الفصل الرابع

أين الشخص الذي كنتُ أعرفه؟

العقل البشري يعجُّ بالمفاجآت. ثمة أوقاتٌ في مجموعة الدعم الخاصة بي كان يقول فيها أحدهم إن والده أو زوجه قد استعاد فجأة شيئًا من صفاء ذهنه. كان الشخص يكاد يبدو وكأنه يتعافى، وهو بالطبع أمرٌ مستحيل. وبعد أسبوع يعود ذلك العزيز إلى الحال التي كان عليها. لا يوجد تفسير لذلك، وقد يجعل هذا من أمرِ تحديد مراحل داء ألزهايمر في بعض الأحيان خادعًا.

في تسعينيات القرن العشرين، حين جرى تشخيصُ حالة والدي بأنها داء ألزهايمر، كانت المعلومات المتاحة عن داء ألزهايمر (والتي لم تكن كثيرة) تُعَدِّد مراحلَ المرض، وكأن ثمَّة تدرُّجًا خطيًّا للأعراض. كان الناس في بعض الأحيان يسألونني إن كان والدي في المرحلة الأولى أم الثالثة. ولست واثقةً حتى بشأن الكيفية التي بدأ بها هذا الشكل من التقييم، لكني أعرف أنه لم يدُم طويلًا. فسرعان ما أدرك مَن كانوا يمرُّون منا بتجربة فقدِ عزيز عليهم بسبب داء ألزهايمر أن مثل هذا المفهوم كان سخيفًا. فلا توجد خطوط فاصلة واضحة تحدِّد موقعَ الشخص من مراحل تطوُّر الخرف. لكن لا يزال من المفيد أن نفكِّر في المرض باعتبار أن له بدايةً ووسطًا ونهاية، حتى ولو كانت الخطوط الفاصلة مبهمة. أحدُ أسباب ذلك هو أنه يساعد مقدِّم الرعاية على تحديدِ ما يجب التعامل معه وتوقيته.

•••

قبل سنوات طويلة، كان لي صديقٌ اعتاد دومًا أن يقول: «أنا أكره التغيير!» كان يقولها عن الأشياء الصغيرة وأيضًا عن الأحداث المهمة. وبعد أن رأيته يمرُّ ببضع جولات من التغيير، بدأتُ أشكُّ في أنه كان يمزح. أعتقد أنه لو كان بوسعه أن يوقفَ دوران عجلة الزمن لفعل. وبدرجةٍ ما، لدينا جميعًا شيءٌ من هذا. فنحن بنو العادة. ولا يروق لنا أن تتغيَّر ملامحُ الحياة من حولنا. وحين يتولَّى داء ألزهايمر زمامَ السيطرة، فإنه يغيِّر كلَّ شيء تقريبًا، دون سابق إنذار ولا إمكانية توقُّع. وإن كنت تميل إلى أن تكون مسيطرًا على مجريات الأمور، فإن رحلتك ستكون وعِرة.

في المراحل الأولى من المرض، في تلك اللحظات المحمومة بعد أن تحقَّقت أسوأ مخاوفك، ثمَّة أوقات يكون فيها الشخص الذي جرى تشخيصه بداء ألزهايمر على خيرِ ما يرام. حيث يشارك في محادثات متسقة ويطهو طعامَ العَشاء ويتذكَّر المواعيد. ثم، دون إنذار، يصبح مختلفًا، وكأن خيطًا قد انقطع؛ يُصبح مرتبكًا، ومنزعجًا مما به من ارتباك، وغيرَ قادر على تذكُّر أبسطِ الأشياء أو التفكير بصورة منطقية. الأمر أشبهُ بجولة في قطار الملاهي الأفعواني، وببساطة لا توجد طريقة للتنبؤ بالوقت الذي سيكون فيه على ما يرام والوقت الذي سيبدو فيه ضائعًا. تكمُن الصعوبة في التأقلم مع هذا التقلُّب من وقتٍ مبكِّر؛ أما مقاومته فلن تجرَّ سوى المعاناة والألم على الجميع. لقد اعتدت أن أقول لنفسي حين كنتُ أذهب لرؤية والدي إنني لا أعرف ما سألاقيه أو كيف سيكون حاله، لكني كنت مستعدة لأن أكون منفتحةً على أي شيء سيحدُث. وقد زاد احترامي كثيرًا لهاتَين الكلمتَين: لا أعرف.

تصور مخاوفك وهلعك بشأن اكتشاف أن عزيزًا عليك مصاب بالخرف، ثم ضاعِف ذلك بمئات المرات حين تتصوَّر الكيفيةَ التي لا بد أن يكون عليها شعوره هو. لقد صدر بشأنه حكمٌ بالإعدام، إلا أنه إعدام بطيء تنعدِم فيه الرحمة. سيفقد ذلك الشخص ذاكرته، وهويَّته؛ في بعض الأحيان تدريجيًّا، وفي أحيانٍ أخرى بمقاديرَ كبيرة. فجأةً يصبح المستقبل مثل حقلِ ألغام. وليس بوسعِ أحدٍ أن يبثَّ فيه أملَ العلاج لأنه لا يوجد علاج في الوقت الراهن. إذا وضعت نصبَ عينيك أن الشخص العزيز لديك يتعذَّب من الخوف حتى ولو لم يكن يُظهِر ذلك، فستكون قد فتحتَ الباب أمام مشاعر التعاطف، بغض النظر عما كان عليه شكل العلاقة بينكما في السابق.

•••

أغلب الظن أن المسار الذي سيتحدَّد في المراحل الأولى هو الذي ستستمر عليه في بقيةِ رحلتك، مهما طالت. فذاك وقتٌ أنت فيه في حاجة لأن تعرف بوضوح حالتَك العاطفية والذهنية، وماهيةَ المشاعر المسيطرة، وكيف ستكون علاقتك بالشخص العزيز لديك بعدما عرفت أنه يقطع دربًا يزداد صعوبةً؛ دربًا لا يمكنك اللحاق به فيه.

لقد لاحظتُ أن ثمة نزعة للتحدث بصورة مختلفة مع مريضٍ مصاب بالخرف تقريبًا منذ لحظة التشخيص، وذلك بإيقاع أبطأ وبالتشديد على كلماتٍ بعينها، على نحوٍ يماثل كثيرًا الطريقةَ التي نتحدث بها إلى الأطفال الصغار. وجدت نفسي أفعلُ ذلك مع أبي في المرة الأولى التي عُدت فيها جوًّا إلى لوس أنجلوس من نيويورك بعد أن خرج تشخيصُ حالته إلى العلن. وهذا شيء ينبغي أن نُحذِّر بشأنه لأن التمادي فيه قد يكون سهلًا؛ فيمكن أن ينتهيَ بك الحال إلى أن تتعامل مع الشخص العزيز لديك وكأنه ما عاد يستحق أن يُعامل بتوقير. ويمكن لذلك بعدئذٍ أن يتحوَّل إلى معاملته وكأنه غائب. في المراحل الأولى من المرض لا يزال بوسعك التحدُّث إليه بطريقة طبيعية؛ كلُّ ما في الأمر أنك قد تحتاج إلى تكرارِ ما تقول بضع مرات.

ومن المهم التطرُّق إلى بعض إجراءات الأمان العملية للغاية، التي ستجعلك حينها على دراية تامة بتبادل الأدوار الضروري. عليك أن تبدأ في التصرف مع والدك على أنك أنت الوالد، وهو وضعٌ غريب وغير مألوف. كأن تأخذ مفاتيح السيارة من حوزته أو أن تشدِّد على أن ذلك الشخص العزيز لديك لا يمكن أن يُترك وحيدًا؛ ثمة أشياءُ ببساطة غيرُ قابلة للتفاوض.

وإن كان يوجد بالمنزل أيُّ أسلحة، فتخلَّص منها، وكذا من الذخيرة. ومسألةُ ما إن كنت ستقول للشخص العزيز لديك عما ستفعله أم لا، هي مسألة اختيار فردي، لكن لا يمكن أن تكون ثمة مساومة بهذا الصدد. أدوات المطبخ كالسكاكين ينبغي إما أن توضع بعيدًا عن متناوله أو أن تؤمَّن في دُرج يُقفَل بقُفل. وإن كان والدك لا يزال يقوم بأعمال الطهي، فعلى الأرجح ينبغي ألا يُترك من دون رقابة. فقائمة الأمور التي يمكن أن تسوء وتمثِّل خطرًا هي قائمة طويلة. ونحن في العادة لا نفكِّر في الأقفال على الأبواب الداخلية في المنزل، خاصة أبوابَ المراحيض. ينبغي إزالة هذه الأقفال، حتى لا يتسنى للشخص العزيز لديك أن يحبِس نفسه في المرحاض، أو أي حجرة أخرى، أو يرفض الخروج أو ينسى كيف يفتح قُفل الباب. وإن كان في المرأب أو القبو أدوات، خاصة الكهربائية منها، فإما أن تتخلص منها أو أن تغلق عليها بقُفل. سمعت عن رجل مصاب بداء ألزهايمر أعمل منشارًا كهربائيًّا في حائط حجرة النوم؛ كان يريد حجرةً أكبر.

إن تأمين المنزل يكون أشبهَ بحماية الأطفال من المخاطر، لكن بدرجة أكبرَ بكثير. فالأشياء التي يمكن للطفل الصغير الوصول إليها عادةً ما تكون على الأرض أو أعلى من ذلك ببضع بوصات. أما مع مريض الخرف، فعليك أن تضعَ في اعتبارك ما يمكن ليدِه أن تمتدَّ إليه على خزانة عالية. ولا تخدعن نفسك بأن تظن أنه لن يُقْدِم أبدًا على أن يسحب كرسيًّا ويتسلَّق عليه ليصل إلى ذلك الرف. فالخرف لا يمحو الذكريات المشفَّرة منذ زمن طويل جدًّا؛ لذا من المنطقي أن تفترض أنه يعرف تمامًا كيف يصل إلى الأشياء البعيدة عن متناوله.

•••

ذات مرة، في المراحل الأولى من مرض والدي، حين كنت لا أزال أعيش في نيويورك، عُدت جوًّا إلى لوس أنجلوس لأزورَه. كنا نجلس في حجرةٍ في منزل والديَّ، أنا وأبي فقط، ننتظر حضور طبيبه، وكان الطبيب يحضُر مرةً كل أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع. أتذكَّر أننا كنا نتحدث عن التزحلق على الجليد — وكنتُ قد بدأت أتزحلق على الجليد كل صباح في حديقة سنترال بارك — وكان أبي يسرُد كيف اعتاد التزحلقَ ساعاتٍ على جليد النهر المتجمِّد حين كان طفلًا. كان ذلك في وقتٍ مبكِّر من عصر ذلك اليوم، وكان أبي منتبهًا ويتابع المحادثة.

وحين وصل الطبيب، لاحظت أنه حيَّا والدي بنبرةٍ مرتفعة متأنية، فكان يُبطئ في نطقه للكلمات وكأنه يتحدث إلى شخصٍ لا يفهم الإنجليزية. لم أكن قد التقيت بطبيبه قبلها، وسرعان ما صار لا يروق لي. بعد ذلك شرع الطبيب يتحدث عن والدي بضمير الغائب، وكأنه لم يكن موجودًا بالغرفة.

وبعد أن حوَّل انتباهه إليَّ، قال: «بما أنكِ لا تقطنين هنا ولا تأتين للزيارة إلا بين حين وآخر، فهل تلاحظين أيَّ اختلاف — أي تدهور بشأنه — منذ آخر مرة كنتِ فيها هنا؟»

أظن أنني فغرتُ فمي دهشةً. أذهلتني قسوةُ الرجل وفي البداية لم أستطِع حتى القدرة على الحديث. وأدركت فجأةً أن والدي كان يحدِّق إليَّ. فنظرت له وكان في عينيه تركيزٌ شديد، يفضي إليَّ بشيء كان واضحًا جدًّا فيهما. شعرت بأنني أعرف ما كان يفكِّر فيه: لنرَ كيف ستتعامل ابنتي مع هذا الموقف. فتنبهتُ إلى فكرةٍ قديمة من الطفولة؛ كنت أريد أن يكون فخورًا بي. وأردت أيضًا أن أضعَ هذا الطبيب في مكانته الصحيحة.

فقلت له: «أبي جالس معنا هنا. وأنت تتحدَّث عنه بضمير الغائب. وهذا ليس تصرفًا صائبًا.»

فأكمل الطبيب، غير عابئ. قال، وهو يلوِّح بيده في استخفاف: «إنه لا يفهم ما نتحدث بشأنه. على الصعيد المعرفي، لا يمكنه أن يفهم. لا يزال بإمكانه الإحساس بالانفعالات، لكن عقله لا يعمل بالطريقة نفسِها. والآن لم تجيبي عن سؤالي.»

فقلت له: «ولن أجيبَ عن سؤالك ما دام بهذه الصياغة التي صغتَه بها.»

وصدقًا لا أذكر ما قيل بعدها؛ لأنني قررت أنني لن أتحدث إلى هذا الطبيب ثانية أبدًا. وكانت النظرة في عينَي والدي قد تحوَّلت إلى الإعجاب؛ اعتقدتُ حينها وأعتقد الآن أننا كنا نتواصل على نحو جيد. شعرت وكأن كل خبراتنا وذكرياتنا معًا كانت حاضرة في تلك اللحظات؛ كل المرات التي أسأت فيها إليه، خاصة حين كان رئيسًا وانتقدت سياساته علنًا. لكن الآن، في هذه الحجرة الهادئة في منزل والديَّ، وضوء آخر النهار ينساب إلى الداخل ونعيق غراب يختلط بصوت صافرة إنذار بعيدة، كنت أدافع عن حقه أن يُعامل بتوقير. خلف تلك اللمعة في عينيه عرفت أنه يفكِّر، قائلًا في نفسه: «فتاة صالحة، لقد تعاملت مع الأمر بالصورة الصحيحة تمامًا.» قصصت على أمي ما جرى ولم أستغرب من أن أبي حظي بطبيب آخر بعد ذلك بفترة قصيرة.

•••

لاحقًا بعد سنوات كثيرة، بعد أن بدأت مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» بفترة قصيرة، أتاني زوجان كبيران في السن ذات ليلة وجلسا. كانا متأخرَين بضع دقائق؛ إذ كنا قد بدأنا بالفعل، لكنني قاطعت باقتضابٍ عضوَ المجموعة الذي كان يتحدث حتى أحصل على اسمَي الوافدَين الجديدَين، وأقدِّم نفسي والميسِّر المشارك معي إليهما. وكان يراودني إحساسٌ مزعج بأن الرجل مصاب بالخرف. لم يكن شيء باديًا عليه، فقط نظرة في عينه. كانت المجموعة قاصرةً فقط على مقدِّمي الرعاية؛ كانت مكانًا لهم يتحدثون فيه بحرية وانفتاح، دون أن يسمعَهم أحباؤهم. وكنت آمُل أن أكون مخطئةً بشأن هذَين الزوجَين، لكن حين حان دورهما، بدأت المرأة تتحدَّث عن زوجها بضمير الغائب؛ ويمكنني أن أضيفَ أنها تحدَّثت بقسوةٍ بالغة. كانت تقصُّ أنه لم يَعُد يفهم الأشياء ولا يستطيع أداء المهام البسيطة. وقبل أن أتمكَّن من إيقافها، قاطعها رجلٌ في المجموعة وقال: «نحن جميعًا منزعجون من حديثكِ هذا. إنكِ تتحدثين عن زوجكِ وكأنه غير موجود، لكنه موجود إلى جواركِ تمامًا.»

فانفجرت قائلة: «إنه لا يفهم ما أقول.»

هنا أخذ المُيَسِّر المشارِك معي الرجل، الذي كان لطيفًا للغاية والذي أعتقد أنه كان يفهم تمامًا ما كان يسمع، إلى خارج الغرفة وانتظر معه في الرُّواق فيما شرحنا أولًا لهذه المرأة أن المجموعة لم تكن مخصصةً للمرضى. والأهم من ذلك، أننا حاولنا بعدها أن نشرح لها أن ليس من المفيد، بل في واقع الأمر يمكن أن ينطوي على قسوة وفظاظة، أن تفعل ما كانت تفعله؛ وهو أن تتحدث عن الرجل وكأنه غير موجود. لا أظن أنها فهمت شيئًا مما قيل لها ولم نرَها بعد ذلك ثانيةً أبدًا.

أقصُّ هاتَين القصتَين لأظهِر كم يمكن أن يصبح سلوك «إنه لا يفهم أيَّ شيء» متطرفًا. يؤسفني أن أقول إن هذا شائع للغاية، وحتى إن لم تكن الأمور واضحةً بقدرِ وضوح الأمثلة التي ذكرتُها، فإن هذا الأسلوب يمكن أن يتسبَّب في أضرار حتى ولو كان بدرجةِ حدةٍ أقل. أردتُ أن أقول لتلك المرأة: «زوجكِ لا يزال بشرًا!» لم أقُل ذلك، لكني أتذكَّر كيف كانت يداي ترتجفان. إن أسلوب الاستخفاف لدى تلك المرأة، والذي كانت تحظى به بدرجةٍ كبيرة، شيءٌ ينبغي ألَّا نغفُل عنه؛ لأنه يمكن أن يتسلل حتى إلى ألطفِ الناس وأكثرهم ودًّا. أنت ترى تلك النظرةَ المغايرةَ في عينَي الشخصِ العزيزِ عليك، وتعرف أنه ذاهل، وتشعر أنك لم تَعُد تعرفه. وتفترض أنه لا يهمُّ ما تقوله في حضوره. لكنه مع ذلك مهم. منذ المراحل المبكِّرة للمرض وحتى نهاياته، يكون ذلك مهمًّا.

قبل سنوات، جرى اعتقادٌ بأن الأشخاص الذين في غيبوبة لا يمكنهم سماعُ أي شيء؛ لذا لم يكن مهمًّا ما تقول حين تكون واقفًا في الغرفة. ولا يختلف هذا الأمر عن الطريقة التي ينظر بها بعض الناس إلى مرضى داء ألزهايمر. وحتى أكثر الأطباء التقليديين سيقول الآن إننا ليس لدينا أدنى فكرة عمَّا يمكن أن يسمعَه الشخص الذي في غيبوبة. لذا، فإن الشخص الذي يوجد بالقرب منهم أيًّا كان، في حاجةٍ لأن يحذَر بشأنِ ما يقول. وبالطريقة نفسها، فإن أيًّا منا لا يعرف ما يمكن أن يستوعبه الشخص المصاب بداء ألزهايمر.

•••

في السنة الأولى من مرضِ والدي التقيت امرأةً أخبرتني أن جَدتها ماتت حديثًا بداء ألزهايمر. كانت في واقع الأمر أحدَ أوائل الناس الذين تحدثوا إليَّ عن المرض بشيء من التفصيل. أخبرتني أن جَدتها لم تكن تروق لها مطلقًا؛ إذ كانت المرأة غليظةَ القلب، وغير محبة أو حنونة على الإطلاق. وعندما كانت تسأل والديها عن سببِ ذلك، كانا يقولان لها شيئًا مبهمًا مثل: «كانت حياتها صعبة.» وهذا بالطبع لم يكن تفسيرًا وافيًا. منذ مرحلةٍ مبكِّرة من مرض الجَدة، بدأت تعود بالزمن إلى حين كانت فتاة صغيرة؛ في ألمانيا في أربعينيات القرن العشرين. وُضعت تلك الجَدة مع والديها على متن قطار مزدحم وأُخِذوا إلى معسكر اعتقال أوشفيتس. ومات والداها هناك؛ ونجت هي من الموت بشِق الأنفس. وظلت الذكريات التي لم تخمَد مطلقًا تطاردها بقيةَ حياتها.

أخبرتني تلك المرأة أنه كان مما يفطر الفؤادَ أن تستمع إلى جَدتها التي كانت تعيد معايشة واقع معسكر الاعتقال. كانت الأهوال والكوابيس وسيطرة الذعر عليها أشياءَ حقيقية تمامًا لها. ولم يكن يوجد ما يمكن لأحد فِعله سوى الاستماع إليها، والتعرُّف على ما تقول، والانتظار حتى ينتقل بها داء ألزهايمر إلى فترةٍ زمنية مختلفة. حينها فهمت المرأة لماذا لم تكن جَدتها تسمح لأحدٍ بأن يتقرَّب منها، ولماذا كانت منغلقةً على نفسها لهذه الدرجة.

كثيرًا ما فكَّرت في تلك القصة. وأنا ممتنة كثيرًا أنني سمِعتها في المراحل المبكِّرة من مرض والدي؛ لأنها كانت كمصباحٍ أحمله معي وأبدِّد به الظُّلمة. كانت هذه القصة تَذْكِرَتي بأن أظلَّ منفتحةً وألَّا أَعْلَق في شَرك أي قراراتٍ أو أحكامٍ اتخذتُها في الماضي.

بالطبع لم يكن ثمة شيء بهذه الدرامية في حياة والدي الماضية، لكنني عرفت، مع مرور السنوات وعودة ذاكرة أبي إلى الماضي، الصبي الذي قرَّر أنه سيحظى بحياةٍ أكثر ثباتًا وموثوقية من والده. الصبي الذي تخطَّت أحلامه المدنَ الصغيرة التي كانوا ينتقلون إليها في كل مرة يخسر فيها والده عملًا، وحياة الضَّنك التي كانوا يتساءلون فيها أيُّ الفواتير يمكن أن ينتظر وأيُّها يتعين دَفْعه، والقلق بشأنِ ما إن كان سيتبقَّى ما يكفي من طعامٍ لبقية الأسبوع. ترعرع أبي في جوٍّ من الضبابية والحَيرة — وذلك هو الحال حين تعيش مع شخصٍ مدمن للكحول — لكنه رفضَ أن يتقبَّل الغموض مصيرًا له. بطريقةٍ ما، كانت رؤيته دائمًا تتجاوز ظروفَه الحالية؛ كان دائمًا يهدف إلى ما هو أعلى وأسمى. والشعور الذي راودني وأنا أكبر، أن تطلُّعاته كانت تتجاوزني إلى شيءٍ أكبرَ وأكثر أهمية، كان صحيحًا. لم أفهم فقط مصدرَ ذلك حتى بدأ يرحل عنا.

•••

منذ مرحلة مبكِّرة من الإصابة بالمرض، ينحو مقدِّمو الرعاية إلى بَدْء تقييد حياتهم الخاصة؛ فيقضون على المرح والبهجة وفترات الراحة. يصفُ عددٌ لا نهائي من الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي كيف أصبحت حياتهم محدودةً، وحين أسألهم كيف حدث هذا يقولون شيئًا من قبيل: «والدي (أو والدتي، أو زوجي، أو شريك حياتي) لا يستطيع الخروجَ والاستمتاع …» الأمر المثير للاهتمام أنهم لا يكمِلون الجملةَ حتى آخرها أبدًا. وإن صُغتَ بقيةَ هذه الفكرة في كلمات، فستجد أن غياب المنطق فيها واضح.

ومن شأني أن أقول أنا أو الميسِّر المشارك معي: «إذن لا يمكنك الاستمتاع أو المرح لأنه لا يستطيع ذلك؟» أحيانًا أوضِّح أيضًا أنه صحيح أن الشخص العزيز لديك مصابٌ بمرض وهو مرض خطِر وعُضال، لكن أنت لم تكن مَن أصابه بالخرف. إذن كيف يمكن لعِقاب الذات أن يكون منطقيًّا؟ عادةً حين يسمع الناس هذا في شكل كلام، يفهمون المقصِد، على الأقل فكريًّا. لكن هذا لا يعني بالضرورة أن سلوكهم وكيفيةَ معاملتهم لأنفسهم سيتغيران من فورهما. فمفهوم التضحية من المفاهيم التي نتمسَّك بها بصورة لا واعية، واللاوعي يتسم بالتصلُّب والعناد. تكمُن المشكلة في أننا نخلِط بين رعايةِ أنفسنا وإهمال الشخص المريض. نحن لدينا مفهوم خاطئ مُفاده أننا إن خرجنا نستمتع بوقتنا، فإننا بذلك نتملَّص من مسئولياتنا باعتبارنا مقدِّمي رعاية، ونصبح غيرَ أوفياء وغير مكترثين بطريقةٍ ما.

من المفيد أن نوضِّح ما هو الإهمال. إذا فشلتَ في توفير الرعاية المناسبة لشخص عزيز لديك مصاب بالخرف، وإذا تركته وحيدًا ولم تتَّخذ خطواتٍ تقلِّل بها الخطرَ عليه، فإنك بذلك مهمل. لكن إذا كان الشخص العزيز لديك يحظى بإشراف مناسب، وإذا كانت الأشياء الخطِرة في أرجاء المنزل كالسكاكين والأدوات معزولةً بعيدًا عنه، وإذا كنتَ قد أخذتَ مفاتيح السيارة والسيارة نفسها أيضًا، إلى غير ذلك، فكيف يكون من المنطقي أن تضحِّي بالبهجة والمرح في حياتك؟

إن التشبيه الذي أحبُّ استخدامه هنا هو الآتي: حين تكون على متن طائرة، تجد بيانَ ما قبل الطيران يوعز بالآتي: «إذا نزلت أقنعةُ الأكسجين وأنت مسافر برفقة طفل أو شخص في حاجة لمساعدة، فضع قِناعك أنت أولًا.» لقد سمِعنا جميعًا هذا البيان مرارًا وتكرارًا، لكننا لا نحلِّل سببَ أهمية ذلك بالضبط. لن تتمكَّن من مساعدة شخص آخر إذا كنت تكافح لالتقاط أنفاسك. بالمثل، إذا كنت تختنق تحت وطأة التضحية بالذات والتضييق على نفسك، فلن تكون في أفضلِ حال كمقدِّم رعاية. قد تتبع كلَّ نصيحة، وتطبِّق كلَّ اقتراح هدفه كيفية التعامل مع المواقف التي تطرأ، لكن إن كانت روحك منهكة وصحتك متدهورة، فعلى الأرجح لن تُجديَ تلك النصيحة نفعًا. إن الطاقة التي تجلِبها إلى تقديم الرعاية — مثل أي شيء آخر في حياتك — تسهم بشكلٍ كبير في تحديد النتائج.

دائمًا ما كنتُ أندهش حين يأتي شخصٌ جديد إلى مجموعة الدعم ويبدأ في الحديث عن سببِ وجوده فيها. ويعطي وصفًا تفصيليًّا عن تشخيص مرض الشخص العزيز لديه وعن حالته، وغالبًا ما يقرأ من دفتر ملحوظاته عن العلاجات وتعليقات الأطباء. كنا نتركه حتى ينتهيَ ثم نسأله: «وكيف حالك أنت؟» في كل مرة تقريبًا، يصاب الشخص الحاضر بالذهول. فلم يسبِق أن سأله أحدٌ عن ذلك من قبل. دائمًا ما يسأله الناس عن حال الشخص العزيز لديه، لكنهم لا يسألونه أبدًا عن حاله هو. وغالبًا ما كان يتطلب الأمر منه فترةَ تأقلُم حتى يتقبَّل أنه مهمٌّ أيضًا، وأنه طرفٌ في المعادلة، وأن حياته كذلك تستحق الاهتمام والرعاية.

•••

من المهم للأسرة في المراحل الأولى من الخرف أن تتطرَّق إلى موضوعاتٍ قد لا تتمكن من مناقشتها لاحقًا، حين لا تعاود فترات الصفاء والوضوح أحباءهم. الآن هو الوقت المناسب للتحدث بشأن الأمور المادية والوصايا وأمنيات مرحلة الاحتضار.

الحديث عن الموت ليس سهلًا مطلقًا. لكننا جميعًا سنلاقيه، ومن المهم أن نعرف أمنيات الشخص العزيز لدينا. ربما يكون قد وثَّق بالفعلِ ما يريد قبل سنوات؛ إن كان الأمر كذلك، فأنت في حاجةٍ إلى التأكد من أنه ما زال يريد ما صرَّح به حينها. فإن اختار التوقيعَ على أمر «عدم الإنعاش»، فينبغي أن تعرف مكان هذا الأمر وتحرِص على أن يكون متاحًا. إذ إن وقع حدثٌ غير متوقَّع — سقوط أو نوبة قلبية أو سكتة دماغية — وأتى المسعفون، فلن يصدِّقوك إن قلتَ لهم إنه يوجد أمرٌ بعدم الإنعاش. إذا لم تُقَدم لهم نسخة منه، فسيستخدمون كلَّ طريقةٍ متاحة لإنقاذ حياة ذلك الشخص. اعتاد أحد الميسِّرين المشاركين في مجموعة الدعم الخاصة بي أن يقترح أن يُثَبَّت أمرُ عدم الإنعاش على المُبَرِّد. قد يكون هذا في غاية الإزعاج لبعض الناس، لكن بوسعك أن تفهم المقصِد من ذلك.

مَن الذي سيحظى بالولاية الطبية؟ قد تكون هذه نقطةً شائكة. في بعض الأحيان لا يكون الزوج هو أفضل شخص يضطلع بهذه المسئولية، حتى وإن بدا أن ذلك هو الخيار المنطقي. على سبيل المثال، إن كانت والدتك لا ترغب في إنعاشها، وتريد أن تموت في ظروف واضحة بموجب أمر عدم الإنعاش، فقد لا يستوعب والدك هذه الفكرةَ بالكامل؛ ومن ثَم فهو ليس الشخص الأفضل لتنفيذ رغباتها. هذا قرار مهم، ويلزم اتخاذه في وقتٍ يتمتَّع فيه الشخص المصاب بالخرف بالصفاء ووضوح الرؤية لاتخاذه. وقد يسبِّب هذا القرار التوتُّر والانقسام بين الإخوة؛ لماذا يحصُل هو أو هي على ذلك الدور ولا أحصُل عليه أنا؟ من الجيد للجميع الإقرارُ بأن القرارات المتعلِّقة بالموت هي قرارات شخصية وحميمة، ولكل فرد الحق في اتخاذ قرار يشعر بأنه الصواب. ليس للغيرة والأحقاد مكان هنا.

في الوقت الراهن، لدى ثماني ولايات أمريكية قانونُ «الوفاة بكرامة» الذي يسمح باستخدام القتل الرحيم حين يكون المرء مريضًا بمرض عُضال ولا يريد المزيد من المعاناة.1 لكن يوجد استثناء لمن يمكنه التماسُ هذا: وهم الأشخاص المصابون بالخرف. أيُّ أحد يرغب في التماس هذا القانون، لا بد أن يصوغ قراره ويوثِّقه قبل التشخيص بالخرف. لكن يوجد الآن ثلاثة توجيهات مسبقة لداء ألزهايمر في الولايات المتحدة، تحدِّد بعضَ الشواغل الخاصة بأولئك المصابين بالمرض، كالإطعام والرعاية التخفيفية في المراحل المتأخرة.2 هكذا يجري إحداث شيء من التقدُّم ليكون لمرضى الخرف دورٌ في تحديد مقدارِ ما يرغبون فيه من التدابير المطيلة للحياة.
ظهرت مؤخرًا تقارير إخبارية عن أشخاصٍ في منشآت الرعاية العلاجية طلبوا وَقْف الطعام والماء وبعض الرعاية التخفيفية، حين يصلون إلى المراحل المتأخرة من الإصابة بالخرف، وقد رفضت المنشآت هذا. فقد أوردت قصةٌ نُشِرَت في صحيفة «واشنطن بوست» تفاصيلَ عن نزاع سيدةٍ مع منشأة الرعاية العلاجية التي كانت تُطلق عليها بيتها.3 ذكرت المنشأة سياستها حول الاستمرار في تقديم الطعام، خاصةً الماء، حتى لحظة الوفاة، واقتُبِس عن أحد المديرين فيها قوله إنه شعر أنه أدرى من أي شخص آخر عما إن كان شخصٌ ما يرغب حقًّا في الحصول على الطعام والماء، بغض النظر عما حدَّده هذا الشخص في توجيه مكتوب. وقد حدث هذا في منشآتٍ أخرى أيضًا. وفي مواجهة هذا الرفض، أخرج بعضُ أفراد أسرِ المرضى ذويهم من تلك المنشآت، وأخذوهم إلى المنزل احترامًا للرغبات التي عبَّر عنها أولئك المرضى.

إذا كان الشخص العزيز لديك في منشأة رعاية، فاعرف مسبقًا قواعدها وإجراءاتها، وَضَعْ خططك وفقًا لها.

من الصعب التطرُّق إلى محادثاتِ مرحلةِ الاحتضار، لكنها ضرورية. رفضت والدة إحدى السيدات اللائي أعرفهن فِعل أيِّ شيء في هذا الصدد، وحين تدهورت صحَّتها إلى المرحلة التي كان يتعيَّن فيها اتخاذُ قرارات حياة أو موت، واجهت ابنتها مهمةً صعبةً للغاية وهي محاولة استشعارِ ما كانت أمُّها سترغب فيه. لقد أدى عدم الاستعداد إلى جعلِ موقفٍ مؤلمٍ أكثرَ إيلامًا.

يرتبط قَدْر من خوفنا من طرح موضوع الموت ورغبات مرحلة الاحتضار، بالمشاعر التي نخفيها بداخلنا. فقد لا يكون التحدث عن الموت في واقع الأمر شاقًّا على الإطلاق على شخصٍ تلقى لتوِّه تشخيصًا نهائيًّا بإصابته بالخرف. على العكس، قد يتردَّد أفراد أسرته أو شريك حياته في التحدث بهذا الشأن. والسبب في ذلك هو مخاوفهم. أقولها ثانية، يُقَدِّم الخرف لمقدِّمي الرعاية فرصةً لكشف النقاب عن المشاعر التي ظلُّوا يتجنَّبونها سنواتٍ.

احتل الخوف من الموت حيزًا كبيرًا في حياتي. بدأ الأمر حين كنتُ طفلة: أتذكَّر بوضوح أني كنت أرقد في الفراش في عمر السادسة أو السابعة، وأتحدَّث إلى الرب بشأن خوفي من الموت. كان تركيزي منصبًّا على هذا الأمر؛ لأنني كنت أعي بشكل مؤلم مدى الانزعاج الذي بدا على أمي من وجودي؛ لذا قرَّرت أنه لا بد أن الربَّ أرسلني إلى هذا العالَم خطأً. وظننت أنه لا شكَّ في أنه سيعي خطأه وسيتعيَّن عليه حينها أن يستعيدني. وحاولت مواساةَ نفسي بالقصص التي أخبرني بها أبي عن الفردوس ومدى جماله، لكن ظلَّ الخوف قابعًا بداخلي في رسوخ وبرود. ومع تقدُّمي في العمر، واريت ذلك الخوف عميقًا حتى لا يتعيَّن عليَّ التفكير بشأنه.

وقد التقيت بشخصين لا يخشيان الموت. مرَّ كلاهما بحادثٍ رأيا الموت فيه بأم أعينهما، ثم عادا للحياة ثانيةً. إحداهما كانت مقدِّمة رعاية أتت إلى مجموعة الدعم؛ وما أظهرته من هدوءٍ وتقبُّل حين طُرح موضوع الموت استشرى في الآخرين. شاهدتُ حرفيًّا تعبيراتِ وجوه الناس تتغيَّر فتصبح أكثرَ هدوءًا واسترخاءً. أخبرتني المرأة الأخرى، التي كنت قد التقيت بها قبل سنوات كثيرة من ذلك، بشيءٍ ظلَّ يلازمني. قالت إنها في البداية حين «عادت من الموت» لم ترغب في أن تكون هنا. فما رأته كان غايةً في الجمال، حتى صار هذا العالَم لا يحظى منها إلا بقليل من الاهتمام. وأخيرًا واجهها صديقٌ لها قائلًا: «لقد عُدتِ هنا لتكوني حاضرةً في هذا العالم، وليس لتنتظري مرورَ الوقت وحسب إلى أن تموتي … ثانيةً. لقد عُدتِ لكي يكون لكِ دور. فلتبدئي إذن في أداء دوركِ.» غيَّرت تلك الكلمات حياتها. وحين سمعتُ بذلك، فكَّرتُ في أنه ربما تكون بعض مخاوفنا حول الموت هي مخاوف بشأن الحياة. الخوف من أننا لم نفعل ما يكفي، ولم نحبَّ بما يكفي، ولم نُعطِ بما يكفي، الخوف من أن الأخطاء التي ارتكبناها قد لا تُغفَر أبدًا. أظن أنه إن كنا سنفكر بوضوح في خوفنا من الموت، فعلينا أيضًا أن نفكر بوضوح في نظرتنا إلى الحياة التي عشناها.

•••

أحد العوامل التي تزيد التعقيد في المراحل الأولى من داء ألزهايمر؛ هو أن المصابين به لا يزالون يتمتَّعون بما يكفي من قدرات معرفية؛ ليرغبوا في الأشياء التي كانت من الثوابت في حياتهم. فهم يفترضون أن بإمكانهم فِعل ما فعلوه من قبل. كالسفر مثلًا. سيكون هذا الأمر من الأمور الشائكة.

فإن كان لديك أقاربُ يعيشون بعيدًا ويرغب الشخص العزيز لديك في زيارتهم، أو إن كان ثمة مكان لطالما أراد الذهاب إليه؛ يلزم أن تفعل ذلك قبل أن يتفاقم المرض. فالسفر محفوفٌ بالمخاطر في حالة المصابين بالخرف؛ لذا يكون تقديرُ ما إن كان الشخص لا يزال قادرًا على التعامل مع السفر في هذه المرحلة؛ وفقًا للحالة. أؤكِّد لك أنه لن يتمكَّن من فعلِ ذلك لاحقًا. فالزحام في المطارات وتقلُّبات السفر بالطائرة، وكل الأشياء التي يمكن أن تسوء من مسبِّبات الارتباك ويمكن أن تؤدي بسهولة إلى نوبات هلع. وإن تمكَّنت من توصيل الشخص المريض إلى وجهته من دون حوادث، فإن وجوده في بيئةٍ غير مألوفة له — وقد تكون في منطقة توقيت مختلفة — سيكون في حد ذاته مشكلة. ففي وجود داء ألزهايمر، يصبح العالَم أصغر؛ على الأقل العالَم الذي يشعر ذلك الشخص بالراحة في سكناه. لذا يُصبح تغييرُ البيئة مخيفًا. وربما يكون بوسع الأشخاص السفر والحفاظ على سيرِ الأمور بسلاسة في المراحل المبكرة جدًّا من المرض، لكن هذا أمرٌ ينبغي الحذر بشأنه.

لم يصعد أبي على متن طائرة مطلقًا منذ تشخيص حالته، لكنه ووالدتي كانا لا ينفكان يذهبان إلى المرعى الذي كان يحبه في ريفوجيو كانيون، شمال مدينة سانتا باربرا. يبعُد ذلك المرعى مسافة ساعتين بالسيارة، وبمجرد أن تصل إلى الوادي، تجِد الطريق المؤدي إليه مملوءًا بالمنعطفات وشديد الانحدار. وهو طريق ضيِّق — بالكاد حارتان مروريتان — ومخيف بالنسبة لأي شخص. ولا يسعني أن أتخيل كيف يبدو هذا الطريق لشخص مصاب بداء ألزهايمر. لكن لفترة من الوقت كانت زياراته إلى المكان تسير على ما يرام. ثم أتى يومٌ انطلقا فيه على الطريق الساحلي، متجهَين شمالًا، وبدأ أبي يصاب بالهلع. كان عميلان من الخدمة السرية جالسَين في مقدمة السيارة، وكان أبي وأمي في مؤخرتها. وطبقًا لرواية أمي، كان أبي مشوشًا، فلم يستطِع أن يكتشف أين كانوا ولا إلى أين يتَّجهون، ولم يهدِّئه أي شيء قيل له. وهاتفتني أمي من المرعى لاحقًا وأخبرتني أن اضطرابه استمرَّ حتى بعد أن وصلوا إلى هناك. وقد فطر ذلك قلبي. هذا الرجل الذي أحبَّ المساحات المفتوحة الشاسعة، الذي كان يعشق امتطاء جواده إلى قممِ التلال والتطلُّع من أعلى إلى المحيط الهادي والمساحات الخضراء من الأرض بين التلال والمحيط، كان الآن يتوق إلى العودة لأكثر جزء يألفه في المنزل. شعر بالخوف من تلك المساحة المفتوحة الشاسعة، وكأنه لم يرَها من قبل، وكأنه لم يحبَّها قط ولم يكن يحتاج إليها قط لتغذِّي روحه. ولم يعاود الذهاب إلى المرعى بعد ذلك أبدًا.

كانت تلك سنوات لم يكن الناس يتحدثون فيها بانفتاح عن داء ألزهايمر؛ وقد سجَّلت ذلك في ذهني كدرسٍ تعلَّمته، وافترضت أن أبي لم يكن هو المصاب الوحيد بالمرض الذي يُصبح عالَمه أصغرَ بصورة مطردة. الآن بالطبع أعرف أن هذا صحيح. فانتبِه إلى تطوُّر الحالة هذا واحذرْ منه؛ لأنه سيحدُث لا محالة. إنه أحد الأعراض القليلة القابلة للتنبؤ بها في داء ألزهايمر.

في السنوات اللاحقة، حين صار أبي ذاهلًا، كنتُ أحيانًا أنظر في عينيه وآمُل أن يكون المكان الذي ذهب إليه وعيه مكانًا يشبه ما أَحَبَّه دومًا؛ مكانًا أخضرَ شاسعًا تهُبُّ فيه الرياح في سفوح التلال وهو على صهوة جوادٍ قوي حوافره حادة وراسخة على الأرض، ومستعد لأن يذهبَ به حيثما أراد. كان ثمَّة سلام في محيَّاه في تلك المراحل المتأخرة، وكأنما صار على تواصلٍ مع شيء لا يمكن لأيٍّ منا رؤيته.

«إن مَن نعيش معهم ونحبُّهم وينبغي علينا معرفتهم هم مَن يستعصي علينا فَهْمهم.»

نورمان ماكلين، «نهرٌ يجري خلاله»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤