الفصل الأول

ظهور مفهوم الفوضى

منغرسة في الطين، ومتلألئة بألوان الأخضر والذهبي والأسود؛ كانت هذه فراشة، غاية في البهاء وغاية في السكون. سقطت على الأرض؛ شيء بالغ الروعة، شيء صغير يمكن أن يقلب موازين ويُسقِط صفًّا من قطع الدومينو الصغيرة، ثم الكبيرة، فالعملاقة؛ كل ذلك بمرور السنوات عبر «الزمان».

راي برادبري (١٩٥٢)

السمات الثلاث المميزة للفوضى الرياضية

صار تعبير «تأثير الفراشة» شعارًا ذائع الصيت في الفوضى، ولكن هل حقًّا من المدهش أن التفاصيل الصغيرة يكون لها في بعض الأحيان تأثيرات عظيمة؟ في بعض الأحيان يُنظَر إلى التفصيلة الصغيرة (مضرب المثل) على أنها الفارق بين عالَمٍ توجد فيه فراشة ما وعالَمٍ بديلٍ مطابِقٍ للعالم الأول تمامًا، باستثناء أن الفراشة غير موجودة؛ ونتيجةً لهذا الفارق الضئيل سرعان ما يبدأ العالمان في الاختلاف الشديد أحدهما عن الآخَر. ويُعرَف المقابل الرياضي لهذا المفهوم باسم «الاعتماد الحساس». لا تُظهِر النُّظُم الفوضوية اعتمادًا حساسًا فحسب، بل تمتلك سِمتَين أخريَين أيضًا هما أنها «حتمية»، و«لا خطية». سنرى في هذا الفصل ما تعنيه هذه التعبيرات، وكيف دخلت هذه المفاهيم إلى العلم.

الفوضى مهمة لأنها — جزئيًّا — تساعدنا على التعامل مع النظم غير المستقرة من خلال تحسين قدرتنا على توصيفها وفهمها، بل ربما توقعها أيضًا. في حقيقة الأمر، إحدى الخرافات التي سندحضها عن الفوضى هي أنها تجعل التوقع مهمةً لا طائل من ورائها. ثَمَّةَ قصة بديلة لكنها على الدرجة نفسها من الشيوع الذي لقصة الفراشة السابقة، وهي أن هناك عالمًا تخفق فيه فراشة ما بجناحيها وعالَمٌ آخَر لا تفعل فيه ذلك، ويعني هذا الفارق الضئيل ظهور أعاصير ورياح في واحدٍ فقط من هذين العالمين، وهو ما يربط الفوضى بعدم اليقين والتوقُّع. في أي عالمٍ نوجد؟ إن اسم الفوضى هو الاسم الذي سُمِّيت به الآلية التي تسمح بمثل هذا النمو السريع لعدم اليقين في نماذجنا الرياضية. ستتكرر هنا طوال هذا الكتاب صورة الفوضى التي تُضخِّم من حالة عدم اليقين والتوقعات المحيرة.

أصول مفهوم الفوضى

تنتشر التحذيرات من الفوضى في كل مكان، حتى في دور الحضانة التي تُحكى فيها قصة التحذير الخاص بإمكانية فقدان مملكةٍ بسبب غياب مسمارٍ، والذي يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر؛ نُشِرت النسخة التالية من أغنية الأطفال المعروفة في تقويم «بور ريتشاردز ألماناك» في عام ١٧٥٨ الذي نشره بنجامين فرانكلين:

بسبب غياب مسمارٍ فُقِدت الحدوة،
بسبب غياب الحدوة فُقِد الجواد،
بسبب غياب الجواد فُقِد الفارس،
إذ اختطفه العدو وذبحه،
كل ذلك بسبب غياب مسمار حدوة الجواد.

لا نسعى إلى شرح أصل عدم الاستقرار في الفوضى، بل نسعى إلى تفسير تصاعد عدم اليقين «بعد» بذر البذرة الأولى؛ وفي هذه الحالة، نهدف إلى تفسير كيف فُقِد الفارس بسبب مسمارٍ ضائع، وليس حقيقة ضياع المسمار في حد ذاتها. في حقيقة الأمر — بالطبع — إما أنه كان ثَمَّةَ مسمار أو لم يكن ثَمَّةَ مسمار، بَيْدَ أن الأغنية السابقة تخبرنا أنه إن لم يُفقَد المسمار، لم تكن المملكة لتضيع أيضًا. سنستكشف في كثيرٍ من المواضع خصائص النُّظُم الفوضوية من خلال بحث تأثير مواقف مختلفة قليلًا.

تشيع دراسة الفوضى في العلوم التطبيقية مثل علم الفلك، وعلم الأرصاد الجوية، وعلم أحياء السكان، وعلم الاقتصاد. قدَّمَت العلوم التي زوَّدتنا بملاحظاتٍ دقيقةٍ حول العالم إضافةً إلى توقُّعاتٍ كمية، أهمَّ المسببات التي ساهمت في تطوُّر الفوضى منذ عصر إسحاق نيوتن. ووفق قوانين نيوتن، يتحدَّد مستقبل النظام الشمسي تمامًا من خلال حالته الراهنة. وضع العالِم بيير لابلاس، الذي عاش في القرن التاسع عشر، هذه الحتمية في مرتبةٍ مهمةٍ في العلم؛ فالعالَم الذي تُحدِّد حالتُه الراهنة مستقبلَه تحديدًا تامًّا يكون عالمًا حتميًّا. قام لابلاس عام ١٨٢٠، باستحضار كيانٍ بات يُعرَف الآن باسم «شيطان لابلاس»، وهو بذلك ربط من حيث المبدأ بين الحتمية والقدرة على التوقُّع من ناحية، وبين مفهوم النجاح في العلم من ناحيةٍ أخرى.

ربما ننظر إلى الحالة الراهنة للكون باعتبارها نتاجًا لماضيه وسببًا في مستقبله. إذا كانت هناك قوة ألمعية تستطيع في لحظةٍ معيَّنةٍ معرفةَ جميع القوى التي تُحرِّك الطبيعة، وجميع مواضع الأشياء التي تتألف منها الطبيعة، فضلًا عن كون هذه القوة كبيرةً بما يكفي لإخضاع هذه البيانات للتحليل، فسوف تتمكَّن من جمع كافة حركات الأجساد الكبرى في الكون، وحركات أصغر الذرات في معادلةٍ واحدة. وبالنسبة إلى هذه القوة، لن يكون ثَمَّةَ شيء غير مؤكَّد، وسيكون المستقبل تمامًا مثل الماضي ماثلًا أمامها.

لاحِظْ أن لابلاس كان يتمتع بالبصيرة بحيث منح شيطانه ثلاث خواص؛ ألا وهي: المعرفة الدقيقة التامة بقوانين الطبيعة (جميع القوى)، والقدرة على التقاط صورةٍ سريعةٍ للحالة الدقيقة للكون (جميع المواضع)، وكذلك قدرات حسابية لا نهائية (قوة كبيرة بما يكفي لإخضاع هذه البيانات للتحليل). وبالنسبة إلى شيطان لابلاس، لا تُمثِّل الفوضى أيَّ عائقٍ تجاه عملية التوقُّع. وسنبحث خلال هذا الكتاب أثرَ إزالة واحدةٍ أو أكثر من هذه الخواص.

منذ عصر نيوتن وحتى نهاية القرن التاسع عشر، كان معظم العلماءِ علماءَ أرصادٍ جويةٍ أيضًا. ترتبط الفوضى وعلم الأرصاد الجوية ارتباطًا وثيقًا أحدهما بالآخر، عبر اهتمام علماء الأرصاد الجوية بالدور الذي يلعبه عدم اليقين في توقُّعات الطقس. تجاوز اهتمام بنجامين فرانكلين كثيرًا بعلم الأرصاد تجربتَه الشهيرة في إطلاق طائرةٍ ورقيةٍ أثناء عاصفةٍ رعدية. ويرجع الفضل إلى بنجامين فرانكلين في رصد الحركة العامة للعواصف والتي تتحرك من الغرب تجاه الشرق، واختبار هذه النظرية عن طريق كتابة خطاباتٍ من فيلادلفيا لأصدقائه في مدنٍ أبعد في الشرق للحصول منهم على توقعاتٍ للطقس. وعلى الرغم من أن الخطابات كانت تستغرق وقتًا أطول من العواصف لتصل إلى وجهتها، كانت هذه ربما بمنزلة إرهاصاتٍ مبكرةٍ لتوقعات الطقس. اكتشف لابلاس بنفسه قانون انخفاض الضغط الجوي مع الارتفاع، كما أسهم إسهاماتٍ أساسيةً في نظرية الأخطاء التي تنص على أنه عند إجراء ملاحظةٍ أو رصدٍ لشيء ما، لا تكون قيمة القياس دقيقة تمامًا من الناحية الرياضية؛ لذا دومًا ثَمَّةَ شيء من عدم اليقين فيما يتعلَّق بالقيمة «الحقيقية». يقول العلماء عادةً إن أيَّ نوعٍ من عدم اليقين في أي عملية ملاحظةٍ يرجع إلى «التشويش»، دون تحديد ماهية التشويش على وجه الدقة، اللهم إلا وصفه بأنه ما يربك رؤيتنا لأي شيءٍ نحاول قياسه، سواءٌ كان ذلك طول مائدة ما، أو عدد الأرانب في حديقةٍ ما، أو درجة الحرارة في منتصف النهار. يفضي التشويش إلى «عدم اليقين في الملاحظة»، وتسهم الفوضى في فهمنا كيف يمكن أن تصير الأشياء غير اليقينية البسيطة أشياءَ غير يقينيةٍ كبرى، بمجرد وضع نموذجٍ للتشويش. تكمن بعض الرؤى المستمدة من الفوضى في تفسير الدور (الأدوار) الذي يلعبه التشويش في آليات عدم اليقين في العلوم الكمية. صار التشويش أكثر إثارةً للاهتمام؛ إذ تجبرنا دراسة الفوضى على إعادة النظر فيما قد نعنيه بمفهوم القيمة «الحقيقية».

بعد عشرين عامًا من ظهور كتاب لابلاس حول نظرية الاحتمالات، قدَّمَ إدجار آلان بو مثالًا مرجعيًّا مبكرًا على ما قد نطلق عليه اليوم الفوضى في المناخ. ذكر بو أن مجرد تحريك أيدينا فقط سيؤثِّر على المناخ في جميع أنحاء الكوكب، ثم مضى بو يردِّد ما قاله لابلاس، مشيرًا إلى أن علماء الرياضيات في كوكب الأرض باستطاعتهم حساب تطوُّر «الخفقة» الناتجة عن حركة اليد، مع انتشار رقعة تأثيرها وتغييرها حالة المناخ إلى الأبد. بالطبع، يرجع الأمر إلينا فيما إذا كنا نريد أن نُحرِّك أيديَنا أم لا. تُمثِّل الإرادة الحرة مصدرًا آخَر للبذور التي قد تغذِّيها الفوضى.

في عام ١٨٣١، في الفترة ما بين نشر أفكار لابلاس العلمية وشطحات خيال بو الأدبية، اصطحب الكابتن روبرت فيتزروي الشابَّ تشارلز داروين في رحلته الاستكشافية، وقادت الملاحظات التي دُوِّنت في هذه الرحلة داروين إلى نظريته حول الانتخاب الطبيعي. يشترك التطوُّر والفوضى في أشياءَ كثيرةٍ أكثر مما قد يعتقد المرء. أولًا، عندما يتعلَّق الأمر باللغة، تُستخدَم كلمتا «التطوُّر» و«الفوضى» في ذات الوقت للإشارة إلى الظواهر التي سيجري تفسيرها، وإلى النظريات التي من المفترض أنها تقوم بمهمة هذا التفسير، وهو ما يُفضي في كثيرٍ من الأحيان إلى الخلط بين التفسير والشيء الذي يجري تفسيره (مثل «الخلط بين الخريطة والأرض»). طوال هذا الكتاب، سنرى أن الخلط بين نماذجنا الرياضية والواقع الذي تهدف إلى تفسيره يعكِّر صفوَ عملية مناقشة كلٍّ منهما. ثانيًا، عند تدقيق النظر، قد يبدو أن بعض النظم البيئية قد تطوَّرت كما لو كانت نظمًا فوضوية، مثلما أن فروقاتٍ صغيرةً في البيئة يترتب عليها آثار هائلة. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت عملية التطوُّر في تناول مفهوم الفوضى أيضًا. يرجع الاقتباس المعروض في بداية هذا الفصل إلى قصة راي برادبري القصيرة «صوت كالرعد»، حيث يقتل صيادو الطرائد الكبيرة المسافرون عبر الزمن فراشةً عن غير قصد، ثم يجدون المستقبل قد اختلف عندما يعودون إليه. تتصور الشخصيات في هذه القصة أثر قتل فأر، وهو ما يترتب عليه ضياع أجيالٍ من الفئران والثعالب والأسود، بالإضافة إلى ما يلي:

يُزَجُّ بجميع أنواع الحشرات، والنسور، وبملياراتٍ لا نهاية لها من أشكال الحياة في فوضى ودمار … طَأْ فأرًا وستترك أثرًا، مثل جراند كانيون عبر الأبدية. ربما لم تكن الملكة إليزابيث ستُولَد، وربما لم يكن جورج واشنطن ليعبر نهر ديلاوير، وربما لم تكن هناك الولايات المتحدة على الإطلاق. لذا كن حَذِرًا. التزم بالجادة، ولا تنحرف أبدًا!

من الواضح تمامًا أن ثَمَّةَ أحدَ الأشخاص ينحرف عن الجادة فعلًا، واطئًا بقدمه حتى الموت فراشة جميلة صغيرة باللونَين الأخضر والأسود. لا يمكن أن نبحث تجارب «ماذا لو» هذه إلا في إطار افتراضات الرياضيات أو الأدب؛ إذ لا يتوافر لدينا إلا تجسيد وحيد للواقع.

يلف الغموض أصول مصطلح «تأثير الفراشة». يسبق نشر قصة برادبري القصيرة الذي جاء في عام ١٩٥٢ سلسلة من الأوراق البحثية العلمية حول الفوضى نُشِرت في أوائل الستينيات من القرن العشرين. أشار عالم الأرصاد الجوية إد لورنز ذات مرةٍ إلى خفقة أجنحة نورس بحر باعتبارها عامل التغيير، على الرغم من أن عنوان المحاضرة التي أعلن فيها ذلك لأول مرةٍ لم يكن من بنات أفكاره، بل تشبه أيضًا إحدى صوره الحاسوبية المبكرة لنظامٍ فوضويٍّ ما شكلَ فراشة. ولكن أيًّا كان شكل ذلك «الفرق الصغير»، سواءٌ كان ذلك مسمارَ حدوةِ حصانٍ مفقودًا، أو فراشة، أو طائر نورس أو — كما جاء مؤخَّرًا جدًّا — ناموسة «سحقها» هومر سيمبسون، لا تعتبر فكرةُ أنه تترتب على فروقاتٍ صغيرةٍ آثارٌ هائلةٌ فكرةً جديدة. وعلى الرغم من أن نظرية الفوضى لم توضِّح أصل الفرق البسيط، فهي تقدِّم لنا وصفًا للتضخُّم السريع لذلك الفرق البسيط بنسبٍ هائلةٍ، وهذا من شأنه إحداث انهيارٍ في ممالكَ كبرى؛ ومن ثَمَّ ترتبط الفوضى ارتباطًا وثيقًا بالتوقع والقابلية للتوقع.

توقعات الطقس الأولى

مثل ربان أي سفينةٍ في ذلك الوقت، كان فيتزروي مهتمًّا اهتمامًا عميقًا بالطقس، وقد اخترع فيتزروي بارومترًا أسهل في الاستخدام على متن السفينة، ويصعب في حقيقة الأمر المبالغة في تقدير قيمة بارومتر بالنسبة إلى ربانٍ لا تتوافر لديه صور أقمارٍ صناعيةٍ وتقارير عبر إشاراتٍ لا سلكية. ترتبط العواصف الكبرى بالضغط الجوي المنخفض؛ لذا من خلال توفير قياسٍ كميٍّ للضغط، وهو ما يسمح بمعرفة سرعة تغيُّر الضغط، قد يوفر البارومتر معلوماتٍ حول ما هو محتمَل وجوده في الأفق وهذه المعلومات قد تنقذ حياة أشخاص. لاحقًا في حياة فيتزروي، صار أولَ رئيسٍ لما صار يُعرَف لاحقًا بمكتب المملكة المتحدة للأرصاد الجوية. واستغل خدمة التلغراف المطبَّقَة حديثًا حينها لجمع المعلومات الخاصة بالأرصاد الجوية وإصدار بياناتٍ موجزةٍ حول الحالة الراهنة للطقس في أنحاء بريطانيا. وجعلت خدمة التلغراف سرعةَ نقل أخبار الطقس تتجاوز سرعة الطقس نفسها للمرة الأولى. وبالتعاون مع لوفيريه الفرنسي، الذي اشتُهر بتطبيق قوانين نيوتن لاكتشاف كوكبَين جديدَين، ساهَمَ فيتزروي في الجهود الدولية الأولى لإجراء عملية توقُّع طقسٍ آنية. انتقد عالم الإحصاء فرانسيس جالتون — ابن عم داروين — توقعات الطقس هذه بشدة، وكان جالتون نفسه قد نشر أول خريطة طقسٍ في صحيفة «لندن تايمز» في عام ١٨٧٥، كما يوضِّح الشكل رقم ١-١.
fig1
شكل ١-١: أول خريطةٍ للطقس تُنشَر في صحيفةٍ على الإطلاق، والتي أعَدَّها فرانسيس جالتون، ونُشِرت في صحيفة «لندن تايمز» في ٣١ مارس ١٨٧٥.
إذا كان عدم اليقين الذي يرجع إلى أخطاء الرصد يوفِّر البذرة التي تُنميها الفوضى، ففهم عدم اليقين هذا سيساعدنا في مجاراة الفوضى على نحوٍ أفضل. مثل لابلاس، كان جالتون مهتمًّا «بنظرية الأخطاء» بالمعنى الأوسع. ولتوضيح «المنحنى الجرسي» الشائع والذي يبدو في كثيرٍ من الأحيان أنه يعكس أخطاء القياس، ابتكَرَ جالتون «كوينكانكس»، أو ما يُطلَق عليه الآن لوحة جالتون. تظهر أكثر نسخ لوحة جالتون شيوعًا في الجانب الأيسر من الشكل رقم ١-٢. من خلال صبِّ مجموعةٍ من كرات الرصاص الصغيرة في لوحة جالتون، كان جالتون يُحاكي نظامًا عشوائيًّا كانت فرصة كل كرةٍ في المرور على أحد جانبَيْ كل «مسمار» يعترض طريقها ٥٠:٥٠، وهو ما يفضي إلى توزيع للكرات ذي شكل جرسي. لاحِظْ أن ثَمَّةَ احتمالاتٍ في هذه الحالة أكثر مما في حالة خفقة جناح الفراشة التي لا يمكن تكرارها؛ إذ ربما يتلازم مسارَا كرتَين متقاربتَين معًا أو يتفرعان عند كل مستوًى. سنعود مجددًا إلى ألواح جالتون في الفصل التاسع، لكننا سنستخدم كثيرًا قبل ذلك أرقامًا عشوائية مستقاة من المنحنى الجرسي كنموذج للتشويش. يمكن رؤية المنحنى الجرسي أسفل لوحة جالتون الموجودة في الجانب الأيسر من الشكل رقم ١-٢، وسوف نجد نسخة مبسطة من المنحنى أعلى الشكل رقم ٣-٤.
fig2
شكل ١-٢: رسوم جالتون التخطيطية التي ترجع إلى عام ١٨٨٩ لما يُطلَق عليه الآن «ألواح جالتون».
تفضي دراسة الفوضى إلى استبصار جديد حول سبب استمرار كون توقعات الطقس لا يُعوَّل عليها حتى بعد مرور ما يقرب من قرنَين من الزمان. هل يرجع الأمر إلى غياب التفاصيل الصغيرة عنَّا في طقس اليوم، وهو ما تترتب عليه آثار هائلة في طقس الغد؟ أم إلى أن الأساليب التي نتبعها — رغم كونها أفضل من أسلوب فيتزروي — تظل غير كاملة؟ إن التجسيد المناخي لتأثير الفراشة الذي ذكره بو تكمِّله فكرة أن العلم بمقدوره توقع كل ما هو مادي حال كون العلم كاملًا، غير أنه ثَمَّةَ حقيقة أُدرِكت منذ فترة في كلٍّ من العلم والأدب، وهي أن الاعتماد الحساس سيجعل من عمليات التوقُّع المفصلة للطقس أمرًا صعبًا، بل ربما يحدُّ من مجال الفيزياء. في عام ١٨٧٤، أشار عالم الفيزياء جيمس كليرك ماكسويل إلى وجود علاقة تَناسبٍ ما تصاحب نجاح أي علم من العلوم قائلًا:

ينطبق هذا الأمر فقط عندما ينشأ عن التغيرات الصغيرة في الظروف الأولية تغيراتٌ صغيرة فقط في الحالة النهائية للنظام، ويتحقق هذا الشرط في كثيرٍ من الظواهر الطبيعية الكبرى، لكن في حالات أخرى قد ينشأ عن تغيُّر أوَّلي صغير تغيُّرٌ هائل في الحالة النهائية للنظام، كما يحدث عندما تتسبب عملية إزاحة «النقط» في اصطدام قطار سكة حديد بقطار آخَر بدلًا من الالتزام بمساره الصحيح.

بينما لا يُعتبر هذا المثال مرة أخرى مثالًا نموذجيًّا على الفوضى من حيث كونه يعبِّر عن حساسية «غير قابلة للتكرار»، إلا أنه يصلح في الوقت نفسه للتمييز بين الحساسية وعدم اليقين؛ فهذه الحساسية لا تمثِّل أي تهديد ما دام أنه لا يوجد عدم يقين فيما يخص موضع النقاط، أو فيما يخص أي مسار يسلكه أيٌّ من القطارين. خُذْ على سبيل المثال صَبَّ كوب من الماء قُربَ حافة في سلسلة جبال روكي. سيتدفق الماء على أحد جانبَيْ هذه الحافة القارية نحو نهر كلورادو، ثم إلى المحيط الهادئ، وعلى الجانب الآخَر إلى نهر المسيسيبي، ثم في النهاية إلى المحيط الأطلنطي. يعكس تحريك كوب الماء في أي اتجاه مقدار الحساسية؛ إذ إن أي تغيير بسيط في موضع الكوب يعني أن جُزَيئًا محدَّدًا من الماء سينتهي به المآل إلى محيط مختلف. ربما يحدُّ عدم يقيننا في موضع الكوب من قدرتنا على توقُّع أي محيطٍ سيئول إليه ذلك الجزيء، وهو ما لا يحدث إلا «إذا» كان عدم اليقين يتجاوز الحدَّ الفاصل للحافة القارية. بالطبع، «إذا» كنَّا نحاول في حقيقة الأمر عمل ذلك، فسيتوجَّب علينا في هذه الحالة التساؤل حول ما إذا كان ثَمَّةَ خط رياضي يفصل القارات حقيقةً، فضلًا عن التساؤل عن طبيعة المخاطر الأخرى التي سيتعرض لها جزيء الماء، والتي ستَحُول دون وصوله إلى المحيط. عادةً ما تتضمن الفوضى ما هو أكثر من «نقطة تحوُّل» واحدة غير قابلة للتكرار. تميل الفوضى في سلوكها إلى أن تشبه كثيرًا جزيء ماء يتبخر مرارًا وتكرارًا ويسقط في منطقة توجد بها حدود فاصلة قارية في كل مكان.

يُعرَف مفهوم «اللاخطية» بأنه كل ما هو ليس خطيًّا. ويدعو هذا النوع من التعريف إلى الحيرة؛ إذ كيف يمكن للمرء أن يشرع في تعريف الطبيعة البيولوجية لحيوانات ليست أفيالًا؟ تتمثَّل الفكرة الأساسية التي يجب أن تقرَّ في الذهن الآن في أن أيَّ نظام لا خطيٍّ سيُظهِر ردَّ فعل غير متناسب؛ على سبيل المثال قد يكون أثر إضافة قشة ثانية إلى ظهر البعير أكبر بكثير (أو أصغر بكثير) من أثر القشة الأولى. تأتي استجابة النُّظُم الخطية دومًا متناسبة، فيما لا تتصرف النظم اللاخطية بالضرورة على هذا النحو، وهو ما يمنح اللاخطية دورًا محوريًّا في نشأة الاعتماد الحساس.

عاصفة يوم ميلاد بيرنز

لكنك يا فأري الصغير لستَ وحدك هكذا،
بإثباتك أن التوقُّعَ أمر بلا طائل:
أفضل خطط الفئران والبشر
تذهب سدى في غير مآلها،
ولا تخلِّف لنا سوى الحزن والألم،
عوضًا عن الفرح الموعود!
لا تزال مباركًا، مقارَنةً بي!
لا يشغلك إلا الحاضر:
لكن آه! أنا أعود بناظرَيَّ إلى الماضي،
إلى ذكريات كئيبة!
وإلى المستقبل أتطلَّع، على الرغم من عدم قدرتي على مرآه،
وأحزر وأصاب بالهلع!
روبرت بيرنز، قصيدة «إلى فأر» (١٧٨٥)
fig3
شكل ١-٣: العنوان الرئيسي لصحيفة «ذا تايمز» في اليوم التالي لعاصفة يوم ميلاد بيرنز والذي يوضح حجم الدمار الذي نتج عن العاصفة.
fig4
شكل ١-٤: خريطة طقس حديثة تبيِّن عاصفة يوم ميلاد بيرنز كما تظهر من خلال نموذج توقُّع لحالة الطقس (في الشكل العلوي)، وتوقع حالة الطقس قبل العاصفة بيومَين للوقت نفسه يُظهِر يومًا طقسه لطيف (في الشكل السفلي).
تُثني قصيدة بيرنز على الفأر لقدرته على العيش في الحاضر فقط، وهو لا يدري ألمَ التوقُّعات غير المحققة أو الذعر الناشئ عن عدم اليقين حيال ما سيجري في المستقبل. وقد كان بيرنز يكتب في القرن الثامن عشر، عندما كان الفئران والبشر يضعون خططًا في ظل مساعدة طفيفة من الآلات الحسابية. بينما قد يكون التوقع أمرًا مؤلمًا، يبذل علماء الأرصاد الجوية قصارى جهدهم في توقُّع طقس الغد المحتمل بصفة يومية، وفي بعض الأحيان يصيب هذا التوقُّع. في عام ١٩٩٠، في ذكرى ميلاد بيرنز، هبَّت عاصفة هائلة عبر منطقة شمال أوروبا، بما فيها الجزر البريطانية، وهو ما تسبَّبَ في أضرار بالغة في الممتلكات والأرواح. وقد مرَّ مركز العاصفة من فوق مسقط رأس بيرنز في اسكتلندا، وصارت معروفة باسم عاصفة يوم ميلاد بيرنز. تُبيِّن اللوحة العلوية في الشكل رقم ١-٤ خريطة طقس توضِّح تفاصيل العاصفة وقت الظهيرة في يوم ٢٥ يناير من عام ١٩٩٠. تُوفِّي من جرَّاء تلك العاصفة سبعة وتسعون شخصًا في شمال أوروبا، حوالي نصفهم من بريطانيا، وهو ما شكَّلَ أكبر عدد وفيات تسبَّبَتْ فيه عاصفة خلال ٤٠ عامًا، كما اقتُلِع نحو ٣ ملايين شجرة، وبلغت تكاليف تعويضات التأمين ملياري جنيه استرليني. إلا أن عاصفة يوم ميلاد بيرنز لم تنضم إلى مثيلاتها من مجموعة التوقُّعات القاصرة الفاشلة؛ حيث توقَّعَ مكتب الأرصاد الجوية وقوعَ العاصفة.

في المقابل، تُشتهر العاصفة الكبرى التي حدثت في عام ١٩٨٧ بسبب نشرة الأرصاد الجوية التليفزيونية على محطة بي بي سي في الليلة السابقة على وقوعها، التي أخبرت المشاهدين بألا يقلقوا حيال الشائعات القادمة من فرنسا بقرب هبوب إعصار على إنجلترا. في حقيقة الأمر، بلغت سرعة الرياح في كلتا العاصفتَين أكثر من مائة ميل في الساعة، وتسبَّبَتْ عاصفة يوم ميلاد بيرنز في خسائر بشرية أكثر؛ إلا أنه بعد مرور عشرين عامًا على وقوع تلك العاصفة، كثيرًا ما تُذكَر العاصفة الكبرى التي وقعت في عام ١٩٨٧؛ ربما نظرًا لأن عاصفة يوم ميلاد بيرنز «جرى» توقُّعها جيدًا. تشير القصة المُفضية إلى هذا التوقُّع إلى طريقة مختلفة يمكن أن تؤثِّر بها الفوضى في نماذجنا على حيواتنا دون استحضار عوالم بديلة، بعضها يتضمَّن فراشات وبعضها الآخَر لا يتضمنها.

في الصباح الباكر ليوم ٢٤ يناير من عام ١٩٩٠، أرسلت سفينتان في منتصف المحيط الأطلنطي تقارير أرصاد جوية روتينية من موضعَين يقع بينهما مركزٌ ما صار يُعرَف لاحقًا باسم عاصفة يوم ميلاد بيرنز. أسفرت نماذج التوقعات التي اعتمدت على هذه الأرصاد عن توقُّع حدوث العاصفة؛ لذلك أظهر استعراض هذه النماذج مرة أخرى بعد وقوع العاصفة أنه مع استبعاد هذه الأرصاد كانت ستقدَّم النماذجُ توقُّعًا بوقوع عاصفة أضعف في الموضع الخاطئ. ونظرًا لأن عاصفة يوم ميلاد بيرنز هبَّتْ خلال النهار، كان الإخفاق في تقديم تحذير سابق سيؤثِّر تأثيرًا هائلًا على معدلات الخسائر في الأرواح؛ لذا لدينا هنا مثال كانت بضع ملاحظات — حال غيابها — ستغيِّر من نتيجة التوقع؛ ومن ثَمَّ مسار الأحداث الإنسانية. بالطبع، يصعب إضاعة سفينة في المحيط مخصَّصة لأغراض توقُّع حالة الطقس عن إضاعة مسمار في حدوة جواد. ثَمَّةَ مزيد من الدروس المستفادة من هذه القصة، وحتى نرى مدى علاقتها بما نحن بصدده نحتاج إلى أن نرى كيف «تعمل» نماذج توقعات الطقس.

تُعتبر عملية توقُّع حالة الطقس ظاهرةً مهمة في حد ذاتها؛ إذ تُجمع الأرصاد على نحوٍ يوميٍّ في أكثر الأماكن بُعدًا قدر الإمكان، ثم تُرسل تقارير بها وتُوزع على مكاتب الأرصاد الجوية الوطنية حول العالم. وتستخدم دول كثيرة هذه البيانات في نماذجها الحاسوبية الخاصة بالأرصاد الجوية. في بعض الأحيان تكون تقارير الأرصاد عرضة لأخطاء قديمة وبسيطة، مثل تسجيل درجة الحرارة في خانة سرعة الرياح، أو حدوث خطأ مطبعي، أو وقوع خطأ فني أثناء النقل. وللحيلولة دون إفساد هذه الأخطاء للتوقُّع، تخضع الأرصاد الوافدة إلى مراقبة الجودة؛ بحيث تُستبعَد الأرصاد التي لا تتفق مع ما يتوقَّعه النموذج (بالنظر إلى آخِر توقُّع له)، خاصةً إذا لم تتوافر أرصاد أخرى قريبة ومستقلة تدعمها؛ إنها خطة مُحكمة. بالطبع، نادرًا ما تتوافر أي أرصاد «قريبة» من أي نوع في وسط المحيط الأطلنطي، وإذا أظهرت أرصاد السفينة اقتراب عاصفة لم يكن النموذج قد توقَّعَ ظهورَها هناك، يستبعد البرنامج الحاسوبي الخاص بمراقبة الجودة آليًّا هذه الأرصاد.

لحسن الحظ، جرى تجاهل نتيجة الحاسوب. كان أحد مسئولي تعديل التوقعات الجوية في نوبة عمل وأدرك القيمة الهائلة في هذه الأرصاد، وكان عمل المسئول يتمثَّل في التدخل عندما يقدِّم الحاسوب نتائجَ غير منطقية تمامًا، وهو الأمر الذي يتكرَّر كثيرًا. وقد قام المسئول في هذه الحالة بالتحايل على الحاسوب لقَبول الأرصاد. يُعتبر اتخاذ مثل هذا الإجراء مسألة تقديرية؛ إذ لم يكن ثَمَّةَ سبيل آنذاك لمعرفة أي إجراء يمكن أن يفضيَ إلى توقُّع أفضل، وجرى «التحايل» على الحاسوب، واستُخدِمت الأرصاد، ونتج عن ذلك أن صدر توقُّع بهبوب العاصفة، وأُنقِذ الكثير من الأرواح.

ثَمَّةَ رسالتان مهمتان يمكن تحصيلهما هنا؛ الرسالة الأولى هي أنه في حال كانت نماذجنا فوضوية، فإن التغيُّرات الصغيرة في أرصادنا قد يكون لها تأثيرٌ كبيرٌ على جودة توقعاتنا؛ فالمحاسب الذي يسعى إلى التقليل من النفقات، وحساب الفائدة النموذجية المتحققة من إحدى الأرصاد، تحديدًا التي جُمِعت من أي محطةِ رصدٍ لحالة طقس محددة؛ سيميل إلى التقليل على نحو هائل من قيمة تقرير مستقبلي أصدرته إحدى تلك المحطات التي يجري الرصد فيها في الموضع الصحيح وفي التوقيت الصحيح، مثلما سيقلِّل من قيمة عمل مسئول تعديل التوقعات، الذي لا يوجد لديه ما يفعله عادةً، بالمعنى الحرفي للكلمة. تتمثَّل الرسالة الثانية في أن توقُّع عاصفة يوم ميلاد بيرنز يشير إلى شيء مختلف قليلًا عن تأثير الفراشة. تتيح لنا النماذج الرياضية أن نفكِّر فيما سيأتي به المستقبل الحقيقي، «ليس» من خلال أخْذ العوالم المحتملة في الاعتبار، التي ربما لا يوجد منها إلا عالم واحد، بل من خلال مقارنة نماذج محاكاة مختلفة للنموذج المستخدم لدينا، التي ربما يتوافر منها أعداد بقدر ما يتاح لنا. مثلما قد يدرك بيرنز، يقدِّم لنا العلم طرقًا جديدةً للتكهُّن ويطرح لنا أشياءَ جديدةً نخشاها. يعقد تأثير الفراشة مقارَنةً بين عالمين مختلفين؛ عالم يتضمن مسمارًا وعالم آخَر دونه. يضع «أثر بيرنز» كل التركيز علينا وعلى محاولاتنا لاتخاذ قرارات عقلانية في العالم الواقعي، باستخدام مجموعات من نماذج محاكاة مختلفة في ظلِّ نماذج غير كاملة متنوعة، ويُعَدُّ الإخفاق في التمييز بين الواقع ونماذجنا، وبين الملاحظات والرياضيات، وبين الحقائق التجريبية والخيال العلمي؛ هو السبب الجذري في معظم الحيرة حيال الفوضى التي يُسبِّبها العامة أو تَحدث بين العلماء. لقد كان إجراء بحوث حول اللاخطية والفوضى هو ما أوضح مرةً أخرى مدى أهمية هذا التمييز، وسوف نعود في الفصل العاشر لنلقيَ نظرة أعمق على كيفية استفادة مسئولي توقعات الطقس في يومنا هذا بالاستبصارات المستقاة من فهمهم للفوضى عند توقُّعهم لهذه العاصفة.

مررنا مرورًا سريعًا الآن على السمات الثلاث الموجودة في النُّظُم الرياضية الفوضوية؛ فالنظم الفوضوية تتميز بأنها لا خطية، وحتمية، وغير مستقرة من حيث إنها تُظهِر حساسية تجاه الشرط المبدئي. في الفصول التالية سنعمل على التركيز على هذه السمات أكثر، بَيْدَ أن مجال اهتماماتنا الحقيقي لا يكمن في الفوضى الرياضية فحسب، بل فيما تستطيع أن تخبرنا به عن العالم الواقعي.

الفوضى والعالم الواقعي: القابلية للتوقُّع وشيطان القرن الحادي والعشرين

لا يوجد خطأ أكبر في العلم من الاعتقاد بأن مجرد إجراء عملية رياضية ما سيجعل ظاهرة ما في الطبيعة مؤكدة.

ألفريد نورث وايتهيد (١٩٥٣)

ما هي التداعيات التي تنطوي عليها الفوضى في حياتنا اليومية؟ تؤثِّر الفوضى على طرق ووسائل توقُّع حالة الطقس، وهو ما يؤثِّر علينا مباشرةً من خلال الطقس، وبطريقة غير مباشرة من خلال الآثار الاقتصادية المترتبة على كلٍّ من الطقس والتوقعات نفسها. كما تلعب الفوضى أيضًا دورًا في مسائل التغيُّر المناخي، وفي قدرتنا على توقُّع قوة ظاهرة الاحترار العالمي وآثارها. وبينما ثَمَّةَ أشياء أخرى كثيرة نتوقعها، يمكن الاستعانة بالطقس والمناخ لتمثيل عمليتَي: التوقع القصير الأجل والنمذجة الطويلة المدى، على التوالي. سيصبح سؤال من قبيل «متى يحدث الكسوف الشمسي القادم؟» في علم الفلك سؤالًا يشبه أسئلة الطقس، بينما سؤال من قبيل «هل النظام الشمسي مستقر؟» يشبه أسئلة الوضع المناخي. في مجال التمويل، يُعتبر سؤال حول أفضل وقت لشراء ١٠٠ سهم من مجموعة أسهم محددة سؤالًا يشبه سؤالًا حول حالة الطقس، بينما سؤال حول ما إذا كان الاستثمار في سوق الأسهم أفضل أم في المجال العقاري يشبه سؤالًا حول الوضع المناخي.

للفوضى أيضًا أثر كبير على العلوم، من خلال فرض إعادة النظر مليًّا فيما يعنيه العلماء بكلمتَيْ «خطأ» و«عدم اليقين»، وفي كيفية تغير هذه المعاني عند تطبيقها على عالمنا ونماذجنا. مثلما أشار وايتهيد، فمن الخطورة بمكان تفسير نماذجنا الرياضية كما لو كانت تتحكم في العالم الواقعي بطريقةٍ ما. ومن المثير للجدل أن أكثر تأثيرات الفوضى إثارةً للاهتمام ليست جديدة في حقيقة الأمر، بَيْدَ أن التطورات الرياضية في الخمسين عامًا الأخيرة سلَّطَت الضوءَ من جديد على الكثير من المسائل القديمة. على سبيل المثال، ما هو أثر عدم اليقين على تجسيد شيطان لابلاس في القرن الحادي والعشرين، الذي لم يتمكَّن من الفكاك من التشويش الذي تتعرض له الملاحظات؟

تصوَّرْ وجود كيان ذكي يعرف جميعَ قوانين الطبيعة بدقة، وتتوافر لديه ملاحظات جيدة — لكنها غير كاملة — عن نظام فوضوي معزول خلال فترة طويلة اعتباطيًّا. فلا يستطيع هذا الكيان — حتى إذا كان كبيرًا بما يكفي لإخضاع جميع هذه البيانات لتحليل حسابي دقيق — تحديدَ الحالة الراهنة للنظام؛ ومن ثَمَّ سيظل الحاضرُ، فضلًا عن المستقبل، غيرَ يقينيٍّ في نظر هذا الكيان الذكي. وبينما لا يستطيع هذا الكيان توقُّعَ المستقبل على نحو دقيق، لن ينطويَ المستقبل على أي مفاجآت حقيقية له؛ إذ سيرى ما يمكن وما لا يمكن أن يحدث، وسيكون على علم باحتمالية وقوع أي حدث مستقبلي؛ إنها قابلية لتوقُّع العالم الذي يستطيع أن يراه. وسيُترجم عدم اليقين في الحاضر إلى عدم يقين في المستقبل مُقاس كميًّا جيدًا، إذا كان نموذج الكيان الذكي كاملًا.

في سلسلة محاضرات جيفورد في عام ١٩٢٧، أصاب السير آرثر إدنجتون كبد مسألة الفوضى؛ فبعض الأشياء بسيطة لدرجة أنها لا تحتاج إلى توقع، خاصةً إذا كانت تتعلق بالرياضيات نفسها، بينما تبدو أشياء أخرى قابلة للتوقُّع، أحيانًا. يقول في هذا الشأن:

من المتوقع حدوث كسوف كلي للشمس يمكن رؤيته في كورنوول في ١١ أغسطس ١٩٩٩ … ربما أغامر بالقول بأن ٢ + ٢ ستساوي ٤ حتى في عام ١٩٩٩ … ليس محتملًا أن يصبح توقع الطقس لمثل هذا الوقت من العام القادم دقيقًا على الإطلاق … يستلزم الأمر منَّا معرفة مفصلة للغاية بالظروف الراهنة؛ إذ إن أي انحراف محلي صغير قد يترتَّب عليه تأثير دائم التضخم. يجب أن نبحث حالة الشمس … نُحذر على نحو مسبق من الثورات البركانية … إضرابات عمال مناجم الفحم … عود ثقاب يُلقَى بعيدًا بإهمال …

تتسم أفضل نماذجنا للنظام الشمسي بالفوضوية، وتبدو أفضل نماذجنا للطقس فوضوية، ولكن لماذا كان إدنجتون واثقًا في عام ١٩٢٨ من أن الكسوف الشمسي سيحدث في عام ١٩٩٩؟ ولماذا كان واثقًا بالقدر ذاته من أن أي توقُّع للطقس قبله بعام لن يكون دقيقًا على الإطلاق؟ في الفصل العاشر، سنرى كيف ساعدتني أساليب توقُّع الطقس الحديثة المصمَّمة للتعامُل بصورة أفضل مع الفوضى على مشاهدة ذلك الكسوف الشمسي.

عندما تتصادم نماذج الفوضى والخلاف

أحد الأشياء التي جعلت العمل في مجال الفوضى أمرًا شائقًا خلال العشرين عامًا الأخيرة كان الاحتكاك المتولد عندما تتجمع طرق مختلفة للنظر إلى العالم حول المجموعة نفسها من الملاحظات. أفضت الفوضى إلى قدر من الخلاف؛ إذ إن الدراسات التي تمخَّضَتْ عنها الفوضى قد أحدثت ثورةً ليس فقط في طريقة توقُّع محترفِي توقُّع الأرصاد الجوية، بل أيضًا في مكونات أي توقُّع. تصطدم هذه الأفكار الجديدة عادةً مع أساليب النمذجة الإحصائية التقليدية، ولا تزال هذه الأفكار تثير خلافًا أيما خلاف حول أفضل طرق نمذجة العالم الواقعي. وتتجزأ هذه المعركة إلى مناوشات فرعية حسب طبيعة المجال ومستوى فهمنا للنظام المحدد الذي يجري طرح سؤال في إطاره، سواءٌ كان ذلك عدد فئران الحقول في إحدى الدول الاسكندنافية، أو عملية رياضية لحساب كمية الفوضى، أو عدد البقع الشمسية على سطح الشمس، أو سعر النفط المقرر شحنه في الشهر التالي، أو درجة الحرارة العظمى غدًا، أو تاريخ آخِر كسوف شمسي على الإطلاق.

هذه المناوشات شائقة، بَيْدَ أن الفوضى تقدِّم استبصارات أعمق، حتى إذا كان الطرفان على جانبَي المناوشات يتصارعان على ميزة تقليدية، لِنقُل على سبيل المثال: الوصول للنموذج «الأفضل». أعادت دراسات الفوضى هنا تعريف معنى التميز؛ فنحن مُجبَرون حاليًّا على التفكير في تعريفات جديدة لما يؤلف النموذج الأفضل، أو حتى النموذج «الجيد». الأمر المثير للجدل هنا هو أننا يجب أن نتخلَّى عن فكرة السعي وراء الحقيقة، أو على الأقل نحدِّد طريقة جديدة تمامًا لقياس قربنا منها. تحفزنا دراسة الفوضى إلى تحقيق المنفعة دون أي أمل في تحقيق الكمال، وإلى التخلِّي عن الحقائق الأساسية البديهية الكثيرة في التوقُّع، مثل الفكرة الساذجة القائلة بأن أي توقُّع جيد يتكوَّن من تنبؤ يقترب من الهدف، وهو ما لم يَبْدُ ساذجًا قبل أن نفهم تداعيات الفوضى.

رؤية لاتور الواقعية للعلم في العالم الحقيقي

حتى نختتم هذا الفصل، سنوضِّح كيف أن الفوضى قد تدفعنا إلى إعادة النظر فيما يشكِّل نموذجًا جيدًا، وإلى مراجعة معتقداتنا حول الأسباب النهائية لفشل توقعاتنا. يتشارك العلماء والرياضيون على حدٍّ سواء في الشعور بهذا التأثير، بَيْدَ أن إعادة النظر ستختلف وفق وجهة نظر العالم والنظام التجريبي قيد الدراسة. ويمثِّل الشكل رقم ١-٥ الوضع على نحو رائع، وهي لوحة فرنسية تنتمي إلى الفن الباروكي بريشة جورج دي لاتور، تُظهِر لعب الورق في القرن السابع عشر. كان لاتور فنانًا واقعيًّا يتمتع بروح دعابة، وكان مغرمًا بقراءة الطالع وألعاب الحظ، خاصةً تلك الألعاب التي كان الحظ يلعب فيها دورًا أقل مما كان يعتقده اللاعبون. نظريًّا، قد تلعب الفوضى هذا الدور تمامًا. سنفسِّر هذه اللوحة بحيث تمثِّل الشخصيات فيها عالِم رياضيات، وعالِم فيزياء، وعالِم إحصاء، وفيلسوفًا، جميعهم منخرطون في لعبة مهارة، وحذق، وقدرة على الاستبصار، وبراعة حسابية، وهو ما يمثِّل وصفًا لمهمة علمية، بَيْدَ أن المهمة التي أمامنا ليست إلا لعبة بوكر. سيبقى تحديد هوية كلِّ مَن في اللوحة مسألة غير محسومة؛ إذ سنعاود إلقاء الضوء على الشخوص الممثلين لفروع العلم الطبيعي عبر صفحات الكتاب. تختلف الاستبصارات التي تُسفِر عنها الفوضى باختلاف منظور الرائي، وإن ظلَّتْ بعضُ الملاحظات القليلة واضحةً.
fig5
شكل ١-٥: لوحة «الغش في اللعب باستخدام ورقة آس ديناري أحمر»، بريشة جورج دي لاتور، حوالي عام ١٦٤٥.

الشاب المتأنق أناقةً لا تشوبها شائبة إلى اليمين مستغرِق في إجراء عمليات حسابية دقيقة، لا شك أنها عمليات تنطوي على توقُّع احتمالي من نوع ما. ويمتلك الشاب حاليًّا مجموعة كبيرة من العملات الذهبية على المائدة. تلعب موزِّعة الأوراق دورًا محوريًّا؛ فبدونها لا يمكن اللعب، فهي تزوِّدهم باللغة التي يتواصلون بها، بَيْدَ أنه يبدو أن ثَمَّةَ تواصلًا غير لفظي بينها وبين الخادمة. ودور الخادمة أقل وضوحًا، ربما يكون هامشيًا، غير أن تقديم الخمر سيؤثِّر على مجريات اللعب، وربما هي نفسها تُعتبر مصدر تشويش. تبدو شخصية المحتال الذي يرتدي زيًّا مفككًا حلَّ شرائطَه مهتمًّا لا شك بالعالم الواقعي، وليس مجرد المظاهر بشكل من أشكالها. تلتقط يده اليسرى إحدى أوراق الآس الديناري العديدة التي دسَّها في حزامه، وهي الورقة التي كان على وشك أن يضعها على مائدة اللعب. ما هي إذَن قيمة «الاحتمالات» التي يحسبها الشاب، إذا كان لا يلعب — في حقيقة الأمر — اللعبة التي يفسِّرها نموذجه الرياضي؟ وإلى أيِّ مدًى يصل عمق استبصار هذا الشخص المحتال؟ نظرته موجَّهَة إلينا، وهي تشير إلى معرفته بقدرتنا على رؤية أفعاله، ربما حتى يدرك وجوده في اللوحة.

إن قصة الفوضى مهمة لأنها تُمكِّننا من رؤية العالم من منظور كل لاعب من هؤلاء اللاعبين، فهل ما نفعله هو مجرد صياغة لغة رياضية تجري اللعبة بها؟ هل نخاطر بخسارة اقتصادية من خلال المبالغة في تفسير نموذج ربما يكون مفيدًا، بينما يغيب عن ناظرينا حقيقة أن النموذج — مثل جميع النماذج — غير كامل؟ هل نرصد فقط الصورة الكبيرة دون المشاركة في اللعبة، مقدِّمين في بعض الأحيان تشويشًا مثيرًا؟ أم إننا نتلاعب بتلك الأشياء التي نستطيع تغييرها، مُقرِّين بمخاطر عدم كفاية النموذج، وربما أيضًا بمناحي قصورنا، نظرًا لوجودنا داخل النظام؟ للإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أولًا أن نتفحَّص العديد من المصطلحات الخاصة الكثيرة في العلم حتى نتمكَّن من إدراك كيفية ظهور الفوضى من بين التشويش الذي تتعرض له الإحصاءات الخطية التقليدية سعيًا وراء أدوار في فهم وتوقُّع نُظُم العالم الواقعي المعقدة. قبل إدراك الديناميكيات اللاخطية للفوضى على نطاق واسع في العلوم، كانت هذه الأسئلة تقع أساسًا في مجال الفلاسفة. أما حاليًّا، فتمتد هذه الأسئلة عبر نماذجنا الرياضية إلى مجال علماء العلوم الطبيعة واختصاصيي التوقعات، وهو ما يغيِّر إحصائيات دعم اتخاذ القرار، بل يؤثِّر حتى على الساسة وصانعي السياسات أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤