الفصل السابع

الكذب الخلَّاق

فيما تتقدَّم حالة الخرف نحو ما يُمكن أن يُطلَق عليه المراحل الوسطى منه، يُصبح الواقع — لمريض الخرف — مسألةَ وجهة نظر. وليس من السهل على مقدِّم الرعاية أن يتعامَلَ مع شخصٍ يصرُّ على أن البستاني جاسوس، أو أنه يوجد ظَبْي في المرأب.

لقد تربَّى معظمنا على ضرورة قول الصدق دائمًا. كان يُنظَر إلى الكذب على أنه شيءٌ خاطئ، وفي معظم الأحيان إثمٌ يستوجب العقاب. لكن في عالم داء ألزهايمر، الكذب رفيقك. إنه شيءٌ آخر فحسب من الأشياء التي يقلبها داء ألزهايمر رأسًا على عقب. فأن تقول لشخصٍ مصابٍ بالخرف الحقيقة وراء السبب في أنه لا يستطيع الذَّهابَ إلى مكانٍ ما، أو السبب في كونه مخطئًا بشأن شيءٍ يُخيَّل إليه أنه حقيقي، لن يجديَ إلا في إثارة التوتر والذعر. على سبيل المثال، إن كان أحد أقاربك مقبِلًا على الزواج، فوجود أحد أفراد العائلة المصاب بالخرف في حفل الزفاف يمكن أن يمثِّل مشكلة، وذلك بوضع الطبيعة المتقلبة للمرض في الاعتبار. لذا، عليك أن تختلق سببًا ما. أخبِر الشخص العزيز لديك أن الزوجَين سيتزوجان تحت الماء وهما يرتديان عُدَّة الغوص، أو أنهما سيتسلَّقان قمةَ جبل عالٍ مع الكاهن فقط. فالكذب في سبيل الإحسان أو العطف ليس إثمًا يستلزم العقاب، بل في واقع الأمر، أظن أننا نربح به نقاطًا لصالحنا مع القدَر.

إن كان الشخص العزيز لديك يظنُّ أن الشهر الحالي هو أغسطس بينما هو أكتوبر، فلا بأس بذلك. لا يهم. وإن كان يظنُّ أن أقرب أصدقائه من المدرسة الثانوية جاء للتو لزيارته، فاسأله كيف كانت الزيارة. الغرض هو أن تُبقيَ الأوضاع هادئةً. وقد لا يستطيع الأشخاص المصابون بالخرف التفكيرَ بطريقةٍ منطقية، لكنهم بالتأكيد يعرفون حين يعارَضون.

أعرف شخصًا شُخِّصَت حالةُ أقرب أصدقائه، وهي امرأة، بخرف أجسام ليوي؛ فاضطلع هو وصديقان آخران بالكثير من مهام تقديم الرعاية. وقبل أن يذهبوا بها إلى المستشفى لتشخيص حالتها، كان لديها أنواعٌ مختلفةٌ من الأوهام. كان أحدها أنه يوجد رجالٌ على سطح البناية. حاول صديقي إقناعها بأنه لا يوجد رجال على السطح، وأنها مخطئة، فاندلعت بينهما مشادة كلامية، أصرَّت فيها على أنها رأت الرجال. اقترحتُ عليه، بدلًا من أن يخبرها أنها مخطئة، أن يخرجَ ويظلَّ في الخارج بضع دقائق، ثم يعود ويخبرها أنها كانت على صواب، وأنه كان يوجد رجال على السطح، لكنهم رحلوا الآن وأنه لا يظن أنهم سيعودون. الهدف هنا هو أن تُبقيَ الأمورَ هادئة. ولا يتأتَّى هذا بالجدال مع الشخص الذي يكون واثقًا تمامًا من أنه رأى رجالًا يصعدون إلى السطح. ففي ذهنها، هي على صواب. الهلاوس من أعراض خرف أجسام ليوي؛ وقد كان ذلك حقيقيًّا تمامًا لها. لذا كان من الأفضل كثيرًا أن يجاريَها، ثم يخبرها أن المتطفلين قد رحلوا.

•••

أحد الأشياء التي تحدُث مع تفاقم المرض هي «متلازمة الغروب»1 — أي إن حالة الشخص تسوء بانتهاء ساعات النهار. فيتدهور إدراكه أكثرَ، ويزيد اضطرابُه. خلال إحدى هذه النوبات، اعتقد أبي أن الوقت كان صباحًا وأنه يلزم أن يذهب إلى المكتب. فأخبرناه أن العاملين بالمكتب تواصلوا معنا وأنه ليس بحاجة للذهاب لأنهم يطهِّرون المكان بالتبخير؛ ومن ثمَّ لن يسمحوا لأحد بالدخول. تقبَّل ذلك، وبعدها بقليلٍ نسي أمرَ الذهاب إلى المكتب.

وفي واقعةٍ ألطف، ذكر والدي ذات مرة أننا ذهبنا معًا للتزلُّج على الجليد حين كنتُ صغيرة. لم نفعل ذلك مطلقًا. أتذكَّر الذهاب إلى حلبة تزلُّج مغلقة حين كنتُ طفلة، لكن ذلك كان أثناء مخيَّمٍ صيفيٍّ نهاريٍّ ولم يكن والدي موجودًا. فأمسكت لساني مباشرةً قبل أن أُصحِّح له قوله، وبدلًا من ذلك لفقتُ قصَّةً طويلةً مُفادها أننا تزلَّجنا على بحيرةٍ متجمِّدة، وأنه علمني التزلُّج للوراء. انجذب أبي للقصة وتتبَّع كلَّ تفصيلةٍ كنت أذكرها — أن الثلج انجرف للأسفل بينما كنا نتزلَّج، وأن الطيور شاهدتنا من فوق أغصان الأشجار. وحين غادرت منزل والديَّ في ذلك اليوم، فاضت عيناي بالدموع؛ لأنني أدركت أنني كرَّرت ما كان يفعله معي حين كنتُ طفلةً صغيرة. كان يبتكر عوالمَ في قصصه، وكنتُ أدخل بسعادةٍ إلى تلك العوالم، دون أن أشكَّ للحظةٍ في وجودها. في تلك العوالم كانت الخيول وحيدة القرن الخيالية تجري تحت ضوء القمر في ليالٍ شتوية باردة؛ وفيها كانت سمكتي الذهبية التي ماتت تسبح في نهرٍ أزرقَ شاسعٍ في الأعالي في الجنة، ولن تأكلها سمكةٌ أخرى لأن في الجنة لا يحتاج أحدٌ إلى طعام. والآن كان قد حان دوري لأجذبه إلى عالَمٍ نسجتُه من كلماتي. بدت طفولتي بعيدةً جدًّا، لكن الطريقة الطفولية التي كان يستمع بها لي جعلتها أقرب. حكى لي في القصص التي كان يخبرني بها قبل زمنٍ بعيدٍ عن مكانٍ أفضل من هذا، مكان يكتنفه السِّحر. قُرب نهاية حياته، حظيتُ بفرصة ردِّ تلك الهديَّة.

ليس من السهل أن تعيدَ تدريبَ نفسك على الكذب. اعتبر الأمرَ فرصةً لزيادة قدراتك الإبداعية وتدريب مخيِّلتك. تدفعنا غريزتنا إلى الرغبة في أن نصحِّح للأشخاص حين يذكرون شيئًا خاطئًا، وأن نوضِّح لهم الأمور بشأن ماهية الحقائق. في بداية مرض والدي، أخبرتني أمي أن أبي يشاهد التلفاز، وكانت مباراة كرة قدم أمريكية تُعرَض. فجأة، انزعج والدي انزعاجًا شديدًا لأنه اعتقد أن الفريق الذي كان يلعب هو فريق كليته، وأنه كان من المفترض به أن يكون هناك في الملعب. ظنَّ والدي أنه كان متأخِّرًا، وأنه خذلهم، وأنهم في حاجةٍ له من أجل المباراة. أظن أن عديدين كانوا يحاولون إثناءه عن ذلك؛ أمي وأحد عملاء الخدمة السرية، ورجل كان يأتي أثناء النهار ليسيرَ مع أبي ويبقى برفقته. واستمر انزعاجه حتى بعد أن أطفئوا التلفاز؛ لا شك أنه كان عالقًا في حلقةٍ متكررة، ولا يمكنني أن أتذكَّر كيف انتهى الأمر. أظن أن الجميع، بمن فيهم والدي، على الأرجح قد أصابهم الإنهاك. لكن هذه الواقعة كانت محفزةً لمحادثةٍ بيني وبين والدتي عن ضرورة الكذب. بسماعي عن الأمر من مسافةٍ بعيدةٍ — حيث كنت لا أزال أعيش في نيويورك حينها — تمكَّنت من تأمُّله بهدوء أكثر. فتحدثنا عن أنه من المزعج أن يسمع أحدهم أنه مخطئ، حتى ولو كان مصابًا بداء ألزهايمر. وهكذا، ماذا لو أخبرناه أنه لم يكن مقرَّرًا له أن يشارك في المباراة؟ ماذا لو أن لاعبًا آخر كان يحصل على فرصته على أرض الملعب، في تلك المباراة وحسب؟ أتذكَّر سؤال أمي: «أأكذب عليه إذن؟» وقد أجبتها عليه بقولي: «ولمَ لا؟» ولم أسمع بحادثة كهذه بَعدها مطلقًا؛ لذا أفترض أنها اتَّبعت النهج الذي تناقشنا بشأنه، وإن كنت أعرف أيضًا أنها أخبرت الجميع ألَّا يسمحوا له ثانيةً بمشاهدةِ مباراة كرة قدم أمريكية على التلفاز.

•••

من الشائع لدى المصابين بالخرف أن ينسَوْا أن أصدقاءهم أو أقاربهم قد ماتوا. فبينما ينتقلون عبر الزمن إلى الماضي، يظنون أن والديهم وأصدقاءهم الذين كانوا معهم في أوقات شبابهم لا يزالون أحياء. ومن المغري أن تضع الأمور في نِصابها الصحيح وتذكِّرهم أن هؤلاء الأشخاص قد قضَوا نَحْبَهم، بل وحتى أن توضِّح لهم أنهم حضروا جنازاتهم. الخطأ هنا أن الشخص العزيز لديك سيضطر إلى الحزن على فَقْده إياهم من جديد. ثم على الأرجح سينسى مجددًا؛ وإن ظللت تذكِّره فسيكون الأمر أشبهَ بالفيلم الكوميدي «يوم فأر الأرض» (جراوندهوج داي)، الذي يعاود فيه البطل في حلقةٍ مفرغةٍ كلَّ يومٍ معايشةَ نفس اليوم، لكن بكثيرٍ من الدموع.

أحد أعضاء مجموعة الدعم الخاصة بي أصبح مبدعًا جدًّا مع والده؛ حيث يخبره أن أقاربه الذين لم يأتوا لزيارته كانوا في رحلةٍ بحريةٍ طويلة، حيث خدمة الهاتف المحمول غير متاحة. الوقت شيء مرن في حالة مريض الخرف؛ لذا كان عضو المجموعة هذا قادرًا على نسجِ خيوط القصة متى طرأ الموضوع للنقاش، فكان يُضيف تفاصيلَ تعجُّ بالألوان ووجهات جديدة في تلك الرحلة البحرية اللانهائية التي ذهب فيها الأقارب المتوفَّوْن. في وجود داء ألزهايمر، كل لحظة هي لحظة جديدة؛ لذا دائمًا ما كان يبدو لذلك الوالد أن كل مرةٍ تُروى فيها هذه القصة هي المرة الأولى. ولم يكن الوالد يشكِّك في أي تفصيلةٍ أو يعترض عليها.

أحد الأشياء التي يمكنك الاعتماد عليها في وجود داء ألزهايمر أن المرض سيتغيَّر باستمرار. فإن تذكَّر الشخص العزيز عليك فجأةً أن أحدَ الأقارب أو الأصدقاء ممن كان ينتظرهم قد مات قبل سنوات، فسايره في الأمر. شارِكه ذكريات الفَقْد وتَبِعاتِه والجنازةَ إن كانت قد أُقيمَت. وإن انتظر بعد أسبوع زيارةَ ذلك الشخص نفسه، بحكم أنه قد نسي موته، فابتكر سببًا يمنعه من الزيارة في هذا الوقت.

وإن كنت تشعر وكأنك تلعب لعبةً لوحيةً مجنونةً من نوعٍ ما تتحرَّك فيها القِطع من تلقاء نفسها، فهذا لأن الأمر كذلك فعلًا. لكن بإمكانك توجيه الأمور من خلال ابتكار قصصٍ مصمَّمةٍ للحفاظ على مظهرٍ ما من مظاهر السلام. لن يكون النجاح حليفك دائمًا؛ فلا شك في أن الاضطرابات ستحدُث. بإمكان المصابين بالخرف المثابرةُ على شيءٍ والتمسُّك به، وسيبدو وكأنهم لن يتخلَّوا عنه أبدًا. لكنهم سيفعلون. فمن الأمور السيئة في داء ألزهايمر أن المصابين به ينسَون، لكنه من الأمور الطيبة أيضًا. حين يعلَق أحدهم في حلقةٍ مفرغة، استخدِم قدراتك الإبداعية؛ غَيِّر المشهد، انتقل به إلى غرفةٍ مغايرة، خذه للتمشِّي، أخبِره قصةً مبتكرةً ألَّفتها لتأسِر بها مخيِّلته. وإن لم تكن الحقيقة ستلطِّف الأمور، فاكذب عليه. فالكذب النابع من التلطُّف هو في نهاية المطاف مجرَّد تلطُّف. وهو في مجمل الأمر تصرُّف بسيط، لكن إن كان بإمكانك تفادي ولو لحظةً واحدةً حتى من الانزعاج، فهو أمر مهم.

«نحن نعلم يقينًا أن ما نفعله ليس إلا قطرةً في بحر. لكن لو لم تكن القطرة موجودة، لكان البحر مختلفًا.»

الأم تريزا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤