الفصل الخامس

فجوةٌ زمنية

تتطوَّر عوالم الأشخاص في منازلهم. فحتى بعد أن نكون قد انتقلنا من منزل الأسرة وأسَّسنا حياتنا المستقِلة، تلازمنا الحياة التي عشناها بين تلك الجدران وتعيش بداخلنا وتتشبَّث بنا حتى حين لا ندرك ذلك.

رجل ترعرع وشبحُ أخيه الأكبر يُخيِّم عليه، ودائمًا ما كان يشعر أمامه بالتقزُّم والضآلة. كان أبوه يكيل المديح لأخيه لكنه أمسك عنه عاطفته. أخذ يكافح هذا الرجل بحثًا عن الثقة بالنفس وهو بالغ. ثم يعرف أن والده مصاب بداء ألزهايمر. ولا يعرف الآن كيف يتواصل مع والده في مواجهةِ مرض قاتل سيسرق كلَّ شيء في نهاية المطاف. كان الأب رمزًا شامخًا جعل ابنه يشعر بالضآلة؛ والآن يشاهد ذلك الابن عاجزًا والده وهو يتضاءل. أين موضعه الآن بصفته ابنه؟ ما هو مكانه في هذا الواقع الجديد؟ هل سيتمكَّن من أن يشغل مكانه إلى جوار أخيه، أم سيظلُّ مهمَلًا؛ الصبي الذي شعر دومًا أنه أقل أهميةً وتقديرًا؟

امرأة كان والدها يعاقر الشراب طوال فترة طفولتها، ما حوَّل منزل أسرتها إلى مسرح للغضب العارم والكوابيس. بعد عقود، يجري تشخيص حالته بالخرف. وكانت ابنته قد تجنَّبته وهي بالغة؛ إذ تمسَّكت بالحَنَق من الذكريات التي لا تزال تستعر بداخلها. أيفترض بها أن تسامحه الآن؟ وأن ترعاه؟ هي لا تعرف. تشعر وكأنها عادت الطفلة ذات السنوات العشر، المختبئة في خزانة الملابس في حجرتها، تنتظر حتى يتوقف الصراخ.

امرأة كانت أمها دومًا هي أعز أصدقائها، فكانت ترشدها خلال الأوقات العصيبة وتحتفي بنجاحاتها ومسرَّاتها، والآن ترى أمَّها لا تستطيع تذكُّر ما حدث بالأمس. آمَن جزءٌ منها بأن أمها ستكون موجودةً على الدوام. شعورها بالوحدة هائل ومريع. أنَّى لها أن تبحر في بحر حياتها من دون أمها؟

كل هذه المواقف مختلفة، لكن يجمعها قاسمٌ مشترك وهو رؤية أحد الوالدين يَنْسَلُّ بعيدًا والعلَق في فجوة زمنية. إذ فجأة، يعود الأبناء والبنات البالغون إلى مرحلة الطفولة، إلى العلاقة التي شكَّلت أولى سنوات حياتهم. إنهم يواجهون تحدياتٍ من ذلك النوع الذي يواجهه البالغون — مرض الوالد، وفي هذه الحالة تقلُّبات مرض الخرف — لكن على الصعيد العاطفي تقول نفسهم بنت الثانية عشرة: «وماذا عني؟»

يسبِّب هذا صدمة للكثيرين ممن ظنوا أنهم نجحوا في تخطِّي مشاكل الأبوَّة، إما عن طريق العلاج النفسي أو العمل الذاتي الدءوب. لكن لداء ألزهايمر طريقة في اجتثاث جذورِ ما ظلَّ كامنًا سنوات. ظننتَ أنك سامحتَ والدك لأنه أقصاك حين صارحته وأخبرته أن ميولك الجنسية مِثْلية؟ المفاجأة أن شيئًا من الحنق القديم ما زال كامنًا لديك. والآن تواجه احتمال أن تضطر إلى رعاية ذلك الوالد بطرائقَ لم يفعلها من أجلك.

الابنة التي كانت والدتها موجودةً لأجلها حين وضعت وليدها، وساعدتها في اجتياز تحديات الأمومة الجديدة الصعبة، والتي كانت جَدة فاعلة ومؤثِّرة، هذه الابنة واثقة كل الثقة أنها قد كبرت وتخطَّت تبعيتها لوالدتها واعتمادها عليها. هي تقدِّر كلَّ ما تفعله والدتها وتقدِّر كذلك علاقتهما المقرَّبة، لكنها تشعر بالأمان والثقة في البلوغ. لم تَعُد تشعر بأن شخصيتها تتماهى مع شخصية الفتاة المُعوزة التي كانت عليها من ذي قبل؛ إلى أن يأتيَ الوقت الذي لا تستطيع فيه والدتها تذكُّر كيفية وضع الملابس في الغسَّالة. حينها تعود تلك الفتاة البالغة إلى مرحلة الطفولة مرة أخرى، فتكون في حاجة لأن تبكي بين ذراعَي والدتها، غير أن والدتها الآن هي التي في حاجةٍ للطمأنة. يكاد تبادل الأدوار يفوق الاحتمال.

من الصعب أن ننجرفَ عائدين في الزمن؛ فغريزتنا تريد منا أن نمضيَ قُدُمًا، معتقدين أن الطفولة والمراهقة مجرَّد صور ننظر إليها في مرآة الرؤية الخلفية. لكن عالم الخرف يعجُّ بالمرايا. إذن … ما العمل؟ إن الخيارات المتاحة واضحة إلى حدٍّ كبير. يمكنك أن تنظر للأمر باعتباره عقابًا أو فرصة. الطفل أو المراهق الذي هرب من مخبئه ويتطفَّل عليك الآن ويزعجك إنما يفعل ذلك لأن هذه الصورة المجسَّدة منك لا يزال لديها شيء تخبرك به. ولن يهدأ هذا الطفل أو المراهق إلا حين تنصت له.

إننا نَدين لأنفسنا بأن نسبرَ أغوار الماضي الذي يتلبَّث فينا؛ ليس بدافع الشفقة على الذات ولا لنصادق على الطرائق التي كنا فيها ضحايا، ولكن لنرى بوضوحٍ أكبرَ أن أجزاءً من الماضي تنغِّص علينا حاضرنا. إن ذاتنا البالغة اثني عشر عامًا لن تكون قادرة على رعاية والدٍ يعاني داءَ ألزهايمر رعايةً كافية. وبغض النظر عن مدى جدِّنا في اتباعنا للنصح وطرق الرعاية العملية، إذا كانت هويتنا الشعورية والانفعالية متجذِّرة في أطرٍ من طفولتنا، فإن الأمر لن ينجح. أحدُ الدروس التي يعلِّمنا إياها داء ألزهايمر هي أن الوقت قد حان لننضج.

•••

لقد سمعتُ عددًا من الناس يقول، عادةً عن أحد الوالدين ممن كانت علاقتهم معه صعبة: «لديَّ بعض الأمور التي أرغب في أن أخبره بها قبل أن تتدهور حالته بحيث لا يستطيع أن يفهم» أو شيء من هذا القبيل. وفي الغالب حين يطرح الناس هذا الأمر، فإنهم يتوسَّعون في التحدث عما يرغبون في مواجهة والدهم به. لكنهم حقًّا ليسوا في حاجة للإسهاب بشأن ذلك؛ فنبرة صوتهم تفصح عن كل شيء. أتفهَّم الرغبةَ في التصريح بالطرق التي آذاك بها أحدُ والديك؛ تشعر وكأنك تناصر نفسك وتدافع عنها، وتضع الأمورَ في نصابها الصحيح. وأُدرِك أن ثمة رغبةً دفينة في أن هذا الوالد قد يعتذر أو يكفِّر عما بدر منه. فقد مررت بهذا أيضًا. لكن الحقيقة هي أنه لو لم يكن قد اعتذر بالفعل بحلول هذه المرحلة، فعلى الأرجح لن يفعلَ ذلك الآن. وقد تظن أنك لم تخبره من قبل مطلقًا بشأن مظالمك، وأنه من المهم أن يعرف بها. لكن معظمنا أوضح تمامًا لوالدينا بطريقةٍ أو بأخرى ما يسبِّب استياءنا منهم. وعند مرحلة معيَّنة من حياتنا، لا تكون تفاصيلُ ما حدث في الماضي ذات أهمية. ما يهم هو أننا لا نزال محاصرين بمظالمنا.

لن تتعلم أبدًا الدروس التي يمكن لداء ألزهايمر أن يعلِّمكَ إياها إن كنتَ لا تزال حبيس ماضيك. فقد سمعتُ قصصًا مريعة عن طريقة معاملة أحد الوالدين لابن أو بنت له؛ حكايات عن عنف جسدي أو عاطفي، وقسوة وإبعاد متعمَّدين بسبب الميول الجنسية، بل إن الأمر وصل إلى التهديد بالسلاح. ثم تُشَخَّص حالة هذا الوالد بأنه مصاب بالخرف. ثمة فرصة هنا للابتعاد عن الماضي وإيصاد بابه خلفك. إنك لن تنسى ما حدث، لكن لا يتعيَّن عليك أن تتخذَ منه مستقرًّا لك. وفيما يستولي الخرف على والدك، قد تعرف الكثير عن كيف آل الأمر بوالدك أن صار ذلك الشخص، وذلك هو المدخل إلى الغفران.

•••

حين عرفت بأمر تشخيص والدي، كان من أول الأفكار التي راودتني أن عليَّ أن أتعامل مع هذا بشكل صحيح. لقد تعاملت مع الكثير من الأشياء في حياتي بصورة خاطئة — خاصة مع أسرتي — لكن عليَّ أن أتعامل مع هذا الأمر بطريقة صحيحة.

هذه ليست الفكرة الأسوأ، لكني كنت أعرف أنني مثقلة بحملِ ماضيَّ؛ خاصة حين تعلَّق الأمر بوالديَّ. شعرت أن كثيرًا مما سار على نحو خاطئ في أسرتي كان على الأرجح خطئي أنا، مع أن معظم الذنب كان، صدقًا، يقع على كاهل أشخاص آخرين. كنت في الأربعينيات من عمري، لكنَّ جزءًا مني كان لا يزال تلك المراهقة العبوس الشديدة الحساسية التي أُرسِلَت إلى مدرسةٍ داخليةٍ ولم يكن لها أصدقاءُ كُثُر. الفتاة التي بدا أنها تتخبط في الحياة. كنتُ أعرف أن ليس بمقدوري أن أخبر تلك الفتاة ببساطة أن تصمت وتغرُب عن وجهي؛ كان عليَّ أن أتعامل معها. كان عليَّ أن أدرك لماذا شعرَت تلك الفتاة بما شعرَتْ به، لكن من منظور شخص بالغ تعلَّم بعض الأمور عبر دربه وقادر، في واقع الحال، على أن يكون ناضجًا.

إننا جميعًا نتخذ قراراتٍ بشأن أنفسنا، ويبدأ هذا من الطفولة. نرى أنفسنا بصورة معيَّنة في المرآة، وغالبًا لا يتغيَّر هذا الانعكاس فيما نَكْبَر. يتطلَّب الأمر عزيمة أن ننظر إلى الماضي، ونتفهَّم القرارات التي اتخذناها، ونعمل على تغييرها. في عام ١٩٩٤، حين دخل ذلك الداء الغريب حياةَ أسرتي، عرفتُ أن ذلك هو بالضبط العمل الذي أنا بحاجة للقيام به.

فكَّرت في كيف أن بيتنا كان مختلفًا عن تلك البيوت التي دخلتها حين كنت ألعب مع صديقاتي؛ البيوت التي كان فيها الأطفال مركزَ كل شيء، وكانت بقية الحياة تتمحور حولهم بشكلٍ ما. كان لبيتنا توازن من نوع مختلف. كنتُ أعرف أن والديَّ كانا يحبانني أنا وأخي، لكننا دائمًا ما كنا معلَّقين على الحدود الخارجية لدائرة حياتهما البراقة. لم يكن بمقدورنا قط اختراقُ تلك الدائرة، وكنا نعرف ذلك بحَدْس الأطفال الثاقب. فكَّرت في المراهِقة المصابة بقِصَر النظر التي انطوت على نفسها؛ لأنها لم تكن تظنُّ أنها جميلةٌ أو مرحةٌ بما يكفي لتكون مشمولةً في أيٍّ من الجماعات التي دائمًا ما تتشكَّل في المدارس، المراهقة التي تمارس رياضة الجري وتدفن وجهها في الكتب. كنت على ما يرام في عزلتي. وفكَّرت في الفتاة بنت التاسعة عشرة التي كانت بعيدةً في كليتها، التي جلست في مرحاض مظلم في سكون الليل، وضوء عمود إنارة من الشارع يضيء زاوية من النافذة. أمسكتُ بشفرةٍ حادةٍ على العروق الرقيقة في رُسغي، وفكَّرت كم ستصبح الأمور أسهلَ لو أنني فقط ضغطتُ بقوةٍ أكبر. كانت الأمفيتامينات قد دمَّرتني بعد أن أدمنتها في محاولةٍ مني لأن أكون نحيلةً ومقبولة. لكن بغضِّ النظر عن مدى النحافة التي وصلتُ إليها أو مدى جِدية محاولاتي، كنت أشعر بأني خفيَّة. كان ما أنقذني من أن أنهي حياتي في تلك الليلة الشتوية هو صدى صوت والدي. كان يخبرني بأن الربَّ وضع كل شخص هنا لسبب، وأن الرب لا يخطئ أبدًا، وأنه يحب كل أبنائه. وضعتُ الشفرةَ الحادةَ من يدي لأني لم أُرِد أن يخيب أمل الرب فيَّ.

في عام ١٩٩٤ أدركت أنني كنت قد كدَّست ملاحظات تقول إنني لست جيدةً بما يكفي ولا قيمة لي، وأنا دائمًا مَن يقع في المشكلات وأتعامل مع الأمور بطريقةٍ خاطئةٍ، ولا أنسجم مع ما حولي، وقد حملت تلك الكومة على عاتقي في الأرجاء طيلة عقود. ولم أكن «سأتعامل بطريقةٍ صحيحة» في تعاطيَّ مع إصابة والدي بداء ألزهايمر، لو كنت لا أزال أحمل تلك الكومة من الانهزام وعدم الثقة بالنفس. لسوء الحظ، ليس ذلك شيئًا يمكنك أن تسقطه عن كاهلك وتبتعد عنه؛ إذ ألصقتُ حقيبة الظهر المجازية تلك نفسها في خلايا دماغي. كنت أعرف أنني حرفيًّا كنت في حاجة لإعادة برمجة عقلي.

بدأت أحاول الانتباهَ لنفسي في كل مرة كانت فكرة سلبية تنم عن معاقبة الذات تراودني، مثل «سأخفق في هذا الأمر» أو «لن أكون ناجحة أبدًا في هذا» أو «أنا حمقاء تمامًا». في ذلك الوقت كان لديَّ صديق اعتاد أن يقول: «لا يتمتع اللاوعي بحسٍّ فكاهي؛ لذا احذري بشأنِ ما تبعثي له من رسائل.» وأدركت أنني حتى ولو كنت بقدرٍ كبيرٍ أقصد المزاح حين أدعو نفسي حمقاء، فإن عقلي اللاواعي كان يحفظ ذلك في ذاكرته، وليس باعتبار الأمر مزحة. فقررت اتباعَ الطريقة التالية: كلما أقحمَ النمطُ القديم نفسه عَنوة، كنت أقول له: «شكرًا على المشاركة. لكني لست بحاجة لك الآن. فأنا ماضية في وجهة مختلفة.»

إن القرارات التي نتخذها بشأن أنفسنا تعود إلى الوراء حتى مرحلة الطفولة؛ وقد وطَّدنا تلك القرارات في أساسات الشخصية التي نظن أنها شخصيتنا. وتغيير ذلك يتطلب الالتزام والصبر. كما يتطلب أيضًا أن نغفرَ لأنفسنا حين ننزلق ونعود إلى الشخصية التي اعتدنا أن نكون عليها؛ الشخصية التي ستظلُّ دومًا مألوفة لنا لكنها ليست بالضرورة الشخصيةَ التي نحن قادرون على أن نكون عليها.

في مجموعة «مدمني الكحول المجهولين» يقولون: «أخذُ مبادرةٍ يمكن أن يكون طريقةً أكثر فاعلية لتغيير طريقة تفكيرك من محاولة تغيير طريقة تفكيرك من أجل أخذ مبادرة.» إنها نصيحةٌ قيِّمة؛ تظاهرْ بأنك قوي ومتمكِّن وهادئ وستجاريك انفعالاتك في ذلك. فإن كنت لا تظن أنك هادئ أو قوي بما يكفي لتتدبَّر أمر التحوُّلات غير المتوقَّعة التي تصيب الشخص العزيز عليك المصاب بداء ألزهايمر، فقط تصرَّف وكأنك هادئ وقوي بما يكفي. افعل ذلك كثيرًا، وستصبح كذلك.

حين شعرت أنني بدأت أنزلق عائدةً إلى الشخصية التي اعتدت أن أكون عليها، حملت نفسي على التفكير في أناسٍ كنت أعجب بثقتهم في أنفسهم، ممن كانوا راسخين وهادئين بغض النظر عما تلقيه الحياة في دَرْبهم (أو على الأقل هكذا بدوا لي). فكَّرت في وضعية أجسادهم ونبرات أصواتهم ولغة أجسادهم حين يتحدثون، وحاولت العملَ على التكيف مع هذه الصفات. كمثال على ذلك، حين أُصاب بالخوف وانعدام الثقة، ترتفع كتفاي نحو أذنيَّ ويتقوَّس عمودي الفقري. وإذا ما شعرت بهذا يحدث لي، فإنني أفكِّر في المغنية بيونسيه؛ فمن المستحيل تقريبًا تخيُّلها تنكمش في جِلستها.

حين عُدت بالطائرة من نيويورك إلى لوس أنجلوس لزيارة أبي، كان باستطاعتي على نحوٍ أسهلَ إتقان التحوُّل في الشخصية الذي كنت أهدف إليه حين كنت وحدي معه. فبالجلوس إلى جواره فيما تنسدل خيوط المساء في السماء، أو بالسير معه في فترة بعد الظهيرة، كان باستطاعتي إتقان إحساسٍ بالثقةِ من شأنه أن يجعلني أكثرَ رسوخًا وانتباهًا لما يحدث له. كنت أُومِن أنه بغض النظر عما كان يخبئه داء ألزهايمر، فإن بإمكاني أن أضعَ ثقتي في غرائزي، وأن أتعامل مع داء ألزهايمر بطريقةٍ كنت آمُل أن تكون مريحةً لأبي ومفيدةً لي. وإن شعرت بأن ثقتي تضعُف، كنت أفكِّر في منهج مجموعة «مدمني الكحول المجهولين» وأتخيَّل شخصًا يتعاطى مع الموقف في هدوء ونفاذ بصيرة. كنت عندئذٍ أجعل ظهري مستقيمًا، وأُنزِل كتفيَّ بعيدًا عن أذنيَّ معتقدةً أنه في النهاية ستعتاد عضلاتي الانفعالية ذلك، وستقول: «مهلًا، هذا شعور جيد إلى حدٍّ كبير.»

كان التحدي الحقيقي يأتي حين أكون مع والدتي. فقَدْرٌ كبيرٌ من انعدام الأمنِ والثقةِ كان يرتبط بعلاقتي بها. كان إخراس أحكامي الذاتية صعبًا أمام نظرتها الحازمة. كنت أعرف أني أملك الأدوات، لكنني لم أرقَ دائمًا إلى مستوى استخدامها. وكانت أمي تعرف جيدًا مواطن ضَعفي، وكانت بارعة جدًّا في الضغط عليها. ففي نهاية المطاف، كانت العلاقة بيننا تمتد عمرًا كاملًا. وكان عليَّ أن أذكِّر نفسي بأن أنظر إليها باعتبارها المرأةَ التي كانت حياتها تتمحور بالكامل حول زوجها، الذي هو على وَشْك أن تفقده الآن بطرقٍ قاسية وغير متوقَّعة. وكان دوري — من وجهة نظري — أن أحاول أن أكون أمًّا لها في هذا الفصل المؤلم للغاية من حياتها، الأمر الذي كان صعبًا لأنها لم تُظهِر مطلقًا الكثير من الاهتمام بأمومتها لي.

باستطاعتي تذكُّر الكثير من المناسبات التي أخفقتُ فيها في تحقيق هدفي، لكن كان ثمة أوقات أيضًا تدبَّرت فيها الأمور على النحو الصحيح. ذات يوم كانت أمي منزعجةً على نحوٍ استثنائيٍّ وأخبرتني أن ورم خلايا قاعدية صغيرًا سيُزال من وجه أبي. وقالت إنها تخشى من أنه لن يفهم ما يحدث وسيُصاب بالذعر. وكانت قد حاولت أن تخبره، لكنه اضطرب وانزعج. وبصبرٍ غير معتاد من جانبي ذكَّرتها أن هذا الورم محتمل التسرطن وأنه سيتطلب سنين كثيرة ليسوء ويُصبح شيئًا خطِرًا. وفيما أومأت لي، أشرت إليها في تردُّد أن أبي في ذلك الوقت كان في السادسة والثمانين من عمره، وأنه مصاب بمرض عُضال، وأنه لم يبقَ له ذلك القَدْر من السنوات ليعيشَه، فلماذا إذن نُخضِعه لعملية جراحية غير ضرورية من شأنها أن تثير خوفَه واضطرابه؟ كان بإمكان أمي بسهولة أن تندفع في الهجوم عليَّ، لكن العجيب في الأمر أنها لم تفعل. ووافقت في نهاية المطاف على أن ذلك الإجراء لم يكن ضروريًّا، بل إنها، ولأول مرة، شكرتني على نصيحتي. كنت أتظاهر بأني هادئةٌ وصبورةٌ في حين أنني كنت في داخلي مذعورةً من أن تنفجر أمي غاضبةً. وأنهيت ذلك الموقف وأنا أظن أن بإمكاني حقًّا تحقيق أمر النضج هذا.

•••

بعد عامَين تقريبًا من ظهور تشخيص والدي بداء ألزهايمر إلى العلن، انتقلتُ من لوس أنجلوس عائدةً إلى نيويورك. لم يكن باستطاعتي تحمُّل الأعباء المادية للطيران جَيئة وذهابًا عبر البلاد، وكنتُ أريد قضاء وقت مع والدي؛ لذا غادرت المدينة التي كانت موطني لما يزيد بقليل على أربع سنوات. طِرتُ مباشرةً إلى ماضيَّ العاصف والمضطرب. كنت أنا ووالدتي قد سقطنا في هوَّة توتُّر أخرى، الأمر الذي كان يعني أنني لن أكون مرتاحة جدًّا في زيارة أبي في منزل والديَّ. لكنه كان لا يزال يذهب إلى مكتبه في سينتشري سيتي خلال الأسبوع. فكنت أذهب إلى مكتبه لزيارته هناك. وكان أخي مايكل يفعل ذلك أيضًا. كانت فرصةً لأحظى ببعض الخصوصية مع أبي، لأستمع إليه وأعرف أفضلَ الطرق للتواصل فيما تزداد أفكاره ولغته تضعضعًا.

وعند مرحلةٍ ما، بدأ شيء غريب يحدث. عندما كنت أصل إلى المبنى الذي كنت أسجِّل فيه دخولي في الطابق السفلي مع الأمن، وكان موظف الأمن يتصل بالمكتب، كان يُقال له إما إن والدي لم يكن موجودًا أو إنه كان مشغولًا كثيرًا ولا يستطيع استقبالي. وكونه غيرَ موجود هو زعمٌ سخيف — فسيارة الخدمة السرية كانت مركونةً بالخارج. وكنت أعرف يقينًا أن والدي حتى ولو كان لديه زائر — حيث كان موظفو المكتب يضعون جدولًا لبعض المواعيد بالفعل — فإن تلك الزيارة لن تطول. ففي ذلك الوقت كان الموظفون يجعلون تلك الزيارات قصيرةً للغاية. ولاقى مايكل الأمر نفسه. وعلى الفور عرف كلانا ما كان يجري. كانت أمي قد أخبرتهم بألَّا يسمحوا لنا بالصعود إلى المكتب. كانت مسألة فرض سيطرة، وكان ذلك تخطيطًا كنا جميعًا نألفه. فحين كنت في التاسعة عشرة وانتقلت إلى العيش خارج منزل والديَّ، منعت أمي رون — الذي كان في الثالثة عشرة من عمره ولا يزال يعيش في المنزل — من أن يبحث عن مكاني. كما جرى إقصاء مايكل باستمرار، فصار متحفظًا في تعامله معها، وكذلك فعل مورين. كان الانفصال أمرًا شائعًا في عائلتي.

حينها، تحدَّثنا بشأنِ ما يجب فِعله، وقررنا أن نخبر رون بالأمر؛ لأن أمي كانت تميل لأن تتخلى عن رغبتها في السيطرة حين يكون رون معنيًّا بالأمر. أما ما حدث بعد ذلك فلم يكن مسبوقًا. عاد رون بالطائرة من سياتل وذهب ثلاثتنا إلى المنزل لنتحدَّث إلى والدتنا (التي كانت زوجة الأب لمايكل) فيما كان والدنا في المكتب. لم يسبق من قبل أن كنا جبهةً موحَّدة، وكنت أدرك تمامًا أن هذا كان مربكًا لوالدتي. وفيما بدأنا نفصح عن شكوانا، أدركتُ أننا على الأرجح لم نكن بحاجة لقول أي شيء. مجرد جلوسنا أمامها — ثلاثة إخوة يبتغون غايةً واحدة — كان كل ما كنا بحاجة له لنوضِّح وجهة نظرنا. حاوَلَتْ تقديم أعذار أو إنكارَ ما حدث، لكنها كانت في موقفٍ جديد تمامًا عليها حتى إنها لم تجد ما تقول. سمحت لنفسي بأن أنعم بحقيقةِ أنني ورون ومايكل كنا نتصرَّف كأسرة واحدة، وهو شيء لم نكن قد فعلناه من قبل مطلقًا. وإن لم يحدث هذا ثانيةً، فإنني على الأقل أعلم أننا تلاحمنا في ذلك الصباح، فيما كانت أشعة الشمس تنساب عبر النافذة على الكرسي الذي كان لا يزال هو مكان الجلوس المفضَّل لوالدي.

ثم أدركت شيئًا آخر. كان فقدان أبي جراء داء ألزهايمر قد أصاب عالَم أمي بالتصدُّع حتى إن محاولتها فِعل أكثر شيء مألوف لها كان بدافع من غريزة البقاء، وفي هذه الحالة كان هذا الشيء هو مسألة الفصل وممارسة السلطة. كان ذلك هو الحبل الذي تمسَّكت به أمي لتنقذ نفسها من الغرق. ذلك الصباح اكتسبت قدرًا كبيرًا من التعاطف تجاه والدتي فيما سمحت لنفسي أن أدرك الأسباب الخفية الفاعلة في المستويات الأعمق من عواطفها. وكما كان متوقعًا، لم يصدَّنا أحد عن مكتب والدنا ثانيةً أبدًا. لكنني مقتنعة أنني لو كنت قد ذهبت إلى تلك الزيارة والماضي يُعميني، لَما كنت سأرى الأمور التي رأيتها؛ ما كنت سأغيِّر وجهةَ نظري وأتجاوز أفعال أمي لأرى الحزن الذي لم تكن تعرف ماذا يمكنها أن تفعل بشأنه.

•••

نحن لا نتغيَّر بنمط خطي منتظم. ففي طريقنا نواجه عقبات، وعثرات، وفي أوقاتٍ نسقط متراجعين. وهذا ينطبق بصفة خاصة على العلاقات الأسرية.

ثمَّة عبارة في كتاب «دورة في المعجزات» يقول: «أتريد أن تكون على صواب أم أن تعيش في سلام؟»1 بمرور الوقت اتضح لي أنني إن طرحتُ على نفسي هذا السؤال حين يتعلَّق الأمر بوالدتي، فإن الحقيقة أحيانًا تكون «أريد أن أكون على صواب. لننسَ أمرَ العيش في سلام الآن، وسأتمسك برأيي.» وبعد أن أغير رأيي، كنت أدرك أنني حينها اخترت أن أكون الفتاة ذات الرابعة عشرة من عمرها أو ذات الثامنة عشرة أو أي عمر كنتُ منغرسةً فيه.

قَطعًا كانت تلك لحظةَ تبصُّر لي، وبعد سنوات كنتُ قادرة على تمريرها إلى الناس في مجموعة الدعم الذين كانوا يتحدثون أحيانًا عن سقوطهم مرةً أخرى في فخ الأنماط القديمة مع أحد والديهم أو إخوتهم. كانوا يشعرون بالذنب بشأن ذلك، وكأنهم خسروا سباقًا أمضَوا كثيرًا من الوقت في التدرُّب من أجله. وخلال استعراضي للاقتباس من كتاب «دورة في المعجزات»، كان من شأني أن أقترح عليهم أن سؤالَ ما إن كنت تريد أن تكون على صواب أو أن تعيش في سلام هو سؤال من المهم طرحُه، لكنه سؤال ليس له إجابة خاطئة. فإن كان ما تريده حقًّا هو أن تكون على صواب في الوقت الراهن، فتقبَّل ذلك القرار وكن على بيِّنة منه. في المرة التالية قد يكون اختيارك مختلفًا. فقط اعرف طبيعة الأرض التي تقف عليها.

قبل زمن طويل سمعت قصةً عن كارل يونج وأحد مرضاه الذي قال له، بشأنِ مسألةٍ كان يعانيها أيًّا كانت: «لقد سئمت بشدة هذا الأمر.» فأجابه يونج: «جيد. والآن يمكننا أن نشرع في العمل.»

إن أفضلَ ما يمكن أن يحدث لنا هو أن نسأم من أساليبنا الطفولية أو المراهِقة. مرَّت بي أوقات أثناء معاناة والدي مع داء ألزهايمر لم أكن أتصرَّف فيها بصفتي امرأة في الأربعينيات من عمرها؛ وفي معظم الأحيان كان ذلك حين أكون في حضور والدتي. كانت الطاقة التي استنزفها تنهكني. وفي نهاية المطاف، شعرتُ أن تلك الفتاة ابنة الثامنة عشرة الفاقدة الإحساس بالأمن والغاضبة لم تَعُد مناسِبةً في هذا الوضع. كان داء ألزهايمر معلِّمي. وهو معلِّم صارم وقاسٍ، ويأتي التعلُّم مقابل كُلْفَة عاطفيَّة كبيرة، لكن بإمكانه أن يساعدك في أن تبذل الجهد لتصبح الشخص الذي تريد أن تكونه.

إن التعامل مع داء ألزهايمر أو أي شكل من أشكال الخرف لا يشبه أيَّ شيء آخر. فلا يمكنك أن تقارن آثاره التدميرية بآثار إصابةِ أحد أحبائك بالسرطان، أو حتى بداء لو جيريج (التصلب الجانبي الضموري). فأولئك المصابون بمثل هذه الأمراض لا يزال بإمكانهم التفكيرُ بطريقة نمطية؛ لا يزال بوسعهم التذكُّر والتفاعل. أما الخرف فمثل أرضٍ مقفرة غير ذات معالم. لا أحدَ يعرف ما سيحدث في اللحظة التالية؛ الشيء الوحيد المؤكَّد هو أن الأمور ستسوء. والإقدام على التعاطي مع الخرف بينما لا تزال تتمسك بأساليبك من فترة المراهقة لن يكون في صالحك. فشقُّ طريقك عبر متاهات الخرف يتطلَّب ثبات شخص ناضج. ومثل الكثير من التحديات غير المتوقَّعة في الحياة، فإن داء ألزهايمر يعدُّ نفير إيقاظ لك لتتخلى عن أساليبك الطفولية وتنتقل إلى عالم الكبار.

•••

ثمة شيء آخر مؤثِّر هنا يعيدنا إلى دوامات الذات أو الشخصية التي اعتدنا أن نكون عليها؛ ألا وهو الإنكار. إنكار المرض وآثاره، وكذا إنكار مراحله النهائية الحتمية. إن ظللنا عالقين في علاقة مع والدٍ يضغط على أعصابنا ونغضب بكل الطرق التي اعتدنا أن نغضب بها، فسيبدو الأمر وكأن الزمن قد مضى إلى الوراء. فنعود صغارًا ثانيةً، ونعلَق في الدراما المألوفة نفسها، ونكون بعيدين كثيرًا عن اللحظة الراهنة مع داءٍ مدمِّر يُثقِل كاهلنا. إن الإنكار وسيلة هروب محيِّرة، وهي وسيلة نتمتع جميعًا بموهبة وجدارة فيها.

لا أحد مخطئ، ولا يقع اللوم على عاتقِ أحد إن انزلقنا إلى عقليةِ ذاتنا الأصغر عمرًا. فهذا يعني فقط أننا بشر. لكن رحلتك مع داء ألزهايمر ستتحدَّد بمدى استعدادك للتغير، والنظر إلى الأشياء من زاوية مختلفة.

يقول جلال الدين الرومي، الشاعر الفارسي من القرن الثالث عشر: «حين تعيش في أعماق القلب، تصبح المرآة أصفى وأنقى.» إنَّ قدرًا كبيرًا من خبرة التعامل مع الخرف تدور حول ما يدور في القلب، أو على الأقل ينبغي بها أن تكون كذلك. وإن لزمت ذلك، فستصبح الأمور أكثر وضوحًا في نهاية المطاف. لن يحدث ذلك في البداية، وعادةً لن يحدث لفترةٍ ما، لكن في الوقت المناسب ستنقشع الظُّلمة وسيضيء النور كل شيء — سيضيء علاقتك بالشخص الذي يرحل عنك وماضيك معه والأحلام التي تحقَّقت والآمال التي انسحقت. إن هذا الداء باعث على التواضع. فهو يجعلنا واعين تمامًا بمدى تعقيدنا، ومدى القوة التي يمكن أن نتحلى بها، ومدى الضَّعف الذي نحتاج لأن نكون عليه.

حين تتعامل مع الداء في مراحله الأولى، من المفيد أن تجد نظامَ دعم من نوعٍ ما، سواء كان مجموعة دعم، أو بضعة أصدقاء قلائل موثوقين؛ شخصًا ما يمكنك أن تتحدث معه بانفتاح وصدق. ولأن كل شيء يكون جديدًا عليك تمامًا، ولأن تقلُّب داء الخرف وعدم قابليته للتنبؤ يمكن أن يكونا طاغيَيْن، فإن حصولك على شبكة أمانٍ من البداية أمرٌ مهم، أن تحظى بشخص يمكن أن يشير إلى سلوك الإنكار لديك ويريك سبيلًا لاجتيازه. وإن لم تستطِع إيجاد شخص في حياتك تتحدث إليه، فإن «جمعية ألزهايمر» لها خط ساخن يعمل على مدار الساعة.2 ستكون رحلتك مع هذا الداء رحلة تسودها الوحدة، لكن ثمة طرقًا لتقليل ذلك الشعور خلالها.

أخبرني أحدُهم بعد أن جرى تشخيص والده بفترة قصيرة أنه كان يبحث عن نجم مُرشِد يهتدي به. ثمَّة أمرٌ بخصوص النجوم وهو أنها لا يُمكن أن تُرى إلا في الظُّلمة.

«الحكمة الوحيدة التي يمكن لنا أن نتطلع إلى اكتسابها هي التواضع.»

تي إس إليوت، «رباعيات أربع»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤