الفصل الثامن عشر

صديقك القديم الحزن

حين بدأتُ مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، ثقفتُ نفسي بشأن رعاية المحتضرين. لم تكن شيئًا عايشته مع والدي؛ لأنه حظي برعاية على مدار الساعة من الممرضات، لكنه أمر مهم للكثيرين. تختلف رعاية المحتضرين عن الرعاية التخفيفية.1 فالرعاية التخفيفية تهدف إلى تحسين حياة المرضى: وهي تشتمل على كل أنواع الأدوية التي يحتاجون إليها، وتندرج فيها أيضًا الأدوية المسكِّنة للآلام. أما رعاية المُحتضَرين فهي على النقيض مُنْصَبَّة على الحفاظ على راحة المرضى وهم يُحتضَرون. فتُستَبْعَد أي أدوية لتمديد الحياة؛ أما أدوية تسكين الألم فتُعطى حسب الحاجة.

وكل وجه من أوجه رعاية المحتضَرين يتصف بكونه تخفيفيًّا — فهو يقدِّم الراحة — في حين أن لا شيء في الرعاية التخفيفية الأساسية يُشَكِّل رعاية للمحتضرين. بتعبير أدق، تركِّز رعاية المحتضرين على الأشهر الستة الأخيرة من حياة الشخص، بعد أن يتحدد أنه لا يوجد علاج للحالة ولا داعي للعلاجات القوية. وبطبيعة الحال، في حالة داء الخرف، لا يعد العلاج من الشواغل ذات الصلة، لكن في بعض الأحيان يعاني مرضى الخرف مشكلاتٍ صحيةً أخرى يتلقَّون علاجًا لها؛ للمساعدة في إبقائهم على قيد الحياة. في حالة رعاية المحتضرين تُوقَف، كما قلت، هذه الأدوية؛ ولا يتلقى المريض سوى أدوية تخفيف الألم.

وقد عبَّر بعض الناس في مجموعة الدعم عن قلقهم حيال الإطار الزمني لرعاية المحتضرين الذي يبلغ ستة أشهر. يساورهم القلق من أنه إذا كان الشخص العزيز عليهم لا يزال على قيد الحياة بعد ستة أشهر، فلن يكون في مقدوره أن يتلقى رعاية المحتضرين. وليست هذه هي الحال. حيث سيُشرَكون في فترة من الرعاية لستة أشهر أخرى، ولستة أخرى إذا ما تطلب الأمر ذلك.2

تُقدِّم رعاية المحتضرين الكثير من الميزات، منها المستشارون الذين يتحدثون إلى أفراد الأسرة عن التجربة الصعبة لانتظار موت أحد الأحباب. يَنْصَبُّ جدول الأعمال برُمته على تقديم السلوان في الأيام الأخيرة من الحياة؛ للمريض وللأسرة على حد سواء. ويكون المورفين متاحًا بسهولة إذا كان الشخص يتألم، خاصة في النهاية، حين يكون على الحافة بين الحياة والموت.

نشأت رعاية المحتضرين كما نعرفها اليوم في إنجلترا مع السيدة سيسلي سوندرز، التي تلقَّت تدريبًا في بداية الأمر للعمل ممرضة، لكنها توقفت عن التمريض لإصابة في ظهرها.3 في عام ١٩٤٧ بدأت العمل اختصاصية اجتماعية للمرضى المصابين بأمراض عُضال والمحتضرين. راقبت سيسلي معاناتهم، ورأت أنهم يُمضون آخرَ أيامهم يدمِّرهم الألم، فقررت أن تكرِّس نفسها لتغيير الطريقة التي يُعامل بها المحتضرون. أصبحت سيسلي طبيبة وهي في عمر الثامنة والثلاثين. وفي عام ١٩٥٨، ذهبت إلى مأوى سانت جوزيف لرعاية المحتضرين في المملكة المتحدة، حيث أجرت أبحاثًا عن الألم وكيف تجري معالجته — أو إذا ما كانت تجري معالجته. ووجدت أن المرضى لا يحصلون على المورفين إلا بصورة متقطِّعة، في الأساس إذا ما كانوا يعانون آلامًا مبرحة، وحينها يتعاطونه بالحقن العضلي، الأمر الذي يسبِّب الألم أيضًا. نادت سوندرز بإعطاء المورفين عن طريق الفم، رغم ما لاقته من مقاومة في الأوساط الطبية؛ لأن الأطباء كانوا يخشَون من أن يُصبح المرضى مدمنين على تعاطيه. خُذ وقتًا لتستوعب ذلك؛ كان الأطباء يخشون من أن المرضى المحتضرين الذين يعانون آلامًا مريعةً، يمكن أن يصبحوا مدمنين. انتصرت سوندرز في نهاية المطاف، وبدأت تتحقَّق مهمتها في جَعْل آخر أيام المرضى المحتضرين أكثرَ راحة وجدوى.

في عام ١٩٦٧، افتتحت سوندرز مأوى سانت كريستوفر لرعاية المحتضرين في جنوب لندن. كان المأوى مكرَّسًا للرعاية الشاملة، وقد وُصفت تلك الرعاية في إحدى المناسبات بأنها مزيج من «التعاطف والعلم».

من المذهل، ولكن ليس من المفاجئ، أن رعاية المحتضرين بمفهومها اليوم لم تأتِ بسهولة. فكثيرًا ما يُنظَر إلى المحتضرين على أنهم يمكن التخلص منهم. لكن سيسلي سوندرز رأت أن كل لحظة في الحياة وكل ساعة لها معناها وأهميتها. توفِّيت سيسلي سوندرز في عام ٢٠٠٥ في مأوى سانت كريستوفر، يحيط بها أحباؤها والبيئة الهادئة التي أوجدتها. ومن السهل اعتبار وجود شيء مثل رعاية المحتضرين من المسلَّمات؛ لذا من المهم أن نتذكَّر أنها لم تكن موجودة دائمًا. فقد تطلَّب الأمر امرأة تتحلى بالكثير من التعاطف لتقرِّر أنها ستغيِّر العالَم بطريقةٍ معينةٍ؛ لأن العالم كان بحاجةٍ إلى التغيير. ذات مرةٍ سألت سوندرز رجلًا كان يعرف أنه يُحتضر عن أكثرِ ما يحتاج إليه ممن يرعونه. فقال الرجل: «أن ينظر إليَّ شخصٌ وكأنه يحاول أن يفهمني.»

•••

في «كتاب الحياة والموت التبتي»،4 يكتب سوجيال رينبوتشي بصورة مؤثِّرة عن تحدي الاعتناء بشخص يحتضر، حين لم تكن علاقة المرء بذلك الشخص في حياته علاقةً مثلى: «وجدت العون في تذكُّر شيء واحد: أن الشخص الذي أمامي ويُحتضَر دائمًا ما يكون خيِّرًا بطبيعته في مكانٍ ما بداخله.» صدمتني هذه المقولة لأنها أساس المغفرة؛ أن ترى في أحدهم ما نسيه بشأن نفسه. إن كنت تؤمن أننا خُلِقنا بيدِ إله محب، فإن كل شيء فينا لا يعبر عن الحب هو نتيجة خياراتنا نحن، نتيجة إرادتنا الحرة. لا يعني ذلك أن جمال الروح لم يَعُد موجودًا، إنما هو مدفون تحت رُكام وظلام يعودان لعمر كامل. وكما قلت من قبل، إن لم تكن من المعتقدين بهذا الرأي الروحاني، فربما يمكنك أن تضع هذه الاحتمالية في اعتبارك فقط. فهي تستحق أن تُوضع في الاعتبار، خاصة في نهاية حياة أحدهم؛ لأنها ستساعدك على رؤيته على ما كان قادرًا على أن يكونه، وليس فقط ما اختار أن يكونه.

ثمة حقيقة مطلقة بشأن الموت بغض النظر عن الظروف المحيطة بوفاة الشخص العزيز عليك؛ وهي أن القلب يعاود النظر ويرى كل شيء. يرى لحظاتِ الفرحِ المتزايدة، ولحظات الحزن الشديد الوطأة، وأوقات الغضب. يرى الخيانةَ، والتضحياتِ، ومشاعر انعدام الأمن، ومشاعر الحب المؤثِّرة للغاية. في نهاية المطاف، يُعرف الناس بالكيفية التي عاشت بها قلوبهم. تلك أيضًا هي الطريقة التي سنتذكَّر بها لحظاتنا الخاصة في الوداع؛ كيف اختارت قلوبنا تقبُّل نهاية حياة كانت مرتبطة بحياتنا؟ سمعت أناسًا يقولون إنهم يتعمَّدون تجنب أن يكونوا إلى جوار سرير شخص عزيز عليهم — عادةً ما يكون أحد الآباء — وهو يحتضر. إنني أشعر بحزن عميق من أجل كل مَن يتخذ ذلك القرار؛ لأنه يفوِّت تجربةً عميقة يمكن لها أن تلازمه طوال حياته.

إن موت عزيز لنا يعيد ترتيب حياتنا بأعمق الطرق، ويتطلب منا أن ننظر إلى كل شيء وكل شخص بعينَين صافيتَين وقلبٍ مفتوح. يمكن للموت أن يعيد ترتيب أنفسنا، أن يغيِّر من أولوياتنا ورغباتنا، إذا ما سمحنا له بذلك. وهذا قرار يعود لنا بالطبع، كما هو الحال مع كل شيء آخر. يمكننا أن نولِّي وجهنا عنه ونستمر كما كنا، لكن الموت ينتظرنا دائمًا عند أحد الأبواب، وسيأتينا جميعًا حين يكون مستعدًّا لذلك. فيبدو من الحكمة أكثرَ أن تتخذَه صديقًا قبل ذلك الوقت.

•••

في نهاية شهر مايو من عام ٢٠٠٤، كان واضحًا أن أبي سيرحل عما قريب. أصبحت عملية البلع صعبة؛ لذا كان من المستحيل إطعامه أيَّ نوع من الأطعمة الجافة. حتى السوائل كانت تتطلب صبرًا. وكنت أظنُّ أني مستعدة للنهاية. لسنوات شعرت بالموت يحوم من حولنا؛ شبح ينتظر في صبر اللحظة التي حددها. في مراحل بعينها، كان يبدو أنه اقترب أكثر، مثلما حدث حين أصيب أبي بسكتة دماغية صغيرة، وقيل لنا إن ذلك يمكن أن يكون مؤشِّرًا على شيء أكبر. أو حين أصيب مَن في المنزل كلهم بالإنفلونزا بما في ذلك أبي، وقال الطبيب إن ذلك يمكن أن يتحوَّل إلى التهاب رئوي. في كل مرة، كان الموت يذكِّرني بأنه موجود، وكنت أعتقد أني أصبحت صديقة له. ففي نهاية المطاف، لم يكن أبي خائفًا من الموت. كان يخبرني طوال حياتي أن الموت يعني بالنسبة إليه العودة إلى الديار عند الرب، فكيف يمكن لذلك أن يكون مخيفًا؟

لكني كنت على وَشْك أن أعرف أننا لا نكون مطلقًا مستعدين استعدادًا تامًّا للموت. يبدو أنه دائمًا ما يأتي من دون سابق إنذار، مهما كان قريبًا، ومهما سايرناه معتقدين أن أُلفتنا معه قد تهدِّئ من خوفنا. إن الغموض فيه طاغٍ؛ كيف يمكن لإنسان أن يكون هنا ثم في لحظة يرحل؟ أين يذهب؟ الأسئلة الوجودية التي عصفت بالبشرية لقرون تُصبح حقيقية بصورة لا تطاق. ومهما قلت لنفسك قبلها: «أنا قادر على تحمُّله»، فالحقيقة أنك لست كذلك.

في لوس أنجلوس، كانت أشجار الجاكرندا تُزهر؛ كانت الأزهار البنفسجية الزاهية اللون تتساقط على الأرصفة والشوارع، فجعلتها كبحيراتٍ من ذلك اللون. وكان الياسمين يتفتَّح أيضًا، فجعل الجو حارًّا ولطيفًا. تلك هي الذكريات الشعورية التي لديَّ للوقت الذي تُوفِّي فيه أبي.

كان أخي رون وزوجته قد ذهبا إلى هاواي لقضاء إجازتهما السنوية. وقبل أن يغادرا، أتى رون إلى لوس أنجلوس وفيما كنا نقف إلى جوار فراش والدنا قلت له: «هل أنت واثق من أنه ينبغي لك الذهاب إلى هاواي الآن؟»

نحَّى أخي فكرة أن والدنا قد يموت أثناء غيابه، ربما لوجود إنذارات زائفة من قبل، أو ربما فحسب لأنني كنت أنا مَن يشكك في تقديره للأمر. على أية حال، ذهب هو وزوجته إلى هاواي، وبعد أقل من أسبوعٍ عاد قاطعًا المسافة كلها طول الليل في الوقت المناسب ليودِّعه.

سأظل أُومِن بأن أبي انتظر رون. ففي الليلة السابقة لوفاته لم يبدُ عليه أنه سيبقى حيًّا حتى الصباح، رغم أن الأطباء قالوا إن ذلك ممكن. غادرتُ منزل والديَّ حين بدأ الظلام يحل وكان البدر يتخذ مكانه في السماء. كنت أعيش في شقة في بناية من ثلاثة طوابق، وكنت أصبحت صديقةً للزوجين المالكَي البناية، وكانا يعيشان في الطابق الأرضي. حين بدأت أصعد السُّلم الخلفي، الذي كان خارج البناية، شعرت فجأة بأني لا أستطيع الحركة. فجلست على دَرج السُّلم، ورفعت عينيَّ إلى القمر من فوقي، وغلبتني دموعي. وجدني صديقاي هناك. قلت لهما: «لا أعرف كيف أفقده. لا أعرف كيف أفعل ذلك.»

أدخلني صديقاي ورحنا نتحدث برهة؛ حول أن لا أحد يكون مستعدًّا أبدًا للموت، وأن الأمر يبدو مفاجئًا دومًا حتى ولو لم يكن كذلك حقًّا. سأعتزُّ دائمًا برفقتهما في ذلك الوقت. فقد أقنعاني بشمولية تجاربنا جميعًا مع الموت، وكثيرًا ما تذكرت تلك الليلة سنواتٍ لاحقة، حين كان الموت والاحتضار موضوعَين شائعَين في مجموعة الدعم الخاصة بي.

حين وصلت إلى منزل والديَّ بُعَيد فجر يوم الرابع من شهر يونيو، كان رون موجودًا بالفعل. كانت طائرته قد هبطت في ظلام الليل بعد وقتٍ طويلٍ من منتصفه، وقبل وقتٍ طويلٍ من فجر اليوم التالي. وأتذكَّر أني فكَّرت في أن تلك ساعات موحشة، وتساءلت إن كان رون قد شعر بما فيها من وحشة، وهو يقود السيارة من المطار إلى تلال بيل إير. لكن تلك محادثات في أسرتي لم يتطرق إليها أحد قط؛ لذا لم أسأله. بدأنا سهرتنا إلى جوار فراش والدي فيما تنفَّس الصبح، وانقشع الضباب عن النوافذ. شربنا الشاي، وتشاركنا الذكريات، وكنا نصمت في بعض الأحيان. وغريزيًّا جعلنا أصواتنا خفيضة فيما كنا نتحدث، وكأننا لم نُرِد أن نزعج والدي في أثناء رحيله عن هذا العالم.

عند مرحلةٍ ما، في وقت لاحق من الصباح، نهضت وخرجت إلى الحديقة. رفعت عينيَّ إلى السماء اللبنيَّة، وشعرت بالكثير من الذكريات والانطباعات يجتاحني. وعندئذٍ أدركت مدى عمق الموت كمعلِّم؛ فهو يرشد إلى دروس بشأن الحياة. تمنيت دومًا المزيد من أبي، فكنت أرغب في أن أكون أكثرَ قربًا منه، أن أستطيع أن أقول إنني أدركت مَن كان. لكن حتى بعد مرور عَقد من الزمن أشاهد الطبقات تنزاح عنه، وأحظى بلمحات عنه؛ إذ كان أبي لا يزال مثل لوحات مرسومة في معرض فني. كانت ثمة مسافةٌ بين الصور، وكان عليَّ أن أتقبل أن تلك المسافات ستظل فارغة إلى الأبد.

عبر الباب الزجاجي كان بوسعي أن أسمع أمي في غرفة نومها تتحدث عبر الهاتف. كان ذلك في الأساس ما كانت تفعله معظم فترة الصباح، عدا مرات قليلة أتت فيها إلى غرفة أبي. وأدركت فجأةً أنني كنت مجحفة في انتقادي إياها في الماضي القريب. فلماذا تُجري مكالمات هاتفية بينما يجلس أولادها إلى جوار فراش والدهم، يتسمَّعون آخر أنفاسه، وينتظرون آخر زفرة له؟ لكن، وفيما بدأت الشمس تبدِّد الضباب، أدركت أنني لم أكن أنتقدها. كنت، عوضًا عن ذلك، حزينة لأجلها. فهي لم تكن تعرف مطلقًا كيف تكون جزءًا من تجربة أسرية حميمة كهذه. ولم نكن، أنا وأخي، نعرف أيضًا، لكننا كنا نفعلها؛ كنا نتجاوز ماضينا، وندرك أن هذه التجربة في حاجةٍ لأن تسمو فوق كل شيء حدث سابقًا. كانت أمي تفوِّت على نفسها هِبة الجلوس مع أولادها، فيما يرحل زوجها ببطء عن هذه الدنيا. فقط لم يكن في تكوينها أن تشارك بهذه الطريقة، وشعرت لأجلها بآلام الحسرة؛ لأنها شكَّلت حياتها بحيث تفوِّت على نفسها شيئًا يحمل مغزًى رائعًا. أتذكَّر أني صليت صلاة صامتة، أشكر فيها الموت لأنه سمح لي بأن أرى كل ذلك؛ لأنه أتاح فرصة النظر بموضوعيةٍ ليس إلى الماضي وحسب، بل إلى ما قطعته من شوطٍ خلال ذلك الماضي.

حين أخبرنا الطبيب أن نبض والدي ضعيف وأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، نادينا أمنا لتأتيَ. كانت حاضرة في اللحظة الاستثنائية التي كانت قبل وفاة والدي، حين فتح عينيه؛ عينيه اللتين عاد إليهما لونهما الأزرق وأصبحتا مركَّزتين. وقد حصلت أمي على تأكيد بحبه لها حين التفت إليها ببصره مباشرةً قبل آخر نَفَس له. كنت مسرورة لأجلها لأنها نالت اللحظة التي كانت تنتظرها، لكن هذا لم يمحُ حزني على ما كانت تفوِّت على نفسها. في نهاية حياة والدي، وُجِد هو وأمي في عالمهما الخاص، هما وحدَهما وحسب. لا أذكُر أنها قالت لي أو لرون أخي شيئًا. تركتنا نتعامل وحدنا مع وفاة والدنا، بالتأكيد ليس كأسرة، وكان الفارق الوحيد بالنسبة إليَّ أن ذلك أشعرني بالحزن، بدلًا من أن يثير فيَّ الغضب على حال هذه الأسرة التي خاض أفرادها الحياة، كلٌّ في واديه.

•••

بصفة عامة، في مجموعة الدعم، كان يوجد نهجان في التعامل مع الموت المحتوم للشخص العزيز عليك المصاب بالخرف. فمن الناس مَن كان يقول: «إنه سليم جسديًّا، وعلى الأرجح سيعيش أكثر مني. أظن أنه سيعيش عشرين عامًا أخرى.» ومنهم مَن كان يتفاعل مع مدى شرود الشخص العزيز عليه، ويفسِّر ذلك بأن الموت يقترب بسرعة. لكن لم يكن أحد محقًّا قط في تنبؤاته. فالموت يأتي حسب جدوله الزمني الخاص، والشيء الوحيد الذي يمكنك التعويل عليه هو أنه من شبه المؤكد أنه سيفاجئك. الطابع العام الشامل الآخر في الموت أنه حين يهمس أخيرًا بأن أوانَ آخرِ وداعٍ قد حان، فكأن مرآةً عظيمةً وُضِعت أمامك ويصبح كل شيء تقريبًا في حياتك مُكبَّرًا. إن الموت يضع الحياة في بؤرة التركيز، ويخرج الكثير من الأشياء من الظلال، حتى حين يخيِّم هو بظلاله على حياتك.

لقد سمعت أناسًا يقولون إنهم لم يتوقَّعوا أن يموت الشخص العزيز عليهم حين مات، يقولون إنهم كانوا في زيارة له للتو، وإنه بدا أن لديه طاقةً للمزيد من الحياة. وعادةً ما يتساءل الناس إن كانوا قد فوَّتوا علامةً ما، إشارة سلوكية ربما أوحت بأن النهاية وشيكة. لكن ذلك يعني محاولة تحمُّل مسئولية شيء بالكاد يمكننا أن نستوعبه بتفكيرنا. الموت ليس مِلكًا لنا لنتنبَّأ به. إنه ليس مهمتنا. مهمتنا أن نكون منفتحين تمامًا على التجربة حين تحدث.

لقد سمعت أيضًا أناسًا يتحدثون عن تحذيراتٍ من الأطباء، أو مقدِّمي الرعاية في منشآت الرعاية، ملاحظات تقول إن الشخص العزيز عليهم يذوي، وإن الوقت ربما يكون قد حان للتأكد من أن الخطط جاهزة. إنهم يفعلون ذلك بالضبط، يتخذون كل الترتيبات اللازمة. يجدون أنفسهم قلقين في كل مرةٍ يدق فيها جرس الهاتف؛ ظنًّا أن هذه هي لحظة تلقِّيهم الخبر. لكن الوقت يمر بطيئًا.

ذلك ما حدث مع صديقيَّ كارا وتوماس. اتصل بهما مالك دار الرعاية الصغيرة التي تعيش فيها ميشيل، وقال إنه يعتقد أن ما تبقى لها قليل. كانت حالة ميشيل الجسدية تتدهور، الأمر الذي لاحظه كلٌّ من كارا وتوماس في آخر زيارة لهما، وكانت كل العلامات تشير إلى أن النهاية تقترب. هُرعت كارا لاتخاذ التدابير، تريد تدبُّر أمر كل شيء قبل رحيل والدتها، حتى يتسنَّى لها التركيز على مشاعرها دون ضغط اتخاذ ترتيبات الجنازة.

ذهبت كارا إلى مقبرة بيرس براذرز ويستوود فيلدج، حيث دُفِن الكثير من الشخصيات البارزة في عالم الترفيه، ومن بينهم مارلين مونرو. كانت مهمتها هناك أن تُحضر تابوتًا وتتدبَّر أمر نقل جثمان والدتها إلى قبرٍ يقع شمالًا، حيث كان يوجد بالفعل مكان لميشيل إلى جوار والد كارا. وكانت كارا على وَشْك الحصول على دورةٍ تدريبيةٍ مكثفةٍ، حولَ ما يمر به بعض الناس من تفاصيل معقَّدة بعد موت أحدهم. في مجموعة الدعم، بعد زيارتها، أفادت كارا بأنها صفَّت السيارة بالقرب من موقع دفن مقدِّم البرامج ميرف جريفين، حيث يقول النقش على شاهد قبره: «لن أعود على الفور بعد هذه الرسالة.» بعد ذلك تطرقت إلى الأفكار والتوابيت غير المعتادة التي يختارها الناس لمراسم دفنهم: تابوت على شكل زورق كانو لمحبي ركوب زوارق الكانو؛ أو الطابع الغربي لمحبي رعاة البقر والمتمثِّلين بهم (وضع مهاميز على التابوت!). جعلتنا كارا نضحك جميعًا، وهو الأمر المرحَّب به دائمًا في مجموعات الدعم التي يجتمع فيها الناس لهدف في غاية الكآبة والصعوبة. وأتذكَّر أنني فكَّرت مليًّا في أنه من الضروري للغاية أن نجعل الضحك جزءًا من الرقصة التي نؤديها بين الحياة والموت. ثمة مقولة في أغنية قديمة لجوني ميتشيل «حفلات الناس» تقول: «الضحك والبكاء، في كليهما إراحة.»

تطلَّب الأمر بعض الوقت، لكن كارا وتوماس أعدَّا كل الترتيبات؛ نعشًا بسيطًا من دون طابع مميَّز، وسيارة لتأخذ جثمان أمها شمالًا حين تحين ساعتها. ثم أخذا ينتظران أن تحين ساعتها. بدا لبرهة وكأن الانتظار زاحم كلَّ شيء آخر. وحين كانا يزوران ميشيل، كانت فكرة أن وقتها يقصر دائمًا ما تكون حاضرة، تلوح في الأفق. ثم حدث شيء غير متوقَّع. انتعشت ميشيل واستعادت عافيتها، باعثةً لهما برسالةٍ تقول إنها لن ترحل عنهما في وقتٍ قريب.

بعد ذلك بأكثرَ من عامَين تُوفِّيت ميشيل. شعرت كارا بارتياح كبير لأنها كانت قد أعدَّت كل الترتيبات مسبقًا، ورغم أنها كانت قد أعدَّت نفسها للنهاية قبل مدة طويلة جدًّا، فإن عمق حزنها والألم الذي تضخَّم بداخلها كانا باعثين على اندهاشها. لكن هذا هو الحال مع الموت؛ لا تعرف كيف ستشعر.

•••

لم أكن مستعدة تمامًا لوطأة حزني الشديدة عندما مات أبي. فبعد عشر سنوات من الحزن قضيتها أشاهده يذوي ويشرد أكثرَ في عالَم ضبابي لا يستطيع أحد غيره أن يقطنه، ظننت أني اجتزت معظم أحزاني. لكن الإحساس المطبِق بانتهاء وجود أحدهم يتركك معلَّقًا في الهواء. تصبح في حالة سقوط حر، ورغم أن هبوطك على الأرض حتمي، فثمة لحظات تظن فيها أنك لن تهبط أبدًا.

كثيرة هي الأشياء التي تموت برحيل أحدهم. كالآمال التي كنا نضمرها: لقد استمعت إلى أناسٍ آخرين يتحدثون عن أمنيتهم السرية بأن يعبِّر أحد والديهم عن فخره به، أو أن يعتذر عن الإساءات والأخطاء التي تراكمت على مدار عمرٍ كامل. ظلَّت تلك الأمنية متقدةً حتى لحظة الرحيل، مثل شمعة في عيد ميلاد طفل. تمنَّى آخرون لحظةً يتعرَّفهم فيها الشخص العزيز عليهم؛ بنطقه أسماءهم أو بنظرةٍ في عينه تشي بأنه يعرف هويتهم. إننا لا نعترف لأنفسنا أننا نتمسَّك بقوةٍ بتلك الآمال؛ لأن صوت العقل فينا دائمًا ما كان يشك في أنها لن تتحقق أبدًا. لكن حين يأتي الموت، لا يسعنا تفادي رؤية تلك الآمال والرغبات وهي تتفلَّت من قبضتنا. يُصبح ذلك جزءًا من حزننا أيضًا؛ المكان الخاوي الذي خلَّفه غياب عزيزٍ علينا، وثقل آمالٍ لم تتحقق.

غالبًا ما كان الناس في مجموعة الدعم يسألون إن كان لا يزال بإمكانهم الحضور إذا ما مات الشخص العزيز عليهم. لم أكن أقول إن بإمكانهم الحضور وحسب، بل كنت أشجِّعهم على الاستمرار في الحضور؛ لأن الحزن سيأخذهم في مسارات غير مألوفة. سيحتاجون إلى الدعم الذي تقدِّمه المجموعة. ويمكنني أن أؤكِّد بما لا يدع مجالًا للشك أن أيًّا منهم لم يتصرف بالطريقة التي ظنَّ أنه سيتصرف بها. فمَن ظنُّوا أن الحزن لن يتغلب عليهم قُهروا. ومَن ظنُّوا أنهم سينهارون وجدوا طمأنينة لم يعرفوا أنهم يحوزونها. وكما أن من الصعب التنبؤ بالخرف، فمن الصعب التنبؤ بالموت وباستجابتنا تجاهه. إن الموت كالخرف، سيعلِّمك دروسًا قيمة إذا ما أفسحت له المجال وسمحت له بذلك.

كما هو الحال مع كل شيء في عالم الخرف، توجد اختلافات حين يكون الفقيد زوجًا أو شريك حياة، وحين يكون شخصًا يافعًا للغاية في مواجهة الموت، خاصة في حالة الإصابة بداء ألزهايمر المبكِّر. فالشخص الذي يفقد شريك حياته أو أقرب أصدقائه لا يلاحقه ظلم الحياة فحسب، بل أيضًا الماضي؛ تلك المشادة الكلامية السيئة التي وقعت قبل سنوات طويلة والتي قيلت فيها أشياءُ لم يكن ينبغي قولها، تلك الأشياء البسيطة المؤلمة التي لم نتمكَّن من قولها، الخطط التي وُضعت للعام القادم، لكن لم يبدُ العام القادم كما كان متوقَّعًا. يمكن لتقبُّل الموت أن يكون مؤلمًا ألمًا مريعًا في هذا الموقف. سمعت أناسًا يقولون إنك لا تتخطى ذلك أبدًا، لكنك تتجاوزه.

إن فقداننا شخصًا عزيزًا علينا يغيِّرنا إلى الأبد. ويصح هذا بصفة خاصة إذا كنا نفقد الشخص الوحيد الذي توقَّعنا أن يشاركنا الحياةَ أكثر بكثير مما تشاركنا. أظن أن عليك أن تتمسَّك بشدة بالثراء الذي تنطوي عليه معرفتك بهذا الحب الذي غمر قلبك، الحب الذي أضفى المعنى على أيامك وسكن لياليك. فليس الجميع محظوظين بهذا القَدْر. فمع الحب العظيم يمكن أن يأتيَ حزن عظيم. لكن ذلك الحب هو أيضًا ما يساعد قلوبنا على أن تُشفى.

مع أنه لم يكن لديَّ مجموعة دعم تقوِّيني بعد وفاة والدي، فقد وجدت العزاء في نهاية المطاف بطريقة غير متوقَّعة. لقد تشاركت البلاد بأسْرها حدث وفاة والدي والقدَّاسات الجنائزية التي تلته. ففي يوم وفاته، كانت الشوارع المحيطة بمنزل والديَّ شبه مسدودة؛ إذ أتى الناس إليها وبقوا فيها. وبعد أيام، حين نقلنا تابوته من دار الجنازة إلى مكتبة ريجان، التي كانت هي نقطة البدء لأربعة أيام من القدَّاسات الجنائزية، اصطف الناس في الشوارع واكتظَّت بهم جسور الطريق العام، يحيوننا فيما نمر بهم. شعرت حينها، وما زلت أشعر، بأن السياسة نُحِّيَت جانبًا في تلك الأيام القليلة، وأن الناس أتَوا يرثون رحيل رجل صالح، سواء اتفقوا معه أم لم يتفقوا.

كرهتُ أمريكا بطريقةٍ غير منطقيةٍ لاستحواذها على والدي، مع أنه لم يكن خطأ أمريكا أن والدي كان غامضًا وصعبَ المنال. لكن كان من الأسهل أن ألوم البلاد على أن أتقبَّل أن والدي لم يرِد أن يعرفه أبناؤه معرفة تامة. لذا، فمن سخرية القدَر أن أمريكا بعد وفاته كانت بمثابة نظام الدعم الخاص بي. لقد مكَّن الحزن المشترك ودفق التعاطف مشاعري من الصمود وعدم الغرق في بحار أحزاني. وكنت أعرف أن الأمور حين تنتهي، سيتعيَّن عليَّ أن أغوص في التيارات العميقة لأحزاني الخاصة، لكن لبعض الوقت — لبضعة أيام قليلة وحسب — كان بإمكاني أن أصمد.

بعد ذلك بسنوات، حين تسنَّت لي فرصة مساعدة الآخرين في مجموعة الدعم الخاصة بي، كان بإمكاني أن أخبرهم من موقع خبرة أنه، بعد موت شخص عزيز، من المهم والضروري أن يُوجد حولنا أشخاص آخرون. سيكون ثمة وقت للانعزال، سيكون ثمة وقت تنطوي فيه على مشاعرك وأفكارك الخاصة. لكن بعد وفاة شخص عزيز مباشرةً، تكون في حاجة إلى الدعم. ولا أشير هنا إلى أنك في حاجة لدعم بلد بأكمله؛ فتلك ظروف غير اعتيادية نوعًا ما. لكن اعثر على بضعة أشخاص تقرِّبهم منك، أناس يفهمون الحزن والفقد، مستعدين لأن يكونوا لك كالأذرع التي تحملك وترفعك.

•••

بحلول الوقت الذي تحلُّ فيه النهاية، إن كنت قد استسلمت للحزن عبر الرحلة الطويلة لداء ألزهايمر، فقد يبدو لك أنه لا يمكن أن يكون قد تبقى الكثير من الحزن. فقد مررتَ في نهاية المطاف بمراحل الحزن مراتٍ ومرات، وعشت حياتك وهذه المراحل تتكشف أمامك، فأنت تعرف تذبذباته وتغيراته المستمرة. لكن حين يأتي الموت، يجعلك الحزن تعرف أنه لم ينتهِ منك بعد.

إن قدْرًا كبيرًا من الكيفية التي نحزن بها يرتبط بعلاقتنا بالشخص الذي رحل. فإن كنت قد حظيت بعلاقة صعبة مع الشخص العزيز عليك الذي فقدته، يمكن أن يبدو لك الحزن كرقصة غير مألوفة. قد لا يكون هناك الكثير من الأشياء التي ستفتقدها إن كان ماضيك مع ذلك الشخص مضطربًا ويعج بالصراع. أنت تشعر بوطأة الفقد، لكنه يتبدل، ويبدو في بعض الأحيان معقَّدًا تعقيدًا لا يُطاق. إن كان الفقيد والدًا فربما لم يكن صالحًا معك كثيرًا، ففي واقع الأمر كنت تحزن طيلة حياتك على ما لم تجده ولم يكن موجودًا. وإن شعرت عوضًا عن ذلك برابطٍ مع ذلك الشخص العزيز، فإن الفراغ الذي سيخلِّفه رحيله هو شيءٌ سيفتح بداخلك صدوعًا.

لقد خبرت نوعَي الحزن هذين. فعلى الرغم من أن أبي كان غامضًا ومن الصعب معرفته، كانت به حلاوةٌ جعلَت الامتعاضَ من غموضه مستحيلًا. كان كل أطفاله يتوقون لأن يكونوا مقرَّبين منه، وشعوري بافتقاده كان مستديمًا في حياتي. ومع تقدُّمي في العمر، أدركت كم أثَّر به كونه ابن رجل مدمن على الخمر. لم يحظَ والدي بوالدٍ متاح له على الدوام؛ لذا كيف يمكنه أن يتعلَّم أن يكون هو نفسه والدًا؟ كما أدركت أيضًا أن قدْرًا كبيرًا من تمرُّدي وتصرفي بغرابةٍ حين كنت أصغر في العمر (بل وحتى حين صرت راشدة) كان محاولة مني للفت انتباهه. وعادةً ما أجدى ذلك نفعًا أيضًا. إذ تعلَّمت من وقتٍ مبكِّر أن الوقوع في المآزق جعله ولا شك يلتفت باتجاهي.

لقد مررنا بالكثير من الأشياء في سنوات إصابته بداء ألزهايمر؛ وفي النهاية شعرت أن المغفرة تكمُن بنعومة في المسافة بيننا. كما تمكَّنت في النهاية من معرفته بصورة أفضلَ بقليل. ذلك أن ما تبقى كان جوهره، بعدما تجرد من ذاكرته وإدراكه في النهاية، وكان جوهره رقيقًا ورءوفًا. كان حزني على مدار تلك السنوات منصهرًا مع شعوري بالامتنان؛ لأني حظيت بفرصة رؤية مَن كان فعلًا في صميمه. وهذا النوع من الحزن يُهَدْهِدك حتى حين لا تتوقف الدموع عن الانهمار، حتى حين يكون الألم في قلبك شديدًا. إن أوثقَ ما حققته من ارتباط مع أبي كان في سنوات مرضه.

على النقيض، وكما سبق أن قلت، كانت علاقتي بأمي علاقةً صعبةً للغاية، وحتى حين كانت الأمور تمضي على ما يرام، كنتُ أعرف أنها مسألة وقت وحسب قبل أن تسوء ثانية. لقد أمضيتُ عقودًا أحلُّ تعقيدات علاقتنا، وأتحسَّر أيضًا على غياب علاقة الأم وابنتها في حياتي.

ذات مساء في مجموعة الدعم الخاصة بي، اعترف شخص، كانت علاقته بوالده الذي يعاني داءَ ألزهايمر صعبةً ومتوترة، أنه يخشى من أنه لن يذرف دموعًا حين يموت ذلك الوالد. ولم تكن تلك هي الطريقة التي يرغب ذلك الشخص أن تسير بها الأمور؛ إذ كان يفضِّل أن يختبر شعور الانجراف في الحزن الذي عبَّر عنه الكثيرون في مجموعة الدعم، لكن ذلك بدا بعيدَ الاحتمال. فأخبرت ذلك العضو أن يضع في اعتباره احتمالَ أنه ببساطة لا يعرف المشاعر التي يمكن أن تنشأ بداخله، عوضًا عن أن يقرِّر مبكِّرًا كيف سيكون ردُّ فعله. فقد يكون ثمة طبقات أعمق من الحزن موجودة لم يكن يدرك وجودها بعد. قلت له أن يكون منفتحًا على ما ينشأ بداخله أيًّا كان، وما سينشأ بداخله سيكون هو الأمر الصحيح تمامًا.

وقد لقي ذلك الحديث صداه معي؛ لأنه جرى وقتما كانت أمي في الأشهر الأخيرة من حياتها. كنا نعرف أن حالتها الصحيَّة كانت متضررة للغاية، وأن المسألة في تلك المرحلة كانت عمليًّا لعبة انتظار. كان لدى جزء مني أفكارٌ مشابهة لتلك التي عبَّر عنها عضو مجموعة الدعم هذا. كيف يمكن أن يكون باقيًا بداخلي أيُّ قدْر من الحزن تجاه رحيلها؟ عرفت أني في حاجة لأن أصغي إلى كلماتي وأن أطبِّقها على نفسي. وحين ماتت أمي، شعرت بأن الأمر مختلف عن وفاة والدي؛ إذ لم يكن ثمة وجود لأيٍّ من الحلاوة والحنين نفسيهما. لكن كانت تأتي لحظات كنت أنهار فيها وأنتحب. فوجئت من أن هذا القدْر من الألم كان لا يزال ينبع من ذلك المكان العميق بداخلي، لكني فعلت ما طلبت من الآخرين فِعله. استسلمت للحزن.

إن الحزن على شخص لم تكن على وفاق معه يمكن أن يكون أصعب بكثير من الحزن على فقدِ شخص كنت متعلِّقًا به. وذلك لأنك تفتقد الدفء والرقة والذكريات الجميلة العزيزة التي تقدِّم السلوان. إذ يُرمى بك إلى مشاعر الغياب والفقد التي تبعتك طوال حياتك، وتكون مألوفة لك بصورة مؤلمة. في حالة أمي، تمسَّكتُ بالذكريات القليلة التي كانت لديَّ عن التفاعلات بيننا، والتي كانت متسمةً بالحب والرقة. لم أكن أنزلق إلى الإنكار أو محاولة حثِّ فقدان للذاكرة؛ إذ كانت علاقتنا كما كانت عليها، ولم تكن مواتية. لكنني إذا استحضرت تلك المرات القليلة التي كان شيءٌ ما ينقلنا فيها، فيجتاز بنا خلافاتنا — تلك اللحظات التي لم يكن بها سوى الحب — كان شعوري بحزني أقلَّ ألمًا وقسوة. وجدت نفسي أشعر بالتعاطف تجاه أمي؛ لأنها لم تختبر حقًّا بهجة الأمومة؛ لأن الأمومة بدت لها دائمًا عبئًا ثقيلًا. وقد زوَّدني ذلك بُبعدٍ آخر أنظر إليه، فخفف قليلًا من حدة المشاعر لديَّ.

لكن كانت لا تزال ثمة مشاعرُ حادَّة لم أختبرها بوفاة والدي. بعد وفاته، مع أنه كانت ثمة أيام شعرت فيها بوطأة الحزن ووفرته، كان الإحساس المهيمن في تلك الأيام هو إحساسًا بالخفة، وكأن جزءًا مني قد انسحب بعيدًا عن هذا العالَم. اخترت أن أفكِّر في ذلك باعتباره تذكرةَ أننا كبشر لا ننتمي إلى هنا في نهاية المطاف؛ فنحن في زيارة، مهما طالت بقدْر طول أعمارنا، ثم نعود إلى الديار. تخيَّلت روح والدي تهزُّني من الجانب الآخر، بما يكفي لتُذكِّرني بذلك. كان ثمة هدوء أختبره في الوقت بعد وفاته. بدا العالم حولي وكأنه يتسق مع حالتي الذهنية. أكاد أقسم أن الناس كانوا أكثرَ لطفًا ولباقة في زحام المرور، أن أحدًا لم يكن يقود خلفي ملاصقًا لي ولا يقطع الطريق من أمامي. أعرف أن تلك لم تكن هي الحال على الأرجح، لكن كان هذا هو إدراكي للأمر وتصوري له.

أذكر بوضوح يومًا بعد وفاة والدي بخمسة أسابيع أو ستة، حين انحرف أحدهم أمامي فجأةً فجعلني أضغط على المكابح بكل قوة. ضغطت على بوق السيارة، وصرخت فيه ببعض الكلمات اللاذعة، وعلى الأرجح أشرتُ له بإيماءة بذيئة، وحينها قلت في نفسي: «تبًّا، ها قد عُدت. أنا قَطعًا لم أعُد أسمو فوق النزاعات والخلافات.»

وفي الأسابيع التي تلت وفاة أمي، هبَّت المشاعر بداخلي كرياح عاصفة عبر نافذة مفتوحة. أخذت تتقاذفني مشاعر ظننت أني تعاملت معها وانتهيت من أمرها؛ فقد تعاملت معها سنواتٍ كثيرة، بالعلاج النفسي غيره، وبالصلاة وفي الحياة اليومية. كانت خالية من الرقة واللطف. إذ كنت مرعوبة من أمي طيلة حياتي، وموتها لم يستأصل ذلك الخوف بطريقة سحرية. ومع أنني بحثت في ذاكرتي عن أوقات اتسمت بالرقة، فإن ذكرياتٍ أخرى كثيرةً أقحمت نفسها.

يوجد منحنًى على الطريق لمنزل والديَّ، يبعُد عن منزلهما دقيقتين تقريبًا، وكانت مَعِدتي دائمًا ما تتقلص عنده. وكنت أزور أمي كل أسبوع في السنوات الأخيرة من حياتها، وأحيانًا أكثر من ذلك، وفي كل مرة عند تلك النقطة نفسها على الطريق كنت أشعر بمعدتي تتقلص من التوتر والخوف. وفي الصباح الذي جاءتني فيه المكالمة التي قيل لي فيها إنها توفِّيت أثناء الليل، استقللت سيارتي ومضيت إلى منزلها. وبمجرد أن وصلت إلى ذلك المنحنى، تقلصت أمعائي. فقلت جهرًا: «لم يَعُد ثمة حاجة لأن تكوني خائفة. هي ليست هنا.» ولم يؤتِ ذلك بثماره؛ إذ ظلَّت أمعائي متصلبة، وأدركتُ أن أمي كانت في حياتي قوة مضنية، ولم أستطِع أن أستوعب أنها رحلت عن هذا العالم. حتى حين وقفت إلى جوار سريرها أنظر إلى جثمانها، توقَّع جزءٌ مني أن تنهض في أي لحظة وتخبرني أن أقصَّ شعري.

وحيث خضنا في عملية تنظيف المنزل، تطلَّب الأمر أسبوعين تقريبًا حتى أمرَّ بتلك النقطة على الطريق ولا تتقلص أمعائي.

لتاريخنا الشخصي جذورٌ عميقة وعنيدة. والركائز العاطفية التي تقوم عليها علاقاتنا بوالدينا لا تنحل ولا تنقضُّ بموتهم. وكما أن لعضلات أجسادنا ذاكرة، فثمة ذاكرة عضلية لعواطفنا أيضًا. ومقاومة تلك العواطف لن تجديَ. أفضل ما يمكننا فِعله هو أن نكون على استعداد لأن نزحف إلى داخل تلك المشاعر، ونفككها ونفصلها عن بعضها، ونفهم أنه كان لها في حياتنا مكان في وقتٍ ما، لكن ليس ثمة حاجة لأن تكون موجودة الآن.

•••

لقد لاحظت أن انعدام الصبر يمكن أن يتطفل على الحزن أيًّا كان نوعه؛ عذبًا أو مرًّا. فجأةً نجد فينا إحساسًا يقول: «لننتهِ من هذا الأمر.» أظن أن ذلك من عوارض مجتمعنا الآن؛ أن كل شيء ينبغي أن يكون لحظيًّا. قرأت ذات مرة أنه في أحد الأزمنة الغابرة كان مقبولًا أن تستغرق عملية الحزن عامًا كاملًا. وثمة شيء محبَّب بشأن ذلك؛ أن تستغرق أربعة مواسم لتتعامل مع مشاعر الفقد. والآن نتوقع من الآخرين ومن أنفسنا أن نستعيد توازننا ونذهب للتبضع بعد بضعة أسابيع من وفاة عزيز لدينا. وكأننا ننظر لكل شيء، حتى لمشاعر الحزن، وكأنه حبَّة بطاطا نضعها في فرن الميكروويف.

وفي حالة الخرف، فإن حالة الحزن الممتدة التي تبدأ بمجرد أن يخرج التشخيص؛ هي حالة غريبة علينا جدًّا. فنحن لسنا معتادين التباطؤ؛ وهذا المرض يطلب منا ذلك. ومقارعة هذا المرض ومحاولة جَعْله يتحرك بصورة أسرع لن تجديا في نهاية المطاف. قد يعني هذا اضطرارك لأن تكون حازمًا مع بعض الناس؛ وذلك لأنه لن يفهم الجميع ذلك.

بعد فترة وجيزة جدًّا من وفاة والدي، في اليوم الذي عُدت فيه من رحلة حِداد عامة دامت أسبوعًا، مع إجراء قدَّاسات في واشنطن العاصمة وكاليفورنيا، حين تمكنت أخيرًا من أخذ بعض الوقت الخاص لحزني، اتصلت بي صديقة وقالت شيئًا من قبيل: «آمل أن يكون شعوركِ أفضل وأن تكوني قد تجاوزتِ كل شيء.» ثم سألتني إن كان بإمكاني الذهاب إلى منزلها في ذلك الأسبوع، بضع مرات في اليوم لأطعم قططها؛ لأنها كانت ستصحب زوجها في رحلة مفاجئة بمناسبة عيد الأب. وقد صعقني ذلك. فلم أكن قد فقدت والدي للتو وحسب، بل كنت أقف أمام العالم كله طيلة خمسة أيام. لم يكن لديَّ وقت لأجلس في هدوء مع مشاعري، وكان عيد الأب قد اقترب؛ وهو حدث مؤثِّر ومؤلم للغاية لشخص تُوفِّي والده من وقت قريب.

رفضت طلبها وأوضحت لها أنه يوجد مَن يجالسون الحيوانات الأليفة ويفعلون هذا النوع من الأعمال، وأعتقد أني أضفت بضع كلماتٍ عن مراحل الحزن، الأمر الذي كان من الصعب كثيرًا عليها فهمه. تلك الصديقة لم تَعُد في حياتي الآن؛ وكما ذكرت من قبل، الأشخاص الذين تعرفهم سينكشفون في أوقات المرض والوفاة، وما يكشفون عنه عادةً هو أنه لا ينبغي أن يكونوا في حياتك. وفي حين أن اضطرارك إلى فصل نفسك عن شخص كنت تظن أنه صديقك في وقت تكون فيه في حاجة للدعم؛ هو أمر يشعرك بأنه جُرح إضافي، فإن فكرة أن الطبيعة تمقت الفراغ هي فكرة قابلة للتطبيق على حياتنا الشخصية أيضًا. فثمة شخص آخر، على الأرجح شخص لم تتوقَّعه، سيتقدَّم ليدعمك لملء الفراغ. إن المآسي والمرض والموت أمور تغيِّر من طبيعة حياتنا بطرق كثيرة، بما في ذلك علاقاتنا. ومن الصعب رؤية العلاقات تتغيَّر، أن ترى أناسًا ظننت أنهم أصدقاء ينكشفون ويتلاشون، لكن في نهاية المطاف تلك التغييرات ستكون للأفضل. وفي مرحلةٍ ما، ننظر إلى الماضي ونفهم أن الأشخاص الذين لم ينتموا لحياتنا كان يتعيَّن عليهم الرحيل؛ حتى يتسنى لغيرهم ممن ينتمون لحياتنا أن يظهروا فيها.

•••

بينما أكتب كلماتي هذه، يبزغ نهار يوم الذكرى السنوية لوفاة والدي. في هذا اليوم قبل خمسة عشر عامًا، ملأت كتلٌ رطبةٌ من الضباب الشوارعَ، بينما كنت أقود سيارتي نحو منزل والديَّ بعد الفجر مباشرة. ظلَّ الجو طوال اليوم ملبَّدًا بالغيوم، ولم تكن السماء تنبئ أي فترةٍ من اليوم هذه حتى وقت مبكِّر من بعد الظهيرة، وذلك حين لفظ والدي نفسه الأخير. كنت سعيدةً حين استيقظت هذا الصباح؛ لأن اليوم كان قاتمًا وملبَّدًا بالغيوم حتى إنه بدا أشبه بيوم وفاته.

سألني صديق بالأمس إن كان اليوم سيمرُّ بصعوبة عليَّ. فقلت: «لا، لا يمرُّ عليَّ بصعوبة مطلقًا؛ إنه يوم تبجيل بالنسبة إليَّ، يوم أحاول فيه أن أظلَّ متزنة وقريبة من الرب. هكذا كان شعوري وأنا أجلس إلى جوار سرير والدي. وكأن الرب كان في الغرفة.» في هذا اليوم، أتذكَّر ظهر والدي فيما كنا نمتطي الخيول على مسار تغطيه أوراق البلوط في المزرعة التي امتلكها والداي أثناء نشأتي. كان دائمًا ما يسبقني، ودائمًا ما كنت أحاول أن أفكِّر في شيء أتحدث إليه عنه من شأنه أن يجعله يلتفت وينظر إليَّ. أذكره أسمر البشرة وقويًّا على الشاطئ حيث كنا نقضي الإجازات في الصيف. ومع أن الذكريات اللاحقة عنه، حيث كان ضعيفًا ومشوشًا، وفي نهاية المطاف حبيس الفراش، ظلت تلازمني، فإنها ليست ما يجول في عقلي. هذا هو ما يفعله الوقت بالحزن في النهاية؛ يزيل الحزن والألم ويتركنا نتذكر اللحظات الجميلة. يظل الأسى، لكنه مجرد طبقة واحدة من خبرة أكثر اكتمالًا. وتجنب الحزن أو محاولة التغلب عليه هو سعي محموم مسعور. فقد لاحظت أن أكثر مَن يكونون في سلام مع أنفسهم هم أولئك الذين بإمكانهم الوقوف في سكون في حضرة الأسى — الأسى الذي بداخلهم أو بالآخرين — وتقبُّل أنه جزء من رقصة الحياة بين الظلمة والنور.

وقد أخبرتني صديقة ذات مرة أنها بكت أمام طبيبها النفسي؛ بسبب وقتٍ معيَّن في حياتها كان مؤلمًا، قائلةً: «لماذا يحدث لي هذا؟»

فأجابها طبيبها: «لأنكِ على قيد الحياة.»

•••

لقد شعرنا جميعًا بآثار الحزن على نطاق واسع، بما يتجاوز حدود حياتنا. كنتُ في الحادية عشرة من عمري حين اغتيل الرئيس جون كينيدي؛ حينها كان عالمي صغيرًا إلى حد كبير. لكني أذكر ملاحظتي لكيفية تصرف الناس على نحو مختلف فيما بينهم؛ صاروا أكثر لطفًا وحنوًّا. وبعد ذلك بخمس سنوات، حين قتل مارتن لوثر كينج الابن وروبرت كينيدي، شعرت بذلك على نحو أكثر حدة. بدت البلاد وكأنها تتمهل، وكأن الناس يلتقطون أنفاسًا أطول. وحين دمَّرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حياتنا، اعتبرنا الغرباء كأنهم أصدقاء، ولم يكترث أحد بإخفاء دموعه. وحين مات كوبي براينت وكانت آلام الفقد تنتشر في كل مكان، لفترة وجيزة تضاءلت بعض اختلافاتنا والضغائن السياسية فيما بيننا.

حين نظرت إلى مئات الغرباء ممن اجتمعوا على امتداد الشوارع بعد وفاة أبي، كانت الدموع تسيل على أوجه الكثيرين. وكان آخرون منهم مكتئبين وحزانى. تمنيت لو استطعت أن أخبرهم أن حضورهم كان يعني لي الكثير. كان الأمر وكأنه صارت لي فجأة أسرة كبيرة جدًّا.

بعد ذلك بشهرين، قالت لي امرأة، عن مرحلةِ ما بعد وفاة والدي والحزن الذي خيَّم على البلاد كغمامة ناعمة: «كنا في حاجة لذلك.» وعرفتُ ما كانت ترمي إليه. فقد اجتمع الناس ليحزنوا. وضعوا جانبًا اختلافاتهم وخلافاتهم التي بدا أنها تُفرِّقهم، وسمحوا لأنفسهم وحَسْب بأن يحزنوا على رحيل رجلٍ قاد أمريكا ثماني سنوات. رجل صنع فارقًا في العالم، سواء اتفقت معه أو لم تتفق. ليس من الممكن أن يكون كل أولئك، الذين وقفوا ساعاتٍ طويلةً ينتظرون رؤية موكب الجنازة وهو يمر، من الجمهوريين فقط. مكمن الجمال في الأمر أن ذلك لم يكن مهمًّا.

يمكن للحزن أن يكون أكثر شيء في الدنيا يداوي جراح النفس. فهو يجعلنا منفتحين، يجعلنا نمد أيدينا للآخرين، ويلهمنا ألَّا نتخذ الاختلافات التي تفرِّق بيننا على محمل الجِد. الحزن يجعلنا ننظر للحياة بتعجب، وللموت بإجلال، ولكل شيء على أنه رقصة للزمن سريعة الزوال.

«ثم تأتي على كلٍّ منا لحظة يحضر فيها الحاضن الأكبر «الموت» ليأخذ الإنسان، الطفل الغر، من يده ويهمس له: «حان وقت العودة إلى الديار. الليل يحل. وقد حان موعد نومك، يا ابن الأرض.»»

جوشوا لوث ليبمان، «السلام النفسي»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤