الفصل الثالث

الحسرة تأتي مبكِّرًا

نميل إلى التفكير في أن الحسرة شيءٌ علينا أن نتعامل معه بعد وفاة عزيز علينا. وقبل ذلك، وبينما يدمِّر المرض الشخصَ الذي نحبه، نشير إلى الأسى واليأس وأمواج الدموع التي تجتاحنا في أوقات عرَضية. لكننا لا نذكر الحسرة في معظم الأحيان. فننظر لثِقَل الحسرة باعتبارها شيئًا ينتظرنا في النهاية، بعد الموت. لكن داء ألزهايمر هو موت قبل الاحتضار. لذا نحن في حاجة لأن نتقبَّل الحسرةَ في وقت مبكِّر. ستشاهد الشخصَ الذي تعرفه حقَّ المعرفة يتلاشى أمام ناظريك. ويكون ألزهايمر فيما ينتزعه قاسيًا وغير متوقَّع. يكون المرض هو المسيطر؛ سيسلب ما يختار أن يسلب وقتما يختار، ولا يوجد ما يمكنك فِعله لإيقافه.

حين كنت أجلس مع والدي، اعتصم بإيمانٍ بأن روحه لم تُثقَل بالخرف. تخيَّلت بُحيرةً صافيةً هادئةً تقبع بعيدًا تحت مياه داء ألزهايمر المتلاطمة. شعرت بأنني دخلت واقعًا مختلفًا، حالة من حالات الجمود حيث يمكنني أن أنظر إلى المرض من مسافةٍ كافية بحيث لا تزال روحه تهمس لي، بغضِّ النظر عما يحدُث على الصعيد الجسدي. كان لتلك الزيارات أثرٌ مهدِّئ، رغم ما شعرت به من أسًى. غالبًا ما كنت أغادر منزلَ والديَّ بسيارتي، ثم أوقف السيارةَ على جانب الطريق لأجلس فيها وأبكي. كنتُ أقول لنفسي إن هذا هو واقعي الآن. أنا أتأرجح بين عالَمَين؛ العالَم الروحي المتمثِّل في إيماني بصمود الروح ومناعتها في وجه المرض، والعالَم المادِّي المتمثِّل في الفَقْد والعجز والأسى الذي يفوق الوصف.

إن الحسرة تطلُب منا باستمرار أن نعترف بها. يرغب معظمنا في تجنُّبها؛ وذلك لسبب واضح هو أنها تؤلم. ويقدِّم داء ألزهايمر فرصًا وفيرةً لتجنُّب الحسرة. يمكنك أن تشغَل نفسك كثيرًا بمهام تقديم الرعاية؛ بحيث لا يكون لديك وقتٌ لتتحسَّر أو حتى لتفكِّر في الحسرة. هذا هو أحد أسباب انغماس الناس في تقديم الرعاية المباشرة. هم يعرفون غريزيًّا أنهم لن يكون لديهم متسعٌ من الوقت ليصارعوا فداحة خسارتهم. وفي مكانٍ ما وسط كل ذلك الانشغال توجد فكرة أن هذه الحسرة ستزول، وأنهم لن يتعيَّن عليهم التعاطي معها فقط إذا ما تجاهلوها طويلًا بما يكفي.

لكن الأمور لا تسير على هذا النحو. فالحسرة ليست قابلة للتحلل. لا يمكنك أن ترسلها إلى أبعدِ ما يمكن وتنتظر حتى تتحلَّل. قد يمكنك تجنُّبها شهورًا، بل وحتى سنوات. لكنها في نهاية المطاف ستجد طريقَها إليك. وحين يحدُث هذا، فإنها عادةً ما توقفك حيث أنت بمرضٍ أو بحادثٍ؛ شيء لن يترك أمامك خيارًا سوى أن تغرَق في الحسرة التي كنت تتجنَّبها.

قبل سنوات طويلة، عرفت امرأةً مات عنها زوجها بالسرطان. كان في المنزل في المراحل الأخيرة من المرض، بعد أن تقرَّر أنه لم يَعُد بإمكان الأطباء فِعل المزيد. فاضطلعت المرأة بدور مقدِّم الرعاية الأساسي، ولم تكن تسمح بأي مساعدة في المنزل أو بالقليل منها. ولم يكن ذلك بسبب قيود مالية، وإنما كان ببساطة قرارًا اتخذته. وبعد موت زوجها ببضعة أشهر، أُصيبَت فجأة برُهاب الخلاء؛ لم تكن تستطيع الخروج من المنزل. كانت تفتح الباب فتصيبها نوبةُ ذعرٍ تعيدها إلى الداخل. وكانت المرأة على قَدْر من الحكمة بما يكفي لتدرك ماهيةَ الأمر. فقد أخبرتني أنها شغَلت نفسها كثيرًا برعاية زوجها، حتى إنها لم تستغرق وقتًا لتتحسَّر عليه. وحين أصبحت فجأةً غير قادرة على مغادرة منزلها، كانت الحسرة هي كلَّ ما تبقى لها. لم يكن أمامها خيار سوى أن تجلس في منزلها وتستسلم لها. وبحلول الوقت الذي التقينا فيه، كانت على ما يُرام؛ لم تَعُد مصابة برُهاب الخلاء.

•••

يرجع شعورنا بالحسرة إلى أننا أحببنا. والألم الذي نشعر به حين يفارق أحدُهم هذا العالم هو ألمُ قلبٍ انفتح وكان على استعدادٍ لأن يكون ضعيفًا. لن تشعر بالحسرة أبدًا لو لم تكن قد أحببت. لكن تلك ستكون طريقةً فظيعةً لتقضيَ بها حياتك. وجدت نفسي أشعر بالامتنان تجاه وتيرة الحسرة البطيئة التي تأتي مع داءٍ مثل داء ألزهايمر. كنت ممتنة لأنني حظيت بالوقت الكافي مع مراحل الفقد، بتقلبات الحسرة ومنعطفاتها المختلفة. في سن التاسعة عشرة، فقدتُ صديقًا عزيزًا عليَّ فجأة في حادث تنزُّه. وأتذكَّر الشلل الذي شعرت به بسبب الصدمة، وكيف تطلَّب مني الأمر وقتًا لكي أبدأ حتى في التفجُّع على وفاته. شعرت بأنني غير مؤهَّلة للتعامل مع ما شعرت به في البداية من جمود وعجز، ومع فيض المشاعر التي أتت بعدها.

حين كنت طفلة، كنت أتفجَّع على خسارة حيواناتي الأليفة المحبوبة. كان أبي يعزِّيني، ويحدِّثني عن الأوقات الجميلة التي حظينا بها معها، وكيف أن هذه الأوقات ستظل ترافقني دومًا. كنا دائمًا ما ننقذ الكلاب التي هجرها أصحابها بالقرب من مزرعتنا؛ لذا كنا نُحضر كلبًا آخرَ إلى المنزل بعد وقتٍ قصيرٍ من وفاة حيوان أليف مسنٍّ لدينا. كان أبي يؤمن بشدة بأن القلب في حاجة للحب رغم ما يشعر به من حسرة، وأن ملء الفراغ الذي يخلِّفه موت حيوانٍ أليف أمرٌ في غاية الأهمية. كان رائعًا في تعليم طفل كيفية اجتياز مشاعر الأسى التي يجلِبها الموت إلى الحياة، على الأقل فيما يتعلَّق بالحيوانات.

لكن حين ماتت جَدتي لوالدي، تعيَّن عليَّ أن أخفيَ حزني. فلم يكن من المفترض أن أعرف. أظن أن والديَّ اعتقدا أنهما يحمياني، لكن في سن العاشرة كنتُ قد أصبحتُ بارعةً في التنصُّت وكنت قد سمعت عَبْر أحد الأبواب المغلقة أن نيل قد ماتت. كانت نيلي قد أودِعت منشأةً علاجية حين بدأت تظهر عليها أعراض الخرف، وآخر مرة رأيتها كانت حين أخذني والداي لزيارتها. كانت ترقد في سريرٍ ضيق في حجرةٍ بها ما يقرُب من عشرة أسرَّة أخرى. وكانت جدران الحجرة بلون أخضرَ يشبه لون حساء البازلاء، ورائحة البول عالقة في الهواء. كان ذلك عام ١٩٦٢ وكانت الخيارات قليلة جدًّا بشأن إيداع المسنين الذين لا يمكنهم العيشُ بمفردهم، ولم يَعُد بإمكانهم رعاية أنفسهم. لا يزال بإمكاني تصوُّر تلك الحجرة، ولا يزال بإمكاني سماع الممرِّضات يجتزن الأرضيات المفروشة بالمشمَّع الصلب، ولا يزال بإمكاني رؤية عينَي جَدتي الواسعتين الخاويتين. في نهاية المطاف، أخبرني والداي أنها قد ماتت، وتراودني ذكرى قولي: «أعرف»، لكني لست واثقة إن كنتُ قلتُها فعلًا. كانت الحسرة قد شوشتني فجأة. لماذا كنا نستطيع التحدث عن الأمر حين يموت أحدُ الحيوانات الأليفة في أسرتنا ونتشارك مشاعرنا، لكن حين ماتت جَدتي أُخفيَ الأمر عني؟ حتى يومنا هذا، لا أعرف إن كان قدَّاس قد أُقيم لجدتي أم لا.

ورغم صعوبة رعاية طفل وتوجيهه عبر مراحل الحزن الشديد، فإنها مسألة ذات أهمية جذرية. فتلك الذكريات تلازمنا طوال حياتنا. فالدروس الأولى التي نتعلمها عن الأسى والفقد تساعد في تكوين أساس مَن نكون. إنني أتذكَّر بوضوح شديد الوحدةَ التي شعرت بها حين علمت أن جدتي تُوفِّيت واضطراري لتكتم الأمر. أتذكَّر ذلك كألم جسدي عميق في قفصي الصدري. وأتذكَّر كذلك عبء الأسئلة الفظيع — لماذا لا يتحدَّث والداي إليَّ بشأن ذلك؟ هل ماتت في النهار أم في الليل؟ أكانت وحيدة؟ ما زلت لا أعرف الإجابات عن ذلك، ولن أعرف أبدًا.

ومؤخَّرًا فقدت صديقًا كنت أعرفه منذ خمسة وثلاثين عامًا بنوبة قلبية مفاجئة. عرفت بالخبر في المساء، وشعرت بقوى الصدمة والإنكار تجتاحني. لم أستطِع البكاء. كان عقلي يعلم أن الأمر حقيقي — أنه قد رحل — لكن قلبي لم يكن قد تمكَّن من استيعاب الأمر بعد. لم أستطِع تصوُّر العالم من دون أن يكون فيه. وفي اليوم التالي، كلُّ ما أردت فِعله هو البكاء. لقد عرفت منذ اللحظة التي تلقَّيت فيها الخبر أن عليَّ أن أسمح لمشاعر الحسرة أن تمضيَ وفقًا لوتيرتها الخاصة. وبقَدْر ما تُصبح الحسرةُ مألوفةً في حياتنا، فإن كل حدثٍ يبدو فريدًا. حين مات هذا الصديق، شعرت بأني غير مستعدةٍ على الإطلاق لعاصفة مشاعري. في كل مرةٍ أمرُّ فيها بمشاعر فَقْد أحدهم، يراقب جزءٌ مني الأمر وكأني في حاجةٍ لأن أحفِره في ذاكرتي من أجل المرة التالية، مع أنني أعرف أن المرة التالية سيكون لها طابعها الخاص ولن تشبه أيَّ شيء مررت به من قبل.

•••

التقت مجموعةُ الدعم الخاصة بي ذات ليلة، بعد وقت قصير من حادث إطلاق النار في الملهى الليلي في أورلاندو. وأتذكَّر أني رحت أتطلَّع في وجوه أعضاء المجموعة الذين كانوا يمرون بمشاعر الوداع الطويلة الناتجة عن الخرف. وخطر لي أن أولئك الذين يفقدون عزيزًا لهم في هذه المرحلة الانتقالية البطيئة قد يتفكَّرون في هِبة الوقت التي مُنحوا إياها. أما أسرةُ مَن يُقتَلون بوحشية في حوادث إطلاق النار العشوائية وأصدقاؤهم، فلا يحظَوْن مطلقًا بفرصة توديعهم، ولا يتسنَّى لهم مطلقًا الجلوس إلى جوار ذلك الشخص والتحدث عن الحياة التي تشاركوها معًا. لا تتسنى لهم أبدًا فرصة التفكُّر في الموت فيما يتقدَّم نحوهم ببطء. لهؤلاء، يأتي الموت في غمضة عين مع وميض الأعيرة النارية. في لحظةٍ يرحل عنهم أولادهم وبناتهم وأزواجهم وزوجاتهم وأصدقاؤهم. وأمضى ضحايا حوادث إطلاق النار تلك آخرَ لحظاتهم في الدنيا يحدِّقون في قلب الظلمة. حدد الشرُّ نهايةَ حياتهم. هذا يختلف جذريًّا عن تجربة الحصول على الرعاية، سواء في المنزل أو في منشأة علاجية، حيث سيموتون على الأرجح بين الثنايا الناعمة لأغطية الأسرة ومحاطين بأناس يهتمون بأمرهم.

لمن يفقد منا عزيزًا عليه بسبب الخرف، يكون الشيء الوحيد المتاح لنا وبوفرة هو الوقت. والمريض أيضًا يحظى بالوقت. قد يخالجه الكثيرُ من الأشياء التي لا يستطيع التواصل بشأنها؛ لذا قد يستفيد من ذلك الوقت بطرائقَ لن نعرفها أبدًا. إن القدرة على توديع أحدهم على مراحلَ هي نعمة كبيرة. وفي خضم الشعور بالحسرة، من المهم أن نتذكَّر أن الموت يأتي بأشكال وطرائقَ كثيرة. والوداع الطويل هو في واقع الأمر من ألطفِ تلك الأشكال. يكون الألم عميقًا، والأسى هائلًا وجسيمًا، لكن من المهم أن نوسِّع مداركنا وننظر إلى ما يعانيه الآخرون من فقدٍ وخسارة.

•••

كتبت إليزابيث كوبلر روس عن خمس مراحل من الشعور بالحسرة، وهي حقيقية جدًّا: الإنكار والغضب والمساومة والأسى والتقبُّل.1 لكن ليس من الضروري أن تتبع هذه المراحل خطًّا مستقيمًا. فالحسرة عملية فوضوية. من الممكن أن تكون غارقًا في الحزن ثم فجأة تنتقل إلى مرحلة الإنكار. أو يمكن أن تدلِف إلى فسحةٍ تعرف أنها التقبُّل، فقط لتجدَ أنك تنزلق عائدًا إلى مرحلة الغضب من استبداد ذلك الداء وإجحافه. وبقَدْر ما قد يبدو ذلك الشعور أشبهَ بخوض رحلةٍ جامحةٍ في لعبة مستر تودز وايلد رايد، إلا أن الاستسلام للمرحلة التي تمرُّ بها من الشعور بالحسرة أيًّا كانت هو خيار أصح من محاولة مقاومتها.

حين كنت أصغر سنًّا، اعتدت على اتباع أبي إلى المحيط وهو يتزلَّج على الأمواج بجسده. كان أبي جسورًا، فكان يتقدَّم لمواجهة الأمواج الهائلة، ويدير ظهره ويسبح بكل قوَّته ليلحق بالموجة عند النقطة المناسبة ليتمكَّن من ركوبها حتى الشاطئ. وقد علَّمني كلَّ ما أعرف عن البحر، وعن المد والجَزْر والتيارات والأمواج. علَّمني أنه إذا كانت الموجة على وَشْك أن تضربك، فغُص عميقًا إلى حيث المياه ساكنة وانتظر حتى تمرَّ الموجة من فوقك. وعلَّمني أنني إذا علِقت في تيار يسحبني إلى الخارج، فسأكون في مأزق أكبرَ إذا ما صارعته. فسيصيبك الإنهاك وسيربح التيار. الخيار الأفضل هو أن تترك نفسك ليحملك التيار برهةً، وانتظر حتى تشعر بأنه يتغير أو يصبح أضعف. حينها ستتمتع بالقوة لتسبح عائدًا. ودائمًا ما بدا أن دروسه عن المحيط تُترجم إلى دروس عن الحياة. وقد فكَّرت فيها كثيرًا طوال فترة مرضه.

ثمة شيء فريد ومهيب بشأن سبَّاح يشق الماء، يخلِّف في إثره فقاعات ويقطع سطح الماء بضربات خطية بارعة. وإحدى الطرق التي تمكَّنت بها دائمًا من إشراك والدي معي — حتى في خضم مرضه — كانت بالحديث عن الماء — سواء عن المحيط أو عن النهر في المدينة التي ترعرع فيها. وبعد فترة طويلة من نسيانه أنه كان فيما مضى يقود مسرحَ الأحداث في العالم، وبعد فترة طويلة من نسيانه أنه كان رئيس الولايات المتحدة، تذكَّر النهر. في الذكريات المحفورة عميقًا والتي لم يستطِع داء ألزهايمر محوها، كان يغوص بسعادة في المياه العميقة، واثقًا أن باستطاعته ترويض التيارات. كانت عيناه تلمعان ببهجةٍ حين أبدأ أسرُد على مسامعه القصصَ التي أخبرني بها فيما مضى؛ عن أوقات الظُّهر البيضاء بالثلج عندما كان يتزلَّج على النهر الذي كان «يماثل البلدة عرْضًا ويزيد عليها في الطول ضعفين»، وفي أيام الصيف الطويلة وهو يغوص في المياه المنعشة.

كان أبي يقول لي: «النهر خدَّاع. فعلى السطح يبدو هادئًا، لكن في باطنه تيارات قوية.» لقد أصبحت القصص والصور التي تركت بصمتَها في طفولتي هي سندي في مرحلة الرُّشد، في مواسم رحيله. حَلَمت ذات ليلةٍ أنني كنت واقفةً على ضفاف نهر. كنتُ وحيدة، وكنت أعرف أن عليَّ أن أعبره. وكنت أرتجف وأنا أخطو إلى الماء، ثم بدأَت التيارات تسحبني. سبحتُ بقوة لكني شعرتُ في بعض المواضع أن التيارات كانت أقوى مني بكثير، وأنني قد أغرق. وأذكر في حلمي السماء؛ بدت وكأنها سماء الساعات الأولى من المساء، وكنت خائفة أن يجن الليل قبل أن أصل إلى الضفة الأخرى. ثم شعرت فجأةً بيدٍ تجذبني ورحت أنسلُّ في سلاسةٍ عبر الماء نحو الضفة الأخرى. وقفت على ضفة النهر ونظرت خلفي إلى الماء؛ ورأيت هيئةً صغيرة من بعيد، وفي الحُلم عرفت أنها كانت أنا؛ نسخة أخرى مني، قبل أن أعبر النهر إلى الضفة الأخرى.

كان ذلك الحلم أحدَ تلك الأحلام التي لا تتلاشى أبدًا. ولا يزال حاضرًا وقويًّا حتى يومنا هذا. قررت أن أخبرَ أبي عن ذلك الحلم. كان لا يزال في المراحل الأولى من داء ألزهايمر، وكان لا يزال يذهب إلى المكتب بضع ساعات على مدار الأسبوع. وفي المنزل، كان قد بدأ يغترف أزهار الماجنوليا الساقطة من بِركة السباحة. ولأنه كان ممنوعًا من السباحة، فأظن أن تلك كانت طريقة ليبقى بالقرب من الماء؛ وإذ بدا واضحًا أن أبي يستمتع بذلك، فقد اعتاد عملاء الخدمة السرية جَمْع زهور الماجنوليا وإلقاءها في بِركة السباحة حتى يتسنَّى له اغتراف المزيد.

وقد وجدته هناك في ساعةٍ متأخرة من صباح أحد أيام الأحد، وضوء الشمس يتخلل أوراق الشجر، ومغرفة بِركة السباحة تصنع تموُّجات في الماء. قصصت حُلمي عليه، وأخبرته كيف أرشدتني يدٌ خفيةٌ عبر النهر. في الواقع لم أكن أتوقَّع منه أن يقول شيئًا، لكن حين انتهيت، قال: «ينبغي أن تستمري في السباحة.» ليس لديَّ أدنى فكرة عن المعنى المتواري وراء تلك الكلمات، لكنه وصفٌ رائعٌ للغاية لكيفية التعاطي مع الحسرة. استمر في السباحة.

قال مايكل أنجلو إنه يعتقد حين كان ينظر إلى كتلةٍ من الرخام أن الشكل الذي كان يرغب في أن يتولَّد منها كان موجودًا فيها بالفعل. تمثال داود، وتمثال بييتا، وتمثال موسى، كلها كانت موجودة بالفعل. وكانت مهمَّته كنحَّات هي ببساطة أن يزيل الرخام الزائد ويكشف عن الشكل المستتر في الحجر. تلك هي الكيفية التي ينبغي أن تسيرَ بها الحياة. إنَّ مقصِد حبِّنا ومسرَّاتنا وأحزانِنا وفقدِنا هو كشفُ حقيقتنا؛ بكشط كل شيء يخفي ما نحن قادرون على أن نكون عليه، بحيث يمكننا أن ننبثق على الهيئة التي خُلِقْنا لنكون عليها. أحيانًا فحسب يكون الأمر مؤلمًا أثناء هذه الرحلة.

«ثمَّة شيء مقدَّس بشأن الدموع. إنها ليست علامةً على الضَّعف، وإنما على القوة. فهي أفصح تعبيرًا من عشرة آلاف لسان. هي رسل حسرة غامرة وحب يفوق الوصف.»

واشنطن إيرفينج

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤