الفصل السابع

الجماليات العالمية

تذكَّر زيارتك الأخيرةَ إلى متحفٍ فنيٍّ كبير. هل يمكنك أن تتذكَّر عددَ ما في المتحف من أعمالٍ فنية «يجب مشاهدتها» أُنتِجَت في أوروبا أو الولايات المتحدة؟ ربما الغالبية العظمى منها. لكنَّ الأعمالَ الفنية تُنتَج في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في أوروبا والولايات المتحدة. ليس من السهل اكتشافُ هذه الأعمال الفنية في معظم المتاحف الفنية. وإذا وُجِدَت فيها من الأساس، فعادةً ما يُخفونها في جناحٍ بعيد.

لقد شبَّه ويليم دي كونينج (١٩٠٤–١٩٩٧)، أحدُ فنَّاني التعبيرية التجريدية، الرؤيةَ المعاصرة السائدة لتاريخ الفن بمسارِ سكةٍ حديدية؛ حيث قال: «هناك مسارُ قطار في تاريخ الفن يرجع إلى بلادِ ما بين النهرَين. إنه يتخطى أراضي الشرق، والمايا، والهنود الحمر بأكملها. يسلك هذا المسارَ دوشامب. وكذلك سيزان. وبيكاسو والتكعيبيون، وجياكوميتي، وموندريان، وغيرهم الكثيرون من الحضارات الكاملة.»

لحسن الحظ، أنَّ القليلين فقط من مؤرخي الفن هذه الأيام هم مَن يتبنَّون تشبيهَ الفن بمسار السكة الحديدية. لكنَّ هذه الطريقة في التفكير في الفن لا تزال مهيمنةً على المفاهيم اليومية للفن، وكذلك على العملِ التنظيمي في معظمِ المتاحف. إذا أردنا التوقُّف عن إعطاءِ الامتياز للفن الأوروبي على أي نوعٍ آخرَ من الفن، فلا نحتاج إلى تغييرِ عدم التوازُن بين الفن «الغربي» وغير «الغربي» فحسب، بل نحتاج أيضًا إلى اختلالِ التوازن بين الجماليات «الغربية» وغير «الغربية». إننا بحاجةٍ إلى جمالياتٍ عالمية.

جغرافية الرؤية

إلى أي مدًى تعتمد خبرتك الجمالية (خبرتك مع الأعمال الفنية، المناظر الطبيعية … إلخ.) على الثقافة التي نشأتَ فيها؟ هذا هو السؤال المبدئي في الجماليات العالمية. والجواب مباشر؛ لا يمكننا أن نفترضَ ببساطةٍ أن القِطع الفنية يُنظَر إليها في كل مكان وفي كل حِقبةٍ تاريخية بالطريقة نفسِها التي يُنظر إليها بها في مكاننا وزماننا الحاليَّين. (سأتحدَّث عن القِطع الفنية من الآن فصاعدًا؛ لأني أريد أن أبتعدَ عن السؤال حولَ ما يُعد وما لا يُعد «فنًّا» في الثقافات المختلفة.)

يتعارض هذا الادعاءُ مع وجهة النظر التقليدية في الجماليات، التي ترى أنَّ هذا المجال تخصُّص يتعامل مع الكليات؛ إذ تدرُس طرق التفاعل مع الأعمال الفنية وغيرها من الأشياء الجمالية المستقلة عن خلفيتنا الثقافية. الحق أنَّ مؤرخي الفن غالبًا ما يتهمون متخصصي علم الجمال المتبنِّين لهذه النظرة بالشمولية الثقافية. وتتأكد هذه السِّمة الشمولية للجماليات بدرجةٍ أكبرَ من خلال البحوث الجمالية التي تتأثر حاليًّا بالعلوم العصبية الدارجة في الآونة الأخيرة، والتي غالبًا ما تهدُف إلى إيجادِ الارتباطات العصبية لمختلف أشكال التقدير الجمالي بطريقةٍ لا تعتمد على الخلفية الثقافية للأشخاص.

حقيقة الأمر أنَّ العكس هو الصحيح. إذا أخذنا علومَ العقل التجريبية في الاعتبار، فما تُعلِّمنا إيَّاه في الواقع هو أن نتخلى تمامًا عن الشمولية الثقافية. السبب في ذلك هو الوفرة المُوثقَة من تأثيرات المعالجة التنازلية على الإدراك. تُظهِر آلاف الدراسات في علم النفس وعلم الأعصاب أن ما نعرفه ونعتقد فيه يؤثِّر حتى في المراحلِ الأولى من المعالجة البصرية والسمعية. ونظرًا لأننا نعلم أشياءَ مختلفةً ونصدِّقها وفقًا للثقافة التي نشأنا فيها والفترة الزمنية، فسيختلف إدراكنا أيضًا وفقًا لهذه الثقافةِ ولهذه الفترة الزمنية.

المسألة التي تعنينا الآن إذن هي آليةُ عمل تأثيرات المعالجة التنازلية على الإدراك، والعمليات التي تتوسَّطها. سأتحدَّث عن آليَّتَين من آلياتِ الوساطة؛ الانتباه والصورة الذهنية. يعتمد كلٌّ من الانتباه والصورة الذهنية اعتمادًا كبيرًا على حالاتنا العقلية الأعلى، مثل المعتقدات والمعرفة. ويؤثِّر كلٌّ من الانتباه والصورة الذهنية على إدراكنا وتجربتنا الجمالية.

بعبارةٍ أخرى، هناك اختلافاتٌ فيما بين الثقافات في الانتباه والصورة الذهنية. ونظرًا لأهميةِ الانتباه والصورة الذهنية في تجربتنا الجمالية، فإنَّ هذا يضمن وجودَ اختلافاتٍ فيما بين الثقافات في تجاربنا الجمالية. بمعرفةِ ما نعرفه عن كيفيةِ عمل العقل، لا تصبح الشمولية خيارًا مطروحًا. لا يمكننا أن نفترض أن تجربتنا هي التجربة نفسُها التي كان منتجو الأعمال الفنية المحليون يقصدون الوصول إليها، وهي التجربة نفسُها التي عايشَها الجمهور المحلي.

إنَّ ما ننتَبه إليه وما نفعله يعتمد إلى حدٍّ كبير على معتقداتنا الأساسية، ومعارفنا، ومهاراتنا الإدراكية، وكلُّها تشكِّلها الثقافة. ونتيجةً لهذا، تتشكَّل أنماطُ انتباهنا من خلال الثقافة أيضًا. ولكن نظرًا لاعتمادِ خبرتنا مع الأعمال الفنية اعتمادًا كبيرًا على ما ننتَبه إليه، فهذا يعني أن هناك تنوعًا كبيرًا بين الثقافات في خبرتنا مع الأعمال الفنية.

لنضرب مثالًا على ذلك، انظر إلى التيباتو (درع الصدر) من جزر سليمان، والموضَّح في الشكل ٧-١. ربما ترى نمطًا تجريديًّا من الخطوط المتقاطعة. الآن أخبرك أن حرف V المقلوبَ في الطرف السفلي للدرع يمثِّل على الأرجح ذيلَ طائر الفرقاط، والأشكال التي فوقه مباشرةً هي أجنحته. يشير طائرُ الفرقاط إلى وجودِ أسرابِ سمكةِ البونيتو، وهو نوعٌ مهمٌّ من الأسماك في النظام الغذائي لسكان جزر سانتا كروز، التي أتى هذا الدرع منها. يُعتقد أن الأشكالَ الموجودةَ في الأعلى تمثِّل الدلافين أو الأسماك، وربما حتى سمك البونيتو الذي تشير إلى وجوده طيورُ الفرقاط.
fig5
شكل ٧-١: التيباتو (أو تيما أو تامبيه) جزر سليمان، أواخر القرن التاسع عشر (أوقيانوسيا)، متحف متروبوليتان للفنون.

من المحتملِ أن تنتَبه إلى سِماتٍ مختلفة في هذا الدرع قبل قراءةِ الفقرة السابقة وبعدها. وتُولي انتباهًا أكبرَ إلى أجزاءٍ منه تجاهلتَها من قبلُ (مثل النتوءات الصغيرة التي قد تشير إلى ظهور الدلافين). ونتيجةً لذلك، تختلف خبرتك تمامًا. يؤدي التغييرُ في الانتباه (ذي الخصوصية الثقافية الكبيرة) إلى تغييرٍ في خبرتك مع العمل الفني.

وليس ما ننتَبه إليه فقط هو ما يختلف عَبْر الثقافات، وإنما تتغيَّر طريقةُ انتباهنا أيضًا. عادةً ما تختلف استجابةُ الأشخاص الذين نشَئوا في شرقِ آسيا للعروض المرئية البسيطة، مثل أحواض الأسماك، عن استجابةِ الأوروبيين لها. فعادةً ما ينتَبه الأوروبيون إلى الأسماكِ المتحركة، بينما يميل سكان شرق آسيا إلى الانتباه إلى سِمات الخلفية، مثل الفقاعات أو الأعشاب البحرية. بشكلٍ عام، يبدو أن انتباهَ الأوروبيِّين في هذه المهام البصرية أكثرُ تركيزًا وأن انتباهَ سكان شرق آسيا أكثرُ توزيعًا. تُوجَد اختلافاتٌ بين الثقافات في توجيه الانتباه، مما يؤدي بدوره إلى اختلافاتٍ بين الثقافات في خبراتنا الشعورية.

الوسيط الثاني في التأثيراتِ التنازلية على خبرتنا الإدراكية هو الصورة الذهنية. تعتمد صورنا الذهنية إلى حدٍّ كبير على ما نعرفُه ونؤمن به وعلى ما أدركناه من قبلُ. عندما تتخيَّل تفاحة، فإن النحو الذي تبدو عليه هذه التفاحةُ المُتخيَّلة يعتمد على أنواع التفاح التي رأيتَها في حياتك. وتلعب الصور الذهنية دورًا مهمًّا في خبرتنا مع الأعمال الفنية (موضوعٌ متكرِّر في الجماليات اليابانية).

يُصمِّم الفنان الإندونيسي جومبيت كوسويدانانتو (١٩٧٦–…)، على سبيلِ المثال، تركيباتٍ تحتاج إلى إكمالها بمساعدة التصوُّر الذهني. وفي هذه الحالة، تمثِّل الصورة الذهنية للمشاهد عنصرًا حاسمًا في الخبرة الشعورية (الشكل ٧-٢).
fig6
شكل ٧-٢: جومبيت كوسويدانانتو، «موكب العالم الثالث»، ٢٠١٢ (إندونيسيا).

سوف يستخدم أشخاصٌ مختلِفون من خلفياتٍ ثقافية مختلفة صورًا ذهنية مختلفة لإكمال هذا العمل الفني؛ وستتكوَّن لدى معظم الناس على الأرجح (وليس الجميع) صورٌ ذهنية للخيول عند النظر إلى هذا التصميم، ولكن في تلك الثقافات التي ترتبط فيها الخيول بالحرب، على سبيل المثال، ستختلف هذه الصور الذهنية (خاصة للراكب) وستحمل شِحنةً عاطفيةً مختلفة تمامًا. وهذا يعني أن العمل الفني نفسَه سيثير لدى الأشخاص المختلفين من خلفياتٍ ثقافيةٍ مختلفة خبراتٍ مختلفة تمامًا.

يتميَّز تصميمُ كوسويدانانتو بجاذبيةٍ مباشرة وصريحة غير عادية لتصوُّراتنا الذهنية، لكنَّ الصور الذهنية عنصرٌ أساسي في الغالبية العظمى من خبراتنا مع الأعمال الفنية. هذا واضح بشكلٍ خاص تقريبًا في جميعِ التقاليد الجمالية غير «الغربية»؛ حيث يُنظر إلى الخبرةِ الجمالية بشكلٍ واضح على أنها خبرةٌ متعددة الوسائط تُخاطب جميعَ حواسنا؛ فهي لا تقتصر على الرؤية، بل تشمل السمع، والشم، والتذوق، واللمس (يبدو أن التمركُز البصري الشديد الإفراط غالبًا، الذي تتسم به الجماليات، هو أمرٌ «غربي»).

يتجلَّى هذا بوضوحٍ شديد في تقليد الراسا، الذي يعني اسمه حرفيًّا كما رأينا، تذوُّق النكهة العاطفية للخبرة الشعورية. والنكهة هنا ليست مجرد استعارة. فحتى خبرات الراسا التي تثيرها لدينا حاسةٌ واحدة فقط (كالسمع على سبيل المثال، في حالة الموسيقى) من المفترض أن تُفعِّل جميعَ حواسِّنا الأخرى (الرؤية، الشم، اللمس، التذوُّق). بعبارةٍ أخرى، من المفترَض أن تثيرَ تصوُّرًا ذهنيًّا متعدِّد الوسائط.

وليست الراسا مثالًا منفردًا. من المفاهيم الرئيسية في الجماليات اليابانية «الجمال الخفي» أو «اليوجين»؛ أي التقدير الذي ينطوي على شيءٍ أقربَ إلى الصور الذهنية (للجوانب الخفية والناقصة). وأكَّد الفيلسوف الإسلامي ابن سينا في القرن الحادي عشر تأكيدًا كبيرًا على أهميةِ التصوُّر في خبرتنا مع الجمال.

تعتمد خبرتنا على خلفيَّتنا الثقافية. ويحب مؤرخو الفن التحدُّث عن تاريخ الرؤية. من المشهور عن هاينريش ولفلين (١٨٦٤–١٩٤٥)، الذي قد يكون مؤرخ الفن الأكثر تأثيرًا في جميع العصور، أنه زعَم أن «الرؤية نفسَها لها تاريخها، وأن الكشف عن هذه الطبقات البصرية يجب أن يُعَد هو المهمةَ الأساسية لتاريخ الفن». وصحيحٌ أنَّ الكثيرَ قد قيل عن هذا الزعم المثير للجدل؛ فثمَّة منطقٌ واحد يُعد هذا الزعم صحيحًا وفقًا له من الناحية التجريبية، وهو نظرًا إلى أن لكلٍّ من الانتباه والصور الذهنية تاريخًا، فإن للرؤية، التي تتأثَّر بهما، تاريخًا أيضًا.

إذا كان للرؤية تاريخٌ بهذا المعنى، فإن لها أيضًا جغرافية. وينطبِق الأمر نفسُه على الإدراك بشكلٍ عام. نظرًا إلى أن الانتباه والصور الذهنية يعتمدان على الثقافة التي نشأنا فيها، يعتمد الإدراك، الذي يتأثَّر بهما، أيضًا على خلفيَّتنا الثقافية. فالجماليات العالمية تتعلَّق بجغرافية الرؤية.

مفرداتٌ عالمية

لا يمكننا الاستعانةُ بخبرتنا مع عملٍ فنيٍّ ما في وضعِ افتراضاتٍ بشأن تأثير هذه الأعمال الفنية في الخبرة الشعورية في ثقافاتٍ أخرى. ولكن كيف لنا إذن أن نعرفَ الخبرة الشعورية التي أثارَتْها هذه الأعمالُ الفنية في الثقافات المختلفة وكيفية تعامُل كلٍّ من هذه الثقافات معها (خاصة إذا لم يكن هناك أحدٌ متبقيًا من هذه الثقافات للتحدُّث إليه)؟

نحن نعرف الكثيرَ عن بعض مراكز إنتاج الأعمال الفنية. ولكننا نعرف أقلَّ بكثير عن مراكزَ أخرى. يخلق هذا تباينًا كبيرًا في التفكيرِ في الجماليات العالمية. فنحن نعرف قَدرًا لا بأس به من المعلومات عن كيفية إبداع اللوحات في إيطاليا في القرن الخامس عشر ونظرة الناس إليها، ولا نعرف شيئًا تقريبًا عن هذا الموضوع نفسِه في أمريكا الوسطى في القرن الخامس عشر. هذا التبايُن المعرفي هو نتيجةٌ لعواملَ عرَضية مثل الأماكن التي حُفِظَت فيها السجلات والأماكن التي لم تُحفَظ فيها. ينبغي ألا يقودَنا هذا إلى التفكيرِ في أن القِطع الفنية في تلك الأجزاء من العالم التي نعرف الكثيرَ عنها «أفضل» بطريقةٍ ما أو أجدر بالدراسة.

ولكن إذا كنا لا نستطيع تعميمَ خبرتنا «الغربية» على الثقافات الأخرى وكان لدينا القَدْر القليل جدًّا من المعلومات بشأنِ تأثير الأعمال الفنية في الخبرة الشعورية في معظمِ أنحاء العالم، فهذا يؤدي إلى استنتاجٍ متشكك؛ فليس لدينا أيُّ طريقةٍ لمعرفةِ الكيفية التي تثير بها الأعمالُ الفنية الخبرةَ الشعورية في الثقافات الأخرى، بسبب الاختلافات الجذرية للتأثير الشعوري للأعمال الفنية في الثقافات المختلفة. إذا كنا نريد أن نتجنَّب هذا الاستنتاجَ المتشكِّك، فنحن بحاجةٍ إلى إيجادِ طريقةٍ لفهْم بعض جوانب الأعمال الفنية على الأقل دون معرفةِ الكثير عن الثقافات التي أنتجَتْها.

يجب أن تكون الجمالياتُ العالمية قادرةً على وضعِ إطارٍ مفاهيمي يمكنه تناول أيِّ عملٍ فني، بغَض النظر عن مكان وزمان إنتاجه. ويؤدي هذا إلى تحديدِ السِّمات التي يجب وجودُها في أي عملٍ فني، والتي تُعد ذات صلة بنطاق الجماليات.

ومن الأمثلة البسيطة للسِّمات اللازم وجودُها في جميع الأعمال الفنية، التكوين المادي والحجم. فكل عملٍ فني مُصمَّم من شيءٍ ما وله حجمٌ معيَّن. وثمَّة سِماتٌ أكثرُ بساطةً مثل ما إذا كان العمل الفني يصوِّر تفاحة. فإما أنه يصوِّرها أو لا يصوِّرها، لا يُوجَد خَيارٌ آخر. المشكلة في هذه الأمثلة هي أنه في حين يكون الحجم والتكوين المادي في بعض الثقافات ذا صلةٍ بنطاق الجماليات، فإنه غير ذي صلة بها في العديد من الثقافات الأخرى. ولهذا نحتاج إلى إيجاد مساحة من السِّمات الأكثرِ ارتباطًا من الناحية الجمالية.

أريد استخدامَ الصورِ دراسةَ حالة. عادةً ما تكون خبرتُنا مع الصورِ خبرةً جمالية، ولا ينطبق هذا في ثقافتنا «الغربية» فحسب. وليست الصورُ أعمالًا فنية بالضرورة؛ فعلى سبيل المثال، مخطَّطات سلامة الطيران التي تتناول كيفيةَ مغادرة الطائرة في حالة الهبوط على الماء ليست أعمالًا فنية بأي حال من الأحوال. غير أنَّه يُوجَد الكثير من الأشياء التي تُعد صورًا؛ وهي لا تقتصر على ما يُصنَع بالألوان الزيتية على القماش أو التمبرا على الخشب، بل تضُم الوشم على الجلد، والخدوش على قطعٍ من لِحاء من الأشجار، أو الصور الذاتية على هاتفك. تشمل الصور مجموعةً متنوِّعة من الأشياء.

على الرغم من ذلك، لكل صورة تنظيمٌ تصويري؛ وكل صورة تُنظِّم العناصرَ التصويرية بطريقةٍ غير عشوائية. وللتنظيم التصويري أهميةٌ جمالية في جميع الثقافات. أحدُ المفاهيم الأساسية لجماليات اليوروبا (التقليد الجمالي لشعب جنوب غرب نيجيريا) هو «الإفاراهون»، التي غالبًا ما تُترجَم على أنها الرؤية؛ إذ يُشترط أن تكون جميع أجزاء الشخص مصمَّمة بشكلٍ واضح ومرئية. وصحيحٌ أنَّ هذا المفهوم كان ينطبق في الأساس على المنحوتات، لكنه صار الآن أيضًا أهمَّ مَزِيَّة يجب أن يستهدفها المصوِّرون (حيث يعني، على سبيل المثال، أن كلا عينَي الجالس أمام المصوِّر يجب أن تكون مرئية).

في الأعمال المبكِّرة الأكثر تفصيلًا في لوحات الجماليات الصينية، أوجز الرسامُ والناقد الصيني في القرن السادس شي هي، قوانينَ الرسم الستة. يتعلَّق القانون الخامس بوضع العناصر التصويرية وترتيبها على السطح من حيث المساحة والعمق (والذي أصبح موضوعًا رئيسيًّا في جميع الأطروحات الصينية عن اللوحات منذ ذلك الحين). كما أن الخندا الثالثة ﻟ «الفيشنودارموتارا بورانا»، وهو النص الهندوسي الموسوعي الشديدُ التفصيل عن فن الرسم، والمكتوب في الوقت نفسه تقريبًا، مليءٌ أيضًا بالإشارات إلى التنظيم التصويري؛ أي مَن مِن الأشخاص في الصورة يجب أن يظهر خلف مَن أو بجواره أو أمامه. ولطالما كان التنظيم التصويري موضوعًا رئيسيًّا في الجماليات اليابانية كذلك.

تتعلَّق المسألة التي تطرحُها جميعُ هذه الأعمال بكيفية تنظيم الصور. على مستوًى مجرَّد للغاية، هناك أسلوبان مختلفان ومميزان للتنظيم التصويري، وهما ما أُطلِق عليهما «تنظيم السطح» و«تنظيم المشهد». وجميع الصور، بغَض النظر عن مكان رسمها وزمانه، تقع في مكانٍ ما على الطيف بين التنظيم السطحي وتنظيم المشهد.

يهدُف التنظيم السطحي إلى لفتِ الانتباه إلى كيفية وضع أشكال الخطوط الثنائية الأبعاد للشيء المُصوَّر داخل الإطار الثنائي الأبعاد. وعلى النقيض من ذلك، يهدُف تنظيم المشهد إلى لفتِ الانتباه إلى كيفية وضع الأشياء المُصوَّرة الثلاثية الأبعاد في المساحة المُصوَّرة. ثمَّة تبادُل بين التنظيمَين، وتُحاوِل معظمُ الصور الجمعَ بينهما. على الرغم من ذلك، عادةً ما يغلب أحدهما — سواء التنظيم السطحي أو تنظيم المشهد — في حالة وجود صراعٍ بين المبدأَين التنظيميَّين.

للتنظيمِ التصويري أهميةٌ جمالية ويحتاج جميعُ صانعي الصور إلى اختيارِ كيفية تنظيم صورهم. والأهم من ذلك أنَّه ليس تمييزًا يتَّسم بالمركزية «الغربية»، بل هو مسألةٌ تتعلَّق بتصميم الصور في أي ثقافة. وبناءً على هذا، يمكن اعتبارُ الطيف بين التنظيم السطحي وتنظيم المشهد نقطةَ انطلاق لإطارٍ مفاهيميٍّ شديدِ العمومية (لا يتَّسم بالمركزية «الغربية») لوصف أي صور، بغَض النظر عن مكان إنتاجها.

هذا التمييزُ بين التنظيمِ السطحي وتنظيمِ المشهد هو أمرٌ مجرَّد إلى حدٍّ ما. لذلك سيكون من المفيد إثباتُ هذا التمييز بمساعدةِ سِماتٍ أبسطَ من السهلِ اكتشافُها. سأركِّز على سِمتَين من هذا القبيل، وهما الإطباق والسطح الفارغ.

fig7
شكل ٧-٣: لوحة جدارية سكيثينية، القرن الخامس قبل الميلاد، بازيريك، ألتاي (سيبيريا).
إننا نصادف الكثيرَ من حالات الإطباق في إدراكنا اليومي؛ فنرى بعضَ الأشياءِ خلف أشياءَ أخرى أو أمامها. السؤال هو ما إذا كان الإطباق يظهر في الصور. يقتضي التنظيمُ السطحي أن ينتَبه صانع الصورة إلى وجودِ الإطباق من عدمه؛ فالإطباق في الصورة هو سِمةٌ لطريقة ارتباط أشكال الحدود الثنائية الأبعاد للأشياء المُصوَّرة بعضها ببعض على السطح الثنائي الأبعاد. تجاهد بعض الصور لتجنُّب الإطباق. بينما تتكدَّس به صورٌ أخرى. كلتا الحالتَين مؤشرٌ جيد على التنظيم السطحي. ويُمكِننا وضُع جميع الصور في طيفٍ يتراوح بين الغياب التام للإطباق والتكدُّس التام به. الشكلان ٧-٣ و٧-٤ مثالان قريبان من طرَفَي الطيف.
fig8
شكل ٧-٤: هانيجاوا توي، موكب البعثة الكورية في إيدو، حوالي عام ١٧٤٨. (اليابان).

تتركَّز الصور التي تنتمي إلى ثقافاتٍ معينة حول نقاطٍ محدَّدة في هذا الطيف. عادةً ما تتجنَّب الصور السكيثينية للبازيريك، على سبيل المثال، الإطباقَ بأي ثمنٍ تقريبًا. أما في صورة هانيجاوا توي فيبدو أنَّ كل شيءٍ تقريبًا مُطبَق عليه بشيءٍ آخر عمدًا. يُعد كلا هذَين النوعَين من الصور من التنظيمات السطحية.

على النقيض من ذلك، فإن هناك صورًا لبعض الثقافات الأخرى (على سبيل المثال، منحوتات الأمريكان الأصليِّين سكان السهول، أو لوحات الطبيعة الصامتة الهولندية من القرن السابع عشر)، لا تُعنى بشكلٍ خاص بوجود الإطباق أو غيابه، وهذا مؤشِّر على تنظيم المشهد؛ إذا نُظِّمت الصورة تبعًا للمشهد الثلاثي الأبعاد الذي تصوِّره، فلا يكون لوجودِ الإطباق أو غيابه أهميةٌ خاصة.

السِّمة الثانية الموجودة في كل صورة هي وجود السطح الفارغ أو غيابه. في الإدراك اليومي، غالبًا ما يكون بعضٌ من مجالنا البصري فارغًا، بمعنى أنه لا يحتوي على عناصرَ مثيرةٍ للاهتمام على المستوى الإدراكي، فقط السماء، والأرض، وجدار فارغ. تحاول بعضُ الصور عمدًا تجنُّب السطح الفارغ، ووضع عناصرَ مثيرة للاهتمام من الناحية التصويرية في كل بوصةٍ مربعة من السطح. في حين تتعمَّد صورٌ أخرى وجودَ الأسطح الفارغة. بعض الأمثلة واردةٌ في الشكلَين ٧-٥ و٧-٦.
fig9
شكل ٧-٥: ألكسندر أبوستول، المبنى المصقول، ٢٠٠١ (أزال المصوِّر باستخدام الكمبيوتر العديدَ من تفاصيل المبنى (النوافذ والأبواب)) (فنزويلا).

نؤكد مرةً أخرى على أنَّ الانتباه إلى ما إذا كان جزءٌ من السطح فارغًا أم لا هو مؤشرٌ كبير على التنظيم السطحي. أما تنظيم المشهد، فلا يرتبط إطلاقًا بما إذا كانت بعض أجزاء السطح فارغة أم لا. كما هي الحال في الإطباق، تتجمَّع الصور ذاتُ التنظيم السطحي حول نقاطٍ محدَّدة من طيفِ السطح الفارغ (تتجمَّع الصور التي تنتمي إلى ثقافاتٍ مختلفة حول نقاطٍ مختلفة). على النقيض من ذلك، تنتشر الصور التي تتَّسم بسِمة تنظيم المشهد في جزءٍ كبير من هذا الطيف.

fig10
شكل ٧-٦: جدارية في معبد وات فو، القرن التاسع عشر، مدرسة بانكوك (تايلاند).

نحصل على تصميمٍ متناسقٍ على أساس هاتَين السِّمتَين؛ الإطباق والسطح الفارغ. ويمكننا إضافة سِماتٍ أخرى كالإطار أو التماثل. تراعي بعض الصور وجودَ إطارٍ لها أو حتى تُبرِزه، بينما يُحاوِل بعضها الآخر التظاهرَ عمدًا بعدم وجوده. وبما أن الإطارَ سطحٌ ثنائيُّ الأبعاد إلى حدٍّ كبير، فإن الاهتمام به (سواء بإبرازه أو عدمه) هو إحدى دلالات التنظيم السطحي. والتماثل هو سِمةٌ أخرى من سِمات السطح؛ فبذلُ المجهود للحصولِ على تكوينٍ متماثل أو بذلُ المجهودِ للحصول على تكوينٍ غيرِ متماثل سيكون مؤشرًا على التنظيم السطحي. وإذا لم يكن للتماثُل أهميةٌ كبيرة (أو إذا لم يكن للإطار أهميةٌ كبيرة)، فستكون تلك دلالةً على تنظيم المشهد.

يؤدي هذا إلى ظهورِ مساحة من السِّمات المتعدِّدة الأبعاد تستوعب جميعَ الصور، بغَض النظر عن مقدارِ ما نعرفه عن الثقافات التي أنتجَتْها. وليست هذه بالطبع نهايةَ فهْمنا للصور التي تنتمي إلى ثقافاتٍ مختلفة؛ إذ يُوجَد غير ذلك الكثير من جوانب الصور مما هو خاصٌّ بثقافاتٍ معينة، ولن يكون هذا التحليل الشكلي قادرًا على تقديمها. لكنها نقطةُ بدايةٍ قوية لمزيد من البحث في سياقاتٍ أكثرَ خصوصية من الناحية الثقافية.

وهذه المساحةُ من السِّمات المتعددةِ الأبعاد المحايدة ثقافيًّا يمكن أن تساعدنا في إحرازِ بعض التقدُّم في فهْم صور الثقافات التي لا نعرف عنها سوى النَّذر القليل. إذا وجدنا أنَّ جميع الصور المُنتَجَة في ثقافةٍ معيَّنة تتجنَّب الإطباق، على سبيل المثال، فهذا يعطينا معلومةً مهمةً لمحاولةِ معرفةِ السبب في ذلك. لن يُعطيَنا هذا التحليلُ الشكلي إجاباتٍ (أو ربما يعطينا إجاباتٍ جزئيةً للغاية)، غير أنَّ بإمكانه أن يجعل الأسئلةَ التي نطرحها أكثرَ تركيزًا.

فيما يلي مثالٌ على ذلك. إذا كنتَ لا تعرف شيئًا عن الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، ورأيتَ العديدَ من الصور، مثل لوحة دومينيكو فينيزيانو الصغيرة التي رأيناها في الفصل الخامس (الشكل ٥-١)، فلن يكون لديك أيُّ فكرة عن ماهية الشكلَين الموجودَين في هذه الصور. أحدهما امرأة، والآخر له أجنحة. ولكن إذا رأيتَ عددًا من الصور لهذه المرأةِ ومعها كائنٌ مجنَّح بشري الشكل، فستُلاحِظ أن الشكلَين عادةً ما يُوضعان متباعدَين. إنَّهما لا يُوضعان مطبقَين أحدهما على الآخر فحسب، بل يُوضَعان على القماشِ على نحوٍ يجعل حدوثَ الإطباق بينهما مستحيلًا. أنت لا تعرف أن هذه صورٌ لحدَث البِشارة؛ حيث اللقاء بين بشرٍ ومَلاكٍ يسكنان عالمَين روحيَّين مختلفَين تمامًا، ونتيجةً لذلك، لم يكن من الممكن (أو من غير الجائز) تصويرهما في المساحة نفسِها. لن تعرف هذا إلا إذا كنتَ تعرف شيئًا على الأقل عن الدِّين والثقافة الأوروبيَّين في العصور الوسطى. ولكن حتى لو لم يكن لديك معلوماتٌ عن الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى على الإطلاق، ففَور ملاحظة غرابة العلاقة المكانية بين هذَين الشكلَين، ستكون على الأقل في وضعٍ يسمح لك بالتعرُّف على هذه الغَرابة ذاتِ الخصوصية الثقافية. لكي تفهم السببَ وراء هذه الإشكالية التصميمية في تصوير حدث البِشارة في القرون الوسطى، تحتاج إلى معرفة شيءٍ عن الثقافة المحلية (الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى). على الرغم من ذلك، يمكنك ملاحظةُ هذه الإشكاليةِ التصميمية من دون أن يكون لديك أيُّ معلوماتٍ خاصة بتلك الثقافة.

تعتمد الجماليات العالمية على التفاعلات التعزيزية المتبادَلة بين المعلومات الخاصة بالثقافات والسِّمات الشكلية العامة التي تشترك فيها أيُّ قطعةٍ فنية من نوعٍ بعينه. يمكن لهذَين الاتجاهَين المتعارضَين ظاهريًّا أن يساعد كلٌّ منهما الآخر، بل ينبغي لهما ذلك؛ فكلما اكتشفنا المزيدَ عن سِمةٍ شكليةٍ ما يتكرَّر ورودُها في الأعمال الفنية في ثقافةٍ معينة (على سبيل المثال، ما إذا كانت تتجنَّب الإطباق عمدًا) أصبحنا في وضعٍ أفضلَ للبحث عن بعض المعلومات ذات الخصوصية الثقافية حول سببِ تكرُّر ورود تلك السِّمة.

تيهٌ أكبر في المتحف

لقد بدأتُ الكتاب بخبرةٍ شعورية تراودنا جميعًا عندما نواجه الأعمالَ الفنية أو غيرها من الأشياء ذات الأهمية الجمالية؛ أحيانًا نجد صعوبةً في الدخول في أجواء الخبرة الجمالية مهما حاولنا. فقد تكون الخبرةُ الجمالية التي أثارها فينا عملٌ فني قويةً ومُرضية. لكنها لا تحدُث لنا الآن.

إليك سؤالًا أكثرَ تحديدًا ربما تطرحه على نفسك في المتحف في كثيرٍ من الأحيان: علامَ يجب أن أبحثَ عندما أرى قِطعًا فنية من ثقافاتٍ مختلفة؟ إليك منحوتةً غربَ أفريقية من بنين (الشكل ٧-٧). ومن المرجَّح جدًّا أن هذه المنحوتات لم تكن تعني من صناعتها إثارةَ أيِّ تجربةٍ جمالية (بغَض النظر عن مدى اتساع نطاق تفسيرنا لما يُعد جماليًّا). ماذا تفعل عندما تدخل غرفةً في متحفٍ مليئةً بمنحوتاتٍ بنينية من القرن السادس عشر مثل هذه؟ ما نوعُ الخبرة التي تحاول أن تستشعرها؟
fig11
شكل ٧-٧: رأس الملِكة الأم، القرن السادس عشر (بنين).
تخميني أنك ستُحاوِل فهْم هذه الأشياءِ من خلال ربطها بالأعمال الفنية التي تعرفها. في حالةِ المنحوتة التي تنتمي إلى غرب أفريقيا، من المرجَّح أن يكون هذا الإطارُ المرجعي بالنسبة إلى الكثيرين هو النحتَ الأوروبي الحداثي (الذي تأثَّر بشدةٍ بالمنحوتات الخشبية في غرب أفريقيا، ولم يكن ذلك من قبيل المصادفة على الإطلاق). قد ننجذب إلى بعض منحوتات بنين لأنها تذكِّرنا بالنحت الحداثي لقسطنطين برانكوسي (١٨٧٦–١٩٥٧) على سبيل المثال (شكل ٧-٨). ويُمكِننا الحصولُ على قَدْر لا بأس به من المتعة الجمالية، وربما حتى الخبرة الجمالية من هذا.
fig12
شكل ٧-٨: قسطنطين برانكوسي، «مايسترا» (طائر ذهبي جميل في الفلكلور الروماني) (متحف جاجينهايم).

لقد قدَّمتُ زعمًا اجتماعيًّا؛ فقد وصفتُ كيف تكون تجربتنا عادةً في واقعِ الأمر مع الأشياء من هذا النوع. لكن هناك سؤالٌ آخر: هل من الخطأ أن تأخذَ تجربتنا مع الأعمال الفنية هذا المنحى؟ من الواضح أن هذه الأشياءَ لم يكن من المفترض أن تثير فينا خبرةً شعورية كالتي تثيرها فينا أعمال برانكوسي.

وثمَّة سؤالٌ آخر مشابه، وهو ما الذي نبحث عنه عندما نرى قِطعًا فنية من فترةٍ زمنيةٍ مختلفة؟ فذهابك إلى المتحف كثيرًا يعني أنك سترى أعمالًا فنية من فتراتٍ زمنيةٍ مختلفة. الأمر نفسُه ينطبق على الاستماع إلى الموسيقى أو قراءة الأدب. ماذا نفعل عندما يحدُث هذا؟

وأنا أؤكد ثانيةً أنَّ زعمي الاجتماعي هو أننا نُحاوِل استشعارَ خبرتنا مع هذه الأعمال بما يمكننا أن نألفها؛ أي بطرقٍ مألوفة لدينا من تجربتنا مع أعمالٍ من حاضرنا. عندما ننظر إلى لوحةِ دومينيكو فينيزيانو في الفصل الخامس، نحاول أن ننظر إليها بطريقةٍ تشكَّلَت من خلال رؤيتنا لأنواعٍ مختلفة تمامًا من اللوحات (لوحات القرن العشرين على سبيل المثال). ويظل السؤال: هل من الخطأ أن نفعل هذا؟

في ضوء الخصوصية الثقافية لخبرتنا الجمالية، لا تنشأ الأسئلة بشأنِ ما هو خطأ وما هو صواب فيما يتعلَّق الأمر بتجربتنا مع الأعمال الفنية من الأساس. لا تنشأ لأنه سواءً أكان النظرُ إلى المنحوتات البنينية واللوحات الإيطالية المبكرة بناءً على تجربتنا مع الأعمال الفنية الحداثية خطأً أو غير ذلك، فليس لدينا بديلٌ حقًّا. أفضلُ ما يمكننا فِعله هو تقييم هذه الأعمال الفنية من منظور ثقافتنا.

كما رأينا، تتأثَّر التجربةُ الجمالية بالخلفية الثقافية للفرد تأثرًا تنازليًّا. فالنحَّات البنيني والجمهور الذي استهدفَتْه هذه المنحوتات اختبروا تجاربَ جماليةً تختلف في تأثيراتها التنازلية اختلافًا كليًّا عما اختبرَتْه. وهذا يجعل من غير المرجَّح إلى حدٍّ كبير أن تتشابه تجاربنا مع تجارب المُنتِجين والمستخدمين الأصليِّين للأعمال الفنية.

لكن ألا يمكننا على الأقل أن نحاولَ تضييقَ هذه الفجوة؟ يمكننا أن نحاول. ومن ناحيةٍ ما، ينبغي علينا أن نفعل ذلك. غنيٌّ عن القول إنه من شأنِ التعرُّف على الثقافات الأخرى وأعمالها الفنية أن يعودَ علينا بالنفع. لكنْ ثمَّة سببٌ منهجي يجعل الانغماسَ الثقافي الكامل شبهَ مستحيل، وهو ظاهرةٌ نفسية بِتْنا نعرفها جيدًا الآن، وهي تأثير التعرُّض المحض (لا بد أن التعرُّض المتكرِّر لمفهومِ تأثيرِ التعرُّض المحض طوال هذا الكتاب يجعل لأي قارئ استعدادًا إيجابيًّا له). فبسببِ تأثير التعرُّض المحض، تعتمد أحكامنا التقييمية على الأعمال التي كانت لنا تجربةٌ معها. من الصعب للغاية تغييرُ تفضيلاتنا الجمالية الراسخة (التي رسخَت فينا في سنواتِ تكويننا المبكِّرة).

يمكننا قضاءُ عقود في استكشافِ ثقافةٍ مختلفة في «مواضعها الأصلية». هذا ما يفعله العديدُ من مؤرخي الفن العالميِّين بالفعل. فإذا بحثوا، لنقُل، في الفن الإندونيسي، انتقلوا إلى إندونيسيا عدةَ سنوات، أو حتى عقود، كي يتعرَّضوا للوسط الثقافي، والمحفِّزات في ذلك الوسط التي قد تختلف تمامًا عن المحفِّزات التي اعتادوها. وهذا يمكن أن يعكس، جزئيًّا على الأقل، تأثيرَ التعرُّض المحض. لكنَّ الحياة قصيرة؛ فحتى لو انغمستَ بالكامل، على سبيلِ المثال، في الثقافةِ الإندونيسية، فستظل تائهًا تمامًا في معرضِ لفن المايا.

التواضع الجمالي مرةً أخرى

ميَّز مايكل باكساندال (١٩٣٣–٢٠٠٨)، المؤرِّخ الفني والناقد البريطاني، بين المشاركين في إنتاجِ الثقافة وجمهورها. فكما يقول: «المشارِك يفهم ويعرف الثقافة [ثقافته] ببداهة وتلقائية لا يشاركه فيها الجمهور. ويُمكِن [للمشارك] التصرُّف ضمن المعاييرِ والقواعد الثقافية دون وعيٍ ذاتيٍّ عقلاني.»

ما أرمي إليه أنه من الصعب جدًّا، بل مما يقترب، في الواقع، من المستحيل، أن يصبح المرءُ مشاركًا مشاركةً تامةً في ثقافةٍ مختلفة. القاعدة العامة هي أننا سنبقى دائمًا في صفوف الجمهور، على الرغم من كلِّ جهودنا. فلن نصبح فجأةً مشاركين في الفن الأوقيانوسي لأننا قرأنا بضعة كتبٍ عنه. والسبب في ذلك تجريبي في الأساس، ويتمثَّل في التأثيرات التنازلية على الإدراك وتأثير التعرُّض المحض.

ما العمل في هذا؟ لا يزال من الجيد الاطلاعُ على الثقافات البعيدة وأشكال الإنتاج الفني؛ فمن شأن ذلك أن يعودَ على المرء بمتعةٍ كبيرة. وينبغي أيضًا أن تقطع الجمالياتُ العالمية بضعةَ أشواطٍ على الأقل نحو فهْم رؤيةِ الأشخاص في الثقافات الأخرى للعالم من حولهم. من خلال القراءة عن الثقافات البعيدة يُمكِننا الاقترابُ منها بعضَ الشيء، ويمكن لهذا أن يفتح أمامنا بابًا أكبرَ من الخبرات الجمالية التي نجهلها. ولكن ينبغي ألا ينخدعَ أحدٌ فيحسَب أننا بفعل ذلك يُمكِننا أن نصبح مشاركين في تلك الثقافات لا جمهورًا لها عن بُعدٍ فحَسْب.

وهذا يُعطينا سببًا أكبرَ للتحلي بالتواضُع الجمالي. يجب أن نكون دائمًا على درايةٍ بالمنظور الثقافي الذي نتبنَّاه، وأن نتعامل مع تقييماتنا الجمالية بتواضُع، باعتبارها تقييمًا أُجري من منظورٍ ثقافيٍّ محدَّد للغاية. من السهل على المرء أن يكون متعجرفًا عندما يتعلَّق الأمر بالجماليات؛ ربما لأنها من الأمورِ التي لها أهميةٌ شخصيةٌ كبيرة لدينا على وجهِ التحديد. ولكنَّ هذا داعٍ أكبرُ كي نكون شديدي الحذَر فيما يتعلق بتقييماتنا الجمالية. إذا كانت ثمَّة رسالةٌ واحدة نستخلصها من هذا الكتاب، فهي أننا جميعًا بحاجةٍ إلى المزيد من التواضُع الجمالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤