الفصل السادس

الإجهاد النفسي لدى مقدِّمي الرعاية

يشير مصطلح «المواجهة أو الهروب» إلى حالة الطاقة المتفجِّرة التي يطلقها الخوف بداخلنا. لقد وُهِبنا استجابةَ الخوف وسيلةً للنجاة. وتُروى الكثير من القصص عن أناسٍ يرفعون سيارات من فوق أطفال عالقين تحتها، وعن آخرين يركضون وأرجلهم مكسورة، وعن آخرين يصارعون مهاجميهم بقوة لم يملكوها من قبلُ في حياتهم اليومية. في كتابه «هِبة الخوف»، يستكشف الخبير الأمني جافين دي بيكر الغريزةَ التي تستيقظ داخلنا حين نستشعر الخطر؛ غالبًا قبل أن تكون عقولنا قد استوعبت ما يجري.1 وقد أكَّد أهميةَ الإنصات لتلك الغريزة، والوثوق بها، لأنها يمكن أن تنقذ حياتنا بالمعنى الحرفي للكلمة.

لكن استجابة المواجهة أو الهروب يُراد لها أن تعمل مدةً زمنية قصيرة نسبيًّا. على الصعيد الفسيولوجي، من المفترض بالهرمونات التي تُفرَز — ومن بينها الأدرينالين — أن تعود لتستقر ثانيةً في مستوًى طبيعي بعد ثلاثين أو أربعين دقيقة. والتمسُّك بمخاوفنا وإعادة استدعائها في عقولنا حتى تصبح كموسيقى تُسمع في الخلفية يحوِّلها إلى إجهاد نفسي مزمن.

فغالبًا ما يكون الإجهاد النفسي مصدرَ الكثير من المشكلات الصحية التي يواجهها مقدِّمو الرعاية. في واقع الأمر، نشأ مصطلح «الإجهاد النفسي لدى مقدِّم الرعاية» لأن الأطباء ظلُّوا يدفعون ضريبةَ تقديم الرعاية على الصحة البشرية؛ من مشكلات في القلب وإصابات فيروسية متكررة واضطرابات في النوم ومشكلات في التنفس. بل إن الحوادث المتكرِّرة يمكن أن تكون أحد أعراض الإجهاد النفسي. وتحدُث هذه الاستجابة حين لا يكون الخوف منطقيًّا؛ فهي ليست موجودة من أجل نجاتك وإنما تلحق بك أضرارًا. وتحدث كثيرًا مع داء ألزهايمر.

إحدى المخاوف الشائعة هي وجود قابلية وراثية لهذا الداء. يشعر بعض الناس باستمرار بالقلق بشأنِ ما إن كانوا سيصابون بالخرف لأن أحد والديهم مصاب به؛ وقد حسم آخرون أمرهم ببساطة بأن هذا هو مصيرهم. وتُترجم كلتا الطريقتين في التفكير إلى إجهاد نفسي.

الحقائق مهمة. تقول إحدى الحقائق إن ثمة داءً واحدًا فقط ستصاب به إن كنت تحمل الجين الخاص به، وهو داء هَنتِنجتون.2 وفي حين تكون احتمالية أن ترِث ذريةُ شخص مصاب بالداء هذا الجين هي ٥٠ بالمائة فقط، فإن احتمال إصابة الذرية بهذا المرض، لو ورثت هذا الجين، يكون ١٠٠ بالمائة. ولا يهم إن كانت تلك الذرية تعيش أفضلَ حياة يمكن تصورها على المستوى الصحي: إن كانت تحمل الجين الخاص بداء هنتنجتون، فسيكون مصيرها الإصابةَ به إلا إن ماتت من شيء آخر أولًا. أما فيما يخص كلَّ داء آخر فالمسألة مسألة احتمال، وليس هذا علمًا دقيقًا لأن للخيارات التي تتعلَّق بأسلوب الحياة دورًا كبيرًا ومهمًّا.

عادةً ما تظهر إحدى نسخ داء ألزهايمر المبكِّر باعتبارها أمرًا ثابتًا من جيل إلى آخر. في هذا الشكل من داء ألزهايمر، يكون شخص واحد على الأقل من جيل قد شُخصت إصابته بالمرض قبل عمر الخامسة والستين. فإن كانت هذه هي الحال في عائلتك فيما تلقي نظرة للوراء عبر الأجيال، فثمة داعٍ حقيقي للقلق. لكن حتى ذلك الموقف لا يأتي بأي تنبؤات أكيدة وحاسمة، وأن تعيش في حالة دائمة من الإجهاد النفسي سببُها الخوف هي طريقة عيش محفوفة بالمخاطر.

وحيث إنني لست بعالمة، فلن أتطرَّق إلى الدراسات العلمية على الجينات. لكن ما سأتطرَّق إلى مناقشته هو كيفية التعامل مع المعلومات المتاحة لنا. والحصول على المعلومات من الإنترنت يعدُّ سلاحًا ذا حدين؛ حيث يمكن أن ينتهيَ بك الأمر إلى مزيد من المعرفة، لكن يمكن أن ينتهيَ أيضًا إلى أن تصاب بالذعر.

الاعتقاد السائد بشأن خطر إصابة أي شخص بداء ألزهايمر هو أن احتمال إصابتك بالمرض عند سن الثمانين هو ٥٠-٥٠. قلت هذا لأناسٍ وشاهدت وجوههم تكتسي بالشحوب والخوف. كلُّ ما سمعوه كان أنه يوجد احتمال بنسبة ٥٠ بالمائة أنهم سيُصابون بالمرض، وليس احتمال ٥٠ بالمائة أنهم لن يصابوا به. يمكن لمخيلتنا أن تنزلق بنا في اتجاهات جامحة؛ يمكننا أن نقرِّر أن مصائرَ مريعة في انتظارنا. يعود إلينا أمرُ أن نروِّض تلك الأفكار وندرك أن لا نفع من الذعر. في الواقع، توجد مضرَّة كبيرة منه. يشتهر الكاتب ديباك تشوبرا بقوله إن خلايا أجسادنا تنصت إلى خلايا عقولنا. فالتوجُّس خِيفةً من داء «قد» تُصاب به يخلق بيئةً من التوتر والإجهاد النفسي في جسمك يمكن أن تتجلى في هيئة مشكلة صحية من نوعٍ ما. ربما لن تصاب بالداء نفسه الذي كنت قلقًا بشأنه، لكن إن كان الإجهاد النفسي يُتلِفُ الجهاز المناعي في جسمك، فقد جعلت نفسك عرضةً لمجموعة متنوِّعة من الاضطرابات الجسدية.

كتب الطبيب جو ديسبينزا العديدَ من الكتب عن العلاقة بين العقل والجسد، وألقى محاضراتٍ كثيرةً يمكنك أن تجدها على شبكة الإنترنت. ودعَّم فلسفته بأبحاث علمية مستفيضة، وأحثُّك على أن تبحث عنه وتتعلَّم منه.3 وإليك قصَّة يرويها في كتابه «أنت العلاج الوهمي»، تؤكِّد بصورة كبيرة تأثيرَ أفكارنا وذكرياتنا علينا:

في عام ١٩٨٤، كانت الطبيبة جريشتين فان بوميل تعمل في معهد دوهيني للعيون في لوس أنجلوس، حين بدأت تلاحظ عددًا كبيرًا من النسوة الكمبوديات، اللواتي يَعِشْن جميعًا في أحد مجتمعات لونج بيتش المحلية الذي يُعرف باسم ليتل بنوم بن، وكُنَّ يعانين مشاكلَ جسيمةً في العيون، من بينها العمى. والغريب في الأمر، أنه حين فحصت فان بوميل عيونهن لم تجد بها خطبًا على الإطلاق؛ كانت عيونهن سليمة. فأجرت مسحات دماغية، ومع ذلك لم يكن باستطاعتها تفسيرُ السبب وراء أن النساء اللواتي تصل حدة الإبصار لديهن إلى ٢٠/٢٠ أو أفضل يكدن يكنَّ عمياوات.

فتعاونت مع باتريشا روزي الحاصلة على درجة الدكتوراه في جامعة ولاية كاليفورنيا في لونج بيتش لإجراء أبحاث على النساء. فوجدتا أن كل النسوة بين عمرَي الأربعين والستين كنَّ قد نجون من وحشية الخمير الحمر حين كان الدكتاتور بول بوت في سُدة الحكم. كانت كثيرات من أولئك النسوة قد فقدن كل أفراد أسرهنَّ؛ وأُجبِرت كثيراتٌ منهنَّ على مشاهدة أحبائهنَّ يُقتلون. فقدت إحدى النسوة، التي شاهدت زوجها وأطفالها الأربعة يُقتلون أمام ناظريها، بصرَها في الحال. شهدت امرأة أخرى جنديًّا من الخمير الحمر يضرب أخاها وأطفاله حتى الموت، ويقتل ابن أخيها البالغ من العمر ثلاثة أشهر فقط بقذفه مرارًا وتكرارًا صوب شجرة. بدأت تفقد بصرها بعد هذه الحادثة مباشرةً. كانت النسوة يُحرَمْن من الطعام ويُضْرَبن ويُعتدى عليهنَّ جنسيًّا ويتعرَّضن للإهانة والتعذيب. فاستسلمن للكوابيس واسترجاع ذكريات الماضي؛ فكانت أذهانهن تستعرض حلقة متكررة من الأحداث الصادمة باستمرار. وثَّقت فان بوميل وروزي العديد من حالات العمى النفسي عند النسوة الكمبوديات من مجتمع لونج بيتش المحلي. وقُدِّمَت نتائج الدراسة في الاجتماع السنوي لعام ١٩٨٦ لجمعية علم النفس الأمريكية في واشنطن العاصمة.4 لم تكن النسوة عمياواتٍ بسبب أي داء أو اعتلال جسدي. كان التأثير الانفعالي لكونهن شاهداتٍ على تلك الفظائع والوحشية هو ما جعلهن لا يرغبْنَ في الإبصار بعد ذلك. وكانت إعادة عرض تلك الأحداث في أذهانهن تعني أنه لم يكن من الممكن تحسين الرؤية لديهن.

من الواضح أن هذا مثال متطرف على الكيفية التي يمكن أن يؤثِّر بها الإجهاد النفسي علينا جسديًّا، لكنه يبرهن على الكيفية التي تصغي بها أجسادنا إلى عقولنا، وعلى أن الاعتلالات الجسدية والأمراض يمكن أن تسبِّبها خبرات صادمة. الإجهاد النفسي، في أصله، عبارة عن خوف. وكوننا في حالة دائمة من الخوف يُلحِق بنا خسائر نفسية وجسدية دائمة.

وأنا نفسي ليس الخوف غريبًا عليَّ. أي أحد يعرفني سيشهد على ذلك. إن أصبتُ بسيلان الأنف، أظن أنني مصابةٌ بسرطان الأنف. لكنني لم أخشَ قط احتمالَ أن أصاب بداء ألزهايمر؛ وذلك لأنني اتخذت مبكِّرًا قرارًا في غاية الصرامة. قررت ألَّا أسمح أبدًا لخوفي أن يرتبط بفكرة الإصابة بهذا الداء. وقد أتى ذلك بثماره حتى الآن. أعتقد أننا جميعًا نمتلك رصيدًا من السيطرة على مخاوفنا يفوق بكثير ما نعزوه لأنفسنا.

حين انتقلتُ من نيويورك وعُدت للعيش في كاليفورنيا، استأجرت شقةً صغيرة غير تقليدية على الشاطئ في ماليبو؛ ظنًّا مني أن كوني قريبةً من المحيط قد يجعلني أشعر بأنني قريبة من والدي على الصعيد العاطفي. في تلك الفترة كانت قد مرَّت عدة سنوات على إصابة أبي بداء ألزهايمر ولم يَعُد مسموحًا له أن يسبح؛ وهو قرار أردتُ أن أعارضه بشدة، لكنني التزمت الصمت. كنت أظنُّ أن من المستبعد جدًّا أن ينسى كيفيةَ السباحة والغوص تحت الماء، لكن حينها كان سيتحتَّم عليَّ أن أخوض جدالًا مع أمي وطبيب أبي، وكنت سأخسره.

وبطريقة غريبة، شعرت كأنني أسبح من أجله. في بيتي الشاطئي كنت أغوص في الأمواج المتكسِّرة وأجتازها سباحةً، وأتخيَّل صوت والدي يصيح: «اسبحي»، بينما تتكوَّن موجة كبيرة خلفي، بنفس الطريقة التي كان يفعلها في الصيف قبل سنين طويلة، حين تعلَّمت الكثير عن كبح أسوأ أفكاري. كنتُ أخاف الأمواج الكبيرة، لكنني أردت أن أكون مع والدي. أردت أن يكون فخورًا بقدراتي الرياضية؛ لذا كنت أتجاوز خوفي وأسبح بأقصى ما أستطيع. كان ينتهي بي الحال راكبةً على موجة إلى الشاطئ خلفه مباشرةً، وينتظرني مبتسمًا فيما أهبُّ بتعثُّر واقفةً، وفي تلك اللحظة، وهو ينظر إليَّ مبتهجًا، كان خوفي مجردَّ شيء صغير في مكانٍ ما خلفي ينجرف في محيط شاسع.

كان بيتي الجديد على الشاطئ صغيرًا وعتيقًا ومتداعيًا، لكنني أحببت كوني على الشاطئ. حين كنتُ أسير على الشاطئ، كنت أمرُّ بقطاعٍ منه أكثر ثراءً، تتناثر فيه القصور الضخمة، وكثيرًا ما صادفت رجلًا كنتُ أعرفه كان يعمل في صناعة السينما. دائمًا ما كان الرجل يوقفني ويسألني عن حال والدي، ثم يحدِّثني عن أمه، التي كانت تعاني داءَ ألزهايمر هي الأخرى.

كان يقول لي: «لست واثقًا حتى من سببِ زيارتي لها. فهي لم تَعُد موجودة فعلًا. ولا تعرف أنني أزورها.»

وكنتُ أخبره عن اعتقادي الذي يرشدني في كل زيارة وكل لحظة أقضيها مع والدي؛ اعتقادي أن روحه لم تُصَب بداء ألزهايمر. وفي كل مرة، كان الرجل يقطع الحديثَ عند تلك النقطة بعينها، ويودِّعني وينطلق مبتعدًا على الشاطئ. اضطررت أخيرًا لتقبُّل أنه لن يكون منفتحًا على ما كنت أريد قوله له. لذا بدأت أستمع له فحسب، ولا أعارض أيَّ شيء مما كان يخبرني به. الموضوع الآخر الذي كان يتخلَّل محادثته كان القناعة التامة بأنه سيُصاب بداء ألزهايمر لأن والدته أُصيبت به. رغِبت بشدة في محاولة إقناعه بأن يتخلَّى عن هذه القناعة، لكنني أدركت أن ذلك لن يسفرَ عن شيء أفضل من محاولتي السابقة في التأثير عليه. فكنت ألتزم الصمتَ وأنصت له. وبعد سنوات، عرفت أنه شُخِّص بداء ألزهايمر.

أصابني الذعر ذات مساء حين أخبرتني إحدى عضوات مجموعة الدعم الخاصة بي أنها عرفت من شركة على الإنترنت أنها تحمل جين APOE، وأنها عُرضة للإصابة بداء ألزهايمر. في ذلك الوقت لم أكن أعرف أن تلك الشركة كانت تقدِّم معلومات عن الجينات وعن الأسلاف، وصُعِقتُ من ذلك. فنحن جميعًا ضعفاءُ أمام الإيحاءات، وأن ترسل شركةٌ معلوماتٍ باعثةً على الخوف من دون تقديم استشارة أو تفسير للصورة الكاملة؛ هو في رأيي تصرُّف غير مسئول بدرجةٍ صادمة. إن كنت تريد أن تعرف المزيدَ عن أسلافك، فافعل. لكن قد ترغب في إعادة التفكير بشأن إرسال لُعابك إلى شركة قد تخبرك بشيء مزعج.

لا أعرف أحدًا قويًّا بما يكفي لأن يُنحِّي جانبًا معلوماتٍ كهذه، ويعيش حياته وكأنه لم يسمع بها. وسواء كنتَ قلقًا طوال الوقت بشأن ذلك، أو فقط في سكون الليل حين لا تستطيع النوم، فإن هذا إجهاد نفسي سيبدو مع الوقت طبيعيًّا جدًّا حتى إنك لن تلاحظه. وعندئذٍ يكون الإجهاد النفسي في أخطر مراحله.

•••

باستثناء الأحداث التي تطرأ فجأةً — كأن توشك سيارةٌ أن تصدمنا أو أن يهاجمنا أحد الغرباء — عادةً ما يبرُز الخوف حين نتطلَّع في المستقبل. نتأمَّل فيما يمكن أن يحدُث، وما يمكن أن يسوء من أمور. نتخيَّل مستقبلًا أبعدَ ما يمكن عن كونه حقيقيًّا، ثم يدخل الخوف ويتصرَّف بأريحية. نحن نعرف ذهنيًّا أن عيش اللحظة الراهنة أمرٌ صحيٌّ وحسن. كان كتاب إيكهارت تول «قوة الآن: الدليل إلى التنوير الروحي» المنشورُ عام ٢٠٠١؛ أحدَ أكثر الكتب مبيعًا ولا يزال رائجًا. إلا أن العيش في الوقت الحاضر، في هذه اللحظة، هو أمر يُعدُّ فِعله أحدَ أصعب الأشياء. فمن الواضح أننا علينا أن نتطلَّع في الحياة أمامنا بدرجةٍ ما، ويمكن أن يكون الحلم بالمستقبل مثمرًا؛ أن نتصوَّر المستقبل كما نريد له أن يكون. لكن كثيرًا ما ينتج عن ارتحالنا خارجَ حدود اللحظة الراهنة سيناريوهات «ماذا لو» التي تبثُّ فينا الخوف.

في حالة الخرف، كلُّ ما يملكه الشخص هو اللحظة الراهنة. أجل، بإمكان المرء أن يهيمَ في الماضي، وكثيرًا ما يفعل المصابون ذلك، لكن حتى ذكريات ماضيهم يؤوِّلونها على أنها تحدُث في الوقت الحاضر. على سبيل المثال، ترتحل أمٌّ في ذهنها عائدةً بالزمن إلى الصف السادس حين شاركت طعامَ غدائها مع أعز صديقاتها شيرل؛ لأن شيرل لم تحظَ قط بطعام جيد في صندوق غدائها. لكن الأم لا تختبر هذه الواقعةَ باعتبارها ذكرى. ففي عقل الأم، هي موجودة في باحة المدرسة مع شيرل. تلك هي لحظتها الراهنة الآن، حتى يحلَّ محلَّها شيء آخر.

وبقدرِ ما يكون من الصعب التعامل مع هذا، إلا أن بإمكاننا أن نتعلَّم منه. لكي نبني جسرًا من أي نوع بيننا وبين شخص مُصاب بالخرف، علينا أن نُوجدَ معه في اللحظة الراهنة، الأمر الذي ينشِّط بعض العضلات الداخلية التي يمكن أن تستفيد من بعض المحفِّزات. أن نقف ثابتين، وأن نُبقي أنفسنا في اللحظة الراهنة، هو أمر يتطلَّب انضباطًا. في الواقع، التعامل مع شخص مصاب بداء ألزهايمر، أو أي نوع من الخرف، هو تدريب رائع لنا على كيفية عيش حياتنا.

•••

ذات يوم حين ذهبتُ إلى مكتب والدي لزيارته، وصلت في ساعة متأخرة من الصباح، مفترضةً أنه سيكون هناك. كنتُ أعرف جدولَ مواعيده. ولكن قيل لي إنه كان في مرأب السيارات، وإن هناك مشكلة. ذهبت أبحث عنه، وكان في المقعد الخلفي من سيارة الخدمة السريَّة، في حالة هياج شديد، ويرفض الخروج من السيارة. فانزلقت إلى المقعد الخلفي بجواره، وكان العميلان السريان يفعلان ما بوسعهما ليخبراه أن لا بأس من أن يخرج من السيارة، لكنه كان يأبى أن يفعل. كان يحاول جاهدًا أن يخبرنا بشيء، لكن كلماته كانت مضطربة ومختلطة. كان الشعور الذي أحسستُ أنه يشعر به هو الخوف، وأصابني ذلك بحيرة شديدة. كان أبي رجلًا لا يخشى شيئًا مطلقًا. أما رؤيته ينظر خارج السيارة، ويشير إلى شيء يظنُّ أنه يراه، ويُظهِر أمارات خوف واضح، فكانت شيئًا لم أكن قد مررت به من قبل معه. أقدمتُ على بضع محاولات واهنة لأن أفهمَ ما كان يقوله، لكن بدا واضحًا لي أن ذلك لن يجدي نفعًا. ثم فكَّرت، لا بأس، فلنبقَ فيما كان يجري الآن. إنه خائف من شيء خارج السيارة. بل إنه كان يضع ذراعه أمامي ليحميني، كما كان يفعل حين كنتُ طفلة وكان يضطرُّ إلى الضغط على الفرامل فجأة.

سأل أحد العميلين إن كان ينبغي أن يُقِلُّوه بالسيارة إلى المنزل فحسب. حينها فكَّرت، إن كان شيء يخيفك، فإنك تهرُب منه. وتهرُب منه على الفور.

قلت: «دعونا نمضِ بالسيارة حول البناية. ثم نعُد ونرَ ما يحدث.»

ما إن خرجنا إلى ضوء النهار وإلى زحام المرور في الشارع، حتى تغيَّر سلوك والدي. اختفى ما كان متربصًا في ظلمة المرأب، أيًّا ما كان؛ ومن ثَمَّ اختفى خوفه. وتحدَّثت إليه بنبرات ملطِّفة بكلام فارغ؛ عن لون السيارة التي أمامنا، وعن رجل يعبر الشارع. عرفت حينها أن نبرة صوتي ووتيرته كانتا هما التواصل الحقيقي بيننا. قضينا عشر دقائق حتى عُدنا إلى المرأب، وكان والدي على ما يرام. خرج من السيارة وصعد إلى مكتبه.

كان عليَّ أن أتجاوز خوفي وذعري لكي أنخرط في اللحظة الراهنة، وأثق في أننا إن غيَّرنا المشهد، فقد يغيِّر هذا من تركيز والدي؛ ومن ثَم واقعه. في الوقت الحالي، هذا نهج شائع ومعروف. وكثير من الأساليب المتَّبعة الآن على نحوٍ روتيني مع مرضى داء ألزهايمر أصبح معروفًا للجميع لأن أفراد الأسرة ومقدِّمي الرعاية المباشرين توصَّلوا إليها.

قبل سنوات، بعد أن ألقيت محاضرةً بمناسبة افتتاح منشأة جديدة من منشآت «ميموري كير»، أخذني القائمون عليها في جولة في المبنى. وكان أحد الأطباء الذين يعملون في المنشأة صادقًا معي بشأن كيفية تصميمهم وإدارتهم للأمور هناك. قال لي إن الكثير من القرارات — بدءًا من تزيين غرف المرضى بأشياءَ شخصية وانتهاء بحرصهم على ألَّا يطأ المرضى أرضيةً صلبةً بعد سيرهم على بساط (الأمر الذي عادةً ما يخيف مرضى داء ألزهايمر) — كان مصدره ما قاله أفراد أُسَر المرضى. فقال لي في تواضع: «باعتبارنا أطباء لا نرى المرضى إلا بوتيرة غير منتظمة. فلا نرى أنماط المرض ولا خصائصه بالطريقة التي يراها بها أفرادُ أسرة المريض. لذا نحن في حاجة لأن نتعلم من مقدِّمي الرعاية.»

في هذه المنشأة، كانوا قد أعادوا إنشاءَ أشكال من الأعمال التي كان بعض نزلائهم يؤدونها. كان رجل ودود ذو شعر أبيضَ كالثلج وعينين زرقاوين يسير في الأرجاء حاملًا كومة من حافظات الملفات، وقال في أثناء مروره إنه ذاهب إلى مكتبه. عرفت أنه كان فيما مضى طبيب عيون؛ لذا هيَّئوا له غرفة صغيرة فيها كرسيٌّ في مواجهة رسم كبير لعينٍ بشرية على الحائط، وفي نظره كانت الملفات التي يحملها هي سجلات المرضى. كانت نزيلة أخرى تعمل خيَّاطة؛ لذا أنزلوها في غرفةٍ بها ماكينة خياطة (من دون إبرة) وأكوام من القماش. واتتهم هذه الأفكار من أفراد أسر المرضى.

•••

أحد أكثر الأشياء التي يخشاها الناس بشأن داء ألزهايمر هو حتمية أن ينسى المريض به هُويَّةَ أحبائه. وهذه ليست مسألة «محتملة» الحدوث؛ إنها من المسائل الحتمية الحدوث التي لا يُعرَف فقط «متى» تحدُث، والجميع يعرفون ذلك. لذا فإنها تتنامى في أذهان الناس باعتبارها علامةً فارقة كبيرة. ومن التعليقات الشائعة: «حين تنسى أمي اسمي، سأفكِّر في أن أعيِّن لها شخصًا بدوام كامل يرعاها. لكن ليس قبل ذلك.» ومنها أيضًا: «لا أعرف كيف سأتمكَّن من زيارة أبي إن كان لا يعرف مَن أكون.»

إن كنتَ على استعداد لأن تضع في اعتبارك الأساسَ الذي ذكرتُه في بداية الكتاب — أن روح المرء لا يمكن أن تُصاب بداء — فإن نسيان الشخص العزيز عليك لاسمك أو لصلة القرابة بينكما هو خلل في الدوائر العصبية في الدماغ. إنك تعيش بداخله على مستوًى أعمق. وفي أغلب الأحيان، حين يعجز مرضى داء ألزهايمر عن التعرُّف على أطفالهم أو حتى شريك حياتهم، فإنهم يخلطون بينه وبين شخص آخر، وعادةً ما يكون هذا شخصًا يهتمون لأمره اهتمامًا عميقًا. هكذا، يمكن لامرأة أن تنظر إلى ابنتها وتعتقد أنها أختها، التي تحبُّها. كلتاهما تحتلان مكانة في قلبها، وكلتاهما تحفزان مشاعرَ الحب لديها؛ عقلها هو الذي لا يستطيع التمييز بينهما.

وثمة مواقف بالطبع ينظر فيها المريض بالخرف إلى قريب له أو إلى شريك حياته ويتصرَّف وكأن ذلك الشخص غريب عنه تمامًا. هذا بلا شك أمرٌ مزعج ومؤلم، ولا مهرب من هذا، لكنه العقل هو الذي يُصاب بالخلل، وليس القلب. إن تمسَّكت بهذه الفكرة، فستخرجك من الخوف الذي يظهر حول هذا الخلل في الإدراك. الأساس الحقيقي للخوف هو افتراض أنه إذا كان الشخص العزيز لديك لا يستطيع التعرُّف عليك، فلا بد أنه لم يَعُد يحبك. لكنك لا تعرف إن كان هذا صحيحًا؛ إنه تأويلك أنت. نحن في حاجة لأن ننظر نظرةً أعمَّ وأشملَ على ما نخشاه. وبمجرد أن تحدِّد العناصر التي تكوِّن خوفك، يبدأ هذا الخوف في التلاشي.

راودني للحظةٍ شكٌّ في أن أبي لم يَعُد يعرف مَن أكون. فبعد سنوات على مرضه، كنتُ مألوفة له؛ كان يعرف وجهي وصوتي، لكنني كنت واثقة جدًّا من أنه بلغ المرحلة التي لم يكن يعرف فيها أنني ابنته. في واقع الأمر، كانت ثمة بضع مناسبات قال فيها شيئًا عن باتي، وكان واضحًا أنه لم يكن يعرف أنه يتحدَّث إليها. وقد أخبرني شيءٌ غريزيٌّ بداخلي أن تلك لم تكن وقائعَ منفردةً؛ فهو فعلًا لم يَعُد يعرف مَن أكون.

في عصر أحد الأيام، وبعد أن كنت قد زرته لبعض الوقت، نهضت لأغادر وقلت: «وداعًا أبي. أحبك.» فلانَ وجهُه بأرقِّ ابتسامةِ امتنان، وقال: «شكرًا لكِ. شكرًا جزيلًا لكِ.» وبدا لي وكأن دموعًا ترقرقت في عينيه. كنت أمثِّل له تلك المرأةَ اللطيفة التي كانت تأتي وتجالسه، وكانت تحبُّه وتعامله بلطف، المرأة التي رافقها في نزهاتٍ سيرًا على الأقدام وشاهدا غروب الشمس. دائمًا ما كان وجهه يشرق حين آتيه. لكنه فوجئ حين سمِعني أقول إنني أحبه لأنه لم يكن يتذكَّر أنني ابنته. اخترت أن أنظر إلى هذا الأمر هكذا: استجابته لشخصٍ، لم يكن يعرف أنه من أسرته، يخبره أنه يحبه؛ كانت استجابةَ تأثُّرٍ وامتنان. أخبرتني تلك الاستجابة بالكثير عن جوهره. لم ينفِر أبي من ذلك التصريح الحميم ولم ينزعج منه؛ إنما قال بإخلاص: «شكرًا لكِ.» وعليَّ أن أعترف أنني إن أتاني غريب وقال لي: «أحبك»، فلا أظن أن ردي سيكون بهذا القَدْر من رحابة الصدر.

•••

كثيرة هي الأشياء التي تثير فينا الخوفَ فيما يتعلَّق بالخرف. لن أحاول أبدًا أن أقول لأحدٍ أن يحاول أن ينكرَ خوفه. لكن الخوف يستحيل إجهادًا نفسيًّا حين يُترك ليتقيَّح في الظلام. وبإمكانك إضعاف وطأة مخاوفك بعضَ الشيء بإخراجك لها إلى النور، وبالنظر إليها مباشرةً. إن كان ما يخيفك هو عدم معرفتك بما هو قادم … فدعني أخبرك بمفاجأة! لا أحدَ منا يعرف ما هو آتٍ في الحياة، حتى ولو لم يكن الخرف جزءًا من المسألة.

أُصِيبَت إحدى صديقاتي مؤخَّرًا بحالة طبية جلدية غامضة. وأخبرها طبيب الأمراض الجلدية أن تلك الحالة هي على الأرجح «التهاب الجلد التماسي»، عدا أنها لا تستطيع أن تتذكَّر أي شيء لامسته وكان غريبًا أو غير معتاد. ثم بدأت تتحدَّث عن قلقها على والدتها، التي كانت تظهر عليها علاماتُ تدهور إدراكي، إضافةً إلى بعض المشاكل الصحية الأخرى. انتهى الحال بصديقتي بأنها تصف تمامًا ما يحدث لها على مستوى صحتها الشخصية. قالت إنها في ظاهر الأمر لم يكن يبدو عليها القلق، وفي حياتها اليومية لم تكن تشعر بأنها قلقة بشكل مفرط. لكن تحت السطح، كان القلق مسيطرًا عليها. فأوضحتُ لها أنها شخَّصت المشكلة بإيجاز شديد، وأنه منطقي جدًّا أن يتجلَّى هذا في شكل حالة مرضية جلدية. كان التوتر حرفيًّا تحت جلدها، والآن كان يحاول إيجاد طريق للخروج. كانت علاقة صديقتي بوالدتها وثيقة جدًّا، وإحدى أكبر مخاوفها أن تُضطر إلى توديعها.

في رأيي، إحدى أفضل طرق عزل أنفسنا عن الخوف هي أن نسأل أنفسنا عن أسوأ ما قد يحدث. في أغلب الأحيان، في سياق داء الخرف، يكون أسوأ مخاوفنا أن يموت المريض الذي نحبه. حين تُخْرِج هذا إلى النور، ستضطر إلى الاعتراف بأنه حتى من دون وجود المرض فالموت يقترب منه، وذلك ببساطة بسبب تقدُّمه في العمر. لن يرتدع الموت أو يختفي لأنك تخشاه. لذا، وبالنظر إلى حتميته، فربما كان من الأفضل أن تحاول تقبُّل الموت باعتباره نهايةَ دورة الحياة. ربما سيظل الخوف يهمس بداخلك، لكن من المستبعد أن يشلَّ حركتك أو يسبِّب لك اعتلالًا جسديًّا؛ وذلك لأنك جرَّدته من بعض قوَّته.

من الممكن أيضًا أن تعقد صداقةً مع خوفك إن كان لديك احترام لوجوده، وإن كنت مستعدًّا للبحث فيه والنظر في أمره بتبصُّر، فربما ستجد فيه بين الحين والآخر الهزل والسخرية. أتذكَّر قول إحداهن لي إنها كانت تخاف اليوم الذي لن تعرف فيه والدتُها كيف ترتدي ثيابها، حتى أدركت أنها كانت دومًا تكره الملابس التي كانت أمُّها ترتديها؛ لذا قد لا يكون من السيئ جدًّا لو أن أحدًا آخر ألبسها الثياب.

•••

ذكرتُ سابقًا قيمةَ التأمل، لكنني أود أن أتطرق إليه هنا بمزيد من التفصيل. فقد ثبَتَ أن التأمل يقلل من الشعور بالتوتر؛ ومن ثمَّ فهو يساعد في الوقاية من الكثير من المشكلات الصحية التي يكون مقدِّمو الرعاية عرضةً لها، ومن بينها الاكتئاب. أجل، سيتعيَّن عليك أن تستقطع عشرين أو ثلاثين دقيقة من وقتك، وسيتعيَّن عليك أن تحرص على ألَّا يقاطعَك أحدٌ خلالها. هذه إحدى العراقيل التي يتعثر بها مقدِّمو الرعاية؛ سيقولون إن من المستحيل عليهم استقطاع ذلك الوقت لأنفسهم. لكنه ليس مستحيلًا. فقد فعل كثيرون ذلك، ووجد كثيرون طريقةً لفعله، وصحَّتك تستحق ذلك.

أعتقد أن بعض المقاومة التي نُظهِرها تُجاه التأمُّل هي إدراكنا أن التحلِّيَ بالهدوء والغوص بداخلنا سيحرِّران بعض المشاعر التي عملنا جاهدين جدًّا على الهروب منها. لقد رأيت كثيرين يضعون العقباتِ حين اقترحت إضافةَ التأمل إلى جدولهم اليومي، ولقد حاولت دومًا توضيحَ أن المشاعر لا تختفي لمجرد أنك دفنتها. في واقع الأمر، يتطلَّب دفن تلك المشاعر جهدًا جهيدًا. لذا، من الأفضل في هذه الحالة أن تجلس في هدوءٍ وترى ما يظهر منها.

أُجرِيَت دراساتٌ كثيرة على التأمل والتوتر.5 في الواقع، حين كنتُ أدير مجموعةَ الدعم الخاصة بي في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، شارك العديد من الناس في المجموعة في دراسةٍ حول الكيفية التي يمكن للتأمُّل أن يساعد بها مقدِّمي الرعاية. وبينت دراساتٌ موثقة أن التأمل يزيد من الأنسجة الواقية في الدماغ، ويقلِّل من إفراز هرمون الكورتيزول المسئول عن التوتر. كما يرفع التأمل أيضًا من سُمك القشرة الدماغية، الأمر الذي يؤثِّر على عملية اتخاذ القرارات وعلى الذاكرة.

ولا يهمُّ نوع التأمل الذي تختاره لنفسك ما دمت ملتزمًا بأدائه. ويمكنك أن تجد التأمل الموجَّه، وكذا أساليب أخرى، على الإنترنت. بيت القصيد، بالطبع، أن تُبطئ من وتيرة عمل دماغك، بأي الطرق تختار. وهذا ليس بالأمر السهل. فبعد العديد من السنين ما زلتُ أواجه صعوبةً في بعض الأحيان. لكن فيما يخصُّ مسألة رعاية نفسك والاهتمام بها، فالتأمُّل أحد أفضل الأشياء التي يمكنك القيام بها.

الأشخاص الذين يقدِّمون الرعايةَ لعزيزٍ لهم مصاب بالخرف ينزعون نحو تصوُّرٍ مُفاده أن المريض هو الشخص المهم، وأنهم هم أنفسهم ليسوا بنفس القَدْر من الأهمية. وهذا ليس منافيًا للمنطق فحسب، بل هو موقف سامٌّ تتخذه مع نفسك. إن صحَّتك — الجسدية وكذلك النفسية — جديرة بالاهتمام أيضًا. ينبغي للجميع أن يتذكَّر ذلك، بغض النظر عن ظروفهم، لكنه أمر ذو أهمية خاصة فيما يتعلَّق بمقدِّمي الرعاية. فمن شأن ذلك أن يبقيك بمنأًى عن المستشفيات، أو حتى ينقذ حياتك.

«أيًّا كان ما تظن أنه يمكنك فِعله، أو تؤمن أنه يمكنك فِعله، فابدأه. فللفعل سحرٌ خاصٌّ وميزةٌ وتأثير.»

جوته

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤