في الأسرة ستتطلب وقتًا وجهدًا من أجل معالجتها، وليس ثمة ما يضمن أنها ستزول.

إن إيداع أم الرجل في منشأة رعاية هو موضوع كان ينبغي طرحه للنقاش قبل وقت طويل من وصول الأمور إلى مرحلة الانهيار. وهي ليست بالمحادثة السهلة، لكن تكلفة عدم طرحها — أو على الأقل الخوض فيها ولو مرة واحدة فقط — تكلفة باهظة. يمكن لزيجات أن تتضرر، ويمكن لمشاعر الاستياء أن تتفاقم، ومن المحتمل ألَّا تزول هذه المشكلات أبدًا.

•••

ترفض أم إحدى السيدات أن تترك شقَّتها، ولا تكاد تسمح بوجود مقدِّم رعاية من الخارج؛ إذ لم توافق إلا على بضع ساعات أسبوعيًّا، ويزداد نسيانها أكثرَ وأكثر. لكنها تذكر أن ابنتها يومًا ما وعدتها بأنها لن تترك بيتها أبدًا. وابنتها — التي هي وحيدة أبوَيْها — لا تستطيع أن تجدَ من الجَلَد ما يُمَكِّنها من مواجهة أمها. فقد مات أبوها من سنواتٍ طويلةٍ وكانت الأسرة لمدةٍ طويلةٍ تتكوَّن منهما فقط، وكانت أمها هي ذات السلطة المهيمنة.

ثم ذات يوم تتواصل معها ساكنة أخرى في العمارة السكنية نفسها. كانت أمها تطرق أبواب الجيران في كل ساعات اليوم ليلًا ونهارًا، وفي بعض الأحيان كانت تفعل ذلك في ثياب نومها. تقول الجارة إنه إن استمر هذا فلن يكون أمامها خيارٌ آخر سوى أن تتصل بالشرطة، أو بوكالة خدمات حماية الكبار، أو بكليهما. من ثَم ينبغي أن تنجز الابنة عملية مزعجة تتمثَّل في تحويل التوازن وتولِّي زمام حياة والدتها بسرعةٍ كبيرة؛ وهي عملية كان ينبغي لها أن تتطوَّر على مدار فترةٍ زمنية. تواجه هذه المرأة الآن واقعَ إيجاد منشأةٍ مناسبة، مشدِّدة على أن والدتها ينبغي أن تنتقل من الشقة، وبطريقةٍ ما إدخال مقدِّمي الرعاية إلى الشقة في تلك الأثناء؛ بغيةَ السيطرة على سلوك والدتها وعدم إبلاغ السلطات. الأمر أشبه بالمقارنة بين إعصارٍ يضرب حياة المرء وعاصفةٍ بطيئة الحركة يتسنَّى فيها الوقت لاتخاذ القرارات اللازمة.

وضَعْ في اعتبارك الآتي: للكثير من منشآت الرعاية قوائم انتظار. فليس الأمر وكأن بإمكانك اتخاذ قرار ثم البدء بعد أسبوع بنقل والدك إلى منشأة الرعاية. أعرف أناسًا اضطرُّوا إلى الانتظار أربع أو خمس سنواتٍ قبل أن يخلوَ مكان في منشأة الرعاية التي وقع عليها الاختيار.

لا شيء سهل فيما يتعلق بهذا القرار. ويكون صعبًا جدًّا إذا لم يكن لديك أيُّ أفراد أسرة آخرين، وكنت أنت مقدِّم الرعاية الوحيد. فذاك وقت أنت فيه في حاجةٍ حقًّا لشخصٍ يمكنك التحدُّث إليه، لكنه أيضًا وقت أنت فيه في حاجة لأن يكون لديك حسنُ تمييزٍ بشأن مَن تختار أن تثقَ به وتفضيَ إليه. ومجموعة دعم هي الخيار الأمثل، لكن إذا لم يكن باستطاعتك أن تجد واحدة، فابحث عن صديق له بعض الخبرة مع الخرف، شخص أقل ميلًا نحو إصدار الأحكام والتمسك بالآراء المُسبَقة. إن المشاعر بشأن منشآت الرعاية يمكن أن تكون قوية، والشخص الذي لا يتمتَّع بأي خبرةٍ شخصيةٍ عن مدى ما يُسبِّبه هذا القرار من ألمٍ قد يكون له آراءٌ غير منطقية. ليس هذا بشخص تريد أن تفضي إليه بما لديك.

لقد فوجئت باكتشافي أنه كان لديَّ بعض الأحكام بشأن هذا الموضوع، خلال السنوات الأولى من إصابة والدي بالمرض. كانت لأمي صديقةٌ أصيب زوجها أيضًا بداء ألزهايمر. كانوا في غاية الثراء، وعيَّنت لزوجها مقدِّمي رعاية على مدار الساعة. لذا بدا لي غريبًا أنها قرَّرت أن تضع زوجها في دار رعاية. لم تطلعني أمي على أي تفاصيل؛ إذ أخبرتني ببساطة أن هذا سيحدث. أودعت صديقتها زوجها دار الرعاية بسرعة إلى حد كبير، وبعد أسبوع تُوفِّي الزوج. وجدت نفسي أفكِّر في أنها لو تركته في المنزل مع مقدِّمي الرعاية الذين كانوا موجودين بالفعل، لربما عاش فترةً أطول. لم أكن قد التقيت بهذا الرجل من قبلُ مطلقًا، لكنني سمحت لنفسي بأن أعكف على أفكارٍ من قبيل: «على الأرجح أنه مات من الحزن على أنه أُبعِد عن بيته.»

وكنت منزعجة مما كان عقلي يمضي إليه. أدركت أنه لم يكن لديَّ أدنى فكرةٍ عن الكيفية التي تجلَّى بها داء ألزهايمر في ذلك الرجل؛ ولم أعرف كيف كان وَضْع البيت أو كم كانت الأمور ستصبح صعبةً على صديقة أمي أو على مقدِّمي الرعاية. وكنت خجلة كثيرًا من أنني انحرفت إلى هذا الموقف النقدي، لكنني وأنا أنظر إلى الماضي سعيدةٌ بأن هذا حدث. فبعد سنوات، حين بدأت مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، كانت إحدى القواعد التي كنتُ مصممةً عليها هي عدم إصدار أحكام على الآخرين.

ومع أنه توجد نقاط تشابه في حالات الإصابة بداء ألزهايمر، فإن المرض يكون مختلفًا في كل شخص يصيبه. ربما كانت صديقة أمي تتعامل مع موقفٍ عسير لا يمكن السيطرة عليه من خلال وجود مقدِّمي رعايةٍ على مدار الساعة. لا أعرف وحسب. ولا أحد يملك الحقَّ في أن يَدين القرارات التي يتخذها الناس بشأن رعاية أحبائهم، إلا في الحالات الجلية من الإهمال التام أو الإساءة والإيذاء.

•••

بمجرد أن تتخذ قرارك بالبحث عن منشأة رعايةٍ مناسبة، تأتي المهمة الشاقَّة المتمثِّلة في البحث عن المنشأة التي تشكل خيارًا صائبًا. أحد الأشياء التي قد ترغب في أن تتذكَّرها هي «أنك» لن تعيش هناك. يبدو هذا بديهيًّا، لكنني استمعت إلى أشخاصٍ يخبرونني أنهم استبعدوا إحدى منشآت الرعاية لأنها كانت «كئيبةً جدًّا»؛ حيث المسنون المصابون بداء ألزهايمر جالسون في الأرجاء لا يفعلون الكثير، ومن الواضح أنهم لا يعرفون هُويةَ مَن يتحدثون إليه، إن كانوا في واقع الأمر يتحدثون إلى شخص آخر وليس إلى الهواء فحسب. إذا لم يعجبك لون الجدران أو كنت تظن أن الأرضيات المفروشة بالمشمع عتيقة ورديئة، فتذكَّر أنك لن تنتقل إلى العيش هناك. لا يمكن أن تكون نظرتك للجماليات هي العامل الحاسم.

لديك اختيارات فيما يتعلَّق بنوع منشأة الرعاية. فدُور الرعاية الصغيرة تتسعُ لستة أو ثمانية أشخاص وحسب: تكون نسبة الممرضين إلى المرضى أفضلَ في هذه المنشآت الأشبه بالفنادق الصغيرة، لكن قد لا يجد المرضى أنشطةً منظمةً كسماع الموسيقى أو مشاهدة الأفلام. وعادةً ما يكون بالمنشآت الأكبر حجمًا المزيدُ من الأنشطة، لكن ينبغي عليك أن تعرف بالتحديد كيف يُحفِّزون النزلاء ويسلونهم. وللكثير من منشآت الرعاية الكبرى نظام من ثلاثة مستويات. فيمكن للأفراد الذين لا يزالون قادرين على مزاولة شئونهم على نحوٍ جيد بمفردهم الذهابُ إلى قسم الرعاية العادية، وحين تزداد حالة الخرف لديهم سوءًا، يمكن نقلهم إلى قسم الرعاية التمريضية المميزة. أما القسم الثالث فهو قسم رعاية المصابين بضعف الذاكرة، وذلك حين تدنو المراحل الأخيرة من الإصابة بالخرف. ميزة هذا النظام ذو المستويات أنك لن تحتاج إلى نَقْل الشخص العزيز عليك إلى منشأة رعايةٍ مختلفةٍ تمامًا حين تزداد حالته سوءًا.

إن البحث عن كل هذا يمكن أن يجعلك تشعر وكأنك علِقت في متاهة. لكن انظر إلى الحال الذي كانت عليه الأمور قبل عقود، عندما لم تكن بالفعل توجد أي خيارات حين كان الأمر يتعلَّق بمنشآت الرعاية. إن جَدتي نيلي ريجان، التي كانت تعاني شكلًا من أشكال الخرف (لم يكن التشخيص جيدًا حينها، وكان يشار إلى فقدان الذاكرة بخرف الشيخوخة) أمضَت آخرَ أيامها في غرفةٍ كبيرةٍ مع الكثير من المرضى الآخرين، راقدين جميعًا في أسرَّة، والهواء من حولهم فاسد وثقيل. لذا هذا شيء يستحق أن نكون ممتنين من أجله، أننا تقدَّمنا نحو محاولة خَلْق بيئات مريحة في المراحل الأخيرة من الحياة لأولئك المرضى غير القادرين على رعاية أنفسهم. وبقدرِ ما يمثل اتخاذ القرار الصحيح بإيداع الشخص العزيز عليك في إحدى المنشآت؛ عبئًا ثقيلًا، فإنك بالفعل تملك خيارات.

ابتكرت صديقةٌ لي، أمُّها مصابة بداء ألزهايمر، طريقةً مبتكرة لاختيار منشأة رعاية لوالدتها، حين يحين الوقت المحتوم. كانت تذهب إلى منشآت رعاية وقت الغداء دون سابق إخطار. فإذا كان المكان هادئًا أكثرَ من اللازم، وكان النزلاء يجلسون في صمتٍ يتناولون الطعام، كانت تفترض أنهم جميعًا تحت تأثير الدواء، وكانت تحذف تلك المنشأة من قائمتها. وحين دلفت أخيرًا إلى منشأة رعايةٍ تضجُّ بالأصوات والإثارة أثناء وقت الغداء، والنزلاء يتبادلون الحديث، ومنهم مَن يشتكي، ومنهم مَن يضحك، ومنهم مَن يتحدث إلى نفسه، علمت أن ذلك هو المكان المناسب لأمها. وكانت محقَّة؛ إذ تكيَّفت أمها مع المكان بسرعةٍ وكانت سعيدةً هناك بقية أيامها.

اصطحب آخرون أعرفُهم أحباءهم، الذين كانوا في مراحلَ مبكِّرة من الإصابة بالخرف، إلى منشأة الرعاية لتناول الغداء دون أن يفصحوا لهم عن ماهية المكان لقياس ردود أفعالهم، ليرَوْا أيبدو الارتياح أم الاضطراب على أحبائهم. ليست هذه بالطريقة المثالية، حيث يمكن للخرف أن يشهد مراحلَ صعود وهبوط لأسباب يفوت على مقدِّمي الرعاية ملاحظتها، لكنها اختبار معقول. وإن لم يكن هذا الاختبار قابلًا للتنفيذ، يمكن لأحد العاملين بالمنشأة إجراءُ زيارةٍ منزليةٍ لمقابلة الشخص العزيز عليك، دون أن يعلن أنه قادم من منشأة لرعاية المسنين.

وتتضمن الأسئلة التي يتعين طرحها على منشآت رعاية المسنين نسبةَ المضيفين إلى النزلاء، بالإضافة إلى الكيفية التي تُنَظَّم بها الأيام والأمسيات. وما هي مواعيد تناول الطعام؟ ومتى يحدث شكلٌ من أشكال الأنشطة، حتى ولو كانت الرسم أو الغناء وحسب؟ واسأل إن كان البرنامج يتضمن جلسات موسيقية للنزلاء. هل يوجد جدول زمني محدَّد لمجيء الطبيب لفحص النزلاء، أم أن الطبيب لا يُستدعى إلا حين تكون ثمة مشكلة صحية واضحة؟ إن منشآت رعاية المسنين ليست رخيصة التكلفة؛ لذا، بصراحة، أنت ترغب في أن تعرف فيمَ تُنفق أموالك. وترغب في أن تُكوِّن فكرة عما ستبدو عليه الأيام التي سيعيشها الشخص العزيز عليك.

سمعت مؤخرًا بمنشأة رعاية تتبع نهجًا مغايرًا تمامًا. لا تضع هذه المنشأة نظامًا لليوم، ولا تحدِّد أوقاتًا لتناول الطعام. وإنما تترك تلك المنشأةُ النزلاءَ يفعلون ما يريدون، متى أرادوا، وتزعم تلك المنشأة أن الجميع أسعدُ بهذا الشكل. أنا أحاول أن أكون منفتحةً في تفكيري، لكن هذا يبدو لي في منتهى الفوضوية. بل في واقع الأمر، حين عرفت عنها أول مرة، خطرت لي حينها صورة عن غرفة لعب للأطفال فيها مسنون من جميع مراحل الإصابة بالخرف. من وجهة نظري، إحدى مزايا إيداع الشخص العزيز عليك في منشأة للرعاية هي وجود هيكل يُصبح النزلاء معتادين عليه، حتى ولو لم يفهموا ذلك الهيكل على المستوى الإدراكي. فبإمكانهم الشعور بأن وقت الغداء أو العشاء يقترب. وتستقر أيامهم لتصبح ذات وتيرة ثابتة ومأمونة. فإن كان الغداء دومًا عند الظهيرة، فمن شبه المؤكَّد أنهم في الثانية عشرة إلا الربع سيبدءون في الشعور بالجوع. إن الفوضى وداء ألزهايمر ليسا مزيجًا جيدًا.

تقدِّم منشآت الرعاية الأشهر جلساتٍ موسيقية حيث يمكن فيها للنزلاء الغناء معًا، أو الاستماع لشخصٍ يعزف البيانو أو آلة موسيقية أخرى. وقد أُجريَ العديد من الدراسات على الكيفية التي تؤثِّر بها الموسيقى على مرضى الخرف: لا شك في أن للموسيقى تأثيرًا علاجيًّا؛ فهي تُثَبِّت حالتهم المزاجية، حتى إنها تجعلهم أقلَّ تقلُّبًا. لكن السبب وراء تذكُّر بعض المرضى للموسيقى في حين أنهم لا يستطيعون تذكُّر أشياء أخرى يُمثِّل لغزًا محيِّرًا. فحين كان أبي لا يزال يحضُر إلى الكنيسة، في المراحل الأولى من المرض، كان إدراكه وذاكرته متضررين تضررًا ملحوظًا، ومع ذلك كان بإمكانه غناء تراتيل الكنيسة من الذاكرة. في الفيلم الوثائقي «سأكون أنا» (آيل بي مي) عن جلين كامبل، يُسمح لنا بأن نشهد انهيار عملية التفكير لدى كامبل وانحسار ذاكرته، لكنه حين يمسك جيتارًا أو آلةَ بانجو موسيقية، لا تفوته نغمة. هذا الشكل من الاحتفاظ بالذكريات لا يحدث مع الجميع، وقد يظلُّ لغزًا لن نجد له حلًّا أبدًا، لكن تظل الموسيقى أداةً علاجيةً قَيِّمة.

•••

بمجرد أن تختار منشأة رعاية، تواجه تحديًا يتمثَّل في كيفية نقل الشخص العزيز عليك إليها بأقل قدرٍ ممكن من الدراما. معظم منشآت الرعاية المرموقة تقدِّم لك شخصًا سيساعدك في هذا الصدد؛ يسدي لك النصح، وينسِّق الأمور من جانبهم. يمكن أن يتطلَّب الأمر قدرًا هائلًا من التخطيط والتحايل لتحقيق هذه الخطوة. فالشخص المصاب بداء ألزهايمر قد لا يعرف أي يوم هو اليوم، أو ما تناوله على طعام الإفطار، لكنه سيعرف إن كان يجري إبعاده عن بيته. إن القرار الذي أوصلك إلى هذه المرحلة كان صعبًا. وتنفيذه سيكون أصعب.

سترغب في تضمين الكثير من المتعلقات الشخصية — كالصور ومفروشات الأسرة، بل وحتى قِطع صغيرة من الأثاث — حتى يكون ثمة طابعٌ من الألفة في البيت الجديد للشخص العزيز عليك. وهذا أمر صعب؛ لأن المكان ينبغي أن يكون جاهزًا حين يصل المريض إليه، لكنك لا ترغب في أن تبعث قبل الموعد المحدد بانطباعٍ مُفاده أن شيئًا ما يتغيَّر. وما نجح مع الكثير من الناس هو التخطيط لشيءٍ آخر أولًا — كغداءٍ أو نزهةٍ مثلًا — يوم الانتقال، لتُخرج الشخص من البيت الذي سيغادره. وفيما تفعل ذلك، يمكن للآخرين نقلُ الأغراض التي اخترتها إلى منشأة الرعاية.

من بين الأشياء التي يجب أن تأخذها الصور وسجلات القصاصات؛ فهي ذات أهمية للمصاب بداء ألزهايمر. إن ذاكرته القصيرة الأجل لا تعمل؛ لأن الوصلات العصبية في الدماغ لا تعمل كما ينبغي. كما أن أجزاءً كثيرة من ذاكرته الطويلة الأمد تنحسر. لكن ما يبقى عادةً هو الذكريات ذات الجذور العميقة، الذكريات التي صارت مختزنةً في دماغه، وتكون هذه الذكريات حية. يمكن للصور المساعَدةُ في إطلاق تلك الذكريات وتثبيت الشخص في إطارٍ زمنيٍّ يبدو حقيقيًّا. إنهم لا يتذكَّرون ما حدث فحسب؛ بل وكأنهم عادوا لتلك اللحظة مرة أخرى. حين رأى أبي مباراة كرة قدم أمريكية على التلفاز، واعتقد أن فريق كليته يلعب وأنه يلزم أن يكون هناك في الملعب، كان الأمر حقيقيًّا تمامًا له. وقد تذكَّر أسماء بعض زملائه في الفريق؛ وقال شيئًا عن أن المطر توقَّف ومن ثمَّ بدأت المباراة. والمرأة التي ترى صورة لها وهي طفلة مع والديها تعود مجددًا إلى عيد الفصح ذاك، حيث يطنُّ النحل عبر الحقل المخبأ فيه بيض العيد، وحيث فستانها المصنوع من القماش القطني يصيبها بالحكَّة وينغِّص عليها راحتها. والرجل الذي يسافر في الزمن عائدًا إلى زمن لعب فيه لعبة التقاط الكرة مع والده في الباحة الخلفية؛ يشعر ثانيةً بارتطام الكرة بقفازه الجلدي، ويشعر بنسيم أواخر الربيع يمرُّ به، ويستنشق رائحة الياسمين المتفتح. يمكن للصور أن تعطي الشخص العزيز عليك مكانًا يذهب إليه؛ فيمكنه أن يطيل المقام هناك، مرتاحًا إلى ما تحمله الصور من ألفة، ويسمع مجددًا الأصوات التي كان يعوِّل عليها فيما مضى، ويعيد زيارة عالَم ربما يكون قد وَلَّى، لكنه عاد ليشعره بالراحة برهةً من الوقت.

ذات يوم في العام الأخير من حياة والدي دسست صورةً في جيبي حين ذهبت لزيارته. كانت الصورة له وهو حارس إنقاذ يافع في ثوب السباحة، واقفًا بالقرب من النهر حيث أمضى فصول الصيف. كان أبي حينها يظل مستيقظًا لمعظم أوقات اليوم، لكنه كان قد توقَّف عن الكلام. وحين أصبحنا وحدنا، أريته الصورة. أطال النظر فيها وركَّز، ثم نظر نحوي مباشرةً وظلَّ ينظر إليَّ بضعَ دقائق. ورأيت في عينيه تيارات النهر، وشعرت كم كانت أدفأ في أعلاها وأبرد كلما غصت أكثر. وتخيَّلت كيف كان الماء يشد ذراعيه في كل حركةٍ منهما وهو يسبح، وكيف يلطم الماء قدميه وهو يضرب بهما بقوة على سطح الماء، سواء كان ذلك على سبيل التدريب أو للوصول إلى شخصٍ يغرق. وخطر لي ما قاله نورمان ماكلين في روايته «نهر يجري خلاله»: «في نهاية المطاف، تندمج كل الأشياء في شيءٍ واحد، ونهر يجري خلاله.» مكَّنت الصورة والدي من أن يعود إلى مواسم الصيف تلك، إلى النهر الذي أحبَّه، النهر الذي لم يتوقَّف مطلقًا عن الجريان عبر حياته.

ثمة أجزاء من الماضي لا يقترب داء ألزهايمر منها، مثل نوافذ مفتوحة مرَّ بها الداء، ولم يعبأ أن يغلقها. إن كان بإمكانك توجيه الشخص العزيز عليك إلى إحدى تلك النوافذ، فإنك ستقدِّم له هديَّة لا مثيل لها في عالم حياته الراهنة المحدود.

•••

بمجرد أن تذهب بالشخص العزيز عليك إلى منشأة الرعاية التي تأمل أن تكون مساحته الجديدة فيها جاهزة لاستقباله، تكون اللحظة الحاسمة قد حانت. لا أظنُّ أن الكذب أو تغيير الواقع هو أفضل خيار أمامك في هذه المرحلة. فحتى إن لم يكن الشخص العزيز عليك يفهم تمامًا ما تقول، فمن الأفضل أن تقول له بأكثر ما يمكنك من وضوحٍ واقتضابٍ إن هذا المكان سيصبح بيته من الآن، وإنك ستزوره زيارات متكررة. وستقول له إن المكان سيكون أفضل وأكثر أمنًا، وسيكوِّن صداقات جديدة وسيتلقى رعاية جيدة. ولا تذكر أنك لن تزوره مدة أسبوعين: فأي منشأة رعاية موثوقة ستشير عليك بأن تظلَّ بعيدًا لأسبوعين تقريبًا، حتى يتسنى للشخص العزيز عليك التأقلم. وإذا ما ظللت تذهب لزيارته خلال تلك الفترة الانتقالية، فستطول مرحلة عدم الاستقرار الناجمة عن الرغبة في العودة إلى البيت الذي يعرفه، وفي الوقت نفسه تنهال عليه الصور والوجوه الجديدة. أنت تريد للشخص العزيز عليك أن يتحوَّل إلى حالةٍ من التقبُّل نحو هذا المكان الجديد باعتباره بيته. وسيفعل الشخص العزيز عليك ذلك، لكن ذلك سيحدث بسهولةٍ أكبرَ إذا ما ابتعدت عن الطريق بعضَ الوقت. قد يكون الأمر غير مستقرٍّ في البداية، وقد تكون ثمة نوبات هستيرية بين الحين والآخر. لكن تذكَّر أن كل شيءٍ يتحوَّل بسرعةٍ بالنسبة إلى شخصٍ مصابٍ بداء ألزهايمر، بما في ذلك أسباب شعوره بالغضب. وبطبيعة الحال، يتأقلم بعض الناس بسرعة أكبر من غيرهم، لكن عادةً ما تكون فترة أسبوعين كافية لأن يستقرَّ هذا الواقع الجديد من حوله ولأن يرتبط به هو باعتباره بيته، أو على الأقل نسخة من بيته.

مع الأسف، مهما أعددت نفسك، أو تشاورت معها، فعلى الأرجح ستظل ثمة أوقات تشكك فيها فيما اتخذت من قرار. قالت صديقتي كارا إنها، بعد فترةٍ طويلةٍ من استقرار أمها في بيتها الجديد ورضاها عنه، كانت لا تزال في لحظاتٍ تسأل نفسها إن كانت قد فعلت الصواب. هنا يُصبح اجتياز الشعور بالذنب مجهودًا شاقًّا للغاية فعلًا.

إن كنت وثيقَ الصلة بوالدك — كما كانت كارا مع والدتها — فسيتخلل الشعور بالذنب شعورك بأنك تفتقد والدك. سيرسلك إخلاصك له في طريق تفكِّر فيه في أنه ربما كان ينبغي لك أن تضحي بجودة ظروفك المعيشية؛ من أجل أن تُبقي عليه في المكان الذي كان معتادًا عليه. وستكون تلك معركة مستمرة بين مشاعرك وواقعك. الحقيقة أن والدك سيكون أفضل حالًا في مكانٍ يلقى فيه رعاية محترفة ومستمرة، مكان به هيكل موثوق وثابت في أثناء اليوم، ونسبة خطر منخفضة من أن يتوه أو أن يضرم النار في المكان.

•••

من المؤلم بشكل خاص أن تضطر إلى إيداع زوجتك أو شريكة حياتك في منشأة رعاية. فعهود الزواج تنصُّ على «في المرض والعافية». ويتساءل الناس: «هل يعني هذا أنه كان ينبغي لي أن أُبقي عليها بجانبي مهما كانت الظروف؟» الجواب لا. هذا يعني أنك في حاجة لأن تضع في اعتبارك حقيقةَ ما يحدث، وأن تتخذ أكثر قرارٍ مسئول لصالح الشخص العزيز عليك ولصالحك. وفي هذا الظرف، سينتهي بك الأمر إلى العيش في فراغٍ في بيتك، وفراشك، وطاولة الإفطار، وأيام السبت حين كان لديك حجزٌ ثابتٌ منذ فترةٍ طويلة لموعد عاطفي مسائي. وفي خضم ذلك الفراغ، ستتنازعك الأفكار وتطاردك، وتجعلك تشكُّ فيما إن كنت قد أصبت فيما فعلت.

اتخذت امرأة أعرفها قرارًا بإيداع زوجها في منشأة رعاية ثم بدأت تشكُّ في قرارها. وبعد أسابيع قليلة، أخرجت زوجها من المنشأة وأعادته للبيت. ولم يجرِ الأمر جيدًا. إذ كان زوجها مضطربًا ومنفعلًا، بل وحتى غاضبًا، وأدركت أنها اتخذت قرارًا كارثيًّا. أعادت المرأة زوجها إلى المنشأة (لحسن الحظ كان لا يزال هناك مكان متاح له) وكان عليه أن يتكيَّف من جديد. أتمنى لو كان بوسعي تقديم وصفةٍ ما لجعلِ عملية الانتقال أيسر، وأكثر قابلية للاحتمال، لكن لا يمكنني ذلك. ستهدأ الشكوك بداخلك، وستخف صرخات أفكارك في رأسك، لكن ذلك سيستغرق وقتًا. وكما يحتاج الشخص العزيز عليك إلى التأقلم مع بيته الجديد، أنت أيضًا بحاجة إلى ذلك.

•••

يتحدَّث كثيرون من مرضى داء ألزهايمر عن البيت؛ سواء كانوا في بيتهم، أو في بيت أحد أفراد أسرتهم، أو كانوا في منشأة رعاية. جملة «أريد الذهاب إلى البيت» هي جملة يسمعها مقدِّمو الرعاية مراتٍ لا تُحصى. وإن كان الشخص الذي ينطق بهذه الكلمات في بيته بالفعل، يمكن أن يسبِّب ذلك اضطرابًا وألمًا. أيقصد الشخص بذلك بيته في طفولته؟ أيقصد الغرفة التي عاش فيها حين التحق بالكلية؟ أم أول شقة امتلكها؟ أخبرني الناس أنهم حاولوا أن يظهروا لأحبائهم أنهم لا يزالون في البيت، وذلك بالإشارة إلى كل الأغراض المألوفة في الغرفة، أو استعادة ذكريات عشاء عيد الفصح في غرفة الطعام. ومع ذلك يكرِّرون الجملة: «أريد الذهاب إلى المنزل.»

هذا هو ما صرت أعتقده، وليس ثمة أساسٌ طبي له، لكنه يبدو منطقيًّا لي. أظن أن مرضى الخرف حين يقولون هذا، فإنهم يقصدون به إحساسًا أكثر مما يقصدون مكانًا. تخيَّل ما لا بد أن يكون عليه الأمر حين يصبح كل شيء مفتَّتًا تدريجيًّا. المشهد أمامك يتغيَّر ويتحوَّل باستمرار؛ ترى وجوهًا تبدو مألوفة لك، لكنك لا تستطيع أن تحدِّد مَن هم. لا بد أن هذا هو أكثر الأحاسيس إرباكًا، وكأنك أُسقِطتَ في أرض غريبة ولا يمكنك أن تحدد اتجاهاتك. إن البيت ليس مجرد مكان، إنه إحساس بداخلنا؛ شعور بأننا راسخون في مكانٍ ما، أننا ننتمي إلى مكانٍ ما، مكان نشعر فيه بالألفة والراحة. نعرف فيه أننا آمنون. مرضى داء ألزهايمر ليس لديهم أيٌّ من هذا. فهم متخبطون وهائمون، وقد يكون الغد أكثر غموضًا حتى من اليوم.

وما اقترحته هو أن يتحدث الناس إلى أحبائهم عن أفراد الأسرة والأصدقاء الذين يهتمون لأمرهم ويُوجدون حولهم. فهذا هو البيت؛ إنه مشاعر الحب لدى مَن يهتمون لأمرنا ويُوجدون لأجلنا. أخبر الشخص العزيز عليك أنه بغض النظر عن المكان الذي سيُوجد فيه بجسمه، فإنه دائمًا ما سيكون في البيت؛ لأن أذرع المحبة دائمًا ما ستكون مفتوحة له. ولا أزعم هنا أن هذا القول سيؤدِّي إلى معجزة؛ فقد يظل الشخص العزيز عليك يقول: «أريد الذهاب إلى البيت.» ولكن لأنني أُومِن أن الروح تسمع وتفهم كل شيء على مستوًى عميق وخفي، فقد تَعبُر إليه تلك الكلمات وتُحدِثُ فارقًا، حتى ولو لم يكن ذلك هو الحال في الوقت الراهن.

حين قام صديقاي كارا وتوماس بزيارة ميشيل في منشأة الرعاية التي أصبحت بيتًا لها، أحضرا لها صورًا لرضيع ابنهما المولود حديثًا. وأخبراها أنها أصبحت جَدة كبرى وشاركاها قصصًا لطيفة عن الرضيع. وكانت ميشيل تبتهج وتتلذذ بكل كلمة. وفي المرة التالية التي زاراها فيها أرياها صورة أخرى له، وكان الأمر برُمته جديدًا عليها. لم تكن لديها أي ذكرى عن أنه قيل لها من قبل إن هذا هو ابن حفيدها، لكنها في كل مرة كانت تمتلئ بمشاعر الحب والبهجة. في كل مرة كانوا يذكِّرونها بأنها في البيت.

وفي هذه المرحلة، تخفق أشياءُ كثيرة بالتذكرة بأن النهاية تقترب. عقلك يتجادل مع قلبك. أنت تعرف أن الشخص العزيز عليك يتلقى الرعاية من أشخاص مدربين على ذلك، وتعرف أن زياراتك الآن أسهل؛ لأنك لست قلقًا بشأن نوعية المشاكل التي يمكن أن يزجَّ الشخص العزيز عليك نفسه فيها، أو بشأن الكارثة التي تنتظرك عند المنعطف التالي من الحياة؛ هل نحن واثقون من أنه لم يشعل الفرن أو حاول استخدام جهاز الكمبيوتر بطريقةٍ قد تلحق به أذًى؟ هل نحن واثقون من أننا وضعنا مواد التنظيف والتطهير بعيدًا عن المتناول؟ لم تَعُد تراودك تلك المخاوف، لكن قلبك لا يزال يوجعك. هذا الداء يشبه عبور سلسلة جبلية. فثمة مسارات سهلة، ومنحدرات، وثمة أيضًا مرتفعات شاهقة يبدو من المستحيل تسلقها. المهم أن تستمر في المضي قُدمًا وأن تجد أناسًا يساعدونك في طريقك.

«تعودُ إلى تلك الفترة السابقة مسلَّحًا بالحاضر، ومهما كانت الظُّلمة في ذلك العالم، فإنك لا تتركه بلا ضوء.»

مايكل أونداتشي، «ضوء الحرب»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤