الفصل الثالث

الآلة

قصة الآلة أعجب القصص في تاريخ الإنسان؛ لأنها القصة التي نستطيع أن نبصر في خلالها عوامل الحضارة من بداءتها إلى ما انتهت إليه في أيامنا، وما تنتهي إليه بعد هذه الأيام، وهي إلى جانب ذلك قصة الحكمة الخالدة التي تتجلى لنا من وراء تاريخ الإنسان، ونستطيع أن نلمس عبرتها في أدوار ذلك التاريخ.

الآلة من عمل الإنسان، أو الإنسان من عمل الآلة؟

من قال: إن الآلة من عمل الإنسان لم نشعر بغرابة في قوله، ولكننا كذلك لا نرى أنه قال قولًا يستحق عناء ترديده؛ لأنه من تحصيل الحاصل، ومن تبيين ما لا يحتاج إلي بيان.

ولكننا نستغرب أن يقال: إن الإنسان من عمل الآلة، ولكنها الغرابة التي تتراءى بها كل حقيقة جديرة بالنظر فيها والبحث عنها، خفية عند النظرة الأولى، جلية بعد التأمل وإعادة النظر أصدق جلاء.

ليكن رأي العلماء ما يكون في مذهب النشوء والتطور، وليكن منهم من يقول: إن الإنسان حيوان من الحيوانات العليا، نشأ معها أو تسلسل منها، أو فليكن منهم من يرفض هذا القول، ويقصر التطور على كيان الإنسان عضويًّا حيويًّا أو أدبيًّا فكريًّا كيفما اختار.

ليقل من شاء هذا وليقل من شاء ذاك، فلا اختلاف بين الفريقين في حقيقة واحدة لا تتوقف على هذا القول أو ذاك، وهي أن استخدام الآلة كان من أوله أكبر فارق بين الإنسان والحيوان الأعجم، وإن الإنسان — لو بقي كالحيوان — عاجزًا عن استخدام الآلة لم تكن له حضارة، ولم تكن له حياة اجتماعية، أو فردية، تختلف كثيرًا عن حياة الحيوان.

إن الحيوانات في جملتها عاجزة عن استخدام الآلة على أبسط ما تكون في حالتها البدائية، عاجزة عن استخدامها دفعة واحدة على فترات متقطعة، وعاجزة عن مواصلة استخدامها من باب أولى.

فليس في وسع الحصان — مثلًا — أن يقذف حجرًا، أو يحمل عصًا أو يحرك شيئًا بواسطة من الوسائط غير أعضاء جسده.

وقد تستطيع الحيوانات العليا — كالقردة — أن تقذف بالحجر أو تحمل العصا من فروع الشجر، وربما استطاعت أن تحرك شيئًا بعيدًا عنها إذا شاهدت أمامها من يفعل ذلك، فعمدت إلى محاكاته وهي لا تدري ما تفعل، أو تدريه، ولا تبتدئه من عندها عن روية وتفكير.

ولكنها — سواء درت أو لم تدر — عاجزة عن مواصلة الانتفاع بالآلة البسيطة من الحجر أو من فروع الشجر؛ لأنها تحتاج إلى يديها لتمشي عليها، ولا تقوى على استخدام الرجلين والاكتفاء بهما في حركة المشي خطوة واحدة إذا هي انتقلت من مكانها.

فاستخدام الآلة وانتصاب قامة الإنسان أمران متلازمان، واستقامة الإنسان في وقوفه ومشيه هي الفاصل الواضح بين أطوار الحياتين: أطوار الحياة الإنسانية، وأطوار الحياة الحيوانية.

وبين انتصاب القامة وصلاح اليدين للعمل المتواصل المتعدد ملازمة ظاهرة في تكوين بنية الإنسان، وتكوين دماغه، وارتباط الحركة اليدوية بالحركة الفكرية في أعماله.

ولا يهمنا أن يقال في هذا السياق: إن الإنسان ارتقى؛ لأنه صنع الآلة أو أنه صنع الآلة لأنه ارتقى، فكلا القولين يفيد شيئًا واحدًا، وينتهي إلى نتيجة واحدة، وهي ارتباط تاريخ الآلة بتاريخ الإنسان وحضارته وتفكيره وسائر مزاياه التي ميزته من عامة الأحياء أعلاها وأدناها على السواء، فالإنسان حيوان صانع للآلات كما قال بنيامين فرنكلين في تعريفه الجامع المانع لهذا الحيوان الناطق بما ينطوي عليه معنى النطق من ملكة واستعداد، ومن قال: إن الآلة ميزت الإنسان بين أنواع الحيوان، فله أن يقول: إن الآلة صنعت الإنسان.

قلنا في كتابنا عن فرنكلين: «إن تعريف فرنكلين للإنسان في الحقيقة أصدق تعريف له وأوفاه بالشرط الجامع المانع في التعريف، فما من فارق بين الإنسان والحيوان أوضح وأثبت من قدرة الإنسان على صنع الآلة واستخدامها، وهذه القدرة هي المقصودة بتعريف فرنكلين لا وجه للاعتراض عليها بتفاوت الناس فيها، فليس الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الناطق أن بعض الناس لا ينطقون ولا يفكرون، وأن بعضهم يولدون بكمًا أو مجانين، وليس من الاعتراض الصالح على تعريف الإنسان بالحيوان الاجتماعي أن يشد بعض الناس ويتأبد في الخلاء وينفر من الاجتماع، ولكن العبرة من هذه القصة أوسع وأدق من أن يحيط بها تعليق واحد، وكفى منها هنا أن تبرز قدرة العقل العلمي المطبوع على التعريف وإقامة الحدود والفوارق، وأن تبرز تلك الرابطة الوثيقة في طبيعة فرنكلين بين الإنسانية وصنع الآلات.»

هذه الرابطة الوثيقة بين قصة الآلة وتاريخ الحضارة الإنسانية، أو تاريخ نوع الإنسان في تطوره وارتقائه، هي مدار العبرة الخالدة، ومظهر الحكمة الإلهية في ذلك التاريخ، وأدعى الأمور إلى إظهار هذه الحكمة أن نذكر أن الآلة قد فرضت على الإنسان اضطرارًا كما تفرض الأخطار والنكبات، وأن نذكر من آراء الناس فيها قديمًا وحديثًا كيف نظر إليها الهداة من الفلاسفة والقديسين، فإنهم لم ينظروا إليها قط نظرة المختار الذي يحمدها ويتمناها لأبناء نوعه، ولم يكن في أقوال الفلاسفة والقديسين عنها ما يدل على أنها من تدبير نوع الإنسان لنفسه، وإنما هي من تدبير آخر غير تدبير النوع الإنساني، يساق إليه حينًا على ما يريد، وأحيانًا على غير ما يريد.

•••

فمنذ القدم جعلت الآلة رمزًا للتسخير وفقدان الإرادة، ولحق بها في هذا الاعتبار من يعمل بالآلة ومن يصنعها، فالعاملون بالآلات مسخرون، والذين يصنعونها مسخرون، وكلهم تجردهم الآلة من إنسانيتهم، وهي في منشئها مزية الإنسان على عامة الأحياء.

ولما تخيل الناس الأرباب على صورة البشر تخيلوا الرب الذي يصنع الآلات دميمًا ممسوخًا أعرج شائه المنظر، يتقبله الأرباب في علياء «الأوليمب» على مضض، ويهمون بطرده من سمائهم أنفة من جلوسه إلى جوارهم، ولم يصبروا عليه إلا لحاجتهم إليه.

ذلك هو «هيفستوس» الحداد كما عرف في ملاحم اليونان الأقدمين، ويسمى أيضًا «ملسيبر» الذي عاشت قصته بهذا الاسم في الآداب الأوروبية إلى العصور الحديثة، وقال في ملتون: إن زيوس رب الأرباب قذف به من السماء: «فظل يهوي من الصباح إلى وقت الظهيرة، ومن الظهيرة إلى المساء الندي نهار صيف كامل، هبط بعده عند مغرب الشمس كالنجم المنقض من السمت إلى جزيرة بحر إيجه: لمنوس.»

وفي قصة أخرى من قصص «هومر»: إن أمه هي التي قذفت به من سمائها بعد مولده؛ لأنها استقبحته وعافت منظره فنبذته خجلًا من الظهور به بين الأرباب، وقد هبط به الشعراء المتأخرون من «أوليمب» الآلهة، وزعموا أنه يعمل في مخبأ مدفون في الأرض تحت البراكين الثائرة، فخلط الرومان بينه وبين الرب «فلكان» رب المواقد والنيران.

ويظهر أن تمثيل هيفستوس على هذه الصورة قديم متواتر بين شعوب المغرب والمشرق، ففي الإصحاح الرابع من سفر التكوين: «إن لامك اتخذ لنفسه امرأتين: اسم الواحدة عادة، واسم الأخرى صلة، فولدت صلة توبال قين الضارب كل آلة من نحاس وحديد.» وهو اسم مركب من كلمة طورانية وكلمة سامية، حيث التقت اللغتان قديمًا في وادي النهرين، ومعنى توبال أعرج، ومعنى قين حداد، وتطلق في العربية أحيانًا على العبد المسخر في الصناعة.

قال الأستاذ سليمان البستاني مترجم إلياذة هومر في تعليقاته على النشيد الثامن عشر منها:

قيل أخذ اليونان عبادته عن المصريين حيث كان يسمى فتالي، وآلهة النار عند البلاسجة والطرواد، ثم الرومان، تدعى — فستا — تطرقت إليهم عبادتها من الفرس، ومن الغريب أن يكون هذا التشابه بين المعبودين، وأحدهما ذكر والأخرى أنثى، والأغرب من ذلك أن أول صيقل لجميع المصنوعات الحديدية والنحاسية في التوراة هو توبال قين، وتوبال أو طوبال باللغات التترية — ومنها التركية — الأعرج، وقين باللغات السامية — ومنها العربية — الحداد، وكلاهما لقب هيفست، مع أن توبال قين كان قبل عهد هوميروس بحسب نص التوراة بنحو ألفي عام.

وإذا كان هذا شأن صناع الآلات ومخترعيها بين الأرباب وأوائل الأسلاف، فلا جرم يهون شأنهم بين البشر، ويساويهم أو يقل عنهم من يعملون بها، ويعولون في معيشتهم عليها، فقد أوشك هذا العمل أن يكون من لوازم الرق والعبودية أو لوازم الضعة والهوان، فمن عمل الآلة لنفسه أو عمل بها لغيره فهما عند الأقدمين في المهانة سواء.

وجاء أرسطو فقسم النوع الإنساني إلى طبقتين: طبقة حرة ذات إرادة، وطبقة مستعبدة لا حرية لها ولا إرادة، وجعل هذه الطبقة في حكم الآلات؛ لأنها وسيلة لخدمة المسخرين لها بغير اختيارها.

ولما ظهرت آلات البخار والكهربا وشاعت المكنات الكبرى التي يديرها المئات من العمال والصناع لم يرتفع شأن العامل والصانع في نظر المحدثين عما كان عليه في نظر الأقدمين، بل هبط كثيرًا في القرن الأول من نشأة الصناعة الكبرى، لأن الصناع الأولين كانوا ينفردون بأعمالهم أحيانًا ويتصرفون بإدارة آلاتهم وأدواتهم، ويحتاجون إلى الذكاء والحيلة في إتقان مصنوعاتهم، ويفوقون غيرهم ممن لا يحذقون الصناعة في حسن الفهم والملاحظة، فلما نشأت المكنات الكبرى وتشابهت أعمال الصناع استغنى الصانع عن الفهم والملاحظة، وكاد أن يعتمد على يديه أو على عضلات بدنه في أداء مهمته المتكررة المتشابهة بغير تنويع أو تفكير، وصح فيه أنه أصبح في حكم الآلة التي يديرها، بل تطورت صناعة المكنات شيئًا فشيئًا، حتى حلت فيها المفاتيح والأزرار محل الأيدي والعضلات.

ولم يمض غير قليل على انتشار الصناعات التي تدار بالبخار والكهرباء حتى انطوت كلها في عنوان واحد يحتوي الآلات في أطوائها، ويحتوي معها أصحاب المصانع وأصحاب أموالها، وجمهرة العاملين فيها من العاملين بأفكارهم، والعاملين بأيديهم، بل يمتد حتى يحتوي سياسة الدول التي اتسعت فيها ميادين الصناعة الحديثة، ودفعتها إلى التوسع في غزو البلدان وفتح الأسواق واحتكار موارد لخامات المصنوعة، وحصر المناطق التي تباع فيها، والتنازع بينها على السيادة العالمية للاستئثار بتلك الأسواق والمناطق، والاستعداد لذلك التنازع بما يستلزمه من سلاح ومكيدة، وما يقتضيه من إثارة الفتن وشن الغارات، وإشعال نيران الحروب، فأصبحت كلمة «الصناعة الكبرى» عنوانًا لجميع هذه الخطط والمطامع، ولكل ما يتصل بها من مرافق المال، ومساعي السياسة، وبواعث الأخلاق والعادات.

ونظر المفكرون إلى «الصناعة الكبرى» في إبان نشأتها وامتدادها نظرتين متعارضتين: فمن كان من بناتها ومؤسسيها والمقيدين بنظامها فقد حسبها من ضرورات التقدم التي تقترن فيها النعمة بالنقمة، ويحتمل فيها الضرر الكبير في سبيل المنفعة التي لا غنى عنها، ومن كان من المفكرين خلوا من مطالبها وأغراضها بعيدًا من قيودها وشباكها فهي عنده محنة من محن الزمن الأخير تربى سيئاتها على حسناتها وتغيب منافعها في غياهب آثامها وجرائرها، ووصفها بعضهم بالصناعة الجهنمية، وخيل إليه أن «المكنة الضخمة» إنما هي «الجقرنوت» الساحقة يركبها إله المال بدلًا من إلهها القديم «فشنو»، ويجتاح بها كل ما قابله في طريقه ليستوي عليها معبودًا بين قرابينه وضحاياه.

وتقابل في رأي المفكرين المنكرين عالم الصناعة وعالم الطبيعة، أو تقابلت عندهم الحياة المصطنعة الملفقة، والحياة الفطرية السليمة التي بدا لهم أنها الحياة المثلى، وأنها نقيض تلك الحياة المختلفة التي تمسخ النفوس، وتفسد ما بين الإنسان والإنسان من روابط العطف ووشائج الرحم والولاء.

وعلى أثر الهجمة الأولى من هجمات هذا «الجقرنوت» الحديث سرت في العالم دعوة خفيفة، أو رفيعة، كادت تغطي شيئًا فشيئًا على ضجيج «المكنة» الصاخبة التي ملتها الأسماع، وأعارتها ما أعارته من صغواتها على كره منها، وكانت تلك الدعوة التي سرت خفيفة تارة، ورفيعة تارة أخرى، هي دعوة العودة إلى الطبيعة أو دعوة السلام مع الله كما سماها بعض أقطابها الأولين، وتقاس هذه الدعوة في الزمان، كما تقاس في المكان، فينكشف لنا مدى اتساعها ونشاط الأذهان لقبوها حيثما تنقلب الصناعة الكبرى في خطواتها، كأنما تطاردها في مسيرها على حسب انتشارها وشيوعها، واحتدام مشاكلها وأخطارها.

فمن شعراء البحيرة في إنجلترا بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، إلى هنري ثورو Thoreau في أمريكا الشمالية من أوائل القرن التاسع عشر إلى ما بعد منتصفه، ثم تنتقل إلى شرق القارة الأوروبية في روسيا، فينادي بها رسولها تولستوي بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتبلغ الهند فتعود إليها مع الجقرنوت الحديث، وترتفع بها عقيدة قديسها وزعيمها مهاتما غاندي، أكبر رسلها في العالم الحديث، وآخر من حارب «المكنة» الضخمة ليعود بالناس إلى آلات البداءة التي يكاد أن يصنعها الصانع بغير حاجة إلى معمل ولا أداة.

وتلاقى المصلحون الأخلاقيون، والمصلحون الاقتصاديون في هذه الدعوة إلى الطبيعة فنشأت مدرسة «الطبيعيين»، وقال المؤمنون بمذهبها: إن الأرض ينبوع كل خير ومنبت كل عمل، وإن الأرض تعطي ولا تعقب عطاءها بالشر والعداوة، ولكن الصناعة التي تنفصل من الأرض تأخذ منه أضعاف ما تعطيه، وتسوي بينه وبين الآلة الصماء في التقدير والتقويم، ولكنها لا تعفيه من الألم والضغينة إعفاءها للآلة الصماء.

•••

وعلى هذا النمط قضى عقل الإنسان قضاءه في الآلة منذ خرج بها من عداد العجماوات، وامتاز بها بين عامة الأحياء، وهو لا يدري بهذه المزية، فلو كان في مقدور نوع الإنسان أن يدبر لنفسه على مدى القرون، لما ارتضى الآلة تدبيرًا له يقدر له منافعه ونتائجه قبل عشرات الألوف من السنين، ويثابر على رضاه مستزيدًا من خطاه شاعرًا باقترابه في كل خطوة من هدف مرسوم يريده، ويصبر على عثراته؛ لعلمه بما وراءها من نهاية مطلوبة وأمنية مبتغاة.

كلا، إن نوع الإنسان كان خليقًا أن يحكم على الآلة في كل مرحلة من مراحل تاريخها كأنها — على أحسن ما تكون — ضرورة مكروهة يلجئه إليها ما هو أكره منها، ويعتمد عليها لأنه مسوق إليها، يرميها من يده قبل استخدامها لو استطاع، ولا يصبر عليها — كما هو شأنه معها — إلى أن يلقيها من يده بعد الفراغ منها.

•••

وجملة القول: إن تاريخ الآلة عند الإنسان ينتهي إلى تاريخ شيء محتقر أو مكروه، ولكننا إذا نظرنا إليها نظرًا يحيط بالنوع الإنساني منذ نشأته إلى هذه السنوات الأخيرة، وما سيليها من السنوات اللاحقة، فقد يسفر هذا النظر عن حقيقتين يقل الخلاف عليهما، وهما:

«أولًا» إن الآلة صاحبت تقدم الإنسان فردًا وجماعة، وكانت مقياسًا لدرجات الحضارة عند أممه عصرًا بعد عصر وفي جميع العصور، فهي على الجملة مقياس الفارق بينه وبين الحيوان الأعجم في أعلى أنواعه وأقربها إليه.

والحقيقة الثانية أن منافع الآلة غير المقصودة لا تقل عن منافعها المقصودة التي تدخل في تدبير الفرد أو الجماعة، فما من آلة قديمة أو حديثة تنحصر منافعها في حدود الغاية التي تستخدم لها وتخترع من أجلها، وما من حكمة إنسانية يمكن أن تنحصر فيها تلك المنافع، أو يمكن أن تستوعب مقدماتها ونتائجها من النظرة الأولى.

كانت الآلة الأولى صخرة أو فرعًا من فروع الشجر وسيلة لإصابة الصيد أو اتقاء السباع الضارية، وهذه هي فائدتها التي تدركها حكمة الإنسان، ويعمل على طلبها.

ولكن الفائدة غير المقصودة من استخدام الصخرة أو فرع الشجرة أكبر جدًّا من هذه الفائدة التي تكفل له البقاء وحماية النفس بين الأعداء؛ لأنها فائدة تتقدم به وتزيد في قدرته، وتنمي ملكاته، وتنقله من الحيوانية إلى الإنسانية، وتخطو به الخطوة التي يقف عندها الحيوان فلا يتقدم، ويبتدئ منها الإنسان فيبلغ ما هو بالغه اليوم من تمييز وامتياز.

فاستخدام الآلة في رأي العلماء جميعًا هو الذي جعل اليدين في الإنسان أتم وأقدر من اليدين في ذوات الأربع، وهو الذي شحذ العلاقة الفكرية والمادية بين الدماغ وسائر أعضاء الجسد وحواسه، ولا اختلاف بين الباحثين في علم الإنسان على ذلك، وإنما يختلفون في التقديم والتأخير بين سائر الإنسان على قدميه منتصب القامة وبين ارتقاء دماغه وابتدائه في التفكير.

فمن العلماء من يرى أن الإنسان ارتقى فكرًا، فهداه التفكير إلى استخدام الآلة واكتسب المرونة الجسدية والفكرية من توفيقه بين الأغراض، والمجهودات التي يستخدم من أجلها الآلات، ويرى علماء آخرون أنه استوى قائمًا على قدميه، واستطاع أن يمشي معتدل القامة، فتمكن من استخدام الآلة، واستعمال اليدين في حملها وتصريفها، وتسديدها إلى غاياتها، وتعلم من ذلك كيف يوفق بين حركات الجسم وهداية الدماغ، فكان هذا سببًا لنموه واطراد تقدمه، وازدياد قدرته على الفهم والحركة الجسدية في وقت واحد.

فالأستاذ واشبرن Washburn أستاذ علم الإنسان «الإنثروبولوجي» في جامعة شيكاغو يقول في فصل كتبه سنة ١٩٤١: «إن المعروف عن الأجزاء الأخرى من الهيكل العظمي قليل، ولكن يستطاع أن نعتبر من المقرات البينة الآن أن اعتدال القامة وكل ما يصاحبه مما يساعد عليه في تركيب الجسم هو مرحلة بلغها الإنسان قبل وصوله إلى هيئته التي استقر عليها.»١
وقد لخص الدكتور أشلي مونتاجو طرفي الرأي حول هذه المسألة في عجالة علمية سماها: «الإنسان في أول مليون سنة»، قال فيها عند الكلام على نسب الإنسان:

في أفريقيا الجنوبية — وبخاصة في أخريات السنوات العشرين — كشفت هياكل عظمية من متحجرات القردة سميت قردة الجنوب، وأدعى ما فيها إلى الالتفات أنها في كل شيء قردية، إلا في سعة الجمجمة، وعظام الفخذ والساق والقدم؛ فإنها شبيهة بالعظام البشرية، ويتحقق من عظام الفخذ والساق أن قردة الجنوب كانت تمشي معتدلة أو على نحو من الاعتدال، ومن ثم نشاهد لأول مرة علامات ثابتة تدل على ترتيب تطور البنية الإنسانية، وقد حدث هذا الاعتدال قبل نمو الدماغ إلى الحجم الذي يماثل دماغ الإنسان، وكان بعض الثقات يحسبون أن الترتيب مختلف، ولكننا الآن نعلم يقينًا أن سلف الإنسان اعتدلت قامته أولًا قبل أن يبلغ مبلغ الإنسانية.

كم عاشت هذه القردة الجنوبية؟ لا نعلم علم اليقين لأن طبقات الأرض في الإقليم الذي وجدت فيه بقايا تلك القردة لم تدرس دراسة وافية، إلا أن الأكثرين من المختصين يرجحون أنها عاشت في العصر المحدث الأخير Pleistocene أي قبل مليون سنة أو نحوها، وربما انقرضت هذه القردة قبل ربع مليون سنة أو أقل من ذلك.
ثم استطرد قائلًا بعد استبعاده أن تكون هذه القردة أسلافًا مباشرة للإنسان: «هل كان لها نوع من الكلام؟ لا نعلم، وربما كانت لها مبادئه الأولى، فهل كانت لديها آلات؟ يجوز أنها كانت تستخدم شيئًا منها، فإن في بعض أقاليم أفريقيا الجنوبية حصى دقاقًا مصفحة كثيرة العدد من المحقق أنها استخدمت كالآلة، ويجوز أنها من صنع سلف الإنسان، وقد وجد بعضها ومعه أسنان القردة الجنوبية، ويزعم بعضهم أن تلك القردة الجنوبية استخدمت عظام الرباح — أحد السعادين — آلات لها، ودعا إلى هذا الظن أن جماجم كثير من هذه السعادين قد وجدت مع بقايا القردة الجنوبية على حالة يفهم منها أنها ضربت على رءوسها، فاعتقد الأستاذ رايموند بارت Bart من أفريقيا الجنوبية أنها من عمل القردة، وأن هذه كانت تستخدم بعض الآلات أو الأدوات، وأن كان كثير المختصين يتردد في اعتقاد ذلك ما لم تؤيده أسانيد أخرى.»٢
وقد خيل إلى آحاد من النشوئيين أن تكرار التجربة التاريخية بوسائل العلم الحديث مستطاعة، فشرعوا في إعداد العدة للاستعانة بالجراحة على تقويم عظام الحيوانات العليا التي تقوى على المشي معتدلة بعد تعديل عظام الحقوين، وتثبيتها في مفاصلها على نحو يمكنها من الحركة ولا يحوجها إلى المشي على أربع من حين إلى حين، ويظن النشوئيون الذين يشرعون في هذه التجارب أنهم سيعرفون بعض الشيء على الأقل عن ترتيب نشوء الكلام، واستخدام الدماغ والأجهزة الصوتية في النطق المفيد، وهم لا يجهلون أن الحيوان الفرد لا يدرك في مدى حياته القصيرة ما أدركه نوعه في مئات القرون، ولا يجهلون كذلك أن الذي يدركه الفرد بعملية جراحية في عظامه لا يورث ولا ينقل بالوارثة — كله أو بعضه — ما لم يتسرب أثره إلى الخلايا الناسلة Genes وصبغياتها Chromosomes ولكنهم يترقبون من تغيير مسلك الحيوان بعد اقتداره على المشي المعتدل أن يفهموا كيف ابتدأ تحسين الأجهزة الصوتية، وتهيئة اللسان للكلام مع التجاوب بين عمل الدماغ وحركات الأعضاء، وقد يحدث في عمر الحيوان الفرد ما يكفي لتعيين الاتجاه إن لم يكن كافيًا لإدراك الوجهة أو للاقتراب منها كما حدث في أطوار التاريخ.

•••

ونعود فنقول: إن النشوئيين قد يختلفون فيما بينهم، وقد يختلفون بينهم وبين غيرهم، ولكن الواقع الذي لا خلاف فيه أن الفارق بين الحيوان والإنسان مرتبط بتاريخ استخدامه للآلات، وأنه لولا قدرة الإنسان على صنع الآلات والاستعانة بها على مطالبه لما كانت له مزية تفرق بينه وبين العجماوات.

وننتقل من الإنسان الفرد إلى الإنسان الاجتماعي في الشعب أو الأمة.

إننا في غنى عن تتبع الأدوار التي مرت بها الصناعات لنعلم أنها كانت في كل دور من أدوارها مقياسًا لحضارة الأمة، وعنوانًا على المزايا الفكرية والخلقية التي تميزها على غيرها، وقد نعلم من عرض حالة الصناعة في دور واحد من أدوارها أن فوائدها المقصورة لا تستقصي جميع فوائدها، وإن الصناعات التي يتقنها الإنسان للحرب لا تلبث أن تدخل في عداد الصناعات التي يقوم عليها السلم ويقوم عليها العمران، ومن المشكوك فيه أن الصناعة كانت تتقن تطريق الحديد وتليينه على درجات من المرونة والمضاء لو لم تعمل على إتقان السيوف والحراب والدروع، فإن آلات الحرث والحفر تصنع بغير حاجة إلى الإمعان في أساليب التطريق والتليين، ولكن معالجة الحديد قد أغنت في صناعات السلم والعمران فوق غنائها في صناعات القتال والتدمير.

ولما نشأت صناعات البخار والكهرباء ظهر للآلات أثر جديد لم يكن منه بد لترقية الاجتماع، ولم تكن إليه وسيلة بغير «المكنة الضخمة» التي جاء بها إلى التاريخ عصر البخار والكهرباء، وهي تلك «الأداة الجهنمية» أو «تلك الأداة الشيطانية» كما وسمها الحكماء بمعزل عن حكمة التاريخ.

لقد كان بناء الصناعة الكبرى على المكنات الضخام مظهرًا من مظاهر التوازن في المجتمع بين أصحاب الثروة الزراعية وأصحاب الثروة المعدنية وأصحاب الثروة التجارية، وكان قيام هذه الصناعة الكبرى دليلًا على تكافؤ القوى بين أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، ثم جاءت المكنة الضخمة بقوة جديدة لم تكن تعرف نفسها، ولم يكن أحد يعرفها، ولم يكن لها — لو عرفت — من سبيل إلى سماع صوتها، فقد جمعت المكنة الضخمة مئات الصناع وألوفهم في صعيد واحد، وكان اجتماعهم بهذا العدد في رابطة واحدة عدة حية تعتمد عليها الصناعات في انتظامها وتوفير إنتاجها، فتم التوازن الاجتماعي حيث اجتمعت هذه القوة للطوائف التي كان من السهل ظلمها ومن الصعب إنصافها، وهي متفرقة تدير آلاتها المفردة على حدة.

كان لأصحاب الأموال سلطانهم الذي لا يدفع، سواء كانوا من ذوي الثروة الزراعية، أو ذوي الثروة الصناعية، أو ذوي الثروة التجارية، وكانوا ربما تنافسوا بينهم فاضطرتهم المنافسة إلى الاعتدال في مطالب كل فريق منهم، ولكنهم كانوا إذا استبدوا بسطانهم يدًا واحدًا لم يردعهم رادع، ولم يعسر عليهم أن يجوروا بمطامعهم على حقوق غيرهم وعلى حدود الشريعة والعرف السديد، فكان قيام القوة الجديدة — قوة الأيدي العاملة — خيرًا عميمًا يحقق مصالح الطوائف جميعًا، ويجعل مسألة الإنصاف الاجتماعي مسألة لا تتوقف على حسن النية من طلاب الخير العميم.

بيد أنه كان خيرًا لم يخلص من الشر في جميع الحالات، إذ كانت الصناعة الكبرى قد ظهرت في بلاد لا توازن فيها بين قوى الثروة المنوعة كما ظهرت في البلاد التي توازن فيها سلطان أصحاب الضياع وأصحاب المعامل وأصحاب المتاجر والأسواق، فكان ظهور القوة الجديدة سببًا من أسباب الطغيان على المجتمع من الأدنى إلى الأعلى، بعد أن كان الخوف كل الخوف من طغيان العلية على من دونهم مالًا وعلمًا، وقدرة على إسماع الصوت وإبلاغ الشكاية، وإحقاق الحقوق، وتبين مع شيوع الجهل والتنافر بين طوائف الأمة أن تسخير الجهلاء من المحرومين لعبة سهلة على من يحسن خداعهم وإثارة ضغائنهم واستغلال شكاياتهم، وقد يسخرهم دون أن يشبعهم أو يرفه عنهم؛ لأنه يشبع فيهم شهوات النقمة على من هو أحسن حالًا وأكبر جاهًا وأدنى إلى رخاء المعيشة، وقلما يعنيهم أمر الحكومة الحرة؛ لأن فقدان الحرية لا يسلبهم شيئًا يحرصون عليه من فكرة أو مبدأ أو متعة روحية.

ولا ريب أن الطغيان من الأدنى بغيض وخيم العاقبة كالطغيان من الأعلى أو أبغض وأوخم في عقباه البعيدة أو القريبة، ولكنه مع هذا ضرورة لا محيد عنها إذا كان هو الوسيلة التي لا وسيلة سواها لإنقاذ الملايين من مرارة الضيم والإهمال، وأنه ليهون خطبه — على فداحته — إذ بدا من ورائه أمل في زواله وتلطيف جرائره بعد الاستفادة منه في كبح طغيان الأقوياء على الضعفاء.

وعند «المكنة الضخمة» ترياق العلة التي جلبتها، ومنها يكون الدواء كما كان منها الداء.

إن المكنات الضخام لا تبقى طويلًا على الصورة التي عهدها الناس منها لأول نشأتها.

لقد كانت لأول نشأتها تحتاج إلى مهندس واحد يفهم تركيبها ويحسن إدارتها، ويعتمد في تنظيم عملها وإصلاح خللها على الذكاء والدراية العلمية، وقد يعاونه على إدارتها مساعدون قليلون — بل جد قليلين — يتعلمون مثل تعليمه ويفهمون مثل فهمه، ولا حاجة بعد المهندس ومساعديه إلى معونة غير المعونة اليدوية التي يتساوى فيها الذكاء والغباء، ويتكرر فيها العمل الواحد على أيدي المئات والألوف كما تتكرر أعمال الآلات.

إنسان واحد وألف آلة، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع من المكنات الضخام التي قامت عليها الصناعة الكبرى منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى العقود الأولى من القرن العشرين.

إن عهد هذه المكنة ينقضي في كل أمة من الأمم التي نهجت على سياسة التصنيع وذهبت تتدرج في تعميم الصناعة الكبرى، وسيصبح «الآدميون الآلات» نمطًا عتيقًا لا نفع له بعد شيوع التنويع في المكنات، وشيوع الأجهزة المختلفة في المكنة الواحدة، ولن تكون هناك سخرة آلية محصورة في فئة كبيرة من فئات العاملين في الصناعة، ولن تكون هناك قوة طاغية تعتمد على السخرة الآلية متى زالت هذه السخرة من قرارها.

وكلما انتشرت الصناعة لزم الذكاء في استخدام الآلات، وشاع استخدامها في المكتب والنادي والمتجر والبيت والديوان، ولم يبق عمل الذكاء مقصورًا على المكنة الضخمة في المصانع الجماعية، وأصبحت الصناعة اليدوية المجردة من الخبرة العقلية والدراية الفنية شيئًا نادرًا يقل من يزاولونه ويرتضونه ويناط أداؤه بذوي القصور الطبيعي من الأغبياء وضعفاء العقول، وقد رأينا فيما تقدم من البحوث عن حالة التعليم في القرن المقبل أن علماء التربية سيحتاجون إلى جهد غير قليل لتدبير العمل الذي يوكل إلى هؤلاء القاصرين ضنًّا بالذكاء أن يبذل في أعمال تستغني عن الذكاء، وشعورًا بالحاجة المزدادة إلى درجات من الفطنة تصلح لكل درجة من درجات الإنتاج وتسيير الآلات.

ولا يخفى أن تهيئة التعليم الصناعي الذي ينجب الخبراء المطلوبين في كل فرع من فروع الصناعة، لا يتأتى بغير مرحلة عامة من التعليم الأولي كفيلة على الأقل بمحو الأمية، وتزويد الناشئ المتعلم بقسط من المعرفة، يرتفع به عن تلك الآدمية الآلية التي تنساق مغمضة الأعين للدعاة المغررين والطغاة المستبدين.

ويصحب هذا في المجتمع الصناعي المتقدم نظام آخر يمنع التفاوت الواسع بين الطبقات، فإن المساهمة في الشركات التي تملك معامل الصناعة الكبرى باب مفتوح لكل من يملك ثمن السهم والسهمين والأسهم القليلة التي لا يعجز عنها أصحاب الموارد المحدودة ممن يعيشون بالمرتبات والأجور.

فالمكنة الضخمة التي تشق المجتمعات، وتقطع الصلة بين طبقاتها تعود فتعقد هذه الصلة، وتملأ الفجوة بين كل طبقة، وما يليها ممن هم فوقها، ومن هم دونها في العلم والعمل والذكاء والمعيشة، ومن آثارها في مناح كثيرة أنها تقارب بين دواعي الاتصال والتعاون، وتباعد بين دواعي القطيعة والبغضاء، وتتقارب هذه الدواعي اضطرارًا كما تتقارب اختيارًا بما يناسبها من الآداب والأخلاق، فإذا امتنع التوازن في المجتمعات التي يسيطر عليها أصحاب الأموال أو يسيطر عليها أصحاب الأعمال اليدوية، فلا بد من التوازن في المجتمعات التي يملك فيها الأوساط سلاحًا كسلاح الأغنياء المحتكرين للثروة أو سلاحًا كسلاح العمال اليدويين القادرين على تعطيل الأعمال أو على التهديد بالإضراب، إذ يستطيع هؤلاء الأوساط أن يجردوا سلاحًا كسلاح أصحاب الأموال؛ لأنهم يحتلون مراكز الإدارة الهندسية والاقتصادية، ويستطيعون أن يجردوا سلاحًا كسلاح العمال اليدويين؛ لأنهم يملكون التعطيل ويملكون التهديد بالإضراب، وليس من اليسير أن يستبد أصحاب الأموال أو يستبد العمال اليدويون متى قامت في المجتمع طبقة وسطى بين الطبقتين لها صوت مسموع ووسيلة إلى إسماع صوتها وإثبات حقها ورفع الضغط عنها من أعلاها ومن أدناها، وأبعد ما يكون المجتمع عن استبداد العلية أو استبداد الجماهير إذ امتدت فيه طبقاته الوسطى امتدادًا يتغلغل بها في الطبقتين ممن هم أعلى منها، ومن هم دونها، ويحاول من يريد التفرقة هنا أو هناك أن يضع الخط الفاصل حيث ينقطع الشبه بين الجانبين فيعييه الفصل الحاسم على وجه من الوجوه.

•••

فتاريخ الإنسان الاجتماعي، أو تاريخ الإنسان في الحضارة ملازم إذن لتاريخ «الآلة» كل الملازمة: تطورها مقياس صادق لتواريخ الحضارات وللفوارق المحمودة — أو غير المحمودة — التي تمييز بعضها من بعض، وترتقي الآلة البسيطة إلى المكنة الضخمة فيكون ارتقاؤها في المجتمعات المتقدمة مظهرًا عامًّا من مظاهر التوازن بين طوائفها ووسائل نفوذها واقتدارها على تبليغ صوتها وتقرير حقها، فإذا ظهرت الصناعة الكبرى في مجتمع لم يستوف تكوينه الاجتماعي، ولم تتوازن فيه القوى والمصالح فهي خليقة أن تتدارك هذا النقص وأن تخلق هذا التوازن مع الزمن وتخلق معه أسباب التعاون بين الطبقات، وأسباب التغلب على كل طغيان من إحداها على الأخرى.

•••

إن أثر الآلة في حضارة الإنسان الاجتماعي لا يقل عن أثرها في ثقافة الإنسان الفرد أو في قياس الفارق بينه وبين الحيوان.

ولا يقل عن هذين الأثرين البارزين أثرها في حياته العالمية: حياة النوع الإنساني على تباعد أقطاره، وتفاوت أقوامه، وتنازع القوى بين حكوماته وشعوبه.

فقد ولد العالم بعلاقاته المشتبكة يوم ولدت المطبعة والإذاعة والباخرة والطيارة، وتقررت مبادئ التضامن العالمي عملًا في هذا العصر من عصور الصناعة بعد أن طالت دعوة المصلحين إليه، وترددت كلمة «النوع الإنساني» بغير معنى أو بمعناها المصطلح عليه في الألسنة والأوراق، ومهما يقل القائلون في قيمة هذا التضامن الحديث فليس هو اليوم بالحبر على الورق، ولا بالصدى الذاهب بين الألسنة والأسماع: إن العالم الإنساني اليوم أوسع نظامًا من أن تحكمه أكبر دولة وأوثق اتصالًا من أن تهمل فيه أصغر دولة، وما من كارثة في جزء من أجزائه تؤمن عاقبتها في أجزائه المترامية، على ما بينها من تباعد في المكان وتباين في المصالح والأهواء، ولا يحدث هذا في العالم بغير تضامن «واقعي» بين أجزائه، كائنًا ما كان سببه، وكيفما اختلف النظر إليه في دساتير الأخلاق.

فإذا قيل: إن هذا التضامن ضرورة غير مقصودة، لأسباب غير محمودة، ففي ذلك مصداق للحكمة التي تفوق إرادة الإنسان وتسوقه في تاريخه مرحلة بعد مرحلة، وهو جاهل بما يساق إليه.

ونعود فنقول: إن الإنسان لم يصنع الآلة وهو يقصد إلى جميع فوائدها وعواقبها، وإنه قد يقصدها سلاح حرب فلا تلبث أن تصير على غير قصد منه دعامة سلام، وقد صح هذا كثيرًا في تاريخ الإنسان الفرد، وتاريخ الإنسان الاجتماعي، ولكنه أصح من ذلك في تاريخه العالمي أو تاريخ هذا التضامن العالمي في الزمن الأخير، فما كانت منافع المواصلات لتقود الإنسان إلى إتقان الطيران هذا الإتقان لولا فعله في الغارات والحروب، وما كانت أمانة العلم لتفلح وحدها في شق الذرة، وإبداع الأقمار الصناعية، وإطلاق الصواريخ، وتركيب سفن الفضاء، وما كانت خصائص المادة وأسرار العناصر والأجسام لتنكشف للعلماء وتنقاد للمخترعين لو لم يكن منها سلاح ووقاء وخوف من عدو أو عزم على اعتداء، فليست هذه الروائع العلمية مما يتاح للعلماء وينقاد للمخترعين بغير القناطير المقنطرة من الذهب، وليس إنفاق القناطير المقنطرة مما تتحمله شركات البيع والشراء أو تتفتح له حزائن الأغنياء، أو يأذن به ولاة الأمر والنهي إذا انكشف عنه الغطاء.

١  صفحة ٤٩٣ من كتاب «ذخيرة علم» الطبعة الرابعة A treasury of Science.
٢  Man, His First Million Years by Dr. Ashley Montagu.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤