الفصل التاسع

الشعور بالذَّنب وبلسم الضحك

حين علمت بتشخيص حالة والدي للمرة الأولى، كنتُ على وعي تام بالشعور بالذنب الذي وجد طريقه إلى تفكيري. كيف سيتسنى لي أن أكفِّر عن خطاياي الماضية، عن المرات التي آلمتُه فيها وتجاهلت مشاعره، إن كان داء ألزهايمر يسلُبه بعيدًا عني؟ كيف لي أن أرأب هوةً من المستحيل رَأْبها، أوجدها داءٌ لم أتمكَّن حتى من فَهْمه؟ في الأيام والشهور الأولى، كان ثمَّة أوقاتٌ هادئةٌ رافقتُه خلالها في المشي أو جلست معه في شيءٍ من ضوء شمس وقت العصر، وفي تلك الأوقات حدَّثته عما يراودني من ندم؛ أنني تمنيت لو كنت قد عبَّرت عن نفسي بطريقةٍ مختلفةٍ في أثناء التمرُّد الذي كنتُ عليه في الثمانينيات، حين عارضتُ سياساته علنًا وبقوة. في تلك السنوات، كان ينبغي لي أن أنصت أكثرَ حتى ولو لم أكن متفِقة معه. كنت أتصرَّف وقتها بطريقةٍ تنطوي على قلةِ احترامٍ وحملتُ عبء الندم. في بعض الأحيان كان يُومئ ويقول كلمات قليلة تنمُّ عن الإقرار، وفي بعض الأحيان كان لا يقول شيئًا ويثبِّت أنظاره عليَّ فحسب، لكنني كنت أُومِن وقتها وأُومِن الآن أنه سمعني، في أعماق روحه. ومثلما شعرت بالذنب يقحم نفسه بداخلي، شعرت به ينجرف بعيدًا.

لا يعني هذا أنني كنت قد اكتفيت من الشعور بالذنب. فداء ألزهايمر لا يبارحك بهذه السهولة. فبعد سنوات كثيرة، كنت أسمع أناسًا في مجموعة الدعم الخاصة بي يعبِّرون عن المشاعر نفسها التي كانت تراودني؛ الضغط الناتج عن عدم مقدرتهم على فَهْم ما يحاول الشخص العزيز عندهم قوله، أو حين تراودهم ذكرياتُ أشياء حدثت في الماضي. ينتهي بنا الأمر إلى توبيخ أنفسنا لأننا نشعر بأنه كان بإمكاننا أن نفعل أفضلَ مما فعلنا. كان بإمكاننا إصلاحُ الأمور. إن الرغبة في إصلاح الأمور هي مكمن الجزء الأكبر من المشكلة.

إننا معتادون على العيش في عالمٍ يوجد فيه حلٌّ لكل معضلة. إن لم نستطِع إيجاد الحل بأنفسنا، نتصل بمن يشخِّص لنا المشكلة ويعالجها. لكن عالَم داء ألزهايمر مختلف. ليس به مداواة للمرض أو للمشاكل العديدة التي تتولَّد عنه. ثمة أساليبُ للتعامل مع مواقفَ بعينها، ولكن لا ضمانة لأن تصلح هذه الأساليب المعضلة القائمة. وإذا لم تُجدِ هذه الأساليب نفعًا، فكثيرًا ما يتمكن منا شعورنا بالذنب ويُحكِم قبضته علينا ويقول: «ما خَطْبك؟ كان ينبغي لك أن تكون قادرًا على التعامل مع هذه المسألة.»

ذات مرة حين كنتُ في منزل والديَّ، تملَّكَت من أبي فكرةُ أنه يضع عدساتٍ لاصقة، وقد كان يستخدمها أكثر من نصف عمره، لكنه لم يَعُد يفعل؛ حيث من غير المستحسن أن تتوقَّع من شخصٍ مصابٍ بالخرف أن يتعامل مع العدسات اللاصقة. كان أبي يَمْرُز مقلتَيه، محاولًا إزالةَ عدساته التي لم يكن يضعها. ولم يستطِع أحدٌ أن يُقنعه أنه لم يكن يضع عدساتٍ لاصقةً في عينَيه، وخشيت من أن يؤذيَ نفسه. فطلبت منه أن ينظر في عينيَّ ليرى العدسات التي كنتُ أضعها، ثم يقارن بينها وبين عينيه، حيث لم يبدُ فيهما أي عدسات. لكن لم يفلح الأمر. شعرت أنه ينبغي لي أن أُصلِح هذا الوضع، ببساطة لأنني كنت الوحيدةَ التي تضع عدساتٍ لاصقة. فاقتدته إلى الخارج وطلبت منه أن ينظر إلى المنظر الطبيعي من بيته المطل على سفح التل. وأمسكت بنظارته في يدي. تطلَّع أبي، وأغمض عينيه نصف إغماضة، وبدا عليه الارتباك؛ فقدَّمت له نظَّارته. قلت له: «أترى كم أصبحَت الرؤيةُ واضحةً بارتدائك نظارتك؟ لو كنت تضع عدساتك اللاصقة، لما احتجتَ إلى نظارتك. لكن من دون نظارتك تكون رؤيتك مشوَّشة.»

لست واثقةً مما إذا كان تشوُّش المنظر في البداية هو ما أفلح، أم مجرد السير به إلى الخارج. وشعرت بعدها بالذنب لأنني لم أتمكَّن من معالجة الموقف في الحال. كان شعورًا غير منطقي، لكن لم يبدُ أن باستطاعتي أن أصرفَ نفسي عنه.

ظلَّت ذكرى ذلك اليوم تلازمني فترةً. كنتُ أتساءل عما يمكنني فِعله إذا ما خرجت أنا وهو في نزهةٍ وتملَّكته فكرة أنه يضع عدسات لاصقة، وأنه في حاجة لإخراجها من عينيه. حين كنت أشقُّ عن الطوق، كان أبي معتادًا أن يخلع عدساته اللاصقة، ويضعها في فمه ليبلِّلها أو لينظِّفها، ثم يعيدها إلى عينيه ثانيةً. كان يفعل ذلك حتى حين يتوقَّف في إشارات المرور وهو يقود السيارة العائلية إلى المنزل عائدًا من المزرعة. كانت عادةً غير صحيَّة وقد اكتسبتها أنا وأخي مايكل حتى أدركنا خطأ ذلك. من ثمَّ كنتُ أعرف كم كانت ذكرى ارتداء أبي عدسات لاصقة متجذِّرةً في نفسه، وشعرتُ أني مثقلةٌ بعبء التعامل مع الأمر إن طرأ ثانيةً.

في نهاية المطاف، ومع شعوري بالإنهاك من الضغط الذي كنتُ أضعه على عاتقي، توصَّلت إلى الآتي: الشعور بالذنب كالعضلة التي تكون في بعض الأحيان بحاجةٍ إلى استعراض نفسها. وهو يشبه الخوفَ في أننا بحاجةٍ إليه، لكن ليس طوال الوقت. من الجيد أننا نملك خَصلة الشعور بالذنب هذه؛ فلو لم نكن نملكها، لفعلنا أشياءَ فظيعة، ولما شعرنا بأي ندم قط. لذا لم أرِد أن أزيل إحساس الذنب تمامًا من حياتي، وإنما أردت فقط ألَّا ينشط في أوقاتٍ غير ملائمة. فقررت أن أُجريَ حوارًا داخليًّا معه. وفي المرة التالية التي كان أبي يقول فيها شيئًا لا أستطيع فهمه، كنتُ أقول لشعوري بالذنب: «أنا مسرورة بوجودك، أنتَ في غاية الأهمية، لكني لست في حاجةٍ لك الآن.» يبدو ذلك سخيفًا، وهذا جزء من المغزى. أخرجني ذلك من دائرة عقاب الذات، التي يمكن أن تسوء فيها الأمور للغاية بسرعةٍ كبيرةٍ وتُصبِح قاسية.

إن أحد مسبِّبات الشعور بالذنب في عالم الخرف الغريب والعشوائي تمامًا هو المزاح. يمكن للخرف أن يكون بيئةً كئيبة للغاية حتى إن مقدِّمي الرعاية غالبًا ما يشعرون بأنه لا مكان للضحك أو المرح. وأحد الأشياء التي كنت أثمِّنها جدًّا في مجموعة الدعم الخاصة بي هي أننا كنَّا نضحك كثيرًا. كانت ثمة وفرة من الدموع والبكاء أيضًا، لكن كانت الفكاهة بلسمًا للألم الذي كان يشعر به الجميع. لم نكن نضحك «على» أي أحد؛ إذ كنا نضحك ببساطة لوجود أشياء مضحكة في عالم داء ألزهايمر. فالمصابون بداء ألزهايمر يقولون أشياءَ مضحكة في بعض الأحيان؛ وغالبًا ما يمكن النظر إلى المواقف الصعبة التي تحدُث بعد إدراك متأخِّر لها بعين الفكاهة، وإن لم تكن تلك المواقف مضحكة في حينها، وفي ذلك تنفيس عن النفس.

روى لي أحدهم ذات مرة قصةً عن رحلة بالطائرة قَطعها هو ووالدته التي كانت مصابة بداء ألزهايمر؛ لم يكن ينبغي لها الطيران، لكن أسرتها لم تدرك ذلك وقتها. في منتصف الرحلة الجوية، انزعجت المرأة للغاية ولم يكن باستطاعة أحد تهدئتها. أخذت المرأة تتسلق الكراسي، محاولةً الدخول إلى كابينة القيادة، وهي تصرخ في الركَّاب. وفي واقع الأمر، أظن أنها تمكَّنت من فتح باب كابينة القيادة. (كان هذا قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ فلو كان بعدها، لهبطوا بالطائرة على أقرب مدرج هبوط ولطردوها من الرحلة.) وكان الشخص الذي حكى هذه القصة يحكيها بطريقة مضحكة جدًّا، وبكثير من التفصيل، حتى إننا أخذنا نضحك. ثم توقَّف ذلك الشخص فجأةً وقال: «لا ينبغي لي أن أمزح بشأن هذا. كان فظيعًا.» كان بوسعي أن ألاحظ أن الشعور بالذنب يغمره. فأشرت إلى أن الأمر بالطبع كان فظيعًا وقت حدوثه؛ ولحسن الحظ، لم يُصب أحد بأذًى في ظل كل هذه الفوضى. لكن لا سبب يدعو الآن إلى عدم إيجاد طرافة في خِضم ذلك. فلم يكن أيٌّ منا يضحك بدافع الفظاظة، أو غلظة القلب. كنا نضحك ببساطة لأن استحضار هذا الموقف بصريًّا كان طريفًا. والأهم من ذلك، أن الشخص الذي مرَّ بهذا الموقف، والذي كان يروي القصة، كان في حاجة لهذا الضحك.

إن كنت تتشكك في مدى أهمية الضحك لصحتك، فاقرأ كتاب نورمان كازينز «تشريح داء».1 كان الأطباء قد شخَّصوا إصابة كازينز بداء تَنَكُّسِي يؤدِّي إلى الوفاة في معظم الحالات، وعالج نفسه — مما أثار دهشة الأطباء — ببرنامج مصمَّم بعناية يتألَّف من الضحك إلى جانب حقن نفسه بكميات هائلة من فيتامين ج. ويسرُد في كتابه بالتفصيل كيف كان يشعر بعد أن يشاهد فيلمًا طريفًا ويضحك بشدة من كل قلبه؛ كيف كان يستطيع أن ينام نومًا هنيئًا بألمٍ ومشقة أقل. كنت قد حظيت بشرف كبير بالتعرُّف قليلًا إلى كازينز في منتصف الثمانينيات. وكان قد حضر زفافي. سأثمِّن دائمًا ما تعلَّمته منه، وسأتساءل دائمًا عما لو أنه كان بإمكاني أن أتعلَّم المزيد. بدا لي أنه أحد أولئك الذين سيكونون موجودين حولي دائمًا. وثمَّة لحظات تطاردني فيها فكرةُ أنني ربما لم أحقِّق أقصى استفادةٍ ممكنةٍ من صداقتنا التي لم تستمر طويلًا.

ذات مرَّةٍ حين كنا نتحدَّث، قال نورمان: «الضحك ركضٌ داخلي.» في خِضم الإجهاد النفسي الناشئ عن كونك مقدِّم رعاية، يمكن للضحك أن يكون طوقَ نجاتك. فأنت في حاجةٍ له على الصعيد العاطفي والنفسي، بل وحتى الجسدي. ومن مزاياه الإضافية أنه يمكن أن يكون معديًا. والمصاب بالخرف لا يزال يتأثَّر بمن يضحكون حوله وغالبًا ما سيرغب في أن يشاركهم الضحك؛ فالداء لا يسلُب منه هذا. ولا يهم إن كان المصاب يفهم سببَ ضحكه، فكلُّ ما يهم أنه يضحك.

في بعض الأحيان كان والدي يرسم ملامحَ خرقاء على وجهه، أو يكون ردُّ فعله مضحكًا تجاه شيءٍ ما، وكنا نضحك على ذلك ببساطةٍ لأن الأمر مضحك. في تلك اللحظة، كان داء ألزهايمر يُنحَّى جانبًا؛ إذ كنا سنضحك على نفس النحو في ظل الظروف الطبيعية. كان وجهه يضيء، وكان يشرع في الضحك هو أيضًا، ثم يفعل بعد ذلك شيئًا آخر ليستمر المزاح؛ كأن يرسم ملامحَ ساذجة أو يومئ بإيماءةٍ ما. وثمة مفهوم خاطئ مُفاده أننا نكون غير مخلصين بطريقةٍ ما لجسامة داء ألزهايمر بإيجادنا للحظاتٍ من الفكاهة والمرح. لكننا بعدم إيجادنا للمرح، وبعدم الضحك، نسمح لأسوأ ما في المرض أن يفوز.

•••

بين الحين والآخر يذكر الناس في مجموعة الدعم الخاصة بي أنهم قرءوا عن علاجٍ تجريبي لداء ألزهايمر، كحميةٍ غذائيةٍ تتألَّف من زيت جوز الهند، ويشعرون بالذنب أنهم لم يُجرِّبوها. وقرأ أحدهم قصةً عن رجل فاحش الثراء جاب البلاد يعرض زوجته على كل معالجٍ، أو طبيبٍ، أو مدَّعٍ للطب وعد بعلاجٍ محتمل لمرضها. شعر عضو المجموعة هذا بالذنب لأنه لم يُنفِق أموالًا طائلةً على فعلٍ مثله. والسبيل الوحيد لإبطال مفعول هذا النوع من العدوان النفسي أن تستخدم المنطق.

حتى الآن، لم يتمكَّن أحدٌ من إيقاف تدهور داء ألزهايمر بمجرد أن ينال من ضحيته. وفيما يخصُّ إنفاق أموالٍ باهظةٍ على العلاجات التجريبية والأدوية الممكنة، ألن يكون من الأفضل إنفاقُ ذلك المال على رعاية الشخص العزيز لديك الذي يعاني المرضَ؟ من المؤكَّد أن الرجل الثري في تلك القصة الخبرية (التي قرأتُها أنا أيضًا) لم يكن سيصيبه الفقر بعد إنفاقه كلَّ هذا القَدْر من المال. وكان لديه كلُّ الحق في السعي وراء ما حَسِب أنه قد يساعد، أيًّا كان. لكن رغم ذلك كان لا يزال جهدًا بلا طائل، ومع أنني أقدِّر نواياه وإصراره، أتمنَّى لو أن أحدهم كان قد أقنعه بالعدول عمَّا فعل. ليس بسبب المال، ولكن بسبب دائرة الأمل والفشل المنهِكة. فلم يكن الرجل يَنْهَك نفسَه وحسب، وإنما كان يجعل زوجته تكابد معاناةً غير لازمة.

إنَّ من أشجع الناس الذين قابلتهم في حياتي بأَسْرها أولئك الذين أخذوا على عاتقهم دورَ مقدِّم الرعاية، أيًّا كان النحو الذي أخذوا به على عاتقهم الأمر. إن الناس الذين أتَوْا إلى مجموعة الدعم بحثًا عن عون، وعن إجاباتٍ ودعم، الذين كانوا على استعدادٍ لتغيير أفكارهم وفَتْح قلوبهم؛ لم يكن لديهم ما يشعرون بالذنب بشأنه. كانوا يملكون شجاعةً صامتةً مثابرةً صمدت في أيامٍ مرهقةٍ وليالٍ حالكةٍ من هذا المرض الذي لا يرحم. لا مكان للشعور بالذنب في مثل تلك الحالة. كان قلبي ينفطر عند سماعي لأناسٍ يلومونَ أنفسهم على أخطاءٍ وَهْمية، في حين أن كلَّ ما رأيته كان شجاعةً مذهلة.

•••

أحد المجالات التي يمكن أن يظهر فيها الشعور بالذنب بضراوةٍ هو علاقاتنا بإخوتنا. ذكرتُ سابقًا أن من النادر أن تجد أسرةً مترابطة ومتلاحمة في نهجها الذي تسلكه للتعامل مع والدٍ مصاب بالخرف. وفي ست سنوات من إدارة مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، لا يسعني سوى التفكير في أمثلةٍ قليلة كان الحال فيها على ذلك النحو. من المعتاد، في معظم الأسر، أن يتولَّى أحد الأبناء القيادة. يمكن أن يكون السبب في ذلك هو اختيار الوالد لهذا الشخص، ويمكن أن يكون أن الإخوة الآخرين لا يُريدون تحمُّل المسئولية، أو يمكن أن يكون الأمر نوعًا من انتزاع السلطة تفوَّق به هذا الشخص على الجميع بمراحل. ما يكون واضحًا دائمًا هو أن التفاعل بين الإخوة قد تشكَّل بالفعل قبل فترةٍ طويلةٍ من ظهور الخرف في الصورة؛ كلُّ ما في الأمر أن هذا التفاعل يصبح أكثرَ وضوحًا ودراميةً في إطار المرض.

وهكذا، يمكن لأحد الأبناء الذين همَّشتهم أخت متسلِّطة أن ينتهيَ به الأمر إلى أن يشعر بالذنب؛ لأنه لا يفعل المزيد من أجل مساعدة والده المصاب بالخرف. لكن في كل مرة يحاول فيها التدخُّل — بأن يقترح شيئًا أو يغيِّر الطريقة التي يجري التعامل بها مع الأمور — تمنعه أخته. حتمًا ستبرُز جدالات تؤدِّي بعد ذلك إلى المزيد من الشعور بالذنب. أو يمكن أن يكون الوضع المعاكس هو الحال، حيث يضطلع أحد الإخوة بحمل عبء المسئولية لأن الآخرين لا يريدون ذلك، ثم يشعر بالذنب لأن أباه لا ينفك يسأل أين الإخوة الآخرون.

لا تتلاشى التعقيدات الأسرية حين يظهر الخرف في الصورة؛ إنما تزداد سوءًا لأنها تنجرُّ إلى النور. في كل الحالات تقريبًا، ما تمر به الآن هو مجرَّد نسخة أخرى مما كنت تمر به على الدوام. وإذا كانت تأتي لحظات يمكن أن يكون فيها إخوتك منفتحين على النظر إلى ما تتشاركونه من ماضٍ، ورؤية أن الأنماط تتكرَّر، فاغتنم تلك اللحظات. ليس من المستحيل أن تتغير الأمور، لكن الأمر سيتطلب أن يشارك جميع المعنيين في ذلك. أنت لم تُوجِد هذا الموقف بمفردك، ولا يمكنك علاجه بمفردك.

كانت أسرتي دومًا مفكَّكة ومتباعدة، يسلُك فيها كل شخص طريقه الخاص في الحياة؛ لذا لم يتوقَّع أحد أننا قد نتقارب ونتشارك محادثاتٍ عميقة حول ما يحدث لوالدنا. ذات مساء في مجموعة الدعم، بينما كنتُ أستمع إلى شخصٍ يصف موقفًا مضطرِبًا بين إخوة، سادت فيه المجادلات والخلافات، وجدت نفسي أشعر بغيرة غريبة. في أسرتي، لم يكن أيٌّ من الإخوة يعرف الباقين إلى هذا الحد؛ كانت المسافات بيننا شاسعة، ونادرًا ما كنا نلتقي إلا في العطلات كالكريسماس مثلًا. لم نكن متقاربين بما يكفي لأن نتجادل. وأدهشني أن ثمَّة حميميةً وتقاربًا في ذلك النوع من الفوضى، المتمثل في الجدال والخلاف؛ ربما كان تأمُّل الأمر من تلك الزاوية منظورًا قيمًا. إن كان البديل هو عدم معرفتك بإخوتك وأخواتك معرفةً جيدة على الإطلاق، فلا يبدو الجدال سيئًا جدًّا. فعلى الأقل، أنتم تتواصلون.

في السنوات الأولى من إصابة والدي بداء ألزهايمر، أقدمتُ أنا وأختي غير الشقيقة مورين على محاولة شُجاعة للتعارف. كانت تتلقى علاجًا لسَرَطان الخَلايا الصِّبْغيَّة، وكانت بصفة أساسية ملازمةً لمنزلها في لوس أنجلوس، وكنت لا أزال أعيش في نيويورك؛ لذا دار بيننا الكثير من المكالمات الهاتفية البعيدة المدى. وأتذكَّر غرابة التفكير في الكيفية التي من المفترض أن تسير بها العلاقةُ بين أختَين. كان الأمر لكلتَينا أشبهَ بالتحدُّث بلغةٍ أجنبية، لكننا مضينا قُدمًا. وأذكُر إحدى المكالمات في أوائل شهر نوفمبر. كانت تشعر بأنها أكثرُ قوة، وكنتُ سأعود بالطائرة إلى كاليفورنيا عما قريب؛ لذا خطَّطنا لأن نلتقي. وسألتني إن كنتُ سأبقى حتى عيد الشكر، وأخبرتها أن أمي توقَّفت عن الاحتفال بعيد الشكر منذ سنتَين. كانت قد أعلنت ببساطة: «لن نحتفل بعيد الشكر ثانية»، الأمر الذي بدا ملائمًا على نحوٍ مُحزِن؛ حيث إن عيد الشكر هو الحدث العائلي الأهم والأكبر، وكنا أسرةً لا تعرف كيف تكون أسرة.

وكانت مورين ترغب بشدة في أن تحظى بعيد شكر مع والدنا. فطلبت مني أن أحاول إقناعَ أمي بأن تعدِل عن رأيها، حتى إنها قالت إنها ستضطلع بمعظم أعمال الطهي. حاولتُ، لكنني اصطدمت بحائطٍ صلد. ببساطة لم يكن الأمر سيحدُث. اعتراني شعور فظيع بالذنب لأنني لم أتمكن من أن أحقِّق لمورين ما أرادت، الأمر الذي ربما كان سيعني لها الكثير. لكن حينها كان عليَّ أن أُذكِّر نفسي بأن ذلك كان واقع أُسرتِنا. لم يكن بمقدوري تغييره وحدي، ولم يكن بمقدور مورين كذلك. كافحت لأحرِّر نفسي من القبضة البغيضة للإحساس بالذنب وتقبَّلت أن أسرتي لن تتغيَّر في هذا الصدد.

•••

لا يمكنك حقًّا أن تتجنب أفراد أسرتك، لكن بمقدورك أن تكون فطنًا حيال مَن تُدخلهم في حياتك من أصدقاءَ ومعارف. وسيكون لبعض هؤلاء آراءٌ بشأن الكيفية التي يجب بها معاملة مريض بداء ألزهايمر، وبشأن القرارات التي ينبغي على مقدِّمي الرعاية وأفراد الأسرة أن يتخذوها. وحتى إن كانت نيتهم طيبة، فليس هذا من شأنهم. ابحث عمَّن سيدعمونك، مَن سيستمعون إليك ولن يتدخَّلوا بطريقةٍ تجعلك منزعجًا، ولن يُلمِّحوا إلى أنك تتصرف بطريقة خاطئة أو لا تفعل ما يكفي.

بعد فترةٍ قصيرةٍ من عودتي للعيش في كاليفورنيا، صادفت امرأةً كنتُ أعرفها حين كنت متزوجة. كانت صديقةً لزوجي، ولم تكن تروق لي مطلقًا، ويرجع سبب ذلك في معظمه إلى أنها أوضحت بجلاء أنني لم أكن أروق لها. لكنني التقيتها مصادفةً على أي حال؛ لذا التزمتُ الأدب. بعدها شرعت المرأة في حديثٍ تروِّج فيه لمعالجٍ كانت، بحسب اعتقادها، تعرف أن بإمكانه علاجَ داء ألزهايمر.

فقالت بطريقةٍ متغطرسة: «لا يلتقي هذا الرجل بالكثيرين. لكنكِ إن استخدمتِ اسمي معه، فعلى الأرجح سيلتقي بكِ. وكُلْفته مرتفعة للغاية، لكنه قد يمنحكِ حسمًا على أتعابه لأنني أنا مَن أَوْصَى بكِ إليه.»

لن أخوض في الردود التي جالت بخاطري وقتها؛ فقط أعمِل مخيِّلتك. قلت لها، وأنا أكبح جِماح نفسي: «شكرًا لكِ، لكن أظنُّ أننا تجاوزنا أي شيء من هذا القبيل.»

فقالت وهي تطلق زفيرًا ينم عن الغضب: «حسنًا، لكن لو كان الأمر يخص والدي، لرغبتُ في أن أفعل أيَّ شيء لمساعدته.»

وبقَدْر ما كنتُ غاضبةً من فظاظتها وقسوتها، كنت لا أزال أشعر بوطأة الشعور بالذنب حين اتهمتني بأنني لا أرغب في مساعدة أبي. لقد سمعتُ أشياءَ مماثلةً لهذا من أناسٍ آخرين؛ محادثات يصرُّ فيها الأصدقاء أو المعارف على أنهم أعلم بما ينبغي فِعله حين يتعلَّق الأمر بعزيز شخص آخر. إن كان مَن يفعل ذلك صديقًا تهتم لأمره وتريده في حياتك، فأخبِره أنك تقدِّر اهتمامه، لكنك إن أردت مشورته فستطلبها منه. فإن لم يستمع إليك ذلك الصديق واستمر في التدخُّل في شأنك، فقد يتعيَّن عليك أن تتخذ قرارًا صعبًا بشأنِ ما إن كان ينبغي أن يظلَّ هذا الشخص في حياتك. إن كونك مقدِّم رعايةٍ لشخصٍ عزيزٍ عليك مصاب بالخرف؛ هو أمرٌ صعب بما يكفي من دون وجود أشخاصٍ لا يعرفون التعقيداتِ والجهدَ الداخلي المبذول من أسرتك، ويُدلون بدلوهم بشأنِ ما يظنون أنه ينبغي عليك فِعله.

•••

كثيرًا ما كان أحدُ الميسِّرين المشاركين في مجموعة الدعم الخاصة بي يقول إن ترياق الشعور بالذنب هو الشعور بالامتنان والعرفان. وقد أحببت تلك الفكرة لحظةَ سمِعتها. قد يبدو صادمًا ومتضاربًا في البداية لمقدِّمي الرعاية الذين يتعاملون مع الخرف أن يسمعوا عن الشعور بالعرفان. لكن حتى في خِضم مشاعر الفقد والحسرة، وحتى حين يهيمن داءٌ كداء ألزهايمر على حياةِ أسرة بأكملها، لا تزال ثمة أشياءُ تشعر بالعرفان لأجلها.

ذكرت فيما سبق أنه يمكن النظر إلى «الوداع الطويل» لداء ألزهايمر باعتباره هِبةً ومنحةً، حين نُقارنه بحالات الوفاة المفاجئة والقاسية في حوادث إطلاق النار العشوائية الجماعية مثلًا، أو المآسي الأخرى. إن الوقت، بينما يمتد ويبدو أنه ينقضي ببطء، هِبةٌ ينبغي أن نُثَمِّنها. فالخرف ليس داءً يسبِّب آلامًا جسديةً مبرحة. ويمكن أن يكون من الصعب رؤية المعاناة التي قد يلاقيها مرضى الخرف حين ينجرفون عبر الزمن إلى سنواتٍ مضت، ويستقرون على ذكريات بعينها، إلا أنها معاناة قصيرة الأجل. إذ سيمضون قُدُمًا؛ وسينسَوْن ما يزعجهم. هذا أيضًا شيء ينبغي الإقرار به والشعور بالامتنان من أجله.

حين أعيد التفكيرَ فيما أصاب والدي من مرض، فإن أولَ ما يخطر ببالي هو اللحظات التي تسطع بتألقٍ من بين ظلمات داء ألزهايمر. أفكِّر في ذلك اليوم وقت العصر حين كانت عاصفة ماطرة قد انتهت لتوِّها، وكنتُ جالسةً في الخارج معه في منزل والديَّ. كان المشهد متلألئًا وصافيًا. كانت الغيوم المتلاطمة من فوقنا، وبدت الأشجار، والمدينة من بعيد كلَوْحة مرسومة. حينها التفت والدي إليَّ وقال: «صنيعه حسن.» لم أكن واثقةً مما كان يعنيه، لكنني خمَّنت. فسألته: «تقصد الرب؟» فأجابني: «أجل»، وكانت عيناه تتلألآن كما كانتا في السابق قبل سنوات كثيرة.

يخطر ببالي السيرُ معه على الممر الخشبي بحذاء الشاطئ، والطريقةُ التي كان ينظر بها إلى المحيط. وكنت أتساءل إن كان يتوق إلى الجري على الرمال، وأن يغطس في الأمواج كما كان بوسعه أن يفعل يومًا ما. كان بعينيه شيءٌ بدا كمزيج من مشاعر الخسارة والاشتياق. كان المارَّة يتعرَّفون إليه وينادون عليه يحيُّونه، وكانوا دائمًا تقريبًا ما يخاطبونه بسيدي الرئيس أو الرئيس ريجان. وكان دائمًا ما يلوِّح لهم ويحييهم. وذات يوم التفت إليَّ وقال: «يبدو أنهم جميعًا يعرفونني. كيف يعرفونني؟» فأوضحت له أنهم يعرفونه لأنه كان شهيرًا حين كان رئيس الولايات المتحدة قبل سنوات. بدا مشدوهًا، وهزَّ رأسه قليلًا وكأنه يحاول أن يستعيدَ إحدى ذكرياته. لكن لم يفلح الأمر. لم يتذكَّر. وأردتُ أن أغيِّر النظرةَ التي بدت في عينيه؛ لذا بدأت أحدِّثه عن المحيط. فقال: «لا شيء يخيف في المحيط.» ولم يكن بعينَيه أيُّ خوف، ولا دهشة، مجرد ذكرى المياه والأمواج.

ويخطر ببالي الكريسماس حينما كانت أسرتُنا كلها مجتمعة، حين نظر أبي إلى الشجرة وسأل: «لماذا توجد شجرة هنا؟» فحاول مايكل أن يشرح له أن الوقت هو أعياد الكريسماس، وأن تلك هي شجرة الكريسماس. لكنه لم يستوعب ذلك. وأذكر أن بعضنا حاول أن يشرح له ما يجري في عطلة الكريسماس، لكن دون أن يحالفنا الحظ. وأصبح من الواضح في النهاية أنه لم يكن يستوعب مفهومَ الكريسماس. كان يطرح سؤالًا بسيطًا للغاية: لماذا توجد شجرةٌ في حجرة المعيشة؟ في نهاية المطاف، أدركنا أن الحل يكمُن في أن نجيب عن السؤال ببساطة. فأخبرناه أن الجميع في هذا الوقت من السنة يضعون شجرَ صَنَوبَر في حجرة معيشتهم، وأننا كنا نفعل ما يفعله الآخرون وحسب. وبدا أنه يفكِّر مليًّا، وأومأ ثم قال في تأكيدٍ قاطع: «حسنًا. ها قد فهمت.» يبرُز هذا الموقف في ذهني لأن أبي أظهر لنا شيئًا بشأن التعامل مع داء ألزهايمر؛ أحيانًا يكون عليك الإجابة عن سؤالٍ بعينه بأبسط الطرق الممكنة، من دون إضافة مفاهيم مثل العطلات أو المناسبات الخاصة.

ويخطر ببالي اليوم الذي خرجت فيه للتمشِّي معه في حديقة بالقرب من منزل والديَّ. كنا على رصيف مشاة عبر الشارع على الجانب المقابل للحديقة، ومن خلفنا بوَّابةٌ نبح علينا كلبٌ من داخلها. فالتفت أبي وردَّ النُّباح على الكلب. في البداية، كنتُ أشعر بالحَرَج. نظرت حولي لأرى إن كان أحدٌ بالقرب منا غير عملاء الخدمة السرية التابعين له. لم أُرِد أن يرى أحدٌ أن رونالد ريجان ينبح على كلب. لكن عندها نظر أبي إليَّ وضحك. فقلت في نفسي: «مَن يأبه إن رآه أحد؟ العالم يعرف أنه مصابٌ بداء ألزهايمر، وهو يقضي وقتًا طيبًا.»

تخطر ببالي كلُّ تلك الأوقات وأكثر بعظيم الامتنان. فوضع الشعور بالذنب في مكانه الصحيح، أن تطلب من ذلك الشعور أن يتركك وشأنَك حين لا تكون في حاجة إليه، هي عمليَّة مستمرة. حتى حين كنت أدرك أنه لا ينبغي أن يراودني الشعور بالذنب، كنت أشعر به في بعض الأحيان؛ وحين كنت أضحك مع والدي، وحين كنت أشعر بشيء من الهدوء يغشاني على نحوٍ غير متوقَّع، كان يبدو لي للحظةٍ أنني غير شاعرةٍ بفداحة هذا المرض وجسامته على أبي. كان عليَّ أن أعيد تذكيرَ نفسي مرات ومرات أن لوحةَ ألوان داء ألزهايمر تحوي الكثير من الألوان — بعضها قاتم وبعضها رائع. إنني أَدين لنفسي — ولوالدي — بتقبُّلي لهذه الألوان جميعها. كان الامتنان أحد أروع الألوان، وقد رافقني عبر السنين، مرسخًا ذكرياتي ومذكِّرًا لي بأن الحياة إن أصبحت معقَّدة بقدرِ ما يمكن لها أن تكون، يمكن أيضًا لها أن تكون ببساطةٍ عصرَ يوم مشرق بعد هطول المطر يبدو فيه وكأن الرب يبتسم.

«كلما عَمَّق الحزن حفرةً في كينونتك، ازدادت قدرتك على احتواء فرحٍ أكثر.»

خليل جبران، «عن الفرح والأسى»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤