الفصل الخامس عشر

العالَم الذي أنشئوه

في عام ٢٠٠٧، أعلنت ساندرا داي أوكونور عبر أحد أفراد أسرتها أن زوجها — الذي كان في المراحل الأخيرة من داء ألزهايمر وقيد الإقامة في منشأة للرعاية — قد وقع في حب نزيلة أخرى هناك.1 لم يكن جون أوكونور يتذكَّر على الإطلاق الحياةَ التي عاشها مع زوجته وأبنائه؛ وفي خضم حاجة ماسة إلى علاقة وارتباط، بدأ في علاقة جديدة. وحين زارته زوجته، رأتهما يجلسان في الخارج على مقعد، يمسك أحدهما بيد الآخر. وكان سبب إطلاق هذه المعلومة أن تقول ساندرا علنًا إنها سعيدة لأجل زوجها. كانت ممتنة أنه يشعر بالراحة ولديه رفقة في حياته. أتذكَّر حين خرجت تلك الأخبار إلى العلن أنني تأثرت بشدة لأنها كانت تتحلى بالشجاعة لتخبر العالَم أن هذا هو ما يفعله داء ألزهايمر؛ أنه يمحو الذاكرة، لكنه لا يمحو الرغبة نحو الآخرين.

هذا مثال مؤثِّر على ما ينبغي أن يكون عليه الحب. لم تقع ساندرا داي أوكونور أسيرةَ مشاعر الغيرة أو الحنق، ولم تهمِّش نفسها كذلك بشعورها بأنها ضحية. لقد أحبَّت زوجها — في المرض وفي العافية — الأمر الذي يعني أن سعادته هي سعادتها. ظلت تزوره، وتشاهده مع رفيقته الجديدة، وشعرت بالارتياح لمعرفتها أنه وجد شخصًا يملأ ذلك الفراغ بعد أن سرق منه داء ألزهايمر الكثير، بما في ذلك ماضيه معها.

كانت القاضية أوكونور قد استقالت من المحكمة العليا قبل ذلك بعام لترعى زوجها. وأدركت حينها حقيقةً تدعو إلى الحزن مُفادها أن زوجها سيكون أفضل حالًا في منشأة رعاية مع أناس مدرَّبين يعرفون عن داء ألزهايمر أكثرَ منها. وقد ساعد انفتاحها في مشاركة تفاصيل ما مرَّت به عددًا لا يُحصى من الناس. وفي عام ٢٠١٣، سمحت لنا ثانيةً بالدخول إلى عالمها الخاص، حين كشفت أنها هي أيضًا قد شُخِّصت بإصابتها بداء ألزهايمر.

في اعتقادي أن أوكونور بانفتاحها بشأن رفيقة زوجها الجديدة وباستجابتها الحصيفة تجاه ذلك؛ علَّمت العالَم درسًا قيمًا عن الحب والتفهُّم والتسامح. كما فتحت أيضًا نافذة على عالم داء ألزهايمر وسمحت لنا برؤيةِ ما يحدث غالبًا حين ينسى الناس الحياة التي عاشوها. لا يمكن لهذا الداء أن يسلب الحاجة إلى رفقة. فتلك حاجة أساسية تتسامى فوق المرض. وإن مُحيت من الذاكرة صلات وعلاقات دامت عمرًا كاملًا، فسيبحث المرء عن صلات وعلاقات جديدة. ويشعر مرضى الخرف بالوحدة حتى ولو لم يستطيعوا التعبيرَ عن ذلك، كما أنهم يرغبون في ملء ذلك الفراغ.

•••

أثناء جائحة كورونا، فكَّرتُ كثيرًا في صلاتنا بالآخرين. لقد فكَّر معظمنا في ذلك. نجد أنفسنا معزولين، إما مع أسرنا أو مع أفكارنا ومخاوفنا إن كنا وحيدين. نتوق إلى الصداقة الحميمة مع الآخرين، ونتعطَّش إلى الشعور الجسدي المصاحب لوجودنا بين ذراعي أحدٍ ما، أو أن نكون حتى على مسافة أقل من ست أقدام من أحد. في كل مرة نتجنَّب فيها بعضنا على الرصيف فيما نقوم بتمشية الكلب، محافظين على مسافة بيننا، يترسَّخ فينا الواقع المُحزن الذي مُفاده أنه ليس باستطاعتنا أن نتواصل الآن؛ ليس بالطريقة التي اعتدنا عليها على أي حال. ونضمر جميعًا الخوف نفسه من أننا قد لا نستطيع أبدًا أن نتواصل بالطريقة ذاتها ثانية. لقد رأيت ذلك الخوف في أعين الناس وهم يبتعدون مسرعين، وأظنُّ أن الخوف نفسه بادٍ في عينيَّ أيضًا. لقد ذكَّرني ذلك الخوف أكثرَ من مرة بما رأيته في عينَي والدي في المراحل المبكِّرة من داء ألزهايمر. كان في بعض الأحيان يحدِّق إلى الغرفة التي يُوجد بها، أو إلى الناس من حوله، بنظرة كلها يأسٌ مكتوم، وكأنه أراد أن يتواصل مع شيء أو شخص مألوف له، لكن كل شيء كان يتفكَّك ويتحوَّل ما حوله إلى أرضٍ أجنبية عنه. حتى إنني رأيت ذلك في بعض الأحيان حين كان ينظر إلى أمي، لكنني لم أذكر لها ذلك مطلقًا.

قالت الأم تريزا: «أفظع أنواع الفقر هو الوحدة، والشعور بأنك لست محبوبًا.» فإن أصبح الناس في حياة المرء مجهولين، وإن بدأت العلاقات التي رسَّخت وجودهم خلال عقودٍ من الزمن تتلاشى في ضبابية داء ألزهايمر أو اختفت من الأساس، فلا بد أن الوحدة تُصبح لا تُطاق. بل تكون لا تُطاق أكثر لأن الشخص الذي يعايش مشاعر الفقد تلك لا يستطيع أن يتحدث عنها.

لذا، لشخص مصاب بداء ألزهايمر يشعر بالعزلة فيما حوله، ويرى وجوهًا ينبغي لها أن تكون مألوفة لكنها ليست كذلك، ويهيم شاردًا في غرف لم تَعد تبعث على الراحة، يكون الرفيق الوحيد المتبقي هو الخوف. فإن وُضِع ذلك الشخص في ظرفٍ معيشي مع أناسٍ آخرين عيونهم تأتلف مع عينيه، وأياديهم تمتد إليه، فسيتمسَّك هو بهم ولن يتخلَّى عنهم؛ لأن الخوف تنحَّى جانبًا فجأة وثمة يد يمكنه أن يتمسَّك بها، ثمة جسد إلى جوار جسده يتلاءم مع بيته بشكله الجديد.

•••

في واقع الأمر من الشائع جدًّا لدى مرضى داء ألزهايمر الذين أودعوا في منشآت رعاية أن يبدءوا علاقات جديدة.2 وهذا في بعض الأحيان محيِّر لمن يسمعون بذلك؛ لأن من المفترض أن مرضى داء ألزهايمر كبار في السن، ولا بد أن رغبتهم في الرومانسية قد انحسرت منذ وقت طويل. لكن الخرف ينقل المرء عبر الزمن إلى الماضي؛ لذا ففي ذهن الشخص المصاب بداء ألزهايمر، هو ليس في الثمانين أو التسعين من عمره؛ ربما يكون في العشرين من عمره، أو حتى في السادسة عشرة. وقد سمعت بحالات عديدة يتذمَّر فيها مسنٌّ مصاب بداء ألزهايمر من المنشأة التي نُقِل إليها، والسبب أنه «يوجد كثيرٌ من المسنين هنا».

في إحدى الحالات، أصبحت إحدى السيدات متيَّمة بنزيل آخر في المنشأة، معتقدة أنه حبيبها في الكلية. كانت تخاطب الرجل باسم ذلك الشاب، وقد جاراها الرجل في الأمر. وأقنع كلٌّ منهما الآخر بأنهما خرجا في مواعيدَ عاطفية مؤخَّرًا، وتناولا الطعام في المطاعم وتنزَّها معًا تحت ضوء القمر. خلقا لنفسيهما عالمًا جديدًا كانا فيه يافعين سعيدين مغرمين.

وسمعت أيضًا بقصصٍ من أناس يعملون في منشآت رعاية كبار السن بشأن إيجاد نزلاء في غرف نزلاء آخرين، يتعانقون في الأسرَّة. ترى بعض منشآت الرعاية أن من الأفضل فصل النزلاء المتيَّمين، بينما تتركهم منشآت رعاية أخرى وشأنهم. ولست واثقة مما إذا كانت فكرة الفصل تجدي كثير نفع. فمثلما يحدث مع المراهقين، بمجرد أن يغادر مَن هم في السلطة، يعود العاشقان مباشرةً إلى السرير الذي كانا يتشاركانه.

وقد يكون من العسير عليك كفردٍ من أفراد الأسرة ومقدِّم رعاية أن تزور الشخص العزيز عليك، وتجده متجذرًا في عالَمٍ لم تَعُد أنت جزءًا منه. فمرضى داء ألزهايمر في غالب الأحيان لا يستطيعون تمديد انتباههم ليشملك في عالمهم الصغير الذي يسكنونه الآن. وقد يكون المريض مهذَّبًا معك، لكنك مجرَّد زائر عابر. وهذا يفتح باب مستوًى جديد من الفقد والحزن. لهذا أظن أن انفتاح ساندرا داي أوكونور بشأن زوجها كان غاية في الأهمية. فثمة خيار دائمًا بشأن الكيفية التي تتجاوب بها مع أي موقف. قد تشعر بألم الفقد يتَّسع بداخلك، لكن يمكنك اختيار أن تقدِّر هذه المشاعر ولا تعلَق في شِراكها. يمكنك عوضًا عن ذلك أن تقرِّر أن تستوعب السعادة التي تراها في الشخص العزيز عليك، وتكون ممتنًّا لما يشعر به من اطمئنان.

•••

إن أحدَ أصعب التحدِّيات هو إعادة بناء عالَمك الخاص، في حين أن شريك حياتك أو زوجك قد انجرف بعيدًا عنك بأميال، بينما انهارت الذكريات على الطريق من خلفه. تحدَّث إليَّ رجلٌ شُخِّصت حالة زوجته بالإصابة بداء ألزهايمر المبكِّر، باستفاضةٍ عن صعوبة محاولة أن ينفتح على الحب من جديدٍ، في حين تُوجد زوجته في منشأة رعاية. كان أبناؤه قد شجَّعوه على بَدء المواعدة، فقط ليقدِّموا له فكرة أن الحياة يمكن أن تستمر. قال الرجل إن الانفتاح على احتمال وجود مستقبلٍ مع شخصٍ آخر تطلَّب مجهودًا جبارًا. كانت زوجته لا تزال في كل مكان، مع أنه بدا أنها لم تكن تعرفه حين كان يجلس معها. كان ذلك تصرفًا حالمًا يهدف إلى تحقيق التوازن؛ أن يحاول أن يتخيل مستقبلًا جديدًا واعدًا، فيما لا يزال الحاضر أمامه قاسيًا ويعج بالألم.

وأخبرني شخصٌ آخر أن الحزن الذي يشعر به في تلك المرحلة المتأخرة، بدا وكأنه حزن ما بعد الموت، إلا أن الشخص العزيز عليه لم يكن قد مات؛ كان أمام عينَيه، فقط يعيش في زمنٍ وعالمٍ مختلفَين. كان يزوره ويتحدَّث إليه وكأنه غريبٌ عنه، إلا أنه لم يكن غريبًا. كان ثمة الكثير من الأشياء المألوفة له، لكن الكثير كان قد تغيَّر. يتطلَّب الأمر عزيمةً قوية، لكن أظن أن أفضل مسارٍ هو استغلالُ زياراتِك للشخص العزيز عليك لتدلف إلى عالمه فترةً وجيزةً، وتلعب الدور الذي يوكل إليك أيًّا كان. فإن كان والدك يظنُّ أنك والده، فجارِهِ في ذلك. وإن كانت أمُّك تظن أنك شقيقٌ لها، فهذا هو أنت طيلة المدَّة التي تزورها فيها. ومن المحتمل جدًّا أن يظنَّ الشخص العزيز عليك في المرة التالية التي تزوره فيها؛ أنك شخصٌ آخر يعرفه؛ لذا لا ترتبط كثيرًا بدورٍ بعينه.

أحد الأشياء الأخرى التي يمكن أن تحقِّق التوازن في شعورك بالحزن؛ هي فرصة معرفة بعض الأشياء عن الشخص العزيز عليك، التي لم تكن تعرفها من قبل. إنك ترى الشخص العزيز عليك كما كان عليه حاله قبل وقت طويل من معرفتك به؛ وذلك لأنه عاد بالزمن إلى الماضي؛ فإن كان الشخص العزيز عليك هو والدك، فقد تراه على ما كان عليه قبل حتى أن تُولد. عرف رجل أن أباه — الناجح والمتحفِّز والشديد الدكتاتورية مع أولاده — كان يعاني التأتأةَ في طفولته، وكان يشعر بانعدام الأمن وأنه غير كفء. لم يُذْكَر هذا في أسرته من قبل مطلقًا، ولكن فيما عاد والده عبر عقود من الزمن إلى الماضي، ظهر ذلك الصبي المصاب بإعاقة في الكلام. وقد أعطى ذلك للابن سببًا لأن يتلطَّف مع والده، لأن يجد في نفسه الصفح تجاه ما كان عليه والده من استبداد.

اكتشفت إحدى السيدات أن أمها فقدت رضيعًا قبل أن تُولد. فجأة، صارت أمها التي تبلغ من العمر ثمانين عامًا شابةً في العشرينيات من عمرها، تنتحب على فقدانها طفلًا لم تعرف ابنتها شيئًا بشأنه. وكلُّ ما استطاعت فِعله هو تقديم السلوى، والتساؤل إن كانت أمها قد حزنت بحقٍّ على ما فقدته طوال كل تلك السنين التي مرَّت.

ويمكن أيضًا لأسرار عائلية أن تنكشف. أعرف امرأة عَلِمَت أن والدها كان يخون أمها مدةً طويلة؛ إذ كان على علاقة مع إحدى صديقاتها. وعلى ما يبدو لم تكتشف والدتها، التي ماتت قبل أن يُصاب والدها بداء ألزهايمر، ذلك الأمر مطلقًا. ومن المستحيل بالطبع أن نعرف إن كانت القصة حقيقية أم اختلاقًا لُفِّق في ضبابية الداء. لكن سيكون من غير المعتاد لذكرى كاملة كهذه أن تتشكَّل فجأةً بتفاصيل سليمة تمامًا. افترضت المرأة أن أباها كان يكشف عن الحقيقة. فزواج والديها المثالي لم يكن في واقع الأمر مثاليًّا جدًّا.

وليس ثمة سبيل لاستعادة مرضى داء ألزهايمر من العالَم الذي انسحبوا إليه، من خلال التحدث إليهم. يمكنك أيضًا أن تزور ذلك العالَم معهم. لن يقلِّل ذلك من حجم خسارتك، لكنه سيعوضها قليلًا. بطريقةٍ ما، تعود إلى نقطة البداية مع والدٍ اعتاد أن يلعب معك لعبة «التظاهر» حين كنتَ طفلًا. والآن، حان دورك لتلعبها أنت معه.

•••

لا أعرف أي عوالم انجرف إليها أبي. أتمنى لو كنت أعرفها. في المراحل الأولى من المرض، كان ثمة لمحات عمَّا كان عليه حين كان صبيًّا، وحين كان شابًّا، وشعرت أنه تسنَّت لي فرصة أن أعرف أكثر عنه، ولو معرفة بسيطة، ذلك الرجل الذي كان يمثل لي دائمًا لغزًا محيرًا. لكنه صار صامتًا عند مرحلة معينة؛ توقَّف بالأساس عن الكلام عدا بضعة مقاطع كان ينطق بها بين الحين والآخر. في بعض الأحيان كنت أراه يحرِّك يديه بطريقة محددة للغاية، وحاولت اكتشافَ ما إن كان يوجه حصانًا باللجام أو يقوم بأعمال المزرعة. ربما كان يحرِّك يديه مع شيء كان يتحدث عنه في أعماق ذهنه، فيما وراء صمته. لم يكن لديَّ سوى مخيِّلتي لإكمال الفراغات. لكن أيًّا كان المكان الذي كان فيه، فقد بدا مطمئنًّا.

ذات يوم حين ذهبت أزوره، ولم يكن ذلك قبل وقت طويل جدًّا من وفاته، كانت أغنية «داني بوي» تتردد في ذهني. كنت أستمع لأداء إيفا كاسيدي لتلك الأغنية في وقت سابق، ولم تفارقني الأغنية لأسباب، منها أن والدي اعتاد أن يغنيها لي حين كنت صغيرة جدًّا. كان، كالعادة، راقدًا على ظهره في سرير المستشفى المعقَّد الذي كان في ذلك الوقت يعيش فيه، وقد أرخى جفنيه. بدأت أغني له أغنية «داني بوي» بنعومة شديدة، يحدوني الأمل أن أرى في عينيه شيئًا يتوقَّد. ولم أرَ شيئًا، وإن كنت قد لاحظت أن زوايا فمه ترتفع قليلًا. لكن تحتَّم عليَّ مرة أخرى أن أتمسَّك بإيماني بأنه في أعماقه كان يتذكَّر ذلك، وأنه كان يغنِّي معي. في ذلك اليوم تلبَّدت السماء بالغيوم. وكان سرير أبي يواجه النافذة، وتساءلت إن كان يتطلع إلى شجر البلوط والسماء الملبَّدة بالغيوم، أم كان بعيدًا جدًّا في عالمه الخاص. هذا شيء آخر لن أعرفه أبدًا.

حين كنت في حوالي الثامنة أو التاسعة من عمري، دلفت إلى المنزل من الباحة الخلفية، فوجدت أبي جالسًا إلى مكتبه يكتب على بطاقات ملاحظاته، فسحبته خارجًا إلى الباحة. وأشرت إلى السماء، حيث كانت الغيوم الكثيفة الرمادية تتلاطم، وكان شعاع من نور الشمس يخترقها وكأنه ضوء كشاف. أخبرته: «هذا هو الرب ينظر إلينا عبر الغيوم.»

فأجاب أبي: «ربما»، وهو يومئ وفي عينيه نظرةُ استمتاع. وأضاف: «لكن، كما تعلمين، لا يحتاج الرب إلى فُرجَة عبر الغيوم ليرانا. فهو دائمًا ما يحرسنا.»

كانت ثمة أوقات أثناء سنوات إصابته بداء ألزهايمر تساءلتُ فيها إن كان الرب يرانا أم انصرف عنا. ولكن مع وجود وعي أبي في مكانٍ بعيد، وأيامه على الأرض تدنو من نهايتها، ذكَّرت نفسي بأن الإيمان هو ما يستمسك به المرء طوال الحياة حين لا تكون ثمة إشاراتٌ أو همسات، حين تبدو الأشياء قاتمةً وتشعر بنفسك على مشارف اليأس. شعرت في ذلك العَقد من الزمن بالوحدة، ومن أسباب ذلك أن أسرتي كانت مفكَّكة للغاية. لم أحظَ بالاحتضان الدائم من حولي الذي تمارسه الأسر القوية الترابط. لذا عادةً ما كنت أرى نفسي مهاجِرةً وحيدةً تستنجد بالرب. كانت الذكريات من طفولتي، حين كان والدي يتحدث إليَّ عن أن الرب دائمًا ما يكون حاضرًا وأنه دائمًا يسمع ويرى، هي ما اجتذبتني من مشاعر اليأس. كانت تلك الذكريات قد انطبعت بداخلي، وبطرق شتَّى أصبحت طوق نجاتي.

إن داء ألزهايمر لص بارع. فهو يسرق المرء بطرق مختلفة كثيرة. أحيانًا تندهش من الشرود الذي تلقاه أمامك. وأحيانًا يذهلك ما انتقل إلى ذلك الشرود، ما حلَّ محلَّ الشخص الذي كنت تعرفه. وهذا ينطبق بصفة خاصة على المصاب بداء ألزهايمر إذا تحوَّل إلى نسخة أصغر سنًّا منه — شخص لم تعرفه من قبل مطلقًا — أو إذا عاودت السمات الشخصية، التي طُمرت قبل وقت طويل، الظهور من جديد. قد تجد نفسك تفكِّر باستمرار أنك لم تتوقع حدوث ذلك. وأظن أن ما يسكِّن الجروح التي تنفتح هو معرفة أنك تتعرَّف الشخصَ العزيز عليك، بطرقٍ ربما لم تُتَح لك من قبل. ويمكن لذلك بالطبع أن يكون حسنًا أو سيئًا. لكنني أُومِن بشدة أن بإمكان الفضول أن يُسَكِّن ما تشعر به من ألم.

وكثيرًا ما تمنَّيت ألَّا ينزلق أبي نحو الصمت. وقد بُعثت تلك الأمنية من جديد حين بدأتُ مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» وسمعت الكثير من القصص عن التحوُّلات الشخصية التي تحدث لأشخاصٍ أعزاء على الأعضاء فيها، وكيف أن هؤلاء الأعضاء رأوا جوانب كانت خفيةً من شخصيات الأشخاص الأعزاء عليهم. وسأتساءل دائمًا بشأنِ ما كنت سأعرفه عن والدي لو لم ينجرف بعيدًا هكذا، لو لم يستقر في مكانٍ بدا من الواضح أنه لا يحتاج فيه إلى صوت. لقد تغيَّر الكثير في سنوات مرضه؛ بداخلي وكذلك فيما بيننا. كانت ثمة طمأنينة، بل وحتى ألفة ودرجة من الارتياح، ولم يكن أيٌّ من ذلك موجودًا من قبل. لكن في أعمق أعماقه، ظَلَّ أبي لغزًا. ربما بطريقةٍ ما كان هذا هو الانتصار الذي حقَّقه على داء ألزهايمر، أن حتى ذلك المرض الساحق والطاغي، لم يتمكَّن من اختراق جدران القلعة التي احتفظ بالكثير من نفسه مخفيًّا فيها. حين كنت صبية صغيرة، كنت أمتطي الحصان خلفه، متسائلةً فيمَ كان يفكر وما كان يدور في ذهنه، بينما تجول عيناه في التلال والحقول. وحين صرت امرأةً بالغة، كنت أجلس إلى جوار سريره أتساءل عن الكثير من الأشياء نفسها؛ أين كان؟ أين ذهبت به روحه في تجوالها؟ تركني أبي وترك لي هدايا وألغازًا، ويتعيَّن عليَّ أن أجد في ذلك قناعةً ورضًا.

«خارج مضمار كل الأفكار، كل مفاهيم الخير والشر، الفضيلة والخطيئة، هناك مرجٌ واسع بلا نهاية. سألقاك هناك. حين تفترش الروح ذلك العشب، يصبح العالم متخمًا ولا يعود هنالك مجالٌ للحديث عنه.»

جلال الدين الرومي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤