الفصل الثالث

التنظيمات الحزبية: كيف تبدو؟ وماذا تفعل؟

«لقد أَدرَكَ أن الأمانة في السياسة لا تهم، والكفاءة لا تهم، والرؤية التقدمية لا تهم، وأن ما يهم هو إمكانية الحصول على وظيفة أفضل، وسعر أفضل للقمح، وأوضاع تجارية أفضل.» وردت هذه الكلمات في تأبين عضو مجلس شيوخ ولاية نيويورك جورج واشنطن بلَنْكيت، أحد زعماء ماكينة جمعية تاماني السياسية بمدينة نيويورك في مطلع القرن العشرين التي كانت تسيطر في أوج قوتها على أكثر من ١٢ ألف وظيفة يزيد مجموع رواتبها السنوية عن ١٢ مليون دولار؛ أي أكثر من شركات الحديد والفولاذ الكبرى في ذلك الحين.

إبان «عصر الأحزاب الذهبي» منذ قرن مضى، كانت التنظيمات الحزبية — وهي في أغلب الأحوال ماكينات حزبية سياسية تعمل بسلاسة — تزاول أعمال الحكم، فكانت تستقطب المتسابقين وتضع أجندات الحكم، وكانت تختلط بالمواطنين اجتماعيًّا وتأتي بهم إلى مراكز الاقتراع، وكانت تُشْغل وظائف الخدمة المدنية وتوفر حلقة الوصل بين المواطنين وحكومتهم، وكان لهذه الماكينات زعماء أسطوريون بفضل سطوتهم ونفوذهم، وفي أغلب الأحوال بفضل فسادهم. وكما قال بلَنْكيت مدافعًا عن مكاسبه الشخصية: «أبصرت فرصي فاغتنمتها.» تلك كانت الطريقة التي تدار بها مهنة السياسة.

حتى في النصف الأول من القرن العشرين، كان رؤساء الماكينات الحزبية في مدينة تلو مدينة يسيطرون على مداخل عالم السياسة. كان جيمس مايكل كيرلي رئيس ماكينة بوسطن بماساتشوستس طوال معظم النصف الأول من القرن، ووصلت ماكينة بندرجاست في مدينة كانساس بميزوري إلى السلطة في العقد الثاني من القرن العشرين، واحتفظت بقوة كافية لادعاء الفضل في إيصال هاري ترومان إلى مجلس الشيوخ ثم إلى البيت الأبيض، وهيمنت ماكينة كرَمْب في مدينة ممفيس بتينيسي على السياسة في تلك المدينة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ويمكن قول الشيء نفسه عن ماكينة فرانك هيج في مدينة جيرسي بنيوجيرسي، وكانت ماكينة وليم جيه جرين في فيلادلفيا وماكينة ديفيد لورانس في بتسبيرج وماكينة ريتشارد جيه دالي في شيكاجو كلها من الأهمية بمكان سنة ١٩٦٠ بحيث أسهمت مساهمة كبيرة في ترشيح جون إف كينيدي للرئاسة.

كان للتنظيمات الحزبية بنية واضحة في ذلك الحين، فكانت تنظيمات هرمية تقدم حوافز مادية تربط العامة بأمناء الوحدات الحزبية وزعماء المقاطعات، بل وحوافز مادية أعظم تربط أولئك الأمناء بالتنظيم الموجود في مجالس المدن ومحاكم المقاطعات. وكانت الحوافز المادية، المتمثلة في الوظائف وتقديم مساعدات إضافية من طعام وكسوة للمهاجرين المتدفقين على المدن الأمريكية، تكمِّلها حوافز غير مادية كمنْح القادمين الجدد الشعور بالعزوة وتقديم المساعدة لهم وهم يشقون طريقهم في بلد أجنبي وتوفير مكان يتلاقون فيه ويتعاشرون فيه اجتماعيًّا ويتخالطون فيه مع أصحاب الفكر المتقارب.

كان يهيمن على هذه التنظيمات زعماء أقوياء يدركون أن قوتهم نتيجة مباشرة لبقاء من يدينون لهم بالفضل في مناصبهم. ولو قلنا إن القواعد كانت تُلوى لتحقيق هذه الغاية، ففي هذا تخفيف. ولم يكن أمناء التنظيمات الحزبية يخجلون من أهدافهم ودوافعهم، ولقد عبَّر توم بندرجاست صراحة عن هذا في قاعدته الوحيدة في السياسة حين قال: «الشيء المهم هو الحصول على الأصوات مهما كانت الظروف.» وأعرب فرانك هيج عن وجهة نظره في السياسة بطريقة مختلفة نوعًا ما فقال: «أنا القانون … أنا أقرر. أنا أفعل. أنا نفسي!» كان أمناء التنظيمات ينجزون المهام المنوطة بهم، وكان الناخبون الذين يستفيدون من عطاياهم يتبعونهم بإخلاص، وكانت وسائلهم يُغضُّ عنها الطرف في أحيان كثيرة.

لنهاية الماكينات الانتخابية قصة معقدة من أبطالها المصلحون الديمقراطيون واضطلاع الحكومة بكثير من المسئوليات التي كانت تؤديها الأحزاب ذات يوم، وفضح الفساد، وعوامل أخرى تباينت حسب المكان. وبحلول الربع الأخير من القرن العشرين، لم يتبقَّ من هذه التنظيمات التي كانت ذات يوم قوية إلا ظلال باهتة.

أما في القرن الحادي والعشرين، فتبدو تلك الماكينات آثرًا قديمًا من حقبة غابرة، لكن التنظيم الحزبي ما زال قائمًا. وعلى الرغم من أنه بُني ذات يوم انطلاقًا من أدنى مستوى محلي مرورًا بالمقاطعات والولايات إلى المستوى الوطني، نجد اليوم السلطة في هذا التنظيم تنطلق من المستوى الوطني نزولًا. وبينما كانت الأحزاب ذات يوم تسيطر على عملية الترشيح وكان المتسابقون صنائع الأحزاب، يؤسس المتسابقون اليوم تنظيماتهم الخاصة لخوض الانتخابات التمهيدية، والغرض الأول من وجود التنظيمات الحزبية السياسية هو تلبية حاجات أولئك المتسابقين الذين يُرشَّحون أو ينشدون إعادة انتخابهم حالة كونهم منتخبين. وبينما كان عمل الأحزاب ذات يوم يعتمد على العلاقات الشخصية والاتصالات الشخصية بالناخبين، يركز عمل الأحزاب السياسية اليوم على توفير الأموال والسبل اللازمة للاتصالات الإلكترونية.

لا تشبه الأحزاب السياسية الأمريكية الأحزاب ذات البرامج التي من المعتاد وجودها في الديمقراطيات الغربية؛ إذْ لا تلعب التنظيمات الحزبية وقياداتها فعليًّا أي دور في تشكيل الأجندات السياسية. والحقيقة أن بوسع المرء أن يذهب إلى أن الأحزاب الأمريكية ظلت تبحث عن دور على مدى نصف القرن الماضي على الأقل. لكن التنظيمات ما زالت موجودة على المستوى المحلي ومستوى المقاطعة والولاية والمستوى الوطني، كما لعبت التنظيمات الحزبية، التي تكاد تكون مجهولة لدى جمهور الناخبين، أدوارًا حاسمة الأهمية في العديد من جوانب العملية الانتخابية في الدورات الانتخابية الحديثة. وسوف نستعرض في هذا الفصل بنية التنظيمات الحزبية كما هي موجودة اليوم، ونناقش أدوارها في السياسة الانتخابية، ونتدبر إمكانية تطور هذا الدور في العقود المقبلة.

(١) تنظيما الحزبين السياسيين الوطنيين

لعل الطريقة المثلى التي نستهل بها مناقشةً للتنظيمات الحزبية في الولايات المتحدة أن نطرح سؤالًا بسيطًا: هل تستطيع تسمية رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي أو رئيس اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري؟ ربما يرى القراء غير الأمريكيين أن السؤال ظالم، وأن الأمريكيين وحدهم هم الذين يعلمون مثل هذه المعلومات، بيد أن القراء الأمريكيين سيقفون حائرين لا يعلمون على وجه اليقين مَن يشغلان هذين المنصبين، ناهيك عما يفعلانه.

(١-١) رؤساء الحزبين الوطنيين

يورد الجدول رقم ٣-١ أصحاب المناصب العليا في تنظيمي الحزبين الوطنيين منذ سنة ٢٠٠٠، لكن الأسماء التي يحويها ليست معروفة بالمعنى الدقيق. والحقيقة أن اسم هوارد دين — الذي أدار حملة لفتت الأنظار بشدة وإن لم تكلل بالنجاح للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة في ٢٠٠٤ — هو وحده المألوف لدى معظم المواطنين، حتى أولئك الذين يتابعون السياسة عن كثب. وينبئ التباين بين دين ونظيره الجمهوري كين ميلمان بالكثير.

الطريق الذي سلكه ميلمان إلى رئاسة اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تقليدي تمامًا. أولًا: كان المتسابق الرئاسي الجمهوري الناجح جورج دبليو بوش هو من اختار ميلمان، حيث يهيمن الرؤساء وهم في سدة الحكم على اللجنة الوطنية لحزبهم ويتمتعون في المعتاد بنفوذ كبير في اختيار رئيسها. ثانيًا: جاء ميلمان إلى منصبه من خلال سلسلة من الوظائف السياسية؛ إذ كان سنة ٢٠٠٠ المدير الميداني لحملة بوش الرئاسية، وعندما نجح بوش، ذهب ميلمان — الذي سبق أن بدأ مشواره السياسي بعمله لدى سلسلة من جمهوريي تكساس بمجلس النواب — إلى البيت الأبيض كمدير للشئون السياسية، ثم ترك تلك الوظيفة ليتولى منصب مدير حملة إعادة انتخاب بوش وتشيني، وهو سياسي نشيط على صلة وثيقة بالرئيس الحالي وخبير في إدارة الحملات الانتخابية لا في وضع السياسات، وعلى الرغم من انتخابه رسميًّا من قِبل أعضاء اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، فإنه في الحقيقة اختيار زعيم حزبه جورج دبليو بوش.

جدول ٣-١: رؤساء اللجنتين الوطنيتين للحزبين الديمقراطي والجمهوري.
رؤساء اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي
جو أندرو، ١٩٩٩–٢٠٠١ رئيس الحزب الديمقراطي بولاية إنديانا سابقًا
تيري ماكاوليف، ٢٠٠١–٢٠٠٥ من أبرز جامعي التبرعات للحزب وللرئيس كلينتون، ورجل أعمال
هوارد دين، ٢٠٠٥–حتى الآن حاكم فيرمونت سابقًا، ومتسابق خاسر على ترشيح الحزب لرئاسة الجمهورية
رؤساء اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري
جيم نيكولسون، ١٩٩٧–٢٠٠١ نائب رئيس اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري، وعضو باللجنة الوطنية للحزب الجمهوري عن ولاية كولورادو
جيمس إس جيلمور الثالث، ٢٠٠١-٢٠٠٢ حاكم فيرجينيا السابق
مارك راسيكوت، ٢٠٠٢-٢٠٠٣ حاكم مونتانا
إد جيلسباي، ٢٠٠٣–٢٠٠٥ مستشار سياسي
كين ميلمان، ٢٠٠٥–٢٠٠٧ مدير حملة بوش وتشيني ٢٠٠٤

على النقيض، صُدم المراقبون السياسيون عندما أعلن هوارد دين رغبته في رئاسة اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، فالرجل حقق لنفسه شهرة كثائرٍ على الأعراف السياسية، وعندما بدأ حملته للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي للرئاسة، قليل من المراقبين قالوا إن لديه أدنى فرصة للفوز؛ إذْ كان حاكمًا مغمورًا لولاية صغيرة، وكان دخيلًا عقد العزم على تحدي الوضع الراهن ومؤسسة الحزب. اتخذ دين ما اعتبره البعض مواقف متطرفة حيال قضايا الساعة، ولم ينشد تأييدًا من قيادات الحزب، ووضع استراتيجية مبتكرة — وإنْ كانت غير مجربة — للحملة الانتخابية، استندت بالدرجة الأولى إلى الإنترنت، فنجح نجاحًا فاق توقعات الجميع، وبصرف النظر عن عدم فوزه بترشيح الحزب، فإنه غيَّر طُرق جمع التبرعات وإدارة الحملات، وبث الحياة في الجناح اليساري بحزبه الذي كان قد خاب ظنه في متسابقي الحزب الرئيسيين، وقلَب أجندة القضايا.

عندئذ قرر دين أن يتولى قيادة التنظيم الحزبي، فأثار بترشحه قلقًا بين الوسطيين في الحزب الذين كانوا يخشون أن يؤدي نهجه إلى تنفير الوسط السياسي، الضروري لتحقيق الانتصارات على المستوى الوطني، ولم يفعل دين إلا قليلًا لتهدئة هذه المخاوف. ففي رسالة إلكترونية إلى أنصاره يعلن فيها ترشحه، قال ببساطة: «يجب أن يتحدث حزبنا دون مداراة، وأن تعكس أجندتنا بشكل واضح القيم التقدمية اجتماعيًّا المسئولة ماليًّا التي توحد صفوف حزبنا وصفوف الأغلبية الساحقة من الأمريكيين.» أبدى قيادات الحزب قلقهم حيال جزئية «يتحدث … دون مداراة» في ذلك البيان، وخشوا أن يبدو تقدميًّا أكثر مما ينبغي حيال القضايا الاجتماعية في أعين الجماهير الوطنية.

لكنهم كانوا يدركون أيضًا أن الديمقراطيين خسروا انتخابين رئاسيين متتاليين مع متسابقين تقليديين، وأن حملات متسابقيهم تتضاءل مقارنة بالبرنامج الجمهوري، وأن حزبهم لم يسيطر على الكونجرس منذ عقد، وأن الحزب بدأ يفقد قوته على المستويين الولاياتي والمحلي، وأن دين أظهر مواطن قوة حقيقية في الابتكار التكنولوجي وفي جمع التبرعات وفي التنظيم. وفي النهاية ابتلع كثيرون مخاوفهم، وانتخبت اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي دين، مفضلةً إياه على طابور طويل من الاستشاريين السياسيين التقليديين الأقوياء.

فما طبيعة الاختلاف في الأسلوب بين هاتين القيادتين؟ عمل ميلمان كرئيس حزب نمطي نوعًا ما، ومع تدني شعبية الرئيس بوش في شتاء ٢٠٠٥-٢٠٠٦ في أعقاب الأوقات العصيبة في العراق، وإخفاق استجابة الحكومة الفيدرالية للإعصار كاترينا، والفضائح التي تورط فيها أعضاء الإدارة، وتنصُّت إدارة الأمن القومي المشكوك في قانونيته على المحادثات بموافقة رئاسية، وما اعُتبر محسوبية في بعض التعيينات، كان ميلمان أقوى مدافع عن الرئيس؛ فكان يقف على خط المواجهة يتلقى أسئلة وسائل الإعلام حول كل موقف ويجيب عنها بأقوى تأويل إيجابي ممكن.

أما دين فلعب دورًا مختلفًا، حيث سافر إلى المناطق شديدة الولاء للجمهوريين ونقل إليها رسالة مفادها اتخاذ الحزب الديمقراطي مواقف راسخة حيال قضايا المبدأ. وعلى الرغم من عدم تراجعه عن مهمته، لم يكن دائمًا محل ترحيب من الديمقراطيين المحليين، وفي الجنوب على وجه التحديد، ثمَّن الديمقراطيون المحليون اعتناء دين بولايتهم بصفته رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي، لكن كثيرًا منهم كان يعتقد أن الرسالة التي يحملها غير مناسبة لناخبيهم، فغاب عدد من المسئولين المنتخبين غيابًا لافتًا للنظر عن لقاءاته.

لم يخفف دين من لهجة حديثه دون مداراة، وفي مرحلة ما وصف الحزب الديمقراطي بأنه «حزب مسيحي أبيض إلى حد ما»، فقوبل تعليقه بازدراء من جانب قيادات الحزب المنتخبة؛ إذْ قال السناتور عن ولاية كونكتيكت جو ليبرمان: «كان مسببًا للشقاق ومخطئًا وآمل أن يعتذر عنه.» وكان رد فعل السناتور عن ولاية ديلاوير جوزيف بايدن تجاه الأسلوب الذي تحدث به دين مماثلًا، حيث قال: «هو لا يتكلم باسمي بذلك النوع من الخطاب، ولا أظن أنه يتكلم باسم أغلبية الديمقراطيين.»

(١-٢) موظفو تنظيمي الحزبين الوطنيين

أشرنا حتى الآن إلى دور رئيسَي اللجنتين الوطنيتين للحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكن لم نتكلم إلا قليلًا عن اللجنتين اللتين يترأساهما. تتألف اللجنة الوطنية لكل حزب من أعضاء تختارهم التنظيمات الحزبية في كل ولايات الأمة وأقاليمها. وبينما تملك اللجنتان السلطة الرسمية في الحزبين، يلعب رئيساهما دورًا أشد بروزًا بكثير، ومعظم العمل يتولاه الموظفون الذين يعملون من داخل مقر حزبي دائم كبير بالقرب من مبنى الكابيتول الأمريكي فيجمعون التبرعات ويضعون الاستراتيجيات ويبتكرون التكتيكات ويُعدون الأبحاث ويوفرون الموارد ويجهزون الحزب ومتسابقيه لكل دورة من دورات الحملات الانتخابية. ومن أهم الوظائف التي يتولاها موظفو اللجنتين الوطنيتين مراقبة كيف تسير الحملات في عموم الأمة، وأي الحملات يكسب وأيها يخسر، وأيها يشهد منافسة حامية، وأي المتسابقين يحتاجون إلى مساعدة مالية، وما إلى ذلك، وعندئذ يوجهون الأموال وفقًا لذلك.

يورد الجدول رقم ٣-٢ بعض المقارنات المثيرة للاهتمام، حيث يزاوج بين الولايات المتقاربة في عدد السكان، ونجد في كل حالة أن اللجنتين الوطنيتين حولتا إلى الولاية التنافسية أموالًا أكثر بكثير مما حولتاه إلى الولاية غير التنافسية. وتبيانًا لجهود الحزبين، بأوضح الألفاظ نقول إن الحزبين الوطنيين حوّلا إلى لجنتيهما بولاية أوريجون مبالغ مالية تقارب ما حولتاه إلى لجنتيهما بولاية كاليفورنيا، ويبلغ عدد سكان أوريجون التي كانت ولاية تنافسية سنة ٢٠٠٤ نحو عُشر سكان كاليفورنيا التي شهدت قليلًا من المنافسة في ذلك الانتخاب.

اللجنتان الوطنيتان الديمقراطية والجمهورية

تتألف اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي من ٤٤٠ عضوًا، وتضم تسعة مسئولين (هم رئيس اللجنة وخمسة نواب للرئيس والأمين وأمين الصندوق ورئيس الشئون المالية الوطنية)، ويمثل كل منطقة جغرافية رئيسُها والمسئولُ الأعلى منصبًا من الجنس المغاير لجنسه، وهناك ٢٠٠ عضو إضافي موزعون على الولايات وفقًا لعدد السكان، ويمثل المسئولون الديمقراطيون المنتخبون من المستوى الوطني إلى المحلي ودوائر الحزب (مثال ذلك الديمقراطيون الجامعيون) ما مجموعه ٢٧ عضوًا. ويحق لرئيس اللجنة تعيين ما يصل إلى ٥٠ عضوًا حرًّا لتمثيل الفئات التي يعتبرونها مهمة للحزب لكنها لا تحظى بتمثيل كافٍ في اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي (ومثال ذلك الأقليات الإثنية أو العرقية أو النقابات).

أما اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري فهي أبسط كثيرًا من نظيرتها، إذ تتألف من الرئيس وعضوًا وعضوة من كل ولاية وإقليم، ومسئولوها هم الرئيس ورئيس مشارك من الجنس الآخر وثمانية نواب للرئيس نصفهم من الذكور والآخر من الإناث يُختارون على أساس إقليمي.

جدول ٣-٢: الأموال المحولة من اللجنتين الوطنيتين إلى لجان الولايات.
الولاية اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي
أركنسو ٥٨٩٠١٧ دولارًا ٥٥٢٩٧٥ دولارًا
كانساس ٠ دولار ٤٥٠٩٠ دولارًا
كولورادو ٩٤٤٢٨١ دولارًا ٢١٩٨٤٣٤ دولارًا
ماريلاند ٢٠٠٠٠٠ دولار ١٧٦٣٠٩ دولارات
فلوريدا ١١٢٧٦١٠٦ دولارات ٦٤٣٨٧٢٨ دولارًا
تكساس ٦١٥٠٠٠ دولار ٢٢٠٢١٣ دولارًا
إلينوي ٤٠٠٠٠٠ دولار ٩٣٣٠١ دولار
أوهايو ٣٩٢٨١٠٢ دولار ٥٦٤٨٧٤٥ دولارًا
أيوا ١٥٥١٩٨٥ دولارًا ٢٧١٥٠٥٤ دولارًا
كانساس ٠ دولار ٤٥٠٩٠ دولارًا
مين ٥٢٥٦٤٦ دولارًا ١٠٦٨٩٤٦ دولارًا
رود آيلاند ١٥٠٠٠ دولار ٢٧٧٥٠ دولارًا
ماساتشوستس ٢٥٠٠٠ دولار ٨١١٧٤ دولارًا
واشنطن ٨٧٩١٨١ دولارًا ١٠٣١٥٤٣ دولارًا

يعمل رئيسَا اللجنتين الوطنيتين وموظفوهما عن كثب مع نظرائهم في اللجان الأربع المسماة لجان هيل، التي تتخذ كل منها من المقر الوطني لحزبها مقرًّا لها. وصارت اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب، واللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس الشيوخ، ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب، ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس الشيوخ، عناصر محورية في الحملات التي تدار كل سنتين للسيطرة على الكونجرس بغرفتيه، ويرأس كل واحدة من لجان هيل عضو حالي بالكونجرس يكون بحكم هذا المنصب عضوًا بقيادة حزبه في هذه الغرفة، وللرئيس وظيفة بسيطة هي حماية المقاعد التي يشغلها أعضاء الحزب حاليًّا والفوز بالمقاعد الشاغرة والمقاعد التي يشغلها أعضاء من الحزب الآخر يمكن الإطاحة بهم.

مضى زمن طويل على وجود لجان هيل، حيث تعود نشأة لجنتي مجلس النواب إلى بُعيد الحرب الأهلية ولجنتي مجلس الشيوخ إلى بُعيد التعديل السابع عشر الذي أُقر سنة ١٩١٣ ودعا إلى انتخاب الشيوخ الأمريكيين شعبيًّا. لكنها لعبت أدوارًا ثانوية خلال معظم تاريخها، مقتصرةً على مساعدة الأعضاء الحاليين على جمع التبرعات، وإن كان هذا الدور شهد زيادة مؤثرة في العقدين الأخيرين؛ إذْ لا تكتفي اللجان بجمع التبرعات للمتسابقين، بل تلعب أدوارًا حاسمة الأهمية في رسم أولويات الحملات الانتخابية الوطنية.

برزت أهمية لجان هيل بشدة في دورتي انتخاب الكونجرس لسنة ٢٠٠٦. فقد كان الاعتقاد في ٢٠٠٤ أن هناك أقل من عشرين دائرة نيابية موضع منافسة. ومفهوم الدائرة «موضع المنافسة» هذا جديد نسبيًّا. فعلى الرغم من أن النواب المنتخبين بالفعل يُعتبرون أصحاب ميزة انتخابية قياسًا على منافسيهم، فإن الاستشاريون السياسيون بدءوا مؤخرًا فحسب في التخلي عن المنافسة في أعداد كبيرة من الدوائر قبل الانتخابات بفترة كافية (بأكثر من عام في أغلب الأحوال) وتركيز جهودهم على عدد قليل نسبيًّا من الدوائر. وتسعى اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب، كلٌّ مستخدمةً معاييرها الخاصة، إلى الاقتصار على الدوائر التي تكون نتائجها موضع شك كبير، ثم تركزان جهودهما هناك. وقد اتسم التنظيمان السياسيان والمحللون السياسيون الذين يرصدون سباقات الكونجرس، مثل «تقرير كوك السياسي» و«تقرير روذنبرج السياسي»، بدرجة ملحوظة من الاتساق والدقة في التنبؤ بالسباقات التي ستكون متقاربة في نتائجها.

في وقت مبكر من دورة ٢٠٠٦ الانتخابية، كانت أعين كلا الحزبين والمحللين غير الحزبيين على العدد نفسه من المقاعد تقريبًا، وبما أن الديمقراطيين كانوا يحتاجون إلى إضافة خمسة عشر مقعدًا لاستعادة السيطرة على مجلس النواب، ظن أكثر الناس أن فرصتهم ضعيفة. لكن الرياح السياسية تحولت في اتجاه الديمقراطيين، وبحلول خريف ٢٠٠٥، كان رئيس لجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب، النائب عن ولاية إلينوي رام إيمانويل، يعكف بنجاح على استقطاب متنافسين ديمقراطيين أقوياء لنحو خمسين مقعدًا تشمل كل المقاعد الشاغرة وبعض المقاعد التي غلب على ظنه إمكانية إطاحة شاغليها الجمهوريين. أما رئيس اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب، النائب عن ولاية نيوجيرسي توم رينولدز، فقد أدرك — على الرغم من ادعائه أن الخريطة السياسية لا تزال في مصلحة حزبه — أن مهمته الدفاع عن نواب حزبه الحاليين المعرضين للإطاحة الذين كانوا يزدادون عددًا. ومع ازدياد عدد المقاعد موضع المنافسة، ازدادت الأهمية الحاسمة لدقة التصورات الحزبية للتضاريس السياسية؛ فالموارد شحيحة في الحملات كلها، وغالبًا ما تشكِّل كيفية تخصيصها الفرق بين النصر والهزيمة.

كما أدت دورة ٢٠٠٦ أيضًا إلى أول شقاق علني بين رئيس للجنة الوطنية ورئيسي لجنتي هيل، حيث واصل رئيس اللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي دين استكشاف سبل رفع راية الحزب الديمقراطي في المناطق التي يهيمن عليها الحزب الجمهوري، منفقًا الوقت والمال تحقيقًا لهذه الغاية، بينما رأى رئيس لجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب رام إيمانويل ونظيره بمجلس الشيوخ تشارلز شومر بضرورة تركيز الأموال على المقاعد التي يمكن الفوز بها. وفي السنة السابقة على الانتخابات، تمخض الخلاف على الاستراتيجية عن شقاق صار محتدمًا وعلنيًّا، حتى إن دين وإيمانويل قاطع أحدهما الآخر. ويعطينا سيناريو ٢٠٠٦ مؤشرًا واضحًا على كيفية تمخُّض أدوار مختلف الفاعلين الحزبيين ومسئولياتهم عن استجابات مختلفة للمواقف السياسية.

(١-٣) الأدوار الانتخابية لموظفي اللجنتين الوطنيتين

ما الأدوار التي يلعبها الحزبان في الحملات الانتخابية التي يستهدفانها؟ عندما هيمنت التنظيمات الحزبية على المشهد السياسي الأمريكي، كان السبيل إلى قوتها هو جعل المسئولين يدينون بالولاء للتنظيم القائم، وكان السبيل إلى ذلك هو السيطرة على عملية الترشيح. ويمكن أن يُعزى تراجع الحزبين في جزء منه إلى فقدان السيطرة على عملية الترشيح نتيجة الانتخابات التمهيدية المباشرة.

غير أن السبيل إلى الفوز بالانتخابات في سياسة القرن الحادي والعشرين غالبًا ما يتمثل في العثور على متسابق قوي يخوضها، حيث يعاد انتخاب كثير من أعضاء مجلسي النواب والشيوخ لأن خصومهم ضعفاء أو غير موجودين (بمعنى أنهم يخوضون الانتخابات دون أي معارضة حزبية كبيرة).١ وللأحزاب دور أساسي في يومنا هذا هو استقطاب متسابقين أقوياء لخوض الانتخابات على المقاعد الشاغرة ولمنافسة النواب الحاليين المنتسبين للحزب الآخر، وليس بوسع قيادات الأحزاب مثل إيمانويل أن يفعلوا هذا إلا إذا استطاعوا إقناع المتسابق المحتمل بإمكانية الفوز بالمقعد، ويمكنهم الوعد بالمساعدة في الحملة الانتخابية إذا قرر المتسابق المحتمل قبول هذا التحدي. ويُقيَّم زعيمَا اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب حسب قدرتهما على إقناع متسابقين أقوياء لخوض الانتخابات تحت راية حزبهما، وصار استقطاب المتسابقين أهم وظيفة للقيادات الحزبية.
بمجرد استقطاب المتسابقين، تتحول مهمة التنظيم الحزبي إلى توفير موارد الحملة الانتخابية، التي يكون بعضها في صورة مساهمات مباشرة، لكن مقدار ما يستطيع الحزب تقديمه من مساعدة للمتسابقين على مناصب فيدرالية محددٌ بمبلغ ٥ آلاف دولار لمقاعد النواب و٣٥ ألف دولار لمقاعد الشيوخ.٢ وللمساعدة التي يقدمها الحزبان للمتسابقين في صورة خدمات القدر نفسه من الأهمية، فهما يجريان الأبحاث واستطلاعات الرأي نيابة عن المتسابقين، ويساعدانهم على صقل رسالاتهم إلى ناخبيهم، وينتجان في أغلب الأحوال إعلانات عامة تُستخدم في الدوائر في كل أنحاء البلد. كما ترسل اللجان الحزبية إلى الدوائر النيابية أيضًا وكلاء عن المتسابقين للفت الانتباه إليهم ومساعدتهم في جهودهم لجمع التبرعات.
لعل أهم مساهمة تقدمها اللجان الحزبية هي تعيين الدوائر موضع المنافسة؛ إذ يعد قرار الحزب تركيز موارده على سباق معين بمثابة إشارة لجماعات المصالح التي تشترك مع الحزب في أفكاره بأن عليها هي أيضًا تركيز جهودها على ذلك السباق. وربما تكون اللجان والقيادات الحزبية مقيدة في مقدار ما يمكنها المساهمة به في أي سباق بعينه، لكنها غير مقيدة في الطرق التي يمكنها بها مساعدة المتسابقين في التواصل مع الناخبين، ولعل هذه أثمن مساهمة تقدمها. لكن يجب الحرص على عدم تبديد هذا المورد؛ إذْ يريد قيادات لجان هيل التيقُّن من تخصيص حلفائهم مساهماتهم المالية بشكل استراتيجي بحيث يركَّز المال على السباقات شديدة المنافسة ولا ينفَق عبثًا على سباقات خاسرة أو سباقات سهلة.٣

إلى حد بعيد، صار التنظيم الحزبي الوطني نواة من موظفي الحملات الانتخابية الدائمين المتأهبين لاستقطاب المتسابقين الحزبيين ومساعدتهم. وتوجد اللجنتان الوطنيتان الديمقراطية والجمهورية ككيانين دائمين؛ إذ إنهما الهيكل المنتخب الذي يُتباهى به كل بضعة أشهر. وتملك اللجنتان السلطة الرسمية نيابة عن الحزبين، لكن رئيسيهما فقط هما اللذان يتمتعان بقدر من الشهرة على الصعيد الوطني، وطاقميهما هما اللذان يتوليان العمل السياسي الحقيقي. صحيح أن النواب والشيوخ يشغلون مقاعد في اللجنة الجمهورية الوطنية لمجلس النواب ولجنة حملة الترشيح الديمقراطية لمجلس النواب، لكن الرئيسين والطاقمان فقط هم الذين يؤدون أدوارًا يمكن تبينها، وهي أدوار لا يكاد يربطها رابط بالسياسات أو الحكم وترتبط كل الارتباط بجمع التبرعات والسياسة. فالتنظيم الحزبي الوطني موجود بالدرجة الأولى لتلبية حاجات متسابقيه.

(٢) التنظيمات الحزبية الولاياتية

يشغل ديفيد وارد منصب رئيس الحزب الديمقراطي بولاية أريزونا، ويناظره من الحزب الجمهوري النائب السابق مات سامون، لكن أناسًا قليلين في أريزونا يعرفون ذلك، والحقيقة أن كثيرًا من مواقع الويب الحزبية في الولايات لا تذكر حتى رئيس الحزب في الولاية. فمن ذا الذي يأبه لذلك؟ فحتى المواطنون الأشد نشاطًا لا اتصال لهم إلا قليلًا باللجان الولاياتية، وحتى رؤساء الأحزاب الولاياتيين الأشد نشاطًا في كبرى الولايات لا يحظون بشهرة سياسية كبيرة.

لم يكن الحال هكذا دائمًا. فبعض التنظيمات الحزبية الولاياتية كان يترأسها قيادات يضاهون في قوتهم قيادات التنظيمات المحلية أو أشد قوة، لكن مع اختلافات كبيرة. فكثير من قيادات الأحزاب في الولايات كانوا شيوخًا أمريكيين سابقين، وقد أُنشئت هذه الماكينات الحزبية الولاياتية وقت أن كان هؤلاء الشيوخ يُنتخبون من قِبل الهيئات التشريعية الولاياتية، فأقاموا تنظيمات لضمان انتخابهم، ومن الآليات التي كانوا يستخدمونها للحفاظ على تنظيماتهم تعيين أتباعهم في المناصب الفيدرالية، وساعدهم على ذلك تقليد قديم يُعرف بموافقة الشيوخ، ويعني حق أي شيخ أمريكي في الاعتراض على أي تعيين في منصب فيدرالي في ولايته يتطلب تصديق مجلس الشيوخ. فكان الشيوخ ينتقون للمناصب الفيدرالية مَن يعملون لضمان انتخاب المشرعين الولاياتيين الذين سيعيدون انتخابهم. إنه ترتيب ملتوٍ بحق.

انحسرت سلطة معظم هؤلاء الشيوخ وتنظيماتهم بعد إقرار التعديل السابع عشر، لكن بقايا الماكينات الولاياتية استمرت في الولايات الجنوبية أحادية الحزب عدة عقود، وكانت هذه التنظيمات تخضع نمطيًّا لقيادة زعماء شعبيين أفسحت جاذبيتهم لدى الجماهير المجال أمام الحكم الاستبدادي. ومن أزهى القصص في التاريخ السياسي الأمريكي ما يتناول تنظيم هيوي لونج وخلفائه في لويزيانا، وثيودور بيلبو في ميسيسيبي، وجين تالمادج في جورجيا.

(٢-١) تجديد التنظيمات الحزبية الولاياتية

قليل من ذلك الرونق وقليل من تلك السلطة تبقى في التنظيمات الحزبية الولاياتية في القرن الحادي والعشرين. وتوازي التنظيمات الحزبية الولاياتية التنظيم الوطني، وكل منها يضم لجنة ولاياتية تتألف من ممثلين عن الدوائر المحلية، لكنها قلما تجتمع؛ إذ يقوم الموظفون بالعمل الحقيقي. وكما هو الحال مع الحزبين الوطنيين، شهدت الأحزاب بالولايات نهضة في نصف القرن الماضي. فمنذ خمسين عامًا، كان كثير من التنظيمات الحزبية الولاياتية هياكل جوفاء، وكثير من الولايات ليس لديه موظفون دائمون، وقليل منها لديه مقار دائمة، وكانت الميزانيات هزيلة والأنشطة مقصورة على موسم الانتخابات.

أما اليوم فالسواد الأعظم من التنظيمات الحزبية الولاياتية الديمقراطية والجمهورية لديها موظفون متفرغون مدفوعو الأجر، وكثير منها لديه أيضًا رؤساء متفرغون مدفوعو الأجر، والمقار الولاياتية التي كانت ذات يوم تتنقل في أنحاء الولاية بين المدن التي يقطنها الرؤساء، صارت الآن مكاتب دائمة في عواصم الولايات. وتتفاوت ميزانيات التنظيمات الحزبية الولاياتية حسب حجم الولاية كما هو متوقع، لكن في كل حالة، تكون الميزانية كافية لدعم تنظيم سياسي دائم، وللإعداد لسنوات الانتخابات ولتنسيق الحملات على مستوى الولاية.

لطالما كان تنسيق الحملات عاملًا أساسيًّا في تجديد التنظيمات الولاياتية. فقوانين تمويل الحملات الانتخابية الفيدرالية تحدد المبلغ المالي الذي يمكن إعطاؤه المتسابقين على منصب فيدرالي، لكن هذه القوانين ذاتها تجيز الإنفاق على أنشطة الحملات الانتخابية التي تؤيد جميع متسابقي الحزب على المناصب لا متسابقًا بعينه، وهكذا يمكن للتنظيمات الحزبية على مستوى الولايات الاحتفاظ بموقع على الويب وتنسيق جهود جمع التبرعات والجهود التطوعية على مستوى الولاية، ويمكنها جمع بيانات الناخبين ومعالجتها وتحليلها لمتسابقيها كافة، ويمكنها عمل إعلانات عامة لا تخص متسابقًا بعينه، ويمكنها بذل جهود لحث الناخبين على الإدلاء بأصواتهم. وفي عصر الحملات الانتخابية المتمركزة حول المتسابق، التي يعززها اعتماد المتسابقين الضروري على تنظيماتهم الخاصة للفوز بالترشيح من خلال الانتخابات التمهيدية، يتولى كثير من الحملات ذات الميزانيات الكبيرة تنفيذ هذه الأنشطة جميعها، أما الحملات صغيرة الميزانيات فتضطر للاستغناء عنها، لكن إذا استطاع الحزب تنسيق الأنشطة لصالح متسابقيه، يتحقق دعم واسع النطاق ويستطيع المتبرعون الذين يُحظر عليهم تقديم أموال إضافية لمتسابق بعينه مساعدة هذا المتسابق بطرق أخرى.

من الآليات التي يعمل من خلالها هذا التنسيق تمريرُ الأموال من أحد مستويات التنظيم الحزبي إلى آخر. ويبين الجدول رقم ٣-٢ الأموال التي مررتها اللجنتان الوطنيتان الديمقراطية والجمهورية إلى مختلف التنظيمات الحزبية الولاياتية في ٢٠٠٤ في ولايات مختارة، ولا نندهش إذا رأينا أن الحزبين الوطنيين استثمرا أموالًا أكثر في الولايات التي تشهد انتخابات تنافسية، مما سمح بإدارة حملات انتخابية أكثر تعقيدًا في تلك المناطق.

(٢-٢) تباين قوانين الولايات

واجه السناتور الأمريكي المخضرم جوزيف ليبرمان سنة ٢٠٠٦ منافسة من رجل أعمال من بلدة جرينتش يسمى نيد لامونت على ترشيح حزبه لإعادة انتخابه، وقد أيَّد مسئولو الحزب ليبرمان علانية في الانتخاب التمهيدي. وفي عدد من الولايات الأخرى، يتعين على قيادات الحزب، بموجب قواعد الحزب أو الأعراف، التزام الحياد في الانتخابات التمهيدية. وفي طائفة ثالثة من الولايات، يجوز أن يلعب مسئولو الحزب دورًا في الانتخابات التمهيدية، مع ضرورة التزام موظفي التنظيم الحياد. وتختلف التنظيمات الحزبية الولاياتية بعضها عن بعض من عدة جوانب، ويعكس معظمها حجم الولاية وميولها الحزبية، لكنها تختلف أيضًا من حيث القواعد على نحو ينعكس على الأدوار التي تؤديها، وتندرج الأدوار المؤداة في العملية التمهيدية التي نوهنا إليها سابقًا ضمن هذه الفئة، مع تراوح دور التنظيم الحزبي بين الحيادية، والتأييد غير الرسمي، والتأييد الرسمي أحيانًا من خلال إعطاء المتسابق ترتيبًا مميزًا أو تسمية مميزة في بطاقة الاقتراع، ولعِب دور رسمي في عملية الترشيح. ففي ولاية كونكتيكت على سبيل المثال، يكون الفائز بتأييد الحزب هو الفائز بالترشيح ما لم يواجه متسابق الحزب منافسة في الانتخاب التمهيدي من واحد ممن لم يحصلوا على التأييد الحزبي كما كان الحال مع لامونت وتنافسه مع ليبرمان.

إذن فالتنظيم الحزبي أحد مجالات السياسة الأمريكية التي تحتفظ فيها طبيعة النظام الفيدرالي بأهميتها. وتختلف الولايات بعضها عن بعض في نواحٍ مهمة، حيث تختلف تنظيماتها الحزبية اختلافًا كبيرًا بفضل تواريخها وثقافاتها السياسية المختلفة، ونتيجة لذلك، يتفاوت دور التنظيم الحزبي على مستوى الولاية تفاوتًا كبيرًا. فعلى الرغم من حقيقة أن القيادات الحزبية الولاياتية ليسوا معروفين جيدًا لدى الجمهور، تلعب التنظيمات التي يترأسونها أدوارًا مهمة في أنشطة الحملات، تزداد حيويتها وتقل حسب مستوى المنافسة في الولاية. وفي الولايات كافة، تستقطب القيادات الحزبية المتسابقين على المناصب، لكن في بعض الولايات يكون للتنظيم دور أعظم من هذا أهميةً بكثير، حيث يختار في واقع الأمر من سيمثل الحزب في بطاقة اقتراع الانتخابات العامة.

(٣) التنظيمات الحزبية المحلية

توفر التنظيمات الحزبية المحلية القوية التي ناقشناها في مستهل هذا الفصل مادة لنسج الأساطير، لكن الشخصيات التي تتمحور حولها تلك الأساطير اختفت منذ زمن طويل، ومع ذلك فإن التنظيمات الحزبية المحلية تواصل وجودها ولعِب دور مهم في السياسة الانتخابية.

لطالما كانت الأحزاب السياسية الأمريكية تنظيمات لا مركزية، فهي تبدأ على مستوى القاعدة الشعبية وتعلو وصولًا إلى المستوى الوطني. وتُختار اللجان الحزبية على مستوى الوحدة الحزبية أو البلدة، ويَختار أعضاء هذه اللجان الحزبية الأعضاءَ الذين يشكلون اللجنة التي تعلوهم في المستوى وتسمى أمانة الحي في المناطق الحضرية وغالبًا أمانة المقاطعة في المناطق الريفية، ويختار المسئولون الحزبيون على هذه المستويات أعضاءَ اللجنة الوطنية. ويختلف الهيكل الرسمي الآن قليلًا عن الهيكل الذي تأسس قبل أكثر من ١٥٠ سنة.٤

ظل السؤال الأساسي يدور دائمًا حول مستقَر السلطة. ففي أيام القيادات القوية، كانت السلطة مستقرة لدى المسئول العمومي الذي كان يسيطر على الوظائف، وعادة ما كان هذا الشخص هو العمدة أو رئيس السلطة التنفيذية بالمقاطعة، ودائمًا ما كان شخصًا يعتمد بقاؤه في منصبه على زعيم التنظيم الحزبي. ففي بعض الولايات، كان الشيوخ الأمريكيون يمسكون بزمام السلطة، لكن في أكثر الأحيان كانت هناك سلسلة من القيادات المحلية أشد قوة. ودائمًا ما كان يُنظر إلى قيادة الحزب على المستوى الوطني على أنها ضعيفة ولا تملك من الموارد والنفوذ إلا قليلًا، وكانت مهمتها في أحيان كثيرة التوسط في اتفاقيات بين القيادات المحلية والولاياتية القوية والمستقلة.

أما اليوم فالسلطة، بقدر ما يملك الحزب من سلطة، تنبع من السيطرة على المال. ومعظم الأموال اللازمة لتسيير التنظيمات الحزبية تُجمَع على المستوى الوطني، وتعتمد القيادات الولاياتية، بل إلى حد بعيد القيادات المحلية، على خبرة القيادات الوطنية، وفي أغلب الأحوال على عطاياها.

لكن هذا لا يعني أن الأدوار التي تلعبها القيادات المحلية عديمة الأهمية، فأدوارهم هي الأدوار التقليدية للأحزاب السياسية، حيث يستقطبون المتسابقين ويشغلون المراكز الشاغرة على قائمة الحزب، وينسقون المتطوعين ويستنهضون أنصار الحزب، ويعلنون نيابة عن متسابقيهم ويقومون بالدعاية الانتخابية المباشرة التي ما زالت غالبًا حاسمة الأهمية في الانتخابات المحلية، كما يسعون جاهدين إلى حمل أنصارهم المخلصين الذين يمثلون قاعدة الحزب على التصويت. ومنذ جيل مضى كان هذا العمل يتطلب أيدي عاملة كثيفة إلى حد لا يمكن تصوره، وكانت الأحزاب المحلية تحتاج إلى جيوش من المتطوعين لتحديث قوائم الناخبين وعنونة الظروف وإجراء المكالمات الهاتفية وتوصيل المنشورات.

لا تزال الدعاية الانتخابية التي تنفذ اليوم على نحو شخصي هي تلك التي تنفذ على المستوى المحلي، لكنها يقينًا صارت أخف وطأة بفضل عصر الاتصال بالإنترنت. وحتى على أدنى مستوى محلي، تملك التنظيمات الحزبية مواقع إلكترونية، ويتلقى المتطوعون تحديثات إلكترونية متواترة حول سير الحملات، ويجري التنسيق بين المتطوعين وتتبع أنشطتهم إلكترونيًّا. وما زالت الحملات الانتخابية توزع منشورات على الأحياء السكنية وترافق المتسابقين في زيارات إلى الناخبين من باب إلى باب، لكن جيوش المتطوعين يجري التنسيق بينها من خلال التتبع الدقيق لقاعدة بيانات تضم الملتزمين بتأييد حزب أو متسابق بعينه. وقد أثبتت حملة هوارد دين التمهيدية سنة ٢٠٠٤ فعالية الوسائل الإلكترونية في جمع التبرعات والاتصال بالمتطوعين والتنسيق فيما بينهم، ولم تصادف هذه الدروس أذنًا صماء من جانب التنظيمات الحزبية المحلية، التي استنسخ حتى الأقل تطورًا منها كثيرًا من أساليب دين.

(٤) مؤتمرات الحزب

يمكن أن يذهب المرء إلى أن حملة جون كيري للرئاسة بلغت ذروتها عندما اعتلى منصة المؤتمر الوطني الديمقراطي في بوسطن، وأدى تحية عسكرية صارمة، وأعلن بصوت قاطع «أنا جاهز للخدمة». أتاح المؤتمر لحملة كيري تكييف رسالتها، وتنظيم لقاء حزبي، وتقديم متسابقها للأمة، لكن ينبغي أيضًا أن نتذكر أنه لم تُتخذ أية قرارات حزبية مهمة في ذلك المؤتمر؛ إذ كان المرشح معروفًا بالفعل بعد أن اختير المندوبون الملزَمون بالتصويت له في وقت سابق من ذلك العام. واختار كيري السناتور جون إدواردز عن ولاية نورث كارولينا رفيقًا له في السباق، وأشرفت حملته على عملية كتابة البرنامج الحزبي للتأكد من اتساق وجهات نظر الحزب الرسمية ووجهات نظره.

يتسنَّم المؤتمران الوطنيان ذروة صنع القرار الرسمي في كلا الحزبين السياسيين الكبيرين، لكن الواقع أن قليلًا من القرارات يتخذ فيهما. ومع ذلك تحتفظ المؤتمرات بوظائف حقيقية بمعنى الكلمة، وهي إلى حد ما وظائف غير ملموسة. فالمؤتمرات مناسبات يجتمع فيها الموالون للحزب معًا، ويتمتعون بمناخ قوامه الوحدة، ويفرحون بماضي الحزب التليد، ويخططون معًا للمستقبل المجيد الذي توشك صفحاته أن تتكشف. لكن الأهم من ذلك أن مؤتمري الحزبين الوطنيين يضعان القواعد التي يؤدي الحزبان بموجبها وظائفهما، بما فيها القواعد التي ستحكم عمليات الترشيح اللاحقة.٥

بالإضافة إلى ذلك، تُقر مؤتمرات الحزب البرامج السياسية التي تتضمن مواقف الحزب تجاه القضايا الراهنة، وفي بعض الأحيان، تعكس النقاشات التي تُجرى أمام لجنة البرنامج الحزبي نقاشات فلسفية أوسع داخل الحزب، وفي أحيان أخرى، تخضع كتابة البرنامج لسيطرةٍ مُحكمة من أتباع المرشح. وعلى الرغم من عدم التزام الزعماء السياسيين الأمريكيين باتباع إملاءات البرنامج الحزبي كما الحال مع زعماء الديمقراطيات البرلمانية، فإن البرامج الحزبية تساعد على تمييز الحزب في عيون الناخبين، ومن ثم سعى المتسابقون الرئاسيون المحتملون جادين للهيمنة على عملية كتابة البرنامج، فهم لا يريدون إرهاق كواهلهم ببرنامج يتخذ مواقف جدلية هم ليسوا بها بمؤمنين.

برنامجا الحزبيين الوطنيين لسنة ١٩٩٢

بحلول الوقت الذي سمى فيه الحزبان الوطنيان لجنتيهما المعنيتين بالبرنامج سنة ١٩٩٢، كان واضحًا أن الرئيس جورج إتش دبليو بوش سيعاد ترشيحه لمدة ثانية وأن بيل كلينتون سيكون المرشح الديمقراطي.

سمح الجمهوريون للجناح الاجتماعي المحافظ بالحزب بالهيمنة على عملية كتابة البرنامج؛ إذ انتهى معاونو حملة بوش إلى أن محتوى البرنامج لا يتساوى في أهميته مع ضمان وقوف المحافظين وحدة واحدة بقوة وراء مرشحهم، لذا اتخذ البرنامج الجمهوري لسنة ١٩٩٢ مواقف متطرفة تجاه الكثير من القضايا الاجتماعية الجدلية الراهنة.

في المقابل أراد مستشارو بيل كلينتون ضمان أن يمثل برنامج الحزب الديمقراطي آراءه الوسطية، وهي الآراء التي أعلنها مجلس القيادة الديمقراطي، ومارسوا ضغطًا سياسيًّا كبيرًا لتسمية رئيس لجنة البرنامج وزعيم لجنة الصياغة الفرعية، ولكي يهيمن أنصار كلينتون على عضوية اللجنة. وتفاوض فريق القيادة التابع لكلينتون (النائبة عن ولاية كاليفورنيا نانسي بيلوسي وحاكم ولاية كولورادو روي رويمر للجنة الرئيسية، والنائب عن ولاية نيومكسيكو بيل ريتشاردسون للجنة الصياغة) مع المنافسين الديمقراطيين الذين فاز عليهم كلينتون للتأكد من تمثيل البرنامج آراء مرشح الحزب وعدم اعتراض المتسابقين الخاسرين على أي من بنود البرنامج على المنصة.

كانت النتيجة معبرة بقوة؛ إذ انقسم المؤتمر الجمهوري بشأن قضايا البرنامج، وبدا أنه في أيدي المتطرفين الاجتماعيين، وأحس المعتدلون بخيبة أمل، أما الديمقراطيون فاصطفوا خلف مرشحهم ببرنامج معتدل موحِّد للصفوف. وقد انعكست هاتان الصورتان على الانتخاب العام.

تتباين مؤتمرات الحزب بالولايات وفقًا للدور الذي يلعبه الحزب في عملية الترشيح. فإذا كان دور الحزب محوريًّا، تناضل الحملات لضمان اعتماد المندوبين الملزَمين وتصويتهم. وغالبًا ما تكون هذه المؤتمرات مثار نزاع، حيث تنعكس الخلافات بين المتسابقين في المعارك التي تدور على القواعد وفي المعارك التي تدور على البرنامج وفي استعراضات التأييد، وعندما يقر المؤتمر في نهاية المطاف مرشحًا، فإما أن يبرهن الحزب على وحدة صفه وإما أن يظل منقسمًا، ويتوقف ذلك على ما إذا كان المرشح المؤيَّد من قبل المؤتمر سيواجه على الأرجح تحديًا في انتخاب تمهيدي أم لا.

وفي ولايات أخرى لا تزيد مؤتمرات الحزب عن كونها استعراضات لوحدة صف الحزب، حيث يجتمع أنصار الحزب المخلصون ليستنهض هممهم المسئولون الذين ينشدون تحريضهم على المشاركة في حملاتهم. وهنا تُعتمد البرامج السياسية، التي تكون في الغالب لا معنى لها، فالغرض الرئيسي لهذه المؤتمرات أن تكون بمثابة افتتاح لحملة الانتخابات الرئاسية، أو لقاء حماسي لإعداد الجنود للمجهود الذي ينتظرهم.٦

(٥) ملخص

تعكس التنظيمات الحزبية السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية نظام الأمة الفيدرالي. فالحزب منظَّم على كل مستوى انتخابي. والعنصر الثابت هو أن عمل الحزب الحقيقي يؤديه موظفون، والدور الرئيسي للحزب هو مساعدة من يتسابقون تحت رايته على الفوز. ولا يحدد التنظيم الحزبي الرسمي مواقف الحزب، ولا تقدر قيادات التنظيم الحزبي على تأديب المسئولين العموميين الذي يُنتخبون تحت راية الحزب. والواقع أن قوة الحزب ترتبط ارتباطًا مباشرًا بقدرته على المساعدة في مهام الحملات الانتخابية. ويعتبر الوضع الحالي بعيدًا كل البعد عن الدور الذي كان يلعبه التنظيم الحزبي منذ قرن مضى، مما يعكس تغيرات مهمة في جوانب حرجة من جوانب العملية الانتخابية، وأعني بهذا الجوائز المحتملة، وحوافز المشاركة، والوسائل المستخدمة للوصول إلى الناخبين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤