الفصل الثاني

إبعاد مفاتيح السيارة وإفساح المجال أمام مقدِّم رعاية من خارج الأسرة

ثمَّة الكثير من الأشياء التي يتعين على المرء أن يفكِّر فيها حين يُصبح الخرف فجأةً أمرًا واقعًا؛ يمكن للمرء أن يشعر وكأن شلالًا من الأسئلة ينهمر عليه. متى ينبغي أن أطلب المساعدة لأجل الشخص المريض العزيز عليَّ؟ أينبغي أن أستمرَّ في السماح له بقيادة السيارة؟ ماذا عن الأمور المالية؟ ألا يزال بإمكانه دفعُ فواتيره بالشكل المناسب؟ ألا يزال بإمكانه الذهاب للمطاعم والسينما؟ أينبغي أن أطلب مساعدة في المنزل الآن أم أنتظر بعض الوقت؟ ماذا لو لم يَسمَح لأحد من الخارج بالتدخل؟

أفضلُ ما يمكنني أن أخبرك به هو أنه لديك وقت. ليس عليك أن تجيبَ على الفور على كل سؤال يطرح نفسه. في الواقع، ستمر عليك مرحلةٌ تجد الوقت فيها يمر ببطء شديد حتى يكاد يصبح عدوًّا لك. لكن تلك مرحلة لاحقة. في بداية الأمر، أنت بحاجة إلى الاعتراف بأنه سيتعين عليك في نهاية المطاف التعامل مع كل الأسئلة التي طرحتُها. لكن يمكنك البدء بأكثرها إلحاحًا. فكر مثلًا في قيادة السيارة والرعاية الخارجية.

في كاليفورنيا حين يُجري طبيب تشخيصًا لأي نوعٍ من أنواع الخرف، يكون مكلفًا بموجب القانون بأن يرسل تقريرًا بذلك إلى إدارة المركبات. وليست الحال كذلك في كل الولايات؛ إذ تطبِّق ١٢ بالمائة فقط من الولايات هذا القانون. في تلك الولايات، تتواصل إدارة المركبات مع الفرد الذي يتحتَّم عليه الذهاب لإجراء اختبار قيادة، وفي الكثير من الحالات، تُصدِر الإدارة رخصةً مؤقَّتة، غالبًا ما تكون مُدَّتها ستة أشهر. وكثيرًا ما تكون إدارة المركبات بطيئةً جدًّا؛ لذا فانتظار الاستدعاء ليس بالفكرة المثلى. قد يكون من الأفضل أن تستبق الأمر: حدد موعدًا بنفسك. يمكن للشخص المصاب بألزهايمر، أو بأي نوع من أنواع الخرف، أن يستحثَّ طاقاته الذهنية لاجتياز الاختبارات. فأحيانًا نجد شخصًا ينبغي ألَّا يقود السيارة يدرُس باجتهادٍ الموادَّ التحريرية وكأنه يدرُس من أجل اختبار بالكلية ويجتاز الاختبار. لكن حقيقة أن أحدهم اجتاز الاختبار، أو حتى اختبار القيادة الفعلي، لا تعني أنه ينبغي أن يقود سيارة. إذا كان الشخص العزيز عليك يُظهِر أيَّ علامة من علامات سوء التقدير (الأمر الذي لا بد أن يكون قائمًا بالفعل، وإلا فما كنتَ أخضعتَه للتشخيص)، فسيتعين عليك أن تكتشف طريقة تُبعد بها مفاتيح السيارة عنه. هذه عادةً إحدى أكثر الوقائع دراميةً في عالم داء ألزهايمر، وإن كنت أعرف قلة ممن كان أعزاؤهم مستعدِّين للتخلي بسهولة عن قيادة السيارة.

إحدى القواعد الحسنة التي يمكنك اتباعها هي قاعدة تُستخدَم بنجاح مع الأطفال: لا تُبعِد عنه شيئًا من دون أن تقدِّم له بديلًا. اشرح له أنه لم يَعُد مأمونًا أن يقود السيارة، لكنك ستهيِّئ له خدمة من خدمات وسائل الانتقال التشاركية مثل أوبر أو ليفت. أو أنك ستعيِّن شخصًا بدوام جزئي، كطالب في الكلية مثلًا، ليقود له السيارة إلى حيث يريد. وإن كنت قد وصلت بالفعل إلى مرحلة استقدام مقدِّم للرعاية، حتى ولو لساعات قليلة، فاحرص على أن يكون ممن يعرفون القيادة.

ومع ذلك قد تظل هذه المسألة مفعمةً بالدراما. فكِّر في الأمر؛ حين حصلتَ لأول مرة على رخصة القيادة الخاصة بك، كان ذلك حدثًا جللًا. فقد صرت مستقلًّا، يمكنك أن تذهب إلى حيث شئت ومتى شئت. كان ذلك أحدَ أفضل أيام حياتك. ومن ثَم، يصبح يومُ فقدان تلك الاستقلالية أحدَ أسوأ الأيام. ويُحدِث جرحًا غائرًا.

وأنا واثقة تمامًا من أنني سمعت كل المبررات الممكنة لعدم إبعاد السيارة عن الشخص العزيز عليك: إنه يقود مسافةً قصيرة فقط. إنه لا يسلُك الطريق السريع مطلقًا. إنه يقود على مهل. لقد استقللت السيارة معه ولم يحدث شيء. لقد بدا متنبِّهًا. لقد أوقف السيارة من أجل أن يمرَّ راكب الدرَّاجة الذي تجاوز إشارة التوقف.

إن الشخص المصاب بالخرف لا يتمتع بنفس قَدْر الوعي بما يُحيط به الذي يتمتَّع به غير المصاب. فالوصلات العصبية في دماغه لا تعمل كما ينبغي لها. والقيادة تتطلَّب ردودَ فعل في أجزاء من الثانية؛ وإن لم تحدُث ردود الفعل تلك، أو حدثت متأخرة أكثرَ من اللازم، يمكن أن يفقد أناس حياتَهم. أنا أتفهَّم التردد والإحجام عن مواجهة عزيز عليك بهذا الأمر؛ فهو أمر صعب. لكنه سيكون أسوأ بكثير إن قُتِل طفلٌ يقود دراجته، أو صُدِم أحدُ المارة.

لقد سمعت بأساليبَ مبتكرة ابتكارًا مذهلًا تهدف إلى إبعاد السيارة عن شخص لم يَعُد ينبغي له أن يقودها. تلقَّى أحدهم نصيحة من ميكانيكي وعَطَّل السيارة، ثم سحبها لمكانٍ آخَر، زاعمًا أن عملية «التصليح» ستتطلب وقتًا طويلًا، وبعد مرور أشهر نسيها والده. ودفع آخرُ أموالًا لجاره ليقود السيارة بعيدًا، ثم قال إنها سُرقت وإنه ليس من الملائم ماديًّا شراءُ سيارة أخرى. في نهاية المطاف، ينسى الشخص المصاب بداء ألزهايمر الأمر بالفعل. ربما ليس على الفور، وبالتأكيد ليس بالسرعة التي تريد له بها أن ينسى بها السيارة، لكنه في النهاية ينسى.

•••

في يوم السادس عشر من يوليو، عام ٢٠٠٣، قاد رجل يُدعى جورج ويلر سيارتَه من نوع بويك ليسبر، موديل عام ١٩٩٢، عبر شوارع سانتا مونيكا في كاليفورنيا متجهًا إلى سوق المزارعين الأسبوعي.1 كانت الساعة قبل الثانية عصرًا بقليل، وكان السوق مزدحمًا بالناس. اكتسح الرجل إحدى علامات إغلاق الطريق والعديد من المساند الخشبية واتجه مباشرة نحو حشد الناس، وكانت السيارة تتسارع في أثناء ذلك. كانت سرعة السيارة بين أربعين إلى ستين ميلًا في الساعة، فيما كان الناس يتطايرون من على مقدِّمتها، وقد قطع الرجل بالسيارة مسافةَ مربعين سكنيين ونصف. ولم تتوقف سيارته إلا بعد أن اصطدمت بمصرف مياه. وكان ثمة جثتان ممددتان على غطاء محرك سيارته وامرأة عالقة تحتها.

خرج ويلر من السيارة وقد علت وجهَه أماراتُ الذهول التي قيل إنها كانت على ملامحه حين كان يقود السيارة بسرعة. ووسط الدماء والجثث ومنصَّات الفاكهة المدمَّرة، وصرخات المتفرِّجين، ترجَّل الرجل من سيارته تحت أشعة الشمس المباشرة، ونظر حوله وسأل: «كم شخصًا صدمت؟»

قتل الرجل عشرة أشخاص وجرح ثلاثة وستين آخرين.

زعم الرجل أنه ضغط على دواسة الوقود بدلًا من المكابح، وأصبح ذلك هو دفاع محاميه حين اتُّهِم بالقتل الخطأ بالسيارة. لكن الأمر لم يجدِ نفعًا. اتُّهِم جورج ويلر، الذي إما كان يفتقر إلى الشعور بالندم أو لم يكن يفهم ما فعل، بالقتل غير العمد لعشرة أشخاص بالسيارة.

لم تكن حالته قد شُخِّصَت بالخرف، وإن كان قد طُرِح احتمال ذلك. واكتُشِف أنه كان متورطًا في حادثٍ آخر قبل عشر سنوات، حين هام حينئذٍ بسيارته على غير هدًى، دون أن يكون لديه أدنى فكرة عما كان يفعل أو عما ارتكب حين توقَّف. لحسن الحظ حينئذٍ لم يُقتل أحدٌ ولم يُصَب أحدٌ بسوء، لكن كان من الواضح أنه كان ينبغي أن يتدخَّل أحدٌ ما ويبعد سيارته عنه قبل سنوات من ذلك اليوم الصيفي المريع.

أروي هذه القصة باستمرار حين يخبرني الناس أنه من الصعب للغاية إبعادُ مفاتيح السيارة عن والديهم أو شركاء حياتهم. أستخدم هذه القصة لغرض محدد جدًّا؛ أن أبثَّ الرعب في نفوسهم. هذا مدَى ما يمكن أن يصل إليه الأمر من سوء. استغرقت المذبحة في ذلك اليوم أقلَّ من دقيقة. ومات عشرة أشخاص، من بينهم طفل. وجُرِحَ ثلاثة وستون آخرون بجروح بليغة. ورُفِعَت قضايا تعويض بملايين الدولارات.

أغلب الظن أن الشخص العزيز لديك لن يرغب في تسليمك مفاتيح السيارة. لكن لسوء الحظ، لقد شُخِّصَت إصابته بمرضٍ يجعل قيادته للسيارة أمرًا في غاية الخطورة. والحقيقة المجرَّدة أنَّه لا يملك خيارًا أو قرارًا في هذا الأمر.

•••

أحدُ أوجه الخلاف الأخرى التي تطرأ بسرعة هي فكرة تعيين مقدِّم رعاية من خارج الأسرة، ولو لبضعة أيام أسبوعيًّا. ليس الشخص المصاب بالخرف فحسب هو من يُحتَمَل أن يقاوم هذا الأمر: فبعض أفراد الأسرة لا تروق لهم فكرةُ دخول «غريب» بينهم، أو قد يشعرون أن بإمكانهم أداء المهمة بأنفسهم.

إن كان قد جرى تشخيص أحد والديك المسنين بداء ألزهايمر ويعيش وحيدًا، فثمة مخاطر جمة تحيق به باستمراره بالعيش وحيدًا. فحتى في مراحل المرض الأولى، قد ينسى، ولو مرةً واحدة، الفرن مشتعلًا ويتركه ليحترق المنزل عن آخره. وماذا لو خرج من باب المنزل، وهام على وجهه، ونسي مكانه؟ وماذا لو سمح لغريب بدخول المنزل، معتقدًا عن طريق الخطأ أنه يعرفه؟ أو خَلَدَ إلى النوم ليلًا تاركًا باب المنزل الأمامي مفتوحًا على مصراعيه؟

على الأرجح ستواجه صعوبةً في إقناع شخص اعتاد العيشَ بمفرده أن يوجَد معه فجأةً مقدِّم رعاية. وقد يمثِّل الأمر عبئًا ماديًّا. ومع ذلك، بإمكانك البدء تدريجيًّا، بأن تستعين بشخص لبضع ساعات فقط بين الحين والحين. وإن لم تكن ثمة مشاكل صحية أخرى، وكان مقدِّم الرعاية المستأجَر موجودًا في الأساس من أجل الرفقة ومراقبة الأمور، فإن كلفة ذلك لن تكون باهظة بوجه عام. وعوضًا عن ذلك، توجد مراكز رعاية نهارية توفِّر في غالب الأحيان وسائلَ انتقال. هذه المراكز، أو على الأقل ما تتمتع منها بسمعةٍ طيبة، تقدِّم فصولَ فنون وموسيقى وحتى رقص. وهي إحدى طرق الإبقاء على والدك منتبهًا ونشِطًا وموجودًا برفقة آخرين بحيث لا ينغمس في العزلة. ويكون الاكتئاب شائعًا جدًّا في مراحل الخرف الأولى لأن الشخص يكون واعيًا بما يفقده تدريجيًّا. يمكن للأنشطة والعلاقات الاجتماعية التي توفِّرها مراكز الرعاية النهارية أن تُحدِث اختلافًا كبيرًا.

وفي المراحل الأولى ليس من الضروري عامة أن تعيِّن شخصًا يحمل شهادة تمريض؛ لذا تكون التكلفة أقل. بالطبع لبعض الأسر تكون أيُّ مصاريف خاصَّةٍ بخدمات الرعاية الخارجية عبئًا زائدًا. ويواجه عدد متزايد من الأسر أزمةً مالية لأن فردًا واحدًا قد شُخِّصَت حالته بنوع من أنواع الخرف. حتى مقدِّم الرعاية «المرافق» الذي قد يتقاضى عشرين دولارًا فقط في الساعة يمكن أن يمثِّل عبئًا؛ لأن التكلفة تتراكم. لم تكن التكلفة المادية مشكلةً تعيَّن على والديَّ التعامل معها، لكنني أعي تمامًا العبء المادي الذي يضعه هذا الداء على كاهل الكثير جدًّا من الأسر. وسأجازف بالتطرُّق إلى أمور السياسة، بأن أقول إنني أظن أن من المخزي أننا في أمريكا لم نصمِّم نظام الرعاية الصحية لدينا بحيث لا تخسر أيُّ أسرة كلَّ ما لديها حين تتسلم تشخيصًا نهائيًّا وتكون في حاجة لرعاية خارجية. في مرحلةٍ ما، سيتعيَّن على أمريكا أن تُصلح ما فيه من خلل؛ وهو نظام الرعاية الصحية الذي لا يرعى المحتاجين.

أحد الرجال، الذي كان يحضُر بانتظام مجموعةَ الدعم الخاصة بي في بدايتها، كان لديه اقتراح رائع. قال للناس أن يقرءوا بوليصة التأمين على الحياة وبوليصة التأمين الصحي قراءةً متأنِّية لأنه أحيانًا، في القسم المطبوع بخط صغير جدًّا، يوجد ما ينص على وجود مخصَّصات لعدد معين من ساعات الرعاية الخارجية. ليست هذه من الأشياء التي نلاحظها عمومًا حين نُوقِّع تلك الأوراق، فمن ذا الذي يقرأ كل صفحة من صفحات بوليصة التأمين؟ وإذا ما جمعت ما تسمح به كل بوليصة، فقد تجد أنها تمكِّنك من استقدام شخصٍ لبضع ساعاتٍ عدة أيامٍ أسبوعيًّا.

•••

غالبًا ما يقرر الناس أن الحل الأمثل للتعامل مع أحد الوالدين المصاب بداء ألزهايمر هو أن ينتقل هذا الوالد للعيش مع ابن أو بنت له. وفي الحالات التي تكون فيها العلاقة بين الوالد وولده قوية، يكون حافز الابن هو الحب والرغبة في تقديم تضحيات. لكن في سيناريوهات أخرى، قد يظن الابن، أو الابنة، الذي لديه تاريخ مضطرب مع الوالد أن بإمكانه أخيرًا أن يجد الحبَّ والوئام في هذه المراحل الأخيرة من الحياة؛ الحبَّ والوئام اللذين لم يكونا موجودين من قبل مطلقًا. وأيًّا كان التاريخ الأسري، إليكم المشكلة: مهمة تقديم الرعاية عملٌ بدوام كامل. فهي لا تفسِح إلا مجالًا قليلًا للمشاعر التي يمكن أن تنشأ بداخل الابن أو الابنة، المشاعر التي تتطلب الاعترافَ بها واستكشافها. إن كنت قد حظيت بعلاقة وثيقة وحنونة مع الشخص العزيز لديك الذي أصبح الآن مريضًا، فأفضل ما يمكنك فعله لكليكما أن ترعى تلك العلاقة وتوليها اهتمامًا. ولا يمكنك فعلُ ذلك إذا كنت تضطلع بدور مقدِّم الرعاية المباشر، بأن تجعل نفسك مسئولًا عن كل حاجاته المادية. لا يمكنك أن تؤدِّي كلا الدورين. وإن لم يكن تعيين مقدِّم رعاية خارجي ممكنًا لك بسبب العوائق المالية، فأنت في حاجة لتخصيص بعض الوقت — حرفيًّا أن تجدولَ الوقت — الذي يمكنك فيه التراجع عن أداء دور مقدِّم الرعاية، وأن تكون ببساطة البنت أو الابن أو الشريك أو الزوج، وأن تسمح لنفسك بالشعور بالحزن على الشخص الذي تفقده تدريجيًّا. خصِّص بعض الوقت كل يوم لتجلس بمفردك وتبكي، أو تنغمس في أحلام اليقظة، أو تجلس بمفردك فحسب. اجعل من هذا الأمر أولويةً. اطلب من أحد أصدقائك أو من أحد أفراد أسرتك أن يجالس الشخص المريض إذا ما لزم الأمر، لكن امنح نفسك ذلك الوقت.

أحد التعليقات المتكررة حين يكون المريض أحدَ الوالدين هي: «لقد رعاني حين كنت طفلًا؛ لذا يبدو من الصائب أن أرعاه الآن.» بصراحة، الأمر ليس سواء. فالأطفال ينضجون ويتجاوزون مرحلةَ الحفاضات والمقاعد المرتفعة والحاجة إلى إطعامهم وتحميمهم. أما البالغ المصاب بالخرف فلا يتجاوز تلك المرحلة؛ في واقع الأمر، يسير الأمر في الاتجاه المعاكس. ستسوء حالة ذلك البالغ وسيحتاج إلى أشخاصٍ مدرَّبين لمساعدته. وليس هذا فيروسًا، أو تعافيًا من عملية جراحية؛ إنه داء متفاقم ومضنٍ يسوء طبقًا لجدوله الزمني الخاص.

في وقت مبكِّر من حياتها المهنية عملت الكاتبة ماريان ويليامسون كثيرًا مع مرضى الإيدز، بما في ذلك العمل في مجموعات الدعم. ومما قالت عن خطورة المرض وكل الصعوبات التي تنشأ عنه: «إننا لا نتحدَّث هنا عن عدوى بالإنفلونزا.» وأودُّ أن أقول الشيء نفسه عن داء ألزهايمر. فكل شيء في حاجة إلى إعادة تقييم؛ مخططاتك وأفكارك حول الكيفية التي «ينبغي» أن تكون عليها الأمور، وكذلك تاريخك الشخصي. يروق لنا جميعًا أن نتصوَّر أننا نمسك بزمام السيطرة على مستقبلنا، لكن التعامل مع الخرف أشبهُ بكونك عالقًا في بلد أجنبي. سيتعيَّن عليك أن تتعلم أساليبَ أخرى، ولغة جديدة.

وترْكُ أمر تقديم الرعاية المباشرة في يد شخص آخر لا يعني أنك لست مقدِّم رعاية. فأنت توفِّر الرعاية العاطفية التي لا يمكن لأي أحد آخر تقديمها. إن لتقديم الرعاية جوانبَ وأوجهًا عديدة؛ الرفقة والإطعام والتحميم والمساعدة في ارتداء الثياب والسهر على رعاية المريض، لكنها تنطوي أيضًا على المساندة الشعورية وتعزيز روابط الحب التي لا يمكن لذلك الداء أن يسلبها. أنت تَدين لنفسك، وللشخص العزيز عليك، أن تقدِّم للجانب الشعوري من عملية تقديم الدعم الاحترامَ المستحق.

وإن كانت علاقتك بوالدك طوال حياتك صعبة ومليئة بالتحديات، فداء ألزهايمر لن يحوِّلها فجأةً إلى علاقة حسنة وجميلة. لكن إذا وفَّرت لنفسك المساحة والوقت اللازمين لاستكشاف هذا الفصل الجديد من القصة، إذا ما قللت من تشبُّثك بالماضي، فقد تكتشف طريقة ترى من خلالها والدك بشكل مختلف، بعينين أكثر تسامحًا. ولن يحدث ذلك إن كنتَ منهكًا من مساعدته على ارتداء ملابسه وإعداد الوجبات له، وكل شيء آخر يندرج تحت كونك مقدِّم رعاية بدوام كامل. ببساطة لن تملك أيًّا من الوقت والطاقة اللازمين لرحلتك الشعورية.

نحن لم نتدرَّب على أن نكون مقدِّمي رعاية بدوام كامل للأشخاص المصابين بالخرف. إنها مجموعة فريدة من المهارات. لكن يوجد أشخاصٌ تلقَّوا تدريبًا على هذه المهمة، وتضمينهم في حياتك، أو في حياة والدك، سيسمح لك بأن تطلق سراح والدتك أو والدك بحسب حاجتك لذلك بينما يسلبهم هذا الداء منك تدريجيًّا.

مع انتشار جائحة فيروس كورونا، أخرج عددٌ كبير من الناس أحباءهم من مؤسسات الرعاية لقلقهم من أن يصابوا بالفيروس. ليس أمامهم خيارٌ آخر سوى إحضار أقاربهم إلى منازلهم. إن كنت مقدِّم رعاية في ظل هذه الظروف، فمن الضروري أيضًا أن تجعل من رعاية نفسك أولويةً لك. خذ الوقت الكافي لأن تتعهد نفسك؛ خذ وقتًا بعيدًا عن منزلك، وعمن تحب. اعثر على مَن يُجلَس برفقته ساعة أو اثنتين، ثم قُد سيارتك إلى الشاطئ أو اذهب في نزهةٍ خلويةٍ أو زُر صديقًا لك. لكن راقب أين تتجه أفكارك أثناء ذلك: إن كنت لا تزال في منزلك، إن كنت قلقًا بشأنِ ما يمكن أن يحدث في أثناء ذلك أو ما يمكن أن يقع من خَطْب، فأنت بذلك لا تأخذ فترة راحة؛ وإنما تغيِّر المشهد الذي أمامك فحسب.

مهما كانت ظروفك من ناحية تقديم الرعاية، فأنت في حاجةٍ لأن تعرف مزالقَ تلك العملية وأفضلَ الطرقِ للحفاظ على سلامتك العقلية والصحية. وثمَّة حملٌ عاطفي إضافي أثناء رعايتك لعزيزٍ لك مصابٍ بالخرف، يتخطَّى الجهد البدني الذي تبذله. وهذا يصحُّ بخاصةٍ إذا كنت تتولَّى كامل المسئولية بنفسك. إن لم يكن باستطاعتك تغييرُ الواقع الخارجي، فلا يزال بإمكانك تعزيزُ نفسك على الصعيد العاطفي من خلال فهمك لكافة جوانب موقفك؛ الداخلي وكذلك الخارجي. لقد أدَّى الضغط بالكثير من مقدِّمي الرعاية إلى المستشفى؛ لذا اجعل من رعاية نفسك أولوية.

وإن لم تكن قد مارست التأمُّل من قبلُ مطلقًا، فهذا وقتٌ مناسب للبدء بممارسته. فقد أثبتت الدراسات المزايا الذهنيةَ للتأمل ولو لعشرين دقيقةً يوميًّا فقط، من بين تلك المزايا انخفاضُ مستويات الكورتيزول، وهو الهرمون المسئول عن التوتر.2 ضع نصب عينيك أن مقدِّم الرعاية في عالم الخرف هو مَن يشعر بالخرف، وليس المريض. حين ينزعج الشخص المصاب بالخرف يتخطَّى ما حدث في وقتٍ قصير. أما أنت، مقدِّم الرعاية، فلن تفعل. لذا، اصقل أدواتٍ واكتسب أساليبَ تُساعد في تخفيف الضغط والقلق اللذين ستكون بين براثنهما على الدوام.

•••

حين لا يزال والداك معًا ويجري تشخيص أحدهما بالخرف، سيتعيَّن عليك أن تتعامل مع مشاعر كليهما؛ مَن جرى تشخيص حالته ويتملَّكه الخوف، بل وحتى الغضب، والآخر الذي يحاول استيعابَ ما يعنيه ذلك لحياته المستقبلية. في أغلب الأحيان، سيرغب السليم المعافى منهما في رعاية شريك حياته، وسيرغب في إقناع نفسه أن بإمكانه تدبُّر أمر المهمة. دع ذلك يحدث لبعض الوقت لكن اختر بعض اللحظات التي تطرح فيها فكرةَ تعيين مقدِّم رعاية بدوام جزئي لمساعدتكم. انتظر حتى يبدو أنه من الممكن تقبُّل هذا الاقتراح وأَخْذه في الاعتبار بجدية، ثم أعِد طَرْحه بلطفٍ وهدوء.

لقد عاش والدانا معًا حياةً قبل أن ندخلها، ولديهما علاقة ببعضهما بعيدًا عن دورهما والدَين لنا. وهما في حاجة لتدبر أمرِ هذا الجزء من الرحلة بنفسيهما. في نهاية المطاف، لن يكون بمقدور أحد الوالدين المتقدِّم في السن — بمشكلاته الصحية الخاصة به — أن يستمر في رعاية رفيق حياته الذي يعاني داءَ ألزهايمر. لكن التغييرات ستكون أكثرَ سلاسة إذا ما تركت المساحة لكلا الوالدين ليتأقلما مع واقعهما الجديد، وفي أثناء ذلك تظل تراقبهما عن كثَب. على الأرجح سيأتي وقتٌ يتعيَّن عليك فيه أن تتدخَّل وتصر على الاستعانة بمقدِّم رعاية مأجور، لكن توفير بعض الوقت لوالديك للتأقلم مع ما آل إليه مصيرهما سيُعبِّد الطريق نحو ذلك. وإن كنت سعيدَ الحظ، فسيكتشفان من تلقاء نفسيهما أنهما في حاجة للعون.

كانت أسرتي في وضع فريد من نوعه، نظرًا لأن والدي كان لا يزال يتمتع بحماية من وكالة الخدمة السرية. وهكذا كان يوجد دائمًا مَن يقود به السيارة، ولم يكن يوجد خطر أن يهيم خارج المنزل وينتهي به الأمر على بُعد أميال. وفي المراحل الأولى من المرض كان أبي يقضي بضع ساعات في مكتبه كل يوم. وأدركت أمي أن الإبقاء على الهيكل المألوف لأيام والدي أمرٌ مهم. ربما كان ذلك نتيجة حَدْس لديها، أو مجرد حاجة لديها للتمسك بالأمور على ما كانت عليه. أيًّا كان السبب، فقد أتى ذلك بثماره. عوَّل والدي على ارتداء بزَّته والتوجُّه إلى مكتبه تمامًا كما كان يفعل طيلة سنوات، وبدا أن ثبات هذا الأمر يهدِّئه. وحين ساءت الأعراض عليه وأصبح ذهابه إلى المكتب متعذِّرًا، عيَّنت أمي شخصًا ليساعد والدي في يومه في المنزل. لم تكن ثمة مشكلات طبية بعد؛ لذا كان تعيين ذلك الشخص بهدف الرفقة والحماية وحسب، لضمان ألَّا يُقدِم والدي على فعلِ شيءٍ خطير.

من نواحٍ كثيرة، يكون فقدان زوج أو شريك حياة بسبب الخرف جرحًا مختلفًا تمامًا. فهذا الشخص هو نصفك الثاني، حبيبك، الشخص الذي أردت أن تشيخ معه؛ لكن ليس هكذا. وفيما يخص أمر تقديم الرعاية، فمن المهم أهميةً خاصة لشخصٍ يفقد نصفه الآخر أن يحظى بمتَّسع لاستيعاب مدى فداحة الفقد والخسارة، ألَّا يرتدَّ عن ذلك الواقع بفعل أعباء تقديم الرعاية المباشرة. لا يمكنك أن تؤدِّيَ كلا الدورين. إن أمكن، فأَفْسِح المجالَ لشخصٍ مدرَّب على رعاية مرضى الخرف ليضطلع بأمر المهام اليومية، حتى يتسنَّى لك التعامل مع صعوبات الوداع على مراحل، وهو الأمر الذي يضعك داءُ ألزهايمر في مواجهته.

•••

أحد الأسئلة التي تحوم في الخلفية منذ بداية الأمر تقريبًا هو: «إلامَ سيتحوَّل حبيبي الآن، بعد إصابته بهذا المرض؟»

والإجابة عن ذلك بسيطة، وقد تكون ما ترغب في سماعه أو قد لا تكون كذلك. باستثناء الخرف الجبهي الصدغي، سيكون الشخص المصاب بالخرف، خاصة المصاب بداء ألزهايمر، بنفس الشخصية التي لطالما كان عليها في ظل الآداب الاجتماعية وطبقات الحماية التي نكتسبها جميعًا في حياتنا. لذا إن كان الشخص في صميمه حنونًا ورفيقًا، فهذا ما سيبقى. وإن كان متذمِّرًا ولئيمًا، فتَحلَّ بالصمود؛ لأن الحال سيسوء. تحدَّثت سيدة أعرفها، أُصيبت والدتها بداء ألزهايمر، عن نوبات من العنف كانت والدتها خلالها تلقي بالأشياء، وتصرخ بأعلى صوتها، وتتصرف بوضاعة مع مقدِّمي الرعاية. كنت قد التقيت صدفةً بوالدتها عدة مرات منذ سنواتٍ عديدة، قبل وقتٍ طويلٍ من تشخيص حالتها بداء ألزهايمر، وسأكتفي بأن أقول إنني لم أتفاجأ قط بأيٍّ من تلك الإفادات عنها.

يمحو داء ألزهايمر المُرَشِّحات التي لدى كل فرد. وما يبقى بعد ذلك المحو هو الشخصية الأساسية. أبي، على سبيل المثال، كان رجلًا شديد الطيبة، وظلَّ كذلك خلال السنوات العشر لإصابته بداء ألزهايمر. لا يعني هذا أنه لم تمرَّ عليه أوقات من الانزعاج وحتى نوبات من الغضب؛ فقد حدث ذلك. لكن ظلَّ ما كان عليه في صميمه دون أن يُمَس.

وقد قال لي الناس إنهم لم يروا مطلقًا الجانبَ اللطيف من والدتهم مثلًا، أو الجانب العدائي كثير الطلبات من والدهم قبل داء ألزهايمر؛ لذا لا بد أن المرض قد تسبَّب في إنشاء هذه الخصال؛ لا بد أن المرض حوَّلهم إلى أشخاص آخرين. وفي كل مرة، فيما نسهب في الحديث ويتنقَّلون هم عبر الذكريات، يتضح لي أن تلك الصفات كانت موجودة، وكانت تطلُّ برأسها في بعض الأحيان. أقسم لي أحدُهم أن والده لم يُصبح عنصريًّا إلا حين أُصيب بداء ألزهايمر. لكن الخرف لا يسبب العنصرية. من الواضح أن والده أبلى حسنًا في إخفاء تحيُّزه على مدار وقت طويل من حياته، لكن ذلك التحيُّز كان موجودًا. يذكِّرني هذا الأمر بالرق الممسوح؛ وهو ورقة مخطوطة كُتِبَت فوق كتابات أخرى أقدم. بمرور الوقت، تبدأ الطبقات في التلاشي وُيصبح ما تحتها مرئيًّا، حتى ترى في النهاية الكتابة الأصلية.

هذا درسٌ حياتيٌّ بشكلٍ ما، إن فكرتَ في الأمر. فقد نفتِّش جميعًا عمن نكون فعلًا تحت القناع الذي نواجه به العالم. وبطريقة أو بأخرى، غالبًا ما ينكشف الناس بمرور الوقت، حتى ولو لم يدخل المرض إلى الصورة. فإن كنا نعرف أننا نعاني الغضبَ ونصدر الأحكام، لكننا نخفي هذه المشاعر على مدار حياتنا، فإنها لن تظل مستترة إلى الأبد.

ذات يوم، كادت عجوز تقود سيارة بها انبعاج كبير أن تصدمني بقوة في أحد التقاطعات، بينما كانت تنعطف بالسيارة يسارًا. فأطلقت بوق سيارتي لأحذِّرها من أنها كانت على بُعد بوصات قليلة مني؛ فتجهَّم وجهها وأخرجت لي لسانها. فكَّرت في أمرها فيما بعد؛ فيما إذا كان ذلك الباعث موجودًا لديها حين كانت لا تزال يافعة؛ لكنها لم تُظهِره من قبل مطلقًا.

قد يكون من الصعب للغاية أن نكونَ طيلة الوقت برفقة شخص بغيض لئيم يعاني الخرف. فحتى أشدُّ الناس صبرًا وأحسنهم خُلُقًا سيشعر بالاستياء في نهاية المطاف. والسبيل للحصول على استراحة من هذا الكدرِ يكون بتغيير وجهة نظرك. فكِّر في واقع أن المصابين بالخرف لم يَعُد بإمكانهم تغييرُ ما هم عليه؛ فهم لا يملكون الأدوات لذلك. لقد سلبهم الوقتُ والمرضُ هذا الخيار. كم هو محزن أن يترك المرء هذا العالم وهو غارق في قرارات غير سليمة نابعة من الغضب واللؤم!

إن النظر إلى الأمر من هذه الزاوية قد لا يخلصك من كلِّ ما تشعر به من استياء، لكنه على الأرجح سيضيف التعاطف إلى المزيج. وذلك حالٌ ألطف للمرء أن يكون فيه. فالتعاطف والمشاركة الوجدانية دائمًا ما يكونان ترياقين يُعوَّل عليهما. (لا بأس أيضًا أن تحصل على قليلٍ من الراحة لتصفية ذهنك.)

•••

إن ألزهايمر مرضٌ يده طائلة؛ فهو يستهلك كلَّ مَن هم حوله بدرجةٍ ما، حتى أفراد الأسرة الذين يحاولون البقاء بعيدًا، الذين يخادعون أنفسهم بالاعتقاد في أن الانعزال جغرافيًّا سيخفِّف من المعاناة. غالبًا ما كان الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي يتذمَّرون من أن إخوتهم لا يتحمَّلون المسئولية؛ في واقع الأمر، كانوا يمكثون بعيدًا بقدرِ ما يمكنهم عن الوالد المصاب بداء ألزهايمر. «لا يساعدون في أي شيء على الإطلاق!» تلك صرخةٌ كثيرًا ما سمعتها من مقدِّم الرعاية. وعادةً ما كنت أجيب: «لقد اختارك الرب لهذا السبب.» والحق أن أفراد الأسرة الذين ينأَوْن بأنفسهم إنما يعزلون أنفسهم عن الدروس العميقة التي يمكن لذلك المرض أن يعلِّمهم إياها. لا يمنحون أنفسهم الخاتمة التي قد يحصلون عليها، أيًّا كانت، في علاقتهم بوالدهم المريض.

ذات مرة خرجتُ مع رجلٍ أخبرني بكل فخر أنه يتجنَّب والده الذي جرى تشخيص حالته بداء ألزهايمر؛ وذلك بسبب علاقتهما المضطربة. قال الرجل إنه تحرَّر أخيرًا من تعسُّف والده معه، وإن النأي بنفسه عنه يثبت ذلك. قال لي ذلك بعد أن طلب ثالث كأس فودكا له. التزمت الصمت، لكن كان واضحًا لي أن هذا الرجل لم يكن قد تحرَّر من أي شيء.

أما أولئك الذين يمكثون منا ويضطلعون بالمسئولية، فينزعون لأن يعتقدوا أن علينا أن نتخذ خطواتٍ هائلةً وبطوليةً من أجل التعامل مع الموقف. لكن هذا ليس صحيحًا. فاللحظات العابرة، والإيماءات التي قد تبدو غير ذات أهمية، يمكن أن تصنع فارقًا كبيرًا لشخصٍ يفقد ذاكرته تدريجيًّا. قد لا يكون بمقدور هذا الشخص أن يقضي يومه من دون الحصول على مساعدة، لكن لا يزال بإمكانه إدراك المعاملة الطيبة وسيستجيب للتواصل. هذه هي بعض المشاعر التي لا يمكن لداء ألزهايمر أن يمحوها؛ من المفيد أن تتذكَّر ذلك.

«لا يوجد ما يُدعى فِعل عظيم. إنما هي أفعالٌ بسيطة تُفعَل بحبٍّ عظيم.»

الأم تريزا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤