مقدمة

كثيرٌ من اللغط الذي أُثِير حول عقيدة المؤلِّف، إلى حد الاتهام بالرِّدَّة؛ مُستنبَط ظاهريًّا من قراءة كتاب: «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسَطِيَّة»، وهذا أمرٌ غريب ومثير يستحق التأمُّل والتعليق؛ إلى هذا الحد تكون الدراسة التحليلية النقدية لفكر واحد من الأئمة جارِحة للخِطاب الديني، فيسارع إلى إثارة الشعور الديني عند العامة، دون أن يدرك أن هذا المَسلك يتعارَض مع كل الأطروحات السياسية التي يرفعها هذا الخطاب لحشد الجماهير؟! مفهوم «الصحوة الإسلامية» يَفترِض تجديدًا في مجال الفكر الديني، يجعله ملائمًا لحاجات العصر، ويجعله قادرًا على الوفاء بتقديم إجابات للتساؤلات الكبرى التي تُشغل الإنسان المسلم في واقعه من جهة، وفي علاقة هذا الواقع بالعالَم من حوله من جهةٍ أخرى، ذلك العالَم الذي لم يَعُد جزائر وتجمُّعات منفصلة، بل صار في حُكم القرية الصغيرة، بحكم تطوُّر وسائل الاتصال ونقْل المعلومات، وهل يمكن تجديد الفكر الديني دون تناوُل «تراث» هذا الفكر تناولًا تحليليًّا نقديًّا، يتجاوز حدود التناول التقليدي ذي الطابع الاحتفالي الذي يكتفي بترديد الأفكار التراثية بعد أن يقوم باختزالها واختصارها، فتفقد حيويتها وخصوبتها، وتصبح أشبه بالمَعرفة المجمَّدة؟

والتساؤل الثاني الذي يطرح نفسه: هل الأئمة الأربعة، والخلفاء الأربعة ومن سواهم من الأئمة والخلفاء إلا بشرًا مارَسوا حَقَّهم في الاجتهاد والتفكير، وتركوا لنا تراثًا يستحق منَّا أن نفكِّر فيه ونجتهد، كما فكَّروا هم واجتهدوا؟ أم إن الخِطاب الديني يرفع لواء «الاجتهاد» و«التجديد» بشرط أن يدور المجتهِد والمُجدِّد في إطار اجتهادات وتجديدات بعض كبارهم؟ والسؤال الثاني يتولد عنه سؤال ثالث — جارحٌ هذه المرة — هل المَوقف الدفاعي الذي يحتمي بالدليل على ذلك قوله بعض ممثِّلي الخِطاب الديني ضد تحليل أفكار الشافعي ونقْدِها هو في الحقيقة دفاعٌ عن الشافعي الذي أنجز مشروعه الفكري في القرن الثاني الهجري، وتُوفِّي في أوائل القرن الثالث، أم هو في الحقيقة دفاعٌ عن «التقليد» الذي يحتمي باسم الإمام الشافعي، بكل ما يُمثِّله في الضمير الإسلامي من قيمةٍ علمية وفكرية؟

في طرح هذا السؤال الأخير ينكشف المستور في بِنية الخِطاب الديني، فهو خطاب يحتمي بالتراث ويحوِّله إلى «ساتر» للدفاع عن أفكاره هو ذات الطابع «التقليدي» الذي يميل إلى «إبقاء الوضع على ما هو عليه»، وذلك في تعارُضٍ تامٍّ مع ادعاءاته السياسية، وهنا نكتشف أن الدفاع المستميت موجَّه للطابع النقدي للخِطاب الذي يطرحه الكتاب — خاصة حين يكشف «خطوط» التقليد الخفية الممتدَّة من القرن الثاني حتى القرن الخامس عشر الهجري — «النقد» بمعناه العلمي أي المسلَّح بمنهج تحليل الخِطاب هو «العدو» الذي يريد الخِطاب الديني أن يغتاله، ولكي تسهُل له عملية «الاغتيال» تلك، يقوم بعملية إضفاء قداسة على الموضوع «خطاب الشافعي»، تنأى به عن أن يكون موضوعًا للدرس التحليلي النقدي، لكن عملية «إضفاء القداسة» هذه يُراد بها أن تُغطِّي — في الحقيقة — أطروحات ذلك الخِطاب الديني، وتُداري تقليديته، إنهم يتصوَّرون امتلاكهم للإمام الشافعي ولفكره، وللتراث بشكلٍ عام، ويتصوَّرون بِناء على ذلك أنه ليس من حق أحد سواهم أن يكتب عن الإمام الشافعي أو عن غيره من الأئمة.

الدليل على ذلك قول محمد بلتاجي — عميد كلية «دار العلوم» وأستاذ الفقه وأصوله — بين يدَي تعليقه على الكتاب: «إن … كتب في صُلب تخصصي وهو الفقه وأصوله، وهذا ليس تخصصه.» (جريدة الشعب، ١٦ إبريل، ١٩٩٣م، ص٢)، ويؤكد هذا مرة ثانية بقوله: «إن … كتب في تخصصات أصول الفقه (الشريعة) وليس اللغة العربية أو الدراسات الأدبية واللغوية، وما كَتب فيه هو تخصُّص لجنة الشريعة، ومن هنا جاء تقريري هذا.» وليس الأمر في الحقيقة محتاجًا لهذا التبرير، فمن حق محمد بلتاجي، ومن حق كل مُهتَم بالتراث، أن يُعلِّق على الكتاب وينقده، لكن ليس من حق أحد الادعاء باستئثار التخصُّص، فضلًا عن أن الحديث عن المعرفة العامَّة، وها هو بلتاجي يضع تخصصات «الفقه» و«اللغة» و«الأدب» في جُزرٍ منعزلة، صحيحٌ أنه يتراجع نسبيًّا عن حق الامتلاك هذا، ولكنه تراجعٌ ينطلق مِن كَون «المتخصِّص» بالمعنى السالف يمتلك الحقيقة المعرفية المُطلَقة للمجال الذي يتحدَّث عنه، يقول: «إنه ليس محرَّمًا على أي باحثٍ أو أي مسلمٍ الكلام أو الكتابة في الشريعة، ولكن عليه فقط إذا أقحم نفسه بدون علمٍ فعليه أن يتحمَّل المسئولية العملية عن ذلك.»

ولا شك أن هذا كلام أقرب إلى الدِّقة والموضوعية، باستثناء هذا الجمع بين «الباحث» و«المسلم» في امتلاك حق الكلام والكتابة عن الشريعة، هذا حق الباحِثِين فقط، من حيث صفتهم تلك — الانشغال بالبحث وامتلاك أدواته — لا من حيث أية صفة أخرى، الشخص «المسلم» لا يحق له أن يتحدَّث أو يكتب لمجرد أنه مسلم، وإلا ضاعتِ الحدود الفاصلة بين «العلم» و«الدَّروَشة»، فضلًا عن احترام التَّخصُّص الذي يُبالِغ فيه محمد بلتاجي، والخَلط هكذا بين صفة «الباحث» وصفة «المسلم» هو بيت الداء في ثقافتنا الدينية المعاصِرة؛ حيث حدود التمايز بين «العلم» و«الوَعظ» غير واضحة؛ إذ كل مَن يمارِس «الوعظ» يُسمَّى عالِمًا، وكثيرٌ ممَّن يحملون ألقابًا علمية يكتسبون شهرتهم بصفةٍ أساسية من ممارَسة «الوعظ» سواء في المساجد أو عبْر أجهزة الإعلام المسموعة، والمرئية، والمقروءة.

لكن حرص محمد بلتاجي على حق امتلاك التَّخصُّص يظل هاجسًا مؤرِّقًا، وأعتقد أنه هو الذي نقله للدكتور مأمون سلامة — رئيس جامعة القاهرة سابقًا — الذي طرح عليَّ السؤال في صيغةٍ مُربِكة حيث قال فجأة في سياق حوارنا حول تقرير عبد الصبور شاهين: «ما العلاقة بين قسم اللغة العربية والإمام الشافعي؟ عملكم هو دراسة اللغة والأدب فقط، فلماذا تكتب كتابًا عن الإمام الشافعي؟»١ وكان من الطبيعي أن يباغتنا السؤال — أقصد الدكتور أحمد مرسي، رئيس قسم اللغة العربية آنذاك وأنا — ويُربِكنا بهذه الصيغة المفاجِئة والاستنكارية في آنٍ، الدكتور مأمون سلامة أستاذ قانون، وتصوَّر أن الإمام الشافعي مجرَّد فقيه لا يدرسه إلا المتخصِّصون في الشريعة، لكن الدكتور أحمد مرسي أخَذ يشرح لرئيس الجامعة بطريقةٍ مُبسَّطة، تناسب المقام بالطبع، أن شاغل قسم اللغة العربية الأساسي هو تحليل «الكلام»، وأن هذا الشاغل يندرج تحت مفهوم علم «تحليل الخطاب»، وأنه لا يَتعارض مع دراساتٍ من زوايا أخرى لنفس «الكلام»، وسنعود لهذه النقطة تفصيلًا بعد ذلك! يكفي هنا القول إن كلًّا من محمد بلتاجي، ومأمون سلامة، ومِن قَبْلهما عبد الصبور شاهين، توهَّموا أن الكتاب دراسة في الفقه والشريعة، وذلك استنادًا إلى اسم «الإمام الشافعي» في عنوان الكتاب، ولم يقرأ الثلاثة باقي العنوان، وهو مركز الدراسة وبؤرة البحث «تأسيس الأيدولوجية الوسَطِيَّة».

هذا الدفاع عن حق امتلاك «التخصص» هو في حقيقته دفاعٌ عن «مَناطق» من التقليد يخشى بعضهم أن ينتهكها سلاح التحليل العلمي النقدي؛ لأن هذا الأخير سيكشف عن «عطَن» التكرار، والإعادة دون إفادة، في كثيرٍ من الكتب والبحوث التي تُسمَّى «علمية»، والتي يُمنَح البعض على أساسها الدرجات، والرُّتب، ليس الأمر إذن دفاعًا عن الإمام الشافعي، ولا دفاعًا عن التراث، بل هو ابتزاز لمشاعر المسلمين الطيبين ليُسانِدوا أصحاب المصالح في اغتيال المنهج العلمي التحليلي النقدي، والسؤال الآن، أَيُّنا أكثر احترامًا للتراث وتوقيرًا له: أولئك الذين يُكرِّرونه بآليات الاختصار والتلخيص اعتمادًا على الشروح دون الأصول، أم أولئك الذين يتصيَّدون للأصول فهمًا وتحليلًا ونقدًا؟! الإجابة واضحة، فالفريق الأول لا يفعل أكثر مما يفعله الوارث الكسول بما ورثه — والتراث هو ميراثُنا الفكري عن الأسلاف — لأنه يكتفي باستهلاكه بالاعتماد عليه اعتمادًا تامًّا؛ فيتناقص مع مرور الزمن وتَقلُّ قِيمته، ومع تَوالي الأجيال يتناقص التراث، ويتآكل حتى الوصول إلى حالة «العَوَز» و«الفقر» الفكري والعقلي، وهذا حال فِكرِنا الديني الآن: أين هو من حيوية تراث القَرنَين الثالث والرابع؟ وأين هو مِن تسامُحه وانفتاحه على كل الثقافات السابقة؟!

إن الفارق بين الفكر الديني الحالي والفكر الديني الكلاسيكي في عصور الازدهار — وقبل الدخول في عصور التقليد — هو الفارق بين «التقليد» و«الإبداع» بين «التعصُّب» و«التسامح»، بين «الانغلاق» وضِيق الأفق من جهة، وبين «الانفتاح» الحُر الخلَّاق من جهةٍ أخرى، أما الفريق الثاني من الباحِثين (الوارثين) فإنهم يتعاملون مع التراث تعامُل الذي يريد أن يُنمِّي هذا التراث ويضيف إليه، ولا يكتفي بمجرَّد استهلاكه والاعتماد عليه، إن هذا التراث لا يتجدَّد بالتكرار والتقليد، بل يتجدَّد بمداومة بحثه ودراسته وتحليله كلما استجدَّت مناهج، واتَّسعَت قدرة العقل الإنساني معرفيًّا على إدراك ما لم يكن مدرَكًا، وعلى القدرة على قياس ما كان من قَبلُ لا يخضع للقياس، إن وحدة المعرفة الإنسانية، واتساعها بوَتائر متزايدةٍ ومتسارِعة هي التي تفرض الفحص المجدِّد، وإعادة القراءة الدائمة، لاكتشاف ما لم يكن ممكنًا كشْفُه من قَبلُ في هذا التراث، وليس صحيحًا أنه لم يترك الأول للآخِر شيئًا، وقول عنترة العبسي في مُعلَّقته المشهورة:

هل غادَر الشعراء من مُترَدَّم؟
أم هل عرفتُ الدار بعد تَوهُّم؟

إنما يتعلق بإشكالية «التعبير» الشِّعري، ولا علاقة له بإشكالية «التقدم» الفكري.

إن المتأخِّر يقف على أكتاف المتقدِّم؛ أي يقف على وعْي الأسلاف مضافًا إليه وعْي عصره، وهو ما يمنحه اتساعًا في الرؤية لم تكُن متاحَة للأسلاف. استعارة الوقوف على «الأكتاف» تضيء هذه الفكرة، فالأعلى يَتَّسع مجالُ إدراكه — ولو كان طفلًا — أكثر من مجال إدراك مَن يقف على كتفيه، ولو كان رجلًا ناضجًا، إن قراءة التراث من منظور المنهجيات الحديثة هي «الاحترام» الحقيقي؛ لأنها تفترِض قدرة هذا التراث على الاستمرار والتطور، لكن هذه القراءة لا تقف عند حدود الاحتفال و«التوقير» الزائف، بل تتجاوز ذلك إلى «النقد» الذي يكشف عمَّا في هذا التراث من جوانب ضعف منبعها «تاريخيَّته». إن الدرس العلمي الحقيقي يكشف «الإيجابي» كما يكشف «السلبي» دون تعصب، أو حَمِيَّة زائفة، أو تقديس لفكرٍ بشري واجتهاد إنساني.

١

والكتاب — كما سبقت الإشارة — ليس دراسة في فقه الإمام الشافعي مِن منظور عِلم الفِقْه، وإنما هو دراسة في «نظرية المعرفة» كما يطرحها فِكر الشافعي من خلال عِلم الفِقْه. عِلم الفِقْه الذي «أصَّله» الشافعي ليس هو موضوعنا، بل الموضوع هو «الأصول» النظرية التي أقام عليها الشافعي وسائله الاستدلالية وإجراءاته المنهجية، ومرَّة أخرى ليس المقصود «الأصول» التشريعية أو الفقهية التي يستنبط منها الأحكام، وإنما المقصود رصد «آليات» التَّأْصِيل ذاتها من حيث هي عملية — أو عمليات — ذهنية، إنها دراسةٌ في «المنهج» بمعناه الفلسفي، وهو «منهج» لم يطرحه الشافعي طرحًا مباشرًا، وإنما نجده مبثوثًا بطريقةٍ «ضمنية» في كل كتاباته، ومحاوَلة الكشف عن تلك الآليات يعتمد على مجموعةٍ من المُسلَّمات التي تُحدِّد منهجية القراءة الكاشفة.

أولى تلك المُسلَّمات: أن أي مجالٍ من مجالات المعرفة ليس مجالًا منفصلًا عن باقي المجالات الأخرى في سياق ثقافة محدَّدة، فمجال علم النحو وعلوم اللغة مثلًا ذو صلةٍ بمجالات العلوم الأخرى في الثقافة العربية الإسلامية، صلة قد تكون أقل قربًا كصلة تلك العلوم بعلم الكلام والفلسفة، وعلوم الحديث والقرآن هي العلوم المؤسِّسة الممتَدَّة الصِّلة بكل العلوم تقريبًا، هذه المُسلَّمة هي التي سمحَت لنا في هذا الكتاب أن نضم الشافعي، والأشعري، والغزالي في سياقٍ معرفي واحد، رغم اختلاف المجالات التي ساهَم كل منهم فيها، الجامع لهم تلك المنهجية «الوسطية» التي تحدد لكل منهم بطريقته الخاصة — وفي سياق مجاله الخاص — كيفية صياغة الأفكار والمفاهيم.

المسلَّمة الثانية: أن أي نشاطٍ فكري — في أي مجالٍ معرفي — ليس نشاطًا مفارِقًا لطبيعة المشكلات الاجتماعية (الاقتصادية – السياسية – الفكرية) التي تشغل الكائن الاجتماعي. والمفكِّر كائنٌ اجتماعي يمارِس فعاليته الفكرية غير منعزل أو متعالٍ عن طبيعته الأساسية تلك؛ لذلك لا يمكن النظر إلى فكر الإمام الشافعي بوصفه مفكرًا معلَّقًا في فراغ، ولا يمكن التعامل مع «الحقائق التي يصوغها هذا الفكر بوصفها حقائق طبيعية لا تَقبَل النقاش أو الرَّد. الحقيقة الطبيعية نتاجٌ لقوانين حتمية لا تختلف نتائجها إذا توافرت شروطها، وليست كذلك الحقائق المعرفية في أي نشاطٍ فكري داخل دائرة العلوم الاجتماعية (أو الإنسانية).»

وأهم من مناقشة تلك «الحقائق» من منظور الصواب والخطأ هو البحث عن تفسيرٍ لها بِردِّها إلى جذورها الاجتماعية، من هنا أهمية التحليل الاجتماعي الذي يطرح على الفكر أسئلة غير مُعتادة مثل سؤالنا مثلًا: لماذا احتاج الشافعي للدفاع عن «عربية» القرآن؟ ولماذا ألحَّ على الدفاع عن «السُّنَّة»؟ مثل هذه الأسئلة تكشف ما هو ضِمْني في خِطاب الشافعي، فنفهم من سياق تحليلات الشافعي التي تثيرها هذه الأسئلة أنه كان يناهض اتجاهات أخرى في الثقافة، لم تصل لنا آراؤها بشكلٍ متكامِل، هذا بدوره يطرح أسئلةً أخرى تُبرِز لنا طبيعة الهموم الاجتماعية المُحرِّكة لفكر الشافعي والمُحدِّدة لآليات خطابه.

المسلَّمة الثالثة: أن منهجية الفكر تكتسب صفة «الصدق» أو «عدم الصدق» من منظور «رؤية العالم» التي تختلف من جماعةٍ إلى أخرى داخل الثقافة الواحدة في تفاصيلها وإن تشابهت في كلياتها، وبعبارةٍ أخرى ثمة منظور كلي إسلامي للعالم لا يختلف عند الجماعات (بالمعنى الاجتماعي أو المعرفي) المختلِفة، ولكن تفاصيل هذا المنظور تختلف من جماعةٍ إلى أخرى، فلا يمكن مثلًا أن نعتبر أن رؤية العالم عند «المعتزلة» تتشابه في تفاصيلها مع رؤية العالم عند «الأشاعرة»، وقد يدخل في رؤية العالم الاعتزالية بلاغيون ونحاة وفقهاء ونُقَّاد، والأمر نفسه ينطبق على الرؤية «الأشعرية» أو «الشيعية» للعالم، وحين نُدخل «رؤية العالم» في تحليلنا للفكر يصبح «الصدق» أو «عدم الصدق» أمورًا نسبية، أو تاريخية بالمعنى الاجتماعي، وهذا هو الذي يجعل ممكنًا لنا الحديث عن «أيديولوجيات» مختلِفة داخل النظام الفكري الإسلامي، ويسمح لنا بوضع فكر الإمام الشافعي داخل منظومة الأيديولوجية «الوسطية» التي تَفترِض — منطقيًّا — أيديولوجيات أخرى تتوسطها.

وكلمة «أيديولوجية» أصبحتْ كلمة عربية بعد أن تم تعريبها في مجالات الفكر السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، والفلسفي، كما في مجال النقد الأدبي، ونظرية الأدب والفن. وهي تعني «المنظور» الذي يُحدِّد للإنسان معايير الصواب والخطأ، والثواب والعقاب، والمُحرَّم والمُحلَّل بالمعنى الاجتماعي لا الديني — أي المسموح به المرغوب، والممنوع المَعيب — بكل ما يتداخل في بنية هذا المنظور، ويُشكِّله من أهواءٍ ومَصالح ورغباتٍ محكومة بقوانين الوجود الاجتماعي، وهي قوانين ليست حتمية ولا ضرورية كما سبق القول، هذه «الأيديولوجية» لا تتطابق بالضرورة مع الحقيقة الخارجية؛ لأنها تُعيد إنتاجها في التصورات والمفاهيم التي تحكم وعْي الفرد وتَوجُّهه، وكون المصطلَح مُلتبِسًا في ذهن «عوام» المُتعلِّمين وبعض الباحثين بالفكر الماركسي — أو بالشيوعية — فإن هذا نتيجة لتفشِّي الجهل، ولسيطرة نزعة «الاستسهال» والتعامل مع المفاهيم بما يمكن أن يُسمَّى «الفهم للوهلة الأولى».

إن مصطلح «أيديولوجية» ليس من إبداع ماركس ولا من نحت الشيوعيين، وإن كان يُعَد مصطلحًا من أهم المصطلحات التفسيرية في الفكر الماركسي، لكن أيديولوجية التشويه التي يُمارسها بعضهم هي التي ربطت في ذهن الناس بين بعض المصطلَحات كالأيديولوجية و«الجدلية» وبين الشيوعية، وبما أن الشيوعية في فَهمِها العامِّي والمبتذَل بحكم أيديولوجية التَّشويه أيضًا مذهبٌ إلحادي، فإن هذا الحكم ينتقل إلى تلك المصطلَحات المُشار إليها، فيصبح كل مَن يستخدمها شيوعيًّا مُلحِدًا كافرًا والعياذ بالله، ولعلَّ في هذا المثال نفسه ما يكشف عن معنى الأيديولوجية بحسبانها وعيًا زائفًا؛ أي وعيًا لا يتطابق مع الحقيقة.

المسلَّمة الرابعة: أن كل الخلافات الاجتماعية (الاقتصادية، السياسية الفكرية) بين الجماعات المختلفة في تاريخ الدولة الإسلامية كان يتم التعبير عنها من خلال اللغة الدينية في شكْلِها الأيديولوجي، لم يكن ممكنًا ممارَسة أي صراعٍ إلا على حلبة الخلاف حول قضايا التفسير والتأويل؛ أي النزاع على مِلكية النصوص، والحرص على استنطاقها بما يؤيد التوجُّهات والمصالح التي تعبر عنها الجماعات الفكرية. إن تناوُل تاريخ الفكر الإسلامي بوصفه نزاعًا حول «الحقيقة» يمكن حسْمُه؛ هو في الحقيقة نوعٌ من التزييف الأيديولوجي للتاريخ وللفكر معًا؛ فتاريخ الفكر ليس إلا تعبيرًا متميِّزًا عن التاريخ الاجتماعي بمعناه العميق، وسيطرة اتجاه فكري بعينه على باقي التيارات الفكرية الأخرى لا يعني أن هذا التيار قد امتلك «الحقيقة» وسيطر بها، فقد سيطر «المُعتزِلة» مثلًا فترة من الزمن على حركة الفكر بمساعدة السُّلطة السياسية، والخليفة المأمون على قِمَّتها، ثم حدث انقلابٌ فكري في عصر «المتوكِّل» جعل السيطرة للحنبلية التي تم إطلاق اسم «أهل السنة والجماعة» عليها، وهو اسمٌ ذو طابع أيديولوجي واضح؛ لأنه يعني بدلالة المخالَفة؛ نزع الصفة عن التيارات الأخرى المخالِفة.

وهذا يقودُنا إلى المسلَّمة الخامسة وفحواها: أن سيطرة اتجاه فكري بعينه لفترةٍ طويلة من الزمن لا يعني أن الاتجاهات الأخرى اتجاهات «ضالة»، و«كافرة»؛ لأن هذه الصفات الأخيرة تُعدُّ جزءًا من آلياتِ الاتجاه المسيطِرةِ لنفي الاتجاهات المخالِفة. إن السيطرة تتم وفق آليات سُلطوية ذات طبيعة سياسية غالبًا، وهي آليات لا علاقة لها بمفهوم «الحقيقة» بالمعنى الفلسفي؛ لأنها آليات تفرض «حقائقها» في الوعي الجماعي بعد أن تضفي عليها صفات السرمدية والأبدية، وليس معنى ذلك أن «حقائق» الاتجاهات المخالِفة هي «الحقائق» بالمعنى الفلسفي، بل هي أيضًا «حقائق» نسبية؛ لذلك يجب أن تحتل في التحليل العلمي مكانةً مساوية ﻟ «الحقائق» التي تطرحها الاتجاهات المسيطِرة، هكذا يتعامل منهج «تحليل الخطاب» مع تاريخ الفكر، فلا يفصله عن جذوره الاجتماعية من جهة، ولا يعطي لأحد الاتجاهات منطق السيادة لمجرَّد الشيوع والانتشار والشهرة من جهةٍ أخرى.

المسلَّمة السادسة: أن «المُستقِر» و«الثابت» في الفكر الديني الراهن ينتمي في أحيانٍ كثيرة إلى جذورٍ تراثية هنا وهناك، قد تكون الصلة واضحة بين الآنيِّ الراهن، وبين التراثي القديم، وقد لا تكون كذلك فتحتاج إلى آليات تحليل ذات طبيعة خاصة قادرة على «الحفر» من أجْل ردِّ الأفكار إلى أصولها، وبيان مَنشئها الأيديولوجي، وحين ينكشف الأساس الأيديولوجي لبعض ذلك «المستقر»، و«الثابت» تنتفي عنه أوصاف «الحقائق الثابتة»، أو «ما هو معروف من الدين بالضرورة»، إن لللأفكار تاريخًا، وحين يتم طمس هذا التاريخ تتحول تلك الأفكار إلى «عقائد» فيدخل في مجال «الدين» ما ليس منه، ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الأيديولوجي نصوصًا مقدَّسة، هذه المسلَّمة السادسة تكشف لنا عن بُعْد الصراع الآني بين منهج «تحليل الخطاب» ومنهج القراءات التكرارية التي لا تضيف شيئًا إلى ما سبق، إنه صراعٌ حول «الوعي» الإسلامي الراهن: هل يظل كما هو أسير الترديد والتكرار؟ أم ينطلق إلى آفاق البحث الحر القادر على «فهم» التراث والتجادل معه، والإضافة إليه؟

٢

وهنا ننتقل إلى توضيح بعض المصطلَحات والمفاهيم التي بدَت مُستغْلِقة على أفهام كثير من أهل الاختصاص، فضلًا عن أفهام كثير من القرَّاء العاديين:

المصطلَح الأول: هو مصطلح «النص» وهو مصطلح يستخدم في مَجالين معرفِيَّين متداخِلَين: هما مجال «علم تحليل الخطاب» من جهة، ومجال «علم العلامات» أو السيموطيقا (السيمولوجيا أحيانًا) من جهةٍ أخرى، في مجال علم العلامات يَتَّسِع مفهوم مصطلَح «النص» ليشمل كل نسقٍ من العلامات اللغوية وغير اللغوية يؤدي إلى إنتاج معنًى كُلِّي، وفي ظل هذا المفهوم يندرج النص اللغوي كما تندرج النصوص غير اللغوية، كالاحتفالات، والشعائر، والأزياء، ومائدة الطعام، ونافذة العَرْض، هذا فضلًا عن الفنون السَّمعية والبصرية؛ كالموسيقى، والتمثال، واللوحة الفنية، والكاريكاتير … إلخ، لكن مصطلَح «النص» في علم الخِطاب يقتصر فقط على كل نسقٍ من العلامات اللغوية يؤدِّي إلى إنتاج معنًى كُلِّي، ويظل التداخل بين المجالَين المشار إليهما — السميوطيقا، وعلم تحليل الخطاب — قائمًا، وهو بمثابة العلاقة بين الكل والجزء؛ ذلك أن علم العلامات (السيموطيقا) هو العلم الأشمل الذي يعتبر عِلم تحليل الخطاب جزءًا منه، وذلك على أساس أن «اللغة» نظامٌ من العلامات تُعَد دراسته فرعًا من علم العلامات، رغم أنه هو الفرع الذي تأسَّس عليه الأصل، أو بعبارةٍ أخرى هو الجزء الذي ينبع منه الكل، وتظل العلاقة بين المجالَين علاقة تفاعُل خصبة تُثري كلًّا منهما، بحيث يصعب في كثيرٍ من الأحيان الفصل بينهما، إلا على سبيل الشرح والتوضيح كما نفعل الآن.

وفي مجال علم «تحليل الخطاب» — الذي هو مجال انشغال الباحث — ثمة تَفرِقة في النصوص بين «النص الأصلي» و«النص الثانوي» النص الأصلي في حالة التراث الإسلامي هو «القرآن الكريم» باعتباره «النص» الذي يمثل الواقعة الأولى في منظومةٍ نَبعَت منه وتراكَمَت حوله، والنصوص الثانوية تبدأ بالنص الثاني، وهو نص السُّنة النبوية الشريفة؛ إذ هي في جوهرها شرحٌ وبيان للنص الأصلي الأول، وإذا كانت السُّنة نصًّا ثانويًّا ثانيًا، فإن اجتهادات الأجيال المتعاقِبة من العلماء والفقهاء والمفسِّرِين تُعَد نصوصًا ثانوية أخرى من حيث هي شروح وتعليقات إما على النص الأصلي الأول، أو على النص الثاني الثانوي، ولا يجب أن يُفهَم من وصفنا للسُّنة بأنها نصٌّ «ثانوي» أن ذلك تقليل من شأنها؛ لأن المصطلَح مصطلَحٌ وصْفِي لا يتضمن أي حكمٍ قيمي، وعلى ذلك يمكن الحديث عن «النصوص الدينية»، والسياق وحده هو الذي يتحدَّد على أساسه المقصود من النصوص الدينية، هل هي النصوص الأصلية؟ أم النصوص الثانوية الشارحة؟

في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية تحوَّلت النصوص الثانوية إلى نصوصٍ أصلية؛ أي تحوَّلَت — بفعل عوامل ومحدِّدات اجتماعية تاريخية — إلى نصوصٍ تُمثِّل إطارًا مرجعيًّا في ذاتها.

وقد حدث ذلك في كل مجالات المعرفة تقريبًا، وفي مجال علوم التفسير والفقه بصفةٍ خاصة، حيث تحوَّلت اجتهادات الأئمة إلى نصوصٍ أصلية يدور حولها الشرح والتفسير. وهكذا انحصر مجال الاجتهاد في فَهْم تلك النصوص الثانوية والترجيح بين الآراء والاجتهادات الواردة فيها، وتراجَع بشكلٍ تدريجي التعامُل المباشر مع النصوص الأصلية، وهذا هو الذي يقصده الباحث حين يشير إلى تحويل النصوص الثانوية إلى نصوصٍ أصلية، وهذا هو المقصود بالقول: إن العقل العربي الإسلامي ظل يعتمد سُلطة النصوص.

وهذا ينقلنا إلى شرح المفهوم الذي يحيل إليه مصطلح «صياغة الذاكرة» في الحديث عن التراث العربي الإسلامي في عصر التدوين، وهو القرن الثاني الهجري على وجه التقريب، والمصطلح مشتقٌّ من نظرية «الاتصال الثقافي» التي تتعامل مع الثقافة الجَمعيَّة — ثقافة الأمة والشعب أو ثقافة جماعة بعينها — بوصفها وعاءً يُمثِّل ما تُمثِّله «الذاكرة» بالنسبة للفرد، إنها الذاكرة التي تحفظ للأمة وَعْيها بذاتها من جهة، وبعلاقتها بما حوْلَها من جهةٍ أخرى، وكما يمكن لذاكرة الفرد أن تعتمد على الحفظ والتكرار وتستند في عمَلِها إلى آلية الاسترجاع والتَّرديد، كذلك يمكن لها أن تتجاوَز تلك الحدود وتُنَمِّي فعالية الاستنتاج والتفكير اعتمادًا على مبادئ كلِّية، وأصولٍ منهجية. ويتوقَّف الأمر في كل حالةٍ على نمط التربية ونوع التعليم الذي يَتلقَّاه الفرد. مثل الفرد يمكن صياغة ذاكرة الأمة وعقلها — أي صياغة ثقافته — بواحدةٍ من الطريقتين، ويحدث ذلك عادة في مرحلة انتقال الأمم والشعوب من مرحلة الشفاهية إلى مرحلة التدوين. من هنا يُعتَبر عصر «التدوين» بمثابة عصر تأسيس الأصول في تاريخ الأمة، وهو العصر الذي ينتسب إليه خِطاب الشافعي، والذي شهد صراعًا بين الاتجاهات الفكرية المختلِفة حول تأصيل الأصول في كل المجالات المعرفية تقريبًا.

وليس من قبيل الاستطراد أن نذكر أن هذا العصر يُعَد عصر التساؤلات الكبرى، والاختلافات الخصبة العميقة حول قضايا «العقل والنقل»، و«الرأي والحديث»، و«علوم الأوائل وديوان العرب» … إلخ، إنه العصر الذي شهد «مجاز القرآن» لأبي عُبيَدة مَعْمر بن المُثنَّى، و«معاني القرآن» للفَرَّاء، و«الرسالة» و«الأم» — موسوعة الفقه — للشافعي. وقُبَيل ذلك شهد «المُوَطَّأ» لمالك بن أنس، و«الكتاب» لسيبويه، وكتابات ابن المُقفَّع في السياسة والأدب. وبعد ذلك في القرن الثالث انهَمر غيْث المؤلَّفات التي نذكر منها كتب الجاحظ، وكثيرًا من المؤلَّفات الفلسفية والكلامية التي ضاعت وحُفِظَت لنا عناوينها وأسماء مؤلِّفيها في «فهرست» ابن النديم.

وفي كتابنا عن الإمام الشافعي تحليل لبعض جوانب الصراع على تدوين الذاكرة بين «أهل الرأي» و«أهل الحديث»، وعن دور الشافعي في محاولَته «التَّوسُّط» الذي كشف تحليلُنا لخطاب الشافعي أنه في حقيقته «انحياز» أيديولوجي لمذهب «أهل الحديث»، لكن هذا المفهوم الخاص بآليات صياغة الذاكرة الجَمعية يبدو غائبًا تمامًا عن وعْي الذين كَتبوا «تقارير» عن الكتاب.

كان الصراع يدور في مُجمَله حول تحديد المرجعية النهائية للفعل الثقافي— الفكري الاجتماعي — وهل هي «العقل» أم «النَّقل»؟ ومن الضروري الإشارة هنا إلى أن الصراع لم يكُن يدور حول مَرجعيَّتين تَصوَّرهما العقل الإسلامي مُتناقضَتَين، بل كان يدور حول تحديد «أولية» إحداهما دون إغفال أهمية الأخرى. وبعبارةٍ أخرى: كان السؤال: إذا تَعارَض العقل والنَّقل فأيُّهما تكون له الهيمنة والسيطرة على الآخَر؟ هل يتم تأويل «النقل» لرفع تَعارُضه مع «العقل»، أم يتم الاحتكام إلى «النقل» بالتشكيك في صحة استنتاجات العقل؟ وكان من الطبيعي أن يكون «التأويل» من أهمِّ الإجراءات والأدوات المنهجية عند أنصار أولوية «العقل» في حين يتمسك أنصار «النَّقْل» بالدلالات الحَرْفية مُحاوِلين قدْر طاقتهم وجهدهم «توسيع» مجالات النصوص من جهة، والحرص على «شموليتها» من جهةٍ أخرى، وهذا ينقلنا إلى مفهومٍ آخر هو مفهوم «سُلطة» النصوص، أو هيمنتها وشموليتها.

٣

ولعلنا الآن نستطيع أن نقول إن «النصوص» في ذاتها لا تمتلك أي سُلطة، اللهم إلا تلك السُّلطة المعرفية التي يحاول كل نص — بما هو نص — ممارستها في المجال المعرفي الذي ينتمي إليه. إن كل نص يُحاوِل أن يطرح سُلطته المعرفية بالجديد الذي يتصور أنه يُقدِّمه بالنسبة للنصوص السابقة عليه، لكن هذه السُّلطة «النَّصِّية» لا تَتحوَّل إلى سُلطةٍ ثقافية اجتماعية إلا بفعل الجماعة التي تتبنَّى النص وتُحوِّله إلى إطارٍ مرجعيٍّ، من هنا تَصح التفرقة بين «النصوص» والسُّلطة التي يضفيها عليها العقل الإنساني ولا تَنبُع من النص ذاته، ومن هنا تكون الدعوة إلى «التحرر من سُلطة النصوص» هي في حقيقتها دعوة إلى التحرُّر من السُّلطة المُطلَقة والمرجعية الشاملة للفكر الذي يُمارِس القمع والهيمنة والسيطرة حين يُضْفي على النصوص دلالات ومعانِيَ خارج الزمان والمكان والظروف والملابَسات، إنها دعوةٌ للفهم والتحليل، وللتفسير العلمي القائم على التحليل اللغوي للنصوص داخل القرائن السياقية المُعقَّدة التي شرحها الباحث في بحث «إهدار السياق في تأويلات الخِطاب الديني» (مجلة القاهرة، يناير، ١٩٩٣م).

والسؤال الذي يُثار عادة من جانب بعض المدافعين عن «سُلطة النصوص» هو: أليس هناك من سبيلٍ لإبقاء العقل إلا برفض النصوص؟ وهو سؤال ماكر خبيث؛ لأنه لا أحد يرفض النصوص، بل الرفض موجَّه إلى «سُلطة النصوص» وهي السُّلطة المضفاة على النصوص من جانب أتباع «النقل»، والحقيقة أنه ليس هناك تصادُم بين «العقل» و«النص» لسببٍ بديهي وبسيط، هو أن «العقل» هو الأداة الوحيدة الممكنة، والفعالية الإنسانية التي لا فعالية سواها، لفهم النص وشرحه وتفسيره، ولدينا هؤلاء المدافعون عن «النقل» بتشويه «العقل» والتقليل من شأنه: كيف يتلقَّى الإنسان النص ويتفاعل معه؟ لقد قام الإمام علي بن أبي طالب في رده المعروف جدًّا والمشهور على الخوارج حين قالوا: «لا حكم إلا لله.» بتأسيس هذا الوعي الذي نحاول شرحه، فقال: «القرآن بين دفَّتَي المصحف لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال.»، والدلالة الواضحة لهذا المبدأ المهم جدًّا والخطير، والمُغيَّب تمامًا في الخِطاب الديني المعاصر: أن عقل الرجال ومستوى معرفتهم وفَهمِهم هو الذي يحدِّد الدلالة ويصوغ المعنى.

وهذا كله ينفي وجود «تصادم» بين العقل والنص، وإنما ينشأ التصادم بين العقل وسُلطة النصوص، وذلك أنه حين تتحوَّل النصوص إلى سُلطةٍ مُطلَقة ومرجعيةٍ شاملة بفعل الفكر الديني الذي حلَّلْناه في كثيرٍ من دراستنا وأبحاثنا؛ تتضاءَل سُلطة العقل، وفي تضاؤل سُلطة العقل يكْمُن التخلُّف الذي نُعانيه على جميع المستويات والأصعدة. فإذا أضفْنَا إلى ذلك ما سبق قوله في الفقرة السابقة من أن سُلطة العقل هي السُّلطة الوحيدة التي تُفهَم على أساسها النصوص الدينية، يصبح التقليل من شأن العقل مؤدِّيًا مباشرة إلى إلغاء النصوص، والنصوص في هذه الحالة تصبح مملوكة ملكية استئثار لبعض العقول التي تُمارِس هيمنتها باسم النصوص، والحقيقة أن سَعْي الخِطاب الديني لتكريس سُلطة النصوص ولتكريس شموليتها هو في الواقع تكريس لسلطة عقول أصحابه وممثِّليه على باقي العقول، وهكذا تتكرس شمولية تأويلاتهم واجتهاداتهم، فيصبح الخلاف معها كفرًا وإلحادًا وهرطقةً وهي الصفات التي أُلصِقَت بكل اجتهادات الباحث.

يرتبط بمفهوم «سلطة» النصوص مفهوم «المرجعية الشاملة» للنصوص، وكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة، أو تعبيران عن جانِبَي مفهوم واحد، وفي تقدير الباحث أن هذا المفهوم ليس مفهومًا دينيًّا، بمعنى أنه لا ينتمي إلى مجال الدين والعقيدة، بقَدْر ما ينتمي إلى التاريخ الاجتماعي للمسلمين، وأقصد بذلك أنه مفهوم تمَّت صياغته على مراحل متعاقِبة، وبأساليب وطرائق شتَّى حتى تَم لأبي الأعلى المودودي صَكُّه في مصطلح «الحاكمية» الذي استعاره منه سيد قطب، ومنه ينتج الخطاب الديني المعاصر بكل فصائله واتجاهاته في سعيه لإقامة «الحكم الإسلامي» أو الدولة الإسلامية، على خلافٍ بين مُنتِجي هذا الخِطاب في المصطلَحات، رغم الاتفاق في المفاهيم.

ولأننا ناقشنا آيات الحاكمية الثلاث الواردة في سورة «المائدة» في دراستنا المشار إليها عن «إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني»، نكتفي هنا بمناقشة بعض النصوص القرآنية التي أوردها محمد بلتاجي في تقريره عن كتاب الإمام الشافعي (جريدة الشعب، ١٦ أبريل ١٩٩٣م) وقد وردَت بالترتيب التالي في التقرير المشار إليه:

  • (١)
    وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (الأحزاب: ٣٦).
  • (٢)
    إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (النور: ٥٠).
  • (٣)
    فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (النساء: ٦٥).
  • (٤)
    وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (النحل: ٨٩).
  • (٥)
    الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا (المائدة: ٣).
  • (٦)
    وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (الشورى: ١٠).
  • (٧)

    تكرار للآية المذكورة في رقم «٢».

ولن نلتفتَ الآن إلى النَّزعة التعليمية والوعظية التي تُمارِس سُلطتها بشكلٍ مباشر على الكتاب وصاحبه من منظور الأعلى/أدنى، والأعلم/الجاهل، والمتخصص/عديم الخبرة. سنتجاوز مؤقتًا عن آليات الخطاب القَمْعي لنكشف أنها آليات تستر عَوَرًا فاضحًا في «عقل» الخطاب ذاته، النصوص من ١–٣ أوردها بلتاجي ليقرر بها فكرة أن «العبودية» و«الإذعان» و«الانصياع» هي جوهر العقائد الدينية عامة، والعقيدة الإسلامية بصفةٍ خاصة، يقول بين يدي استشهاده بالنصوص الثلاثة الأولى: «وبديهي أن العقيدة الإسلامية — بل كل عقيدةٍ دينية — لا ترضَى من الإنسان إلا الطاعة المُطلَقة التي هي المفهوم الحرفي لمعنى (العبادة)، و(الإسلام). والذي لا يرتضي الانصياع المُطلَق للنصوص المقدَّسة فهو خارِج عن حد الإيمان بآياتٍ من القرآن كثيرة جدًّا منها …» إلخ.

وعلى سبيل السِّجال — ليس إلا — ما رأْي محمد بلتاجي في عدم انصياع عمر بن الخَطَّاب لبعض أوامر القرآن الكريم، وممارَسات النبي ، في إعطاء «المؤلَّفة قلوبهم» نصيبهم من الزكاة، والمنصوص عليها في القرآن نصًّا لا يحتمل التأويل؟ وما رأْيُه في اجتهاده رضي الله عنه في عدم إقامة حد السرقة — المنصوص عليه في القرآن كذلك نصًّا لا يحتمل التأويل — عام الرمادة؟ وهل كان عمر بن الخَطَّاب «ينكر» النصوص، كما اتهم بلتاجي الباحثَ في حُكمٍ متسرعٍ خطير بأنه يعرف النصوص وينكرها؟ ولماذا لم ينهض له باقي الصحابة والمسلمون جميعًا ليُكفِّروه على «تعطيل النصوص»، وهي التهمة التي لا يكفُّ «فهمي هويدي» عن ترديدها ضد اجتهادات الباحث كلَّما وجد فرصةً لذلك؟ أغلب الظن أنه لا بلتاجي، ولا هويدي يستطيع أن يخرج من هذا المأزق إلا بالتسليم بحق الاجتهاد مع متغيِّرات الزمان والمكان، وبكل ما يترتب على هذا التسليم من أن «سُلطة النصوص» سُلطة مضفاة وليست سُلطة ذاتية.

لو تأمَّلْنا الآية رقم «١» في استشهاد بلتاجي نُدرِك على الفور آفة «الفهم للوهلة الأولى»، ذلك أن الآية تركيبٌ لغوي شرطي عن انتفاء الاختيار من جانب المؤمنين — ذكورًا وإناثًا — إذا قضى الله ورسوله أمرًا. الحديث هنا عن المؤمنين في عصر النبوة، والرسول حاضرٌ يحكم بينهم ويقضي، إما بأمر الله مباشرة أو باجتهاده وفَهمه، وفي كل الحالات لا اختيار إذا صدر الحكم وقضى به، وهي الدلالة نفسها في الآية الثانية التي عبَّرت عن الطاعة بالقول «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، أما الآية الثالثة فهي تشير إلى حالة «الاختلاف» الذي يصل إلى حد «الاشتجار» ومن الطبيعي أن يكون الحَكَم هو الرسول، ممثِّل السُّلطة العليا الدينية والزمانية في المجتمَع، في تلك الآيات الثلاث نجد حُكم الرسول حُكمًا مباشرًا؛ أي بحضوره الشخصين واستماعه لكل الأطراف بوصفه قاضيًا وحاكمًا، وهذه حالة ليست كائنة الآن؛ لأن ما هو بين يَدَي المسلم نصوص — أصلية وثانوية — تحتاج للفهم بإعمال العقل والاجتهاد.

إن «الانصياع» الذي يتحدَّث عنه بلتاجي ليس إلا قوة الإلزام الاجتماعي المُرتَهن بوجود الرسول حاكمًا وقاضيًا في شئون الدين والعقيدة، وفيما سوى ذلك فقَد خالفه بعض الصحابة في «شئون الدنيا» التي قرر عليه الصلاة والسلام في أكثر من مناسَبةٍ أننا أدرى بشئونها. ولو صحَّ تحليل بلتاجي لكان من الواجب على المسلمين الانصياع الدائم في حالة «تأبير النخل» ومنزل الحرب الذي اقترحه الرسول بدلًا من حفر الخندق. وعدم «انصياع» عمر بن الخَطَّاب للأوامر القرآنية ينفي نفيًا كاملًا صواب الاستشهاد لتكريس مفاهيم «العبودية» و«الانصياع» و«الطاعة» وعدم المُخالَفة الذي يُفضي إلى الخروج عن حدِّ الإيمان في رأيه.

هكذا نكتشف أن كلام بلتاجي عن «الانصياع المُطلَق للنصوص المقدَّسة» يفضي في الحقيقة إلى الانصياع لقراءاته هو للنصوص، وهي قراءة — كما رأينا — تَتجاهَل أبجديات التحليل اللغوي ناهيك بمراعاة مستوَيات السياق التي أهوَنُها «أسباب النزول» أحد علوم القرآن المعروفة جدًّا، والتي يشير إليها الجميع، ولا يكاد أحدٌ يُوظِّفها كواحدةٍ من مستويات السياق.

أما من (٣) إلى (٧) فيستشهد بها بلتاجي لتأكيد أن المبدأَ الذي صاغه الشافعي لشمولية النصوص الدينية لكل مجالات الحياة بقوله: «ما من نازلةٍ إلا ولها في كتاب الله حكم.» مبدأٌ قرآني لم يَصُغْه الشافعي، وإنما صاغَتْه النصوص القرآنية ذاتها. يذهب بلتاجي إلى أن هذا المبدأ الذي صاغه الشافعي هو المعنى «الحَرْفي» — أُكرِّر «الحَرْفي» للآيات القرآنية التي يستشهد بها. ويحس الباحث بالخجل حين يضطر إلى تذكير أستاذ الفقه وأصوله — وعميد كلية جامعية — أنَّ قول الله سبحانه وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ يجب أن يُفهَم على أساس أن عبارة «كل شيء» في الآية لا تفيد العموم والشمول، وإنما هي كما يقول علماء أصول الفقه من باب «العام الذي يُرادُ به الخاص». إن الفهم الحرفي الذي يطرحه بلتاجي هو الفهم العامِّي نفسه الذي يطرحه بعض الصِّبية الجُهَّال، وبعض المُتعالِمين الذين يتكسبون من هنا وهناك بدعوى «أسْلَمة العلوم والمَعارف»، ولو صحَّ هذا الفهم الحرفي المبتذَل لتصوَّرْنا أن البشر لم يَعلَموا شيئًا على وجه الإطلاق من قبل نزول القرآن، وهذا هو ما يفعله جُهَّال الصِّبْية حين يتصورون أن البشرية قبل نزول القرآن الكريم كانت تَحيَا في جاهليةٍ عمياء وفي حيوانيةٍ مُطلَقة. دلالة «كل شيء» إذن تختص بمجال العقيدة الإسلامية داخل مجال المعرفة الدينية، ولا تَمتدُّ إلى ما وراء ذلك من مَعارف طبيعية واجتماعية حصَّلَتها خبرة البشر في تسيير شئون حياتهم.

والدلالة نفسها تنطبق على الآية رقم «٥» الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فالمَجال الدلالي للآية يَتمحوَر كله حول «الدين» وليس «الدنيا» التي كرَّر الرسول في أكثر من مناسَبةٍ أننا أدرَى بشئونها، والآية السادسة وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لا يَكشِف سياقها إلا عن دلالة الاختلاف بين المسلمين وغيرهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ، وهذا اختلاف مردود إلى الله؛ أي إلى حُكْمه تعالى يوم القيامة (انظر الآيتين قبلها في السورة نفسها).

وهكذا نجد أن مفهوم «شمولية النص» لكل الوقائع يُلغِي من فَهْم الإسلام تلك المناطق الدنيوية التي ترَكَها للعقل والخِبرة والتجربة. إنَّه المفهوم الذي يفضي إلى القول بالحاكمية، وبتحكيم الفَهم الحرفي للنصوص في كل مجالات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

إن اعتماد الخِطاب الديني على آيات الحاكمية الثلاث في سورة المائدة، وعلى تلك النصوص التي استشهد بها بلتاجي، هو من باب التأويل الذي ينتزع الآيات من سياقها، ويضفي عليها دلالات لا تنطق بها، وفي ذلك تأكيد لقول الإمام علي رضي الله عنه بأن القرآن بين دفَّتَي المصحف، لا ينطق، وإنما يتكلم به الرجال، هذا هو الوعي الذي يحاول الباحث نشْرُه وإشاعتُه بين الناس دون تقليلٍ من شأن النصوص الدينية الأصلية، ولا من شأن دلالتها في سياقها ومجالها، وهذا ما كان موضوع تحليل مُسهَب في كتاب «نقد الخِطاب الديني»، ليس ثمة إذن دعوة للتَّحرُّر من النصوص، بل من سُلطة النصوص النابعة من شموليتها، وهي الشُّمولية التي بدأَت برفع الأمويين للمصاحف على أَسِنَّة السيوف، طالِبِين الاحتكام إلى كتاب الله في صراعٍ اجتماعي سياسي، وهي الخديعة التي وقع في أحابيلها المحاربون الذين أنهكَتْهم الحرب، رغم أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من الانتصار الحاسم، ثم حين اكتشفوا أن الأمر انتهى بتحكيم الرجال — عمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري — عادُوا يطالِبون بحُكْم الله مُتصوِّرِين أن النصوص تَحكُم حُكمًا مباشرًا دون أن يقوم عقلٌ إنساني بفَهمِها وشَرْحها وتفسيرها.

إن الدعوة للتحرُّر من سُلطة النصوص ومن مرجعيتها الشاملة ليست إلا دعوة لإطلاق العقل الإنساني حرًّا يتجادَل مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، ويتجادَل مع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب، فهل تَتصادَم هذه الدعوة مع النصوص الدينية، أم تتصادم مع السُّلطة التي أضفاها بعضهم بالباطل على بعض تلك النصوص، فحوَّلُوها قيودًا على حركة العقل والفكر؟ إن هذه الدعوة للتحرُّر لا تقوم على إلغاء الدين ولا تقوم على إلغاء نصوصه، لكنها تقوم على أساس فهم النصوص الدينية فهمًا علميًّا.

إن الدِّين عامَّة، والإسلام خاصَّة لا يقوم كما توهَّم بلتاجي على أساس «القسر» و«القهر» و«الإلزام»؛ أي لا يقوم على «العبودية» بالمعنى الذي يفهمه أصحاب «الحاكمية»؛ أي بالمعنى الذي يفهمه بلتاجي، وهو معنًى ليس بعيدًا عن مفهوم الحاكمية، وإن تحاشَى استخدام المصطلَح. إن العلاقة بين الله سبحانه وتعالى والإنسان كما يصوغها القرآن الكريم تقوم على أساس «حرية الاختيار»، فالمجال مفتوح أمام الإنسان ليؤمن أو ليكفر، والنصوص الدَّالَّة على هذه «الحرية» محفوظة ومعروفة، وحين يختار الإنسان عقيدةً بعينها يكون مطلوبًا منه «الطاعة» القائمة على حرية الاختيار الأصلية، فالفرع لا يلغي الأصل أبدًا، إن «الطاعة» في الإسلام تقوم على «الحب»، وهو بُعْدٌ مفقود في تَصوُّر الخِطاب الإسلامي المعاصِر لعلاقة الله بالإنسان. هذا فضلًا عن أن القرآن يصوغ العلاقة بين الله والإنسان في بُعْد «العبادية» وليس «العبودية» وفي الفارق نُحيل القارئ إلى الفصل الأول من كتاب «نقد الخطاب الديني».

وإذا كانت سُلطة النصوص سُلطة مُضافَة كما سبَقَت الإشارة، وإذا كانت شموليتها لكل تفاصيل الحياة مبدأ تاريخيًّا تأسَّس في التاريخ الاجتماعي للمسلمين، فالنتيجة التي تنتهي إليها أن إنكار أي من هذين الأمْرَين أو كليهما لا يعني اعتداءً على العقيدة أو استبعادًا للدِّين، على عكس ما يُروِّج له المُبطِلون من دعاة السُّلطة والسيطرة والهيمنة باسم الدين والعقيدة.

٤

من هنا تفقد الاتهامات مشروعيتها المعرفية، وإن كان هذا لا يعني عدم الالتفات لدلالتها الأيديولوجية. في مناقشة عبد الصبور شاهين للكتاب في تقريره المَشبُوه يستشهد بالعبارات الأخيرة في الكتاب ليصوغ اتهامًا على درجةٍ عالية من الخطورة، فحواه أن الكاتب يدعو إلى نبذ نصوص الإسلام والتحرُّر فيها، ثم يتساءل مستنكِرًا: «ماذا يريد للأمة بعد أن ألقى بالقرآن والسُّنة جانبًا؟!»، ويكرر محمد بلتاجي الاتهام نفسه متابِعًا أستاذه وشيخه، حين يُلخِّص محتوى الكتاب في أمْرَين: أولهما — وأخطرهما بالطبع — «العداوة الشديدة لنصوص القرآن والسُّنة، والدعوة إلى رفضِها وتَجاهُل ما أتت به.»

والعبارات التي يستشهد بها كِلاهما من الكتاب عبارات منتزَعة من سياقها انتزاعًا كاملًا جعَلَها فاقدة لمعناها ولدلالتها. ومِن هنا أمكن للدكتور عبد الصبور شاهين، ولكل مَن جاء بَعْده وكرَّر كلامه دون تثبيت، أن يُسقِط عليها المعنى الاتهامي الذي يُفضِي ببساطةٍ وسهولة إلى التكفير.

العبارة كما أوردها عبد الصبور شاهين في تقريره هي: «وقد آن أوانُ المراجَعة والانتقال إلى مرحلة التحرُّر، لا مِن سُلطة النُّصوص وحدها، بل من كل سُلطة تُعيق مَسيرة الإنسان في عالَمنا. علينا أن نقوم بهذا الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان.»

وقد شاء عبد الصبور شاهين وأتباعه أن يَفهَموا أن المقصود بسُلطة النصوص؛ نصوص القرآن والسُّنة، وهذا فهمٌ مُغرِض تمامًا وخاطئ تمامًا، والعودة إلى السياق تكشف عن أن المقصود بالنصوص التي يجب التحرُّر منها هي النصوص الشارحة التي حلَّلها الكتاب على طول صفحاته. والفقرة التي انتُزِعَت منها العبارة السابقة هي:

«هذه الشمولية التي حرص الشافعي على مَنحِها للنصوص الدينية … تعني في التحليل الأخير تكبيل الإنسان بإلغاء فعاليته وإهدار خبرته.» فالحديث هنا عن الشمولية التي أضفاها الشافعي على النصوص، وليس عن النصوص ذاتها، هذه الشمولية قد سبَق شرحُها داخل ثنايا الكتاب شرحًا وافيًا، التي تعنينا هنا، تلخيص هذه الدلالة الشمولية التي أضافها الإمام الشافعي على النصوص الدينية، وذلك عن طريق توسيع مجال فعالية النصوص ومجال تأثيرها بالخطوات التالية:
  • (١)

    تحويل السُّنة النبوية — النص الثانوي — إلى نصٍّ مُشرِّع لا يَقل في دلالته التشريعية عن النص الأول، القرآن الكريم، وهذا على خلاف ما كان مستقرًّا قبل عصره من أنها نصٌّ شارح وبيان.

  • (٢)

    توسيع مفهوم السُّنة بإلحاق الإجماع بها، وكذلك عدم التفرقة بين «سُنَّة الوحي» وسُنَّة «العادات».

  • (٣)

    ربط مفهوم القياس والاجتهاد ربطًا مُحكَمًا بالنصوص وتضييق نطاقه، وهو أمرٌ مشروح بالتفصيل في الفصل الأخير من الكتاب، وتستمر الفقرة التي تدور كلها حول فِكر الشافعي وفِكر مَن تابعه على النحو التالي:

    «فإذا أضَفْنا إلى ذلك أن مواقف الشافعي الاجتهادية تدور في أغلبها في دائرة المحافَظة على المُستقِر والثابت، وتسعى إلى تكريس الماضي بإضفاء طابع ديني أزَلِي عليه — كما رأينا في اجتهاداته في ميراث العبد، وفي ميراث الأخت الوحيدة، وفي مسألة زكاة الغِراس (وهي اجتهادات نُوقِشَت بالتفصيل في ثنايا الكتاب) — أدرَكْنا السياق الأيديولوجي الذي يدور فيه خطابه كله، إنه السياق الذي صاغه الأشعري مِن بعده في نسقٍ مُتكامِل، ثم جاء الغزالي بعد ذلك فأضفَى عليه أبعادًا فلسفية أخلاقية كُتِب له الاستمرار والشيوع والهيمنة على مُجمَل الخِطاب الديني حتى عصرنا هذا.»

هكذا ما تزال الفقرة تدور حول فكر الشافعي واجتهاداته — التي من حق كل باحثٍ الاختلاف معها — تلك الاجتهادات التي انتقلَت إلى أبي الحسن الأشعري، ومنه إلى الغزالي، وليس المقصود هنا الأفكار الحَرْفية، وإنما المنهج والطريقة؛ أي تكريس شمولية النصوص وتقديس الماضي، والسَّير على منهج الاتباع، والنُّفور من الإبداع، وتستمر الفقرة في حديثها عن تلك الاجتهادات وعن دلالتها.

«وهكذا ظل العقل العربي الإسلامي يعتمد سُلطة النصوص، بعد أن تَمَّت صياغة الذاكرة في عصر التدوين — عصر الشافعي — طبقًا لآليات الاسترجاع والترديد، وتحوَّلت الاتجاهات الأخرى في بنية الثقافة — والتي أرادت صياغة الذاكرة طبقًا لآليات الاستنتاج الحُر من الطبيعة والواقع الحي — كالاعتزال والفلسفة العقلية إلى اتجاهاتٍ هامشية.»

ثم يَرِد بعد ذلك مباشرة النص الداعي إلى التحرُّر من سُلطة النصوص والذي فهمه عبد الصبور شاهين وأشياعه على النحو التالي:

«أول النصوص التي يُؤكِّد على ضرورة التحرُّر منها: القرآن والسُّنة، ولكنه لم يُحدِّد مفهوم هذا التحرُّر، ولا حدود هذه النصوص، ذات الطابع الأيديولوجي الخاص؟ وماذا يريد للأمة بعد أن تُلقِي بالقرآن والسُّنة جانبًا؟» ولا يكتفي عبد الصبور شاهين بإلصاق هذا الفَهم بهذا الكتاب وحده، بل يذهب إلى حد الزعم أن المُطالَبة بالتحرُّر من سُلطة القرآن والسُّنة هي النتيجة التي تتكرَّر في البحوث كلها. هذا الخلط الذي عَمَد إليه كاتِب التقرير في فَهْمه لكلمة «النصوص» مسئول مسئولية مباشرة وكاملة عن انتشار الاتهام مِن تقريره إلى المسجد، فمساجد مصر كلها، ومنه إلى كثيرٍ من الأقلام التي تُؤمِن بمنهج «النَّقل» و«الاتباع» وتَجفل من التثبت من حقيقة الاتهام رغم ما أفضى إليه من نتائج، وما يمكن أن تَترتَّب عليه من أخطار.

المشكلة التي نواجهها هنا في تأويل عبد الصبور شاهين الذي تابعه فيه الجميع ليست فقط مشكلة الفَهم المُغرِض الاتِّهَامي، ولا القراءة المُتربِّصة اللَّتين تُفْضيان كلتاهما إلى التشكيك في العقيدة والاتهام بالكفر والرِّدة، هناك مشكلة أخطر هي مشكلة «عدم الفهم»؛ لأن مصطلَح «النص» من المصطلَحات المرتبطة بمجالٍ معرفي علمي هو «علم تحليل الخِطاب». وهو مجال يُفرِّق — كما سبقَت الإشارة في الفقرة السابقة — بين الواقعة الأصلية أو النص الأول الذي هو في حالتنا هنا «القرآن الكريم»، وبين «النصوص الثانوية» الشارِحة التي تراكَمت حول النص الأول، ومنها النص الثانوي الأول وهو «السُّنَّة» النبوية.

ومما يَتصل بعدم الفهم المُشار إليه مسألة «صياغة الذاكرة» في عصر التدوين، وهو مصطلَح يبدو غائبًا تمامًا في وعي كاتِب التقرير، رغم إشارتنا إليه في صُلب الكتاب أكثر من مرة، وصفًا للعصر الذي أنتج الإمامُ الشافعي فيه خطابَه، وهو مفهومٌ مُشتَق — كما سَلفَت الإشارة — من «نظرية الاتصال الثقافي»، يُحلِّل الكتاب من خلاله حقيقة الصراع بين «أهل الرأي» و«أهل الحديث» على أساس أنه صراع حول برنامج تدوين الذاكرة الجمعية للأمة: هل يتم بناء العقل الثقافي طبقًا لآليات الحفظ والترديد، أم وفقًا لفاعلية الاستنباط والاستدلال؟ وبعبارةٍ أخرى هل تكون «النصوص» هي الإطار المرجعي الأَوَّلِي للعقل الجمعي، أم يَتحدَّد الإطار المرجعي في فعالية الاستنباط والاستدلال؟

النقطة الثالثة في مسألة «عدم الفهم» أو «القراءة المُغرِضة المتربصة» أن الحديث كله يدور في الكتاب عن «سُلطة» النصوص لا عن النصوص ذاتها، إنها السُّلطة التي يضيفها الفكر الديني على النصوص، وليس من الضروري أن تكون نابعة منها، هل كان عمر بن الخَطَّاب — مثلًا — غير مُدرِك لأهمية النصوص التي تضع «المؤلَّفة قلوبهم» ضمن مَن يستحقون نصيبًا من الزكاة، أو لأهمية النصوص التي تحكم على السارق بقطع اليد؟ هل حِين لم يحكم عمر بمنطوق تلك النصوص كان يخالِف الإسلام، ويطالب بالتحرُّر من النصوص؟! الإجابة قطعًا بالنفي؛ لأن عمر بن الخَطَّاب كان ببساطةٍ يدرك سياق النصوص، وكان لا يتعامل مع أحكامها بوصفها تُمثِّل سُلطة مطلَقة. حين ننادي بالتحرُّر من سُلطة النصوص تكون دعوة التحرُّر موجَّهة «للهيمنة» وللشمولية التي أُضفيت على تلك النصوص في سياقٍ ثقافي حضاري بعينه.

بَعْد هذا الشرح والتوضيح تنكشف مستوَيات عدَم الفهم من جهة، والقراءة والتأويل المُغرِضان من جهة أخرى لمقولة «التحرُّر من سُلطة النصوص» لأن تحويل النصوص إلى سُلطةٍ مطلَقة ومرجعية شاملة يرتد في النهاية إلى تحويل «فهم» ما لتلك النصوص إلى سُلطةٍ شاملة.

٥

يكرر الدكتور محمد بلتاجي اتهام عبد الصبور شاهين حرفيًّا، استنادًا إلى النص السابق المُنتَزع من سياقه؛ أي إنه يُكرِّر أخطاء عبد الصبور شاهين في عدَم الفهم، وفي القراءة المُغرِضة المُتربِّصة، لكنه يزيد على عبد الصبور شاهين أنه يَستنكِر ربْطَنا في الكتاب نفسه بين مفهوم الشافعي لشمولية النص، وبين مفهوم الحاكمية في الخِطاب الديني المعاصِر، ولا ندري على وجه الدِّقة ما الذي يعيبه على هذا الربط من جانِبنَا. إن مفهوم «الحاكمية»، كما شرَحْنا تفصيلًا في الفصل الأول من كتاب «نقد الخِطاب الديني»، مفهومٌ ينبُع من شمولية سُلطة النصوص الدينية لكل مجالات حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وهو المفهوم الذي طرَحه لأول مرة أبو الأعلى المودودي في الهند وباكستان، ثم نقَلَه عنه سيد قطب. إنه المفهوم الذي يُلغِي مِن فهم الإسلام تلك المناطق الدنيوية التي ترَكَها للعقل والخبرة والتجربة في قول النبي «أنتم أدرى بشئون دنياكم.» واعتماد الخطاب الديني في تكريس مفهوم «الحاكمية» على الآيات الواردة في سورة المائدة، هو من باب التأويل الذي يَنتزِع الآيات من سياقها ويُضفِي عليها دلالات ليست لها. لقد تَعرَّضْنا لتحليل هذه الآيات في دراستنا عن «إهدار السياق في تأويلات الخِطاب الديني» (مجلة القاهرة، يناير ١٩٩٣م) كاشفِين أن معنى «الحكم» الوارد في الآيات هو الفَصْل بين المتخاصِمَين؛ أي إنه الحكم بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي الذي يعني النظام السياسي للحكم، لكن الدكتور البلتاجي يرد علينا هذا كله بمجرد الاستشهاد بالآيات المذكورة وبأمثالها، كأن الباحث لم يقرأ تلك النصوص ولم يَقُم بتحليلها.

وإذا كان ﻟ محمد البلتاجي عُذْره؛ لأنه لم يقرأ سوى كتاب «الإمام الشافعي» وإن كان قد اكتفى به دليلًا على صحة كل اتهامات عبد الصبور شاهين — فلا عذر له؛ لأنه قد قرأ الإنتاج كله، ومن المفترَض لقارئ الإنتاج كاملًا أن يتعامل معه بوصفه نصًّا واحدًا يفسِّر بعضه بعضًا؛ لأن ما أُجمِل في كتاب أو بحث يكون مشروحًا شرحًا تفصيليًّا في بحثٍ آخر أو كتابٍ آخر، وإذا كان عبد الصبور شاهين قد أدرك أنَّ للباحث مشروعًا فكريًّا يقوم على دعامتي «التراث» و«التأويل»، فقد كان ينبغي عليه أن يقرأ الإنتاج بوصفه كُلًّا موحَّدًا، لكنه بدلًا من ذلك اعتبر ذلك عيبًا فادحًا في إنتاج الباحث، ولم يُدرِك أن العيب يقع في جانبه هو؛ لأن قراءاته مُبتسَرة مُتربِّصة كيْدِية.

إن الدعوة للتحرُّر من سُلطة النصوص كما هو واضحٌ دعوة للتحرُّر من «سُلطة» أضفاها بعضهم على هذه النصوص، حين جعلوها نصوصًا ناطقة خارج الزمان والمكان والظروف والملابَسات، وهي دعوة للفهم والتحليل والتفسير العلمي القائم على التحليل اللغوي والقرائن السياقية المُعقَّدة للنصوص، والتي تم شرحها كاملة في بحث «إهدار السياق»؛ لذلك يصبح تكرارُ عبد الصبور شاهين للاتهام تعليقًا على بحوثٍ ودراساتٍ أخرى؛ تكرارًا من باب تأكيد الحكم بالكفر والخروج عن الملة من مثل تعليقه على مقالة: «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة» (مجلة القاهرة، العدد ١١٦، ١٩٩٠م) قائلًا: «ولسوف نرى أنه يعني بالنصوص ما يشمل القرآن والسُّنة، وهي دعوة خطيرة تكرَّرت كثيرًا في مواضع أخرى، يريد بها نفْي العلاقة بين العقل والنص القرآني بخاصةٍ، مستخدمًا المزيد من المغالَطات، وتزييف المفاهيم، مع أن النصوص الصحيحة لا تتصادم مع العقل بحال.»

والحقيقة أن المغالَطات وتزييف المفاهيم تُسيطِر على أحكام عبد الصبور شاهين، فليس هناك دعوة للتحرُّر من النصوص، بل من سُلطة النصوص، وهي السُّلطة التي أضفاها الشافعي والفكر الديني على النصوص، كما سبق أن شرحنا. ودعوتُنا هي الدرس العلمي الذي يُحدِّد مجال فعالية النصوص تحديدًا دقيقًا بعيدًا عن الاستشهاد العشوائي بها خارج السياق المحدِّد لدلالتها.

نطالب في كتاباتنا بالعودة إلى الفصل بين ما هو من شئون الدنيا — التي نحن أدرى بها كما قال الرسول — وبين ما هو من شأن العقيدة والدِّين. هذه الدعوة للتحرُّر لا تقوم على إلغاء الدين ولا إلغاء نصوصه بقدر ما تقوم على فَهمِها فَهمًا علميًّا، وتحديد المجال الخاص بها. وهذا بالضبط هو معنى العبارات التي اقتبسها عبد الصبور شاهين من «ثقافة التنمية وتنمية الثقافة»، وأضفَى عليها مِن عنده الدلالات المُفضِية إلى التكفير. تقول العبارات المقتبسة: «ولا خلاص من تلك الوضعية إلا بتحرير العقل من سُلطة النصوص الدينية، وإطلاقه حرًّا يتجادَل مع الطبيعة والواقع الاجتماعي والإنساني، فينتج المعرفة التي يصل بها إلى مزيدٍ من التحرر، فيصقل أدواته، ويطور آلياته.» إنها دعوةٌ لإطلاق العقل ليتجادل مع الطبيعة في مجال العلوم الطبيعية، وليتجادل مع الواقع الاجتماعي والإنساني في مجال العلوم الإنسانية والفنون والآداب … إلخ، فهل يتصادم ذلك مع النصوص الدينية؟ أم يتصادم مع السُّلطة التي أضفاها بعضهم بالباطل على بعض تلك النصوص، فحوَّلوها إلى قيودٍ على حركة العقل والفكر؟!

٦

إذا كان كلٌّ من عبد الصبور شاهين ومحمد بلتاجي قد وافَق الآخَر في مسألة العداوة الشديدة للنصوص، وكراهية القرآن والسُّنة والدعوة للتحرر منهما؛ فقد انفرد بلتاجي باتهام آخَر فحواه: «الجهالات المتراكِبة بموضوع الكتاب الفقهي والأصولي»، وهو اتهامٌ ينطلق مما سبقَت الإشارة إليه من دعوى «الاستئثار» بالتَّخصُّص بوصفه «منطقة نفوذ» محمية لا يجب الاقتراب منها إلا بإذنٍ خاص، هذا فضلًا عن أنه اتهامٌ يعكس جهلًا مفضوحًا بموضوع الكتاب، الذي هو بحث في «الأيديولوجية» الضمنية التي يمكن الكشف عنها من خلال تحليل خطاب الشافعي.

لكن الجهل الفاضح بموضوع الكتاب، وبمنهج التحليل وإجراءاته، لم يمنع الدكتور بلتاجي من «التعالُم» على الكتاب وصاحبه مستشهدًا بالنصوص القرآنية — التي سبق لنا تحليلها وكشف أخطاء الفهم للوهلة الأولى من جانب بلتاجي — شأن جميع الوعاظ وخطباء المساجد، وذلك لكي يؤكِّد «سُلطة النصوص» ومرجعيتها الشاملة.

وفي هذا الاستشهاد الذي يَتجاهَل مستويات السياق، وأبسطها سبب النزول من جهة، وسياق التركيب اللغوي من جهةٍ أخرى، يكشف بلتاجي عن نزعةٍ استعلائية فجَّة، يتوهَّم صاحِبُها أن هذه النصوص القرآنية مجهولة للمُخاطَب، ويُعبِّر عن هذه النزعة بطريقةٍ يتصوَّر أنها ساخرة، فيتساءل «فهل مرَّت عليه هذه النصوص — وما يماثلها — أم إنه يجهلها؟» ثم تتحوَّل السخرية إلى اتهامٍ صريح بالكفر حين يجيب عن تساؤله قائلًا: «الظاهر أنه يعرفها وينكرها.»

وإذا كان مثل هذا ما يذهب إليه بعض الصبية من الجهال وبعض المتعالِمين، فقد كان حَريًّا بمن يحتل موقع بلتاجي أن يربَأ بنفسه؛ احترامًا لموقعه الأكاديمي على الأقل، عن النزول إلى هذا المستوى، ولكنَّ للرجل عذرًا أقبح من الذنب؛ لأنه كتَب تقريره في عجالةٍ من أمره مُناصَرة لأستاذه، مِن منطلَق قبلي جاهلي، لكي يقدمه لرئيس الجامعة آنذاك — مأمون سلامة — مبرِّرًا له قرار «رفض الترقية» الذي كان مضمَرًا في نفس رئيس الجامعة. إنَّه منطق «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا.» مفرَّغًا من الدلالة الإسلامية الناصعة التي أضفاها النبي على هذا القول حين سُئل عليه السلام: «كيف ننصره ظالمًا؟ فقال : بأن تكفه عن ظلمه.» ولقد كَشف هذا المنطق القبلي الجاهلي عن وجهه جليًّا في قول بلتاجي: «وأنا إذا كنت قد أعددتُ تقريرًا بسيطًا من تسع صفحات عن إنتاج واحد له، فإن بقية إنتاجه تحتاج لكتابٍ كامل مليء بآلاف الأخطاء البديهية في علم أصول الفقه.»

هكذا أوقع الرجل نفسه بنفسه؛ فالإنتاج ليس في «علم أصول الفقه»، ولو كان قرأ التقارير الثلاثة فقط عن الإنتاج — دون الإنتاج نفسه — لاكتشف بنفسه عملية التزوير الفاضحة التي يقوم بها، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لو كان قد قرأ «نقد الخِطاب الديني» فقط لكان قد أدرك أننا قُمنا بتحليل مفهوم «الحاكمية» تحليلًا تاريخيًّا كاشفًا عن أساسه الأيديولوجي في التاريخ الاجتماعي السياسي، ولو كان الرجل قد قرأ بالإضافة إلى ذلك بَحْثنا «إهدار السياق في تأويلات الخطاب الديني»، لاكتشف أن آيات الحاكمية التي استشهد بها محلَّلة تحليلًا منهجيًّا في هذه الدراسة.

لكن ما للرجل والقراءة، وما له واتباع الحق، إنه من أتباع الرجال والقائلين: «اعرف الحق بالرجال ولا تعرف الرجال بالحق.» أولئك الذين يفسدون في الأرض وهم يَحسَبون أنهم يحسنون صنعًا، وما أسهل على أمثال هؤلاء «التعالي» و«التعالُم» و«التكفير»؛ لأنهم يظنون أنفسهم في حماية مَن هو أكبر وأعظم، أليس بلتاجي في حماية «شاهين» وهذا الأخير تحميه مؤسَّسات ودول وأموال؟ فلماذا لا يتبع صاحبَه — أو بالأحرى حاميه — في «التكفير»، وذلك حين يُقرِّر في بساطةٍ متناهية وبرودةٍ يحسده عليها الجلَّادون أن مؤلِّف الكتاب يعرف النصوص ولكنه «ينكرها».

هكذا، وكأن الأستاذ الدكتور السيد العميد بلتاجي لا يعلم أن «إنكار النصوص القرآنية» هو إنكارٌ لما يُعلَم من الدِّين بالضرورة، وكما كان الأمر سهلًا عليه مناصرةً لأستاذه وحاميه، فما أسهلَه على تلاميذه ومُريديه الذين تصدَّوا في المساجد والمحاكم لتأليب العامة لمحاكَمة الكاتب سعيًا إلى قتله، ولقد بلغَت الوقاحة الفكرية والسَّفالة الأكاديمية بأحدهم إلى حد الدعوة — دعوة صريحة داخل أروقة الجامعة لاحتقار الكاتب ومقاطعته وتأليب طلَّابه عليه، في حربٍ «قذرة» تستخدم الكلمة المطبوعة بدلًا من الجنزير والمطواة والقنبلة.

إن ما يسميه بلتاجي «الجهالات المتراكبة بموضوع الكتاب الفقهي والأصولي.» اتهامٌ ناتِج كما قلْنا عن عدَم فهْم لموضوع الكتاب، وعن عدم إدراكٍ لمنهج التحليل وإجراءاته؛ لذلك يقتبس بلتاجي النتائج مُغفلًا المقدِّمات التي أفضَت إليها، ومتجاهِلًا لها تجاهلًا تامًّا؛ ولأن هذه النتائج لا تتفق مع قناعاته الأيديولوجية — أو بالأحرى مع محفوظاته عن التراث — يقفز منها إلى أحكامٍ ذات طابع تقريري وعْظِي إنشائي، ولكنها تتسم بالإضافة إلى ذلك بالحِدَّة والقطْع واليقين والحسم؛ لأنه يتصوَّر — بعقله غير الأكاديمي — أنها القول «الفصل» في تحليلنا لمفهوم «القياس» في خطاب الإمام الشافعي وصلنا إلى نتيجةٍ فحواها أنه مفهومٌ يعكس «رؤية للعالَم» «تجعل الإنسان مغلولًا ومقيَّدًا بمجموعةٍ من الثوابت التي إذا فارقها حَكم على نفسه بالخروج من الإنسانية.» وفي هذا التحليل أدركْنَا علاقة التشابه التي تنطوي عليها رؤية الإمام الشافعي للقياس مع مفهوم «الحاكمية» في الخطاب الديني المعاصِر «حيث يُنظر لعلاقة الله بالإنسان من منظور علاقة السيد بالعبد الذي لا يتوقع منه سوى الإذعان.»

يقتبس الدكتور محمد بلتاجي تلك النتيجة ويُغفل عامدًا المقدِّمات التي انْبنَت عليها، وذلك في عجلةٍ تُمكِّنه من الوصول إلى الحُكم المطلوب؛ حيث يقول: «وبديهي أن العقيدة الإسلامية — بل كل عقيدةٍ دينية — لا تَرضَى من الإنسان إلا الطاعة المُطلَقة التي هي المفهوم «الحَرْفي» — مرة أخرى «الحرفي» — لمعنى (العبادة) و(الإسلام). والذي لا يرتضي الانصياع المُطلَق للنصوص المقدسة فهو خارِج عن حد الإيمان بآياتٍ من القرآن كثيرة جدًّا.»

وهنا جانَب الصوابُ الدكتور العميد من عِدة زوايا: الزاوية الأولى أننا بصدد الحديث عن رؤية الشافعي للعالَم والإنسان؛ أي بصدد الحديث عن مفاهيم الشافعي الفكرية التي كشفْنا عن عناصر تشابُهٍ بينها وبين رؤية العالَم في الخِطاب الديني المعاصِر. ويحتاج الدكتور العميد أن يقرأ قليلًا حول مفهوم «رؤية العالَم» الذي يعتمد عليه تحليلنا السابق.

الزاوية الثانية: أن السيد العميد يُوحِّد بين فهْم الشافعي للنصوص — الذي يتماهَى معه ويتطابق فهْمُ السيد العميد — وبين الدلالة «الحَرْفية» للنصوص المقدَّسة، وهو تطابُق خطير يُلغي المسافة المعرفية بين «الفهْم» — وهو عملية بشرية نِسبِية — وبين «القصد الإلهي»؛ أي يوحِّد بين «الفكر» و«الدِّين»، وهذا التوحيد تعرَّضْنا له بالتحليل والنَّقد في كتاب «نقد الخِطاب الديني» الذي لم يقرأْه السيد العميد.

والزاوية الثالثة التي جانَب فيها الصواب السيد العميد: أن العقائد — وعلى رأسها العقيدة الإسلامية — لا تُقيم العلاقة بين «الله» و«الإنسان» على أساس «العبودية» بالمعنى المتعارَف عليه، والذي يندرج في حقله الدلالي «الانصياع» و«الانقياد». إن العقيدة الإسلامية خاصَّة تمنح الإنسان حقَّه كاملًا في اختيار ما يشاء من العقائد، والنصوص الدالة على ذلك محفوظة معروفة، ولا نريد أن نُقلِّد العميد في استعراض محفوظاتنا من النصوص القرآنية؛ لأن الطالب البليد يستطيع أن يجمع ما يشاء من النصوص بالعودَة إلى «المعجَم المفهرس». النصوص الإسلامية تؤكِّد مفهوم «الحرية» من الألِف إلى الياء، و«الطاعة» التي يلتزم بها الإنسان حين يختار عقيدته تظل طاعة أساسها الحرية الأصلية، فإذا كانت «الطاعة» فرعًا على حرية الاختيار، فليس من المعقول أن يؤدِّي الفرع إلى زوال الأصل المؤسِّس له.

وهناك في النصوص الإسلامية — وفي التراث الفكري الإسلامي — كثير مما يُمكِن أن يؤسِّس العلاقة بين «الله» و«الإنسان» على أساس «الحب»، والنصوص كذلك أكثر من أن نشير إليها وأشهر، والقرآن الكريم — أخيرًا — يصوغ العلاقة في بُعد «العِبادية» وليس «العبودية». ولو كان الدكتور بلتاجي أتعب نفسه قليلًا — من باب التثبُّت — وقرأ الفصل الأول من «نقد الخِطاب الديني» لوجد تحليلًا لغويًّا وثقافيًّا للفارق بين «العِبادية» و«العبودية».

بالإضافة إلى كل ما سبق يُغْفِل الدكتور بلتاجي إغفالًا تامًّا سياق التحليل الذي أفضى إلى النتيجة السابقة عن رؤية الإمام الشافعي لعلاقة الله والإنسان. وإغفال السياق يجعل من السهل عليه الوَثْب إلى الأحكام التي تقنع قارئه بمخالَفة الكِتاب للعقيدة، ومصادَمة دلالاتها المستنبَطة من التأويل الحَرْفي للنصوص الدينية.

والسياق هو رفْض الإمام الشافعي للاستحسان الذي اعتمد عليه فقهاء آخرون قبل الشافعي؛ مثل: مالك، وأبي حنيفة، ويعتمد الشافعي في رفضه للاستحسان على مجموعةٍ من المَقولات أهمها: أن الاستحسان يمكن أن يُفضي إلى تعدُّد الاجتهادات واختلافها بحسب ظروف الزمان والمكان: «فيقول كل حاكمٍ في بلدٍ ومفتٍ بما يستحسن، فيُقال في الشيء الواحد بضروبٍ من الحكم والفتيا.» ويقرن الشافعي بين هذه التعددية في الفتيا والاجتهاد وبين «التنازع» المنهي عنه في القرآن الكريم، واستنادُ الشافعي إلى القرآن لرفْض الاستحسان استنادٌ فيه نظَر، وإنما أراد الشافعي أن يجعل من «الاستحسان» شيئًا مكروهًا بهذا الاستشهاد من جهة، وبقوله من جهةٍ أخرى: «من استحسن فقد شرع.»

ولكي يُقبِّح الشافعي مبدأ «الاستحسان» تقبيحًا نهائيًّا — لحساب «القياس» المكبَّل — يعود إلى مبدئه الأثير عن وجود أحكام لجميع النوازل في النصوص الدِّينية، ويؤكد هذا المبدأ بالاستناد إلى الآية ٣٦ من سورة القيامة، قول الله تعالى أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى، وينتهي الشافعي إلى الحكم بأن كل «مَن أفتى أو حكَم بما لم يُؤمَر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معنى السُّدى، وقد أعلمه الله أنه لم يتركه سُدًى»، و«السدى» بحسب شرح الشافعي هو «الذي لا يُؤمَر ولا يُنهى.» أي الحيوان، ويواصِل الاستنتاج: «وهذا يدل على أنه ليس لأحدٍ دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال … ولا يقول بما استحسن؛ فإن القول بما استحسن شيء يُحْدِثه لا على مثال سابق.» في هذا السياق تم الحكم على رؤية الإمام الشافعي للعالَم والإنسان، وهي رؤية تكبِّل الاجتهاد داخل دائرة «القياس» المشدود دائمًا إلى «المثال السابق» لا يكاد يفارقه.

والغريب أن الشافعي الذي يرفض الاستحسان لما يُفضِي إليه من تعددٍ واختلاف يقبل هذا «الاختلاف» في حدود اختلاف القائِسين، بل ويدافع عن هذا الاختلاف دفاعًا مجيدًا ومحيِّرًا في الوقت نفسه (ص١٠٦ من الكتاب)، وهذا يدفع إلى التساؤل عن هذا التردُّد في استخدام «الاستحسان» وتفضيل «القياس» عليه، رغم أن كلًّا منهما يفضي إلى الاختلاف والتعددية، والتساؤل مشروع، ولكن من منظور التعامل النقدي مع التراث، ومع الفكر الفقهي والأصولي … ولكنه ليس مشروعًا من منظور تقديس التراث، وتقديس الأئمة والتوحيد بين اجتهاداتهم وبين العقيدة نفسها. والتفسير الذي طرحناه في محاولةٍ للاقتراب من إجابة التساؤل السابق هو حرْص الشافعي على شمولية «النصوص»، يستوي في ذلك القرآن والسُّنة والإجماع، وهو بحسب تحليلنا حِرْص يكشف عن أيديولوجية خاصَّة تختلف عن أيديولوجياتٍ أخرى داخل منظومة الفكر الإسلامي، والأدلة على ذلك عديدة مستفيضة داخل الكتاب، وهي أدلة يتجاهلها تقرير بلتاجي تجاهلًا تامًّا، متبعًا منهجية «التصيُّد» نفسها، وانتزاع الجمل والعبارات من سياقها، فضلًا عن الوقوف عند النتائج دون عرْض المقدِّمات؛ تهويلًا للأمر وتزويرًا على القارئ العادي.

٧

حين نذهب إلى أن «السُّنة في عصر الشافعي كانت في حاجةٍ إلى تأسيس مشروعيتها بوصفها مصدرًا ثانيًا من مصادر التشريع.» يتعالَم الدكتور بلتاجي على الباحث مستخدِمًا لغة مبتذَلة لا يصح التعامل بها، وذلك حين يقول: «وهذا كله ضلالات متتابِعة وجهالات متراكِمة من المؤلِّف لبدهيات الإسلام؛ لأن السُّنة منذ عصر النبي كانت هي المصدَر الثاني بعد القرآن الكريم.» ولو تأمَّل بلتاجي قليلًا لوجد أن عبارتنا السابقة ليست إلا صياغة لما قرَّره الشافعي نفسه من اختلاف الناس حول بعض السُّنن النبوية التي لا أصل لها في القرآن الكريم، في حين أنهم اتَّفقوا على السُّنن التي لها أصل في القرآن، سواء تلك التي تُكرِّر أحكام القرآن، أو التي تُبيِّن مُجمَله، وتوضِّح غامضه، وتُخصِّص ما ورد فيه مَورِد العام، وهذا كله مشروح في الكتاب، ولو كانت السُّنة — على ما يزعم بلتاجي — متَّفقًا على حُجِّيتها واستقلالها بالتشريع لما احتاج الأمر من الإمام الشافعي كل هذا الجهد الفكري، سواء في «الرسالة» أو في كُتبه الأخرى التي ضمَّتها مجموعة «الأم». والشافعي في رَده على الذين يُنكرون استقلال السُّنة بالتشريع لم يستخدم لغة بلتاجي القطعية، ولو كان الأمر على مستوى الوضوح والقطع واليقين الذي يدَّعيه بلتاجي لاكتفى الإمام الشافعي بوصْف رَأْي المخالِفين بالجهل والضلال، وكل الأوصاف التي تَكرَّم بلتاجي على الباحث بها.

إن الشافعي هو الذي صاغ كل الأدلة التي يسوقها بلتاجي للتدليل على أن «السُّنة» مصْدر ثانٍ من مَصادر التشريع، وليس كلام الشافعي ولا أدلته يقينًا مطلَقًا معلومًا من الدِّين بالضرورة؛ وذلك لأنه صاغ تلك الأدلة ردًّا على مفكِّرِين وفقهاء آخَرِين كان لهم موقِف من «السُّنة» مُخالِف لموقف الشافعي. وسيادة اجتهاد الشافعي وهيمنته في حيِّز «علم أصول الفقه» ظاهرةٌ تاريخية؛ أي ظاهرة يمكن تتبُّع أسبابها وعِللها في التاريخ الاجتماعي للمسلمين؛ ذلك أن الاجتهاد لا يكتسب من هذه السيادة التاريخية مَنطِق اليقين المطلَق، والحقيقة التي لا يمكن أن ينالها النقد.

لم يُتعب بلتاجي نفسه في تتبُّع الكيفية المعرفية المرهِقة التي عاناها الشافعي لكي يؤسِّس مفهوم «السُّنة» وحيًا؛ إذ كان عليه أولًا أن يصوغ مفهوم «العِصمة» صياغةً إطلاقية تعني انعدام الخطأ انعدامًا تامًّا مِن جانِب الرسول عليه السلام. وهذا مفهوم تُناقِضه النصوص القرآنية التي نزلَت في سياق عِتاب للنبي قاسٍ في بعض الأحيان، فضلًا عن كثيرٍ من الروايات التي خطَّأتْ بعض اجتهاداته عليه السلام، وكان على الشافعي ثانيًا أن يَجِد لمفهوم «السُّنة» سندًا من القرآن، فكان تأويله للحِكمة إذا جاءت معطوفة على القرآن بأنها «السُّنة»، وهو تأويل يأباه السياق في كثيرٍ من الأحيان، وكان عليه ثالثًا أن يجعل مفهوم «الإلقاء في الروع» الوارد في بعض الأحاديث مساويًا لمفهوم «الوحي»، وذلك لكي يجعل «السُّنة» وحيًا من درجة القرآن نفسها.

غير أن أخطر ما قام به الشافعي — ولم يلحظه بلتاجي في الكِتاب — توسيع مفهوم «السُّنة» ليشمل كل الأقوال بصرف النظر عن سياق القول، فسار كل «قول» قاله النبي عليه السلام «وحيًا»، وقد تم هذا «التوسيع» الذي ألغى بَشريَّة الرسول إلغاء شِبه تامًّ اعتمادًا على تأويل قوله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، وهو تأويل لا يستقيم للشافعي ولا لغيره؛ لأن الضمير «هو» لا يعود إلى الضمير المستتِر في الفعل «ينطق»، ولا إلى مصدر الفعل «النطق»، بل يعود إلى «القرآن» الذي كان يكذب به مُشرِكو مكة أنه من عند الله؛ ولأن هذا التكذيب يتضمَّن تكذيبًا لمحمدٍ عليه السلام في دعواه، فقد جاء رَد القرآن مشتمِلًا على نفي الكذب عن محمد وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى وعلى إقرار حقيقة القرآن بأنه وحيٌ من الله إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (انظر: تفسير الطبري، الجزء ٢٧، ص٢٥).

هل كان الأمر يحتاج إلى كل هذا الجهد من الإمام الشافعي، لو كان الأمر «من بدهيات الإسلام» كما يقول بلتاجي ببساطةٍ يحسده عليها الإمام الشافعي نفسه؟! لكن هذا هو الفارِق بين «الأئمة» والعلماء الحقيقيِّين، وبين «علماء» السَّمت والهيئة والزِّي والشارة والألقاب، يُنتِج الأوَّلُون ما يُنتِجون من علمٍ ووعي، وبالمكابَدة والبحث، ومناقَشة الخصوم، بينما يعتمد الأخيرون على ما أنتجه الأوَّلُون دون إضافة، بل دون أن يرقَى وعيُهم إلى إدراك وسائل الاستدلال والاستنباط التي اعتمدَها الأسلاف. ومع انعدام الوعي هذا لا مجال للنقد والتحليل، بل كل نقدٍ وتحليل من منظور الخَلَف المستهلِك فقط لفكر السَّلف إنما هو «هرطقة» وطعن في الأئمة. لقد صار فكر «الأئمة» — في وعي المُقلِّدين — «دِينًا»، يستوي في ذلك أن يكون المقلِّد نجمًا تليفزيونيًّا يفتي الناس في كل شيء، وأن يكون عميدًا لإحدى الكليات، أو أن يكون أستاذًا مساعدًا، ناهيك أن يكون سمَّاكًا أو صبيًّا جاهلًا من «أُمراء» الجماعات، فلا فرق؛ لأن «التقليد» حجابٌ على العقل الذي هو أخص خصائص إنسانية الإنسان.

إن كلمة «السُّنة» كلمة موجودة في اللغة العربية، لكن انتقالها من حيِّز الدلالة اللغوية إلى حيِّز المصطلَح الأصولي لم يُحدُث في عصر النبي — كما يزعم بلتاجي وغيره، وقول النبي لمعاذ بن جبل حين أرسله لليمن: «بم تحكم؟ أو بم تقضي؟» — وليس السؤال عن الحُكم بالمعنى السياسي بل عن الحُكم بمعنى القضاء والفُتيا — وكذلك إجابة معاذ بأنه يقضي أولًا بما في كتاب الله، ثم بما في سُنَّة رسول الله إن لم يجد في كتاب الله حُكمًا، ثم باجتهاده إن لم يجد في سُنة الرسول — كل ذلك لا يعني أن مصطلح «سُنة النبي» كان محمَّلًا بالدِّلالات التي نجدُها في خطاب الشافعي. كان المصطلَح يستخدم مُجرَّدًا من الإضافة فيعني الطريقة والعادة المُتبَعة، وكان يُستخدَم مضافًا فَتحدِّد الإضافة دلالته، وعلى ذلك فقول مُعاذ أنه يحكم أو يقضي بما في سُنة رسول الله إن لم يَجِد في كتاب الله حُكمًا، لا يعني أن سنة النبي وحيٌ بقدر ما يعني أنَّ ما كان يقضي به الرسول هو «السُّنة» والعادة المُتَّبعة المقبولة.

إن قراءة واقعة «معاذ بن جبل» بأثرٍ رجعي؛ أي بعد أن أسس الشافعي مصطلَح السُّنة بالشكل المشروح في الكتاب، هو المسئول عن هذا الالتباس في الأذهان؛ ولأنه التباسٌ مُتجذِّر في التاريخ الفكري والاجتماعي تحوَّل إلى «حقيقة» لا يصح المساس بها.

ومحاولة تفكيك بنية هذا الالتباس بِردِّ عناصره إلى السياق التاريخي الاجتماعي الفكري لنشأة الأفكار وتطوُّرها واحدة من الإجراءات المنهجية التي يعتمد عليها الكِتاب، لكنها منهجية يعجز الفكر التقليدي، أو بالأحرى الفكر «المقلِّد»، عجزًا تامًّا عن الإلمام بها فضلًا عن استيعابها ونقدِها، ولا يبقى أمامه حينئذٍ إلا حيلة العاجز: القذْف، والهجو، والتطاول، والمغالَطات، و«التعالم» الزائف، الذي يستند إلى المستقر والشائع بالمعنى العامِّي والمبتذَل، إنه مُحاصَرة «المعرفي» بسياج المعروف، وطعنه بأيديولوجيا الشائع والمستقر؛ وذلك لأن «المعرفي» يغامِر بالدخول في منطقة «المحظور» اجتماعيًّا وفكريًّا.

وهذا المحظور يتجلَّى في حقيقةٍ ينكرها الحس الديني الفطري، ويدافع عنها أصحاب المصالح بأقسَى وأقصَى ما يستطيعون: تلك هي أن الرسول حامِل رسالة بَلَّغها عن ربه هي القرآن، وفي هذا «البلاغ» يكمُن الوحي، أما سُنَّته فمنها ما هو شرحٌ وبيان، ومنها ما هو اجتهاد، وفي هذا القسم الأخير اختلف المختلِفون. وما فعَله الإمام الشافعي إزاء هذا الاختلاف، هو أنه أدمج كل العناصر في مفهومٍ كُلِّي وضَعه في المستوى نفسه المقدَّس للوحي؛ أي لكلام الله سبحانه وتعالى، وبهذا الصنيع صار كل ما يَنطق به محمد، وكل ما يفعله وحيًا، واختفَت الحدود والفواصل بين «الإلهي» و«البشري»، ودخل الأخير دائرة «المقدَّس».

وليس المهم هنا أن تكون النتائج المشار إليها نتائج مقصودة للإمام الشافعي، قصد إليها قصدًا وعمَد إليها؛ لأن منهج تحليل الخطاب لا يدخل في «الضمائر» و«النِّيات»، ولكن المهم أن الخطاب يُفضي إلى تلك النتائج، وأنها نتائجٌ استقرَّت في الوعي الإسلامي، واكتسبت صفة «الحقيقة» مع أنها نتائج لفكرٍ بشري، الأخطر من ذلك أن هذه النتائج المُشار إليها تمارِس تأثيرًا في حجب الوعي الإسلامي عن تاريخيته، وتَعوقه مِن ثَمَّ عن قراءة ذاته قراءة مستبصِرة ناقدة، والأشد خطورة من كل ما سبق أن تلك النتائج تَتصادَم مع طبيعة مفهوم الوحي في الإسلام، وهو مفهومٌ مُغايِر للوحي في الأديان الأخرى.

٨

ولأن البحث العلمي لا يكتفي بالتحليل، وينزِع كذلك إلى التفسير، فقد كان من الضروري إثارة التساؤلات عن سِر انحياز الخِطاب الشافعي لمَنْحى «أهل الحديث» ضد «أهل الرأي»، خلافًا للاعتقاد السائد بأنه «توسَّط» بينهما من خلال منهج «توفيقي»؛ ولأن الإمام الشافعي قدَّم في خطابه ما هو أكثر من مجرَّد «الانحياز» لفريقٍ ضد فريق، فقد كان التساؤل عن سِر الحرص على تدشين «السُّنة» نصًّا مشرِّعًا تساؤلًا مشروعًا. ومرة أخرى ليس الحديث عن «الانحياز» حديثًا عن هوى شخصي، بقدر ما هو حديث عن موقفٍ فكري في سياق صراع بين اتجاهاتٍ ورُؤى فكرية مختلِفة.

وليس التساؤل إلا محاوَلة لإثارة «المضمَر» في بنية الخِطاب من أجل كشفه وتعريته وتفكيكه؛ ولذلك يَنحَل إلى مجموعةٍ من الأسئلة الفرعية تُفضي محاولة الإجابة على كلٍّ منها إلى اكتشاف جانِب من جوانب الخطاب؛ لذلك بدأْنَا بالتساؤل: لماذا كانت «عربية» القرآن في حاجة دفاع عن الإمام الشافعي؟ وقد قادت محاوَلة الإجابة عن هذا السؤال إلى سؤالٍ آخر: هل هو دفاع عن «العربية» أم دفاع عن اللهجة «القرشية» التي استقرت لهجة معتمَدة — أو حرْفًا — في قراءة القرآن بعد استبعاد الأحرُف الأخرى المذكورة في حديث الأحرف السبعة؟ وهذا التساؤل الثاني أدخَل البحث في إشكاليات النَّزعة «القرشية» التي أرادتِ الهيمنة على المشروع الإسلامي، ونجحَت عشية وفاة النبي في واقعة «السَّقيفة»، ثم في حروب الرِّدَّة، والصراع بين علي بن أبي طالب وخصومة في موقعة «الجمل» أولًا و«صِفِّين» ثانيًا، بعد أن انتقل الصراع بعد السيادة القرشية إلى صراعٍ بين بَني هاشم، وبَني أمية.

لم يتصوَّر الباحث أن الحديث في هذه الإشكاليات — الموصوفة وصفًا مسهبًا في كتب التاريخ خاصة كتاب نصر بن مُزاحم «صفين»، و«تاريخ الأمم والملوك» لمحمد بن جرير الطبري، يمكن أن يُسبِّب كل هذا «الانجراح» في جدار الصمت والبلادة الذي يريد له بعضهم أن يحجب الوعي الإسلامي عن فهم تاريخه وتراثه فهمًا مثمرًا يساعده في تجاوُز أزمته الراهنة، إن هذه الإشكاليات تمثل الحاضنة الاجتماعية والتاريخية التي تتولد فيها الأفكار، وعلى أرضها يمارس الفكر فعالياته؛ لأنه ليس فكرًا في المطلق خارج إطار الزمان والمكان، بل هو فكر ينتجه بشرٌ منخرطون بوعيٍ أو بدون وعي في سياق الواقع الذي يعيشون فيه.

وكيف يمكن لخطاب الشافعي أن يكون خطابًا مفارِقًا لكل تلك الملابَسات، وهو القرشي الأرومة الذي يسرد «الربيع بن سليمان» راوي كُتبه نَسَبه حتى هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف، ويصفه بأنه «ابن عم رسول الله »؟ صحيحٌ أنه أنتج خطابه في مرحلة الدولة العباسية التي قامت على أساس الاستناد إلى العنصر الفارسي، لكن الخلافات القديمة كانت ما تزال تُمارِس فعاليتها على مستوى النصوص والأفكار، من هنا يكتسب رأي الشافعي في رفض قراءة «الفاتحة» في الصلاة بالفارسية دلالة خاصة إذا قُورن برأي أبي حنيفة، وذلك بصرف النظر عن معايير الخطأ والصواب، ومن هنا أيضًا نفهم النزوع العلوي لدى الإمام، وهو النزوع الذي عرضه لما يشبه المحنة في عصر الرشيد.

وليس من المستبعَد في مثل هذه الحالة أن ينفر الإمام من النظام العباسي، خاصةً بعد أن تولَّى المأمون مناصرة مذهب «الاعتزال» وما تَبِعها من محنة «خلْق القرآن»، فيرحل إلى مصر التي كان واليها آنذاك قرشيًّا هاشميًّا، ومع ذلك فقد قَبِل الشافعي أن يعمل في ظل هذا النظام بوساطة بعض القرشيين إلى والي «اليمن» الذي كان في زيارةٍ للحجاز، وذلك في مخالفةٍ واضحة لموقف الفقهاء قبله ورفضهم العمل بالقضاء سواء في ظل الأمويين أو العباسيين، لكن الإمام الشافعي لم يكُن وحْده الذي فعل ذلك، فقد سبقه كل من أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني تلميذَي أبي حنيفة.

ولعل هذا يضطرنا للرد على الضجة الإعلامية الزائفة التي وجدت في خطأ طباعي في الكتاب تكئة تقيم بها الدنيا ولا تقعدها، حيث تحولت كلمة «العلويين» إلى «الأمويين» في صفحةٍ كاملة، ورغم أن هذا خطأ لا يقع فيه تلميذٌ بليد — كما أقر الجميع — ورغم أن الصفحة التالية لصفحة الأخطاء تلك تتحدث عن نفور الشافعي من النظام العباسي خاصة من المأمون، فإن ذلك لم يلفت النظر؛ لأن العين الناظرة لا تقرأ ولا تتفهم بل تتصيد، ولم يتنبه المهاجمون إلى أن هذا الخطأ الطباعي — المصوَّب في ثبت التصويبات في آخر الكتاب — لم يتوقف عنده إمامهم الأعظم عبد الصبور شاهين؛ لأن النسخة التي كانت بين يديه كانت مصحَّحة باليد علاوة على ثبت التصويبات في آخر الكتاب.

تنبه بلتاجي للخطأ وأشار إليه لا على أنه خطأٌ طباعي، بل على أنه «جهل» من الباحث، وقامت جريدة «الشعب» بدور «الطبال» في الزَّفة، وعنها نقل مصطفى محمود، وعنه نقل محمد الغزالي، وهلم جرًّا، ثم كانت ثالثة «محمد جلال كشك» الذي راح على مدى خمس مقالات في «أكتوبر» يعيد ويزيد، ويُرغِي ويُزبِد، ويُؤلِّب العامة والخاصة — رحمه الله وغفر له — وكان ذلك كله دليلًا على إفلاس المُتهجِّمين، ودلالة على قدر عقولهم وقدراتهم، هكذا صار هذا الخطأ الطباعي دليلًا على تدنِّي المستوى العلمي للباحث وهبوطه، بحيث صار قرار الجامعة بعدم الترقية قرارًا صائبًا حكيمًا في نظر الحكماء من المُتاجرِين بالإسلام.

ليست ميول الشافعي للعلويين سرًّا من الأسرار، وليس انحيازه للقرشية وللعروبة مما يقدَح في شخص الإمام، لكن المؤكَّد أن ذلك كله يمثل عناصر «أيديولوجية» في الخطاب، تحتاج للتحليل كشفًا عن بنية هذا الخطاب، لإعادة زرعه في التاريخ بعد أن انفصل عنه، واكتسب بعض ملامح الإطلاقية والقداسة، والدلائل التي يقدِّمها الكتاب من داخل خطاب الشافعي تتجاوز مسألة قبوله للعمل، بل وسعيه إليه، مع بعض الولاة ممن لهم توجُّهات قريبة من توجُّهات الإمام، ومن المعروف أن الدولة العباسية تقارَبت مع العلويين في مرحلة نشأتها وتثبيت أركانها، وذلك على أساس الانتساب المشترَك إلى «البيت النبوي»، فلم يكن الأمر يحتاج لقيام دولة «علوية» لكي يقبل الإمام العمل فيها — كما توهَّم المرحوم جلال كشك، والدلائل التي يقدِّمها الكتاب على انحياز «الشافعي» للقرشية والعروبة عمومًا عديدة.

ونتوقف هنا عند دليلٍ أشرنا إليه في الكتاب إشارة سريعة تصورناها كافية بالنسبة للقارئ المتخصِّص على الأقل، تلك هي احتفاء الشافعي في مسنده (على هامش الجزء السادس من كتاب «الأم») بالمروِيَّات «الموضوعة» عن فضل قريش على الناس، والمنسوبة إلى النبي ، ونورد فيما يلي تلك الروايات التي يرويها الشافعي، ويقبلها بالقطع، تارِكين التعليق عليها إلى ما بعد إيرادها، ونُلاحظ فقط هنا أن «المُسنَد» كله يرويه «الربيع» عن الشافعي بلفظ «أخبرَنا»، ولكنه حين يصل إلى هذا الجزء من المُسند يستخدم مصطلح «حدَّثَنا» بدلًا من «أخبرَنا»، وهذا معناه من منظور «علم الرواية» درجة أعلى من التحمُّل؛ لأن المصطلح «حدَّثَنا» يعني المشافهة العيانية المباشرة؛ أي السماع مباشرة من الراوي، في حين قد يعني المصطلح «أخبرنا» الرواية عن كتابٍ أو صحيفة كما يعني السماع المباشر كذلك، وحرص «الربيع» على المخالَفة بين «أخبَرَنا» و«حدَّثَنا» يعني أن هذه القطعة من المسند — الخاصة بفضل قريش على الناس — تتمتع بأهميةٍ خاصة والروايات تجري كالتالي:
  • (١)

    قدِّموا قريشًا ولا تقدموها (= لا تتقدموا عليها)، وتعلَّموا منها ولا تعالموها أو تُعْلموها (= أي تعلَّموا منها ولا تتصوروا أنها يمكن أن تتعلم منكم).

  • (٢)

    من أهان قريشًا أهانه الله عز وجل.

  • (٣)

    لولا أن تَبْطر قريش لأخبرتُها بالذي لها عند الله عز وجل (هذا جزء من حديثٍ وسيرد نصه كاملًا في رقم ٦).

  • (٤)

    قال لقريش: أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم مع الحق، إلا أن تَعدِلوا عنه فتُلْحَون (تُقْصَون) كما تُلْحى هذه الجريدة، يشير إلى جريدةٍ في يده.

  • (٥)

    يُروى أنه نادى: أيها الناس إن قريشًا أهل أمانة، ومَن بَغاها العَواثِر أَكبَّه الله لمنخريه، يقولها ثلاثًا.

  • (٦)

    يُروى أن قتادة بن النعمان وقَع بقريش (= شتَمها) فكأنه نال منهم، فقال رسول الله : مهلًا يا قتادة، لا تَشتُم قريشًا! فإنك لعلك ترى فيها رجالًا، أو يأتي منهم رجالٌ تَحقِر عملك مع أعمالهم، وفعلك مع أفعالهم، وتغبطهم إذا رأيتهم، لولا أن تطغى قريش لأخبرتها بالذي لها عند الله.

  • (٧)

    أخبرنا مسلم بن خالد عن ابن أبي ذئب بإسنادٍ لا أحفظه أن رسول الله قال في قريش شيئًا لا أحفظه وقال: شرار قريش خيار شرار الناس.

  • (٨)

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : تجدون الناس مَعادِن فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فَقهوا.

  • (٩)

    وقف رسول الله على ثنية تبوك، فقال: ما هنا شَام، وأشار بيده إلى جهة الشام، وما هنا يَمَن، وأشار بيده إلى جهة المدينة.

  • (١٠)

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن دوسًا (= قبيلته) قد عصَت وأبَت فادعُ الله عليها، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكَت دوس، فقال: اللهم اهدِ دوسًا وائتِ بهم.

  • (١١)

    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لولا الهجرة لكنتُ امرأ من الأنصار، ولو أن الناس سلكوا واديًا أو شِعبًا (وسلك الأنصار واديًا أو شِعبًا آخر) لسلكتُ وادي الأنصار أو شِعْبهم.

  • (١٢)

    عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله خرج في مرضه، فخطب، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الانصار قد قَضَوا الذي عليهم وبَقِي الذي عليكم، فاقبلوا مِن مُحسِنهم وتجاوَزُوا عن مُسيئهم. وقال الجرجاني (= أحد الرواة) في حديثه إن النبي قال: اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار، وقال في حديثه: إن النبي حين خرج بَهَش إليه النساء والصبيان (= تسارَعوا إليه هاشِّين باشِّين) من الأنصار فرقَّ لهم ثُم خطَب، فقال هذه المقالة.

  • (١٣)

    عن أبي هريرة قال: أتاكم أهل اليَمن هم ألْيَن قلوبًا وأرقُّ أفئدة، الإيمان يماني والحكمة يمانية.

  • (١٤)

    عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: بَينا أنا أنزع على بئرٍ أستسقِي (= يُخرج الماء من البئر بالدلو)، قال الشافعي رضي الله عنه: في النوم ورؤيا الأنبياء وحي، قال رسول الله : فجاء ابن أبي قحافة (يعني أبا بكر الصديق) فنزَع ذَنُوبًا أو ذَنُوبين (دَلوًا أو دَلوين من الماء) وفيه ضَعْف والله غفر له، ثم جاء عمر بن الخطاب فنزع حتى استحالَتْ في يده غرْبًا (كثر الماء وسال وعم الوادي) فضرَب الناس بَعطَن (بوادٍ كثير الإبل لوفرة الماء) فلم أرَ عبقريًّا يَفْري فَرِيَّه (= يصنع مثل صنعه).

ولنا على هذه الروايات ثلاث مجموعات من الملاحَظات، تتعلَّق المجموعة الأولى بعملية «الإسناد» التي تعتمد عليها تلك المرويَّات، وتتعلق المجموعة الثانية من الملاحَظات بالمتن، أما المجموعة الثالثة من الملاحَظات فتتعلق بالدلالة العامة لتلك المروِيَّات.

فيما يتعلق بالملاحَظات الخاصَّة بالسَّند، فالملاحَظة الأولى ملاحَظة عامة، فحواها أنه يغلب على سند هذه المرويات «المراسيل»، و«البلاغات»، و«المَراسيل» هي المروِيَّات التي يرويها «التابعي» — أحد رجال الجيل التالي لجيل الصحابة — عن النبي مباشَرة، دون أن يذكر اسم الصحابي الذي ينقل عنه الحديث، أما «البلاغات» فهي مثل «المراسيل»، ولكن التابعي يقول فيها «بلغني أن النبي قال …» وتتبدَّى أهمية هذه الملاحَظة في أن الإمام الشافعي لا يقبل «المراسيل»، و«البلاغات» إلا أن تكون هناك رواية أخرى للحديث نفسه مُتَّصِلة السَّند اتصالًا تامًّا، لكن الشافعي يتخلَّى عن شرطه هنا ويقبل «المراسيل»، و«البلاغات»، وهذا أمرٌ لا يخلو من دلالة.

الحديث رقم «١» يقف إسناده عند ابن شهاب الزهري الذي يقول إنه بَلغَه أن رسول الله قال. وكذلك الحديث رقم «٢» يقف إسناده عند عمر بن عبد العزيز وابن شهاب: يقولان قال رسول الله ، الرواية الثالثة تقف كذلك عند الحرث بن عبد الرحمن الذي يقول: بلغنا أن رسول الله قال، وهي رواية جاءت بإسنادٍ آخر في رقم «٦» ينتهي عند محمد بن إبراهيم بن الحارث التميمي وهو تابعي كذلك، أما الحديث رقم «٧» فرُوِي بإسنادٍ لا يحفظه الشافعي، والراوي الذي يروي عنه يقول إن رسول الله قال في قريش شيئًا لا يحفظه، فالرواية كلها غير منضبطة إسنادًا ومتنًا.

الملاحظة الثانية المتعلِّقة بالإسناد أن كثيرًا من الروايات المتَّصلة إلى الصحابي يرويها أبو هريرة، وفي كثيرٍ من روايات أبي هريرة كلام قاله بعض الصحابة أنفسهم خاصة السيدة عائشة التي كثُر نَقْدها لمروياته، وأقل نقد وُجِّه لأبي هريرة أنه يُوهِم أنه سمع الحديث عن النبي فإذا سُئل: هل سمعتَه؟ ذكر اسم الصحابي الذي سمعه منه. هذا فضلًا عن قضايا كثيرة تتعلق بنزوع أبي هريرة إلى الإكثار من الرواية عن النبي خلافًا لموقف الصحابة، حتى نهاه بعض الخلفاء عن الرواية، لكنه عادَ للإكثار بعد ذلك، ولا يتَّسع المجال لنا هنا لمناقشة إشكاليات مرويات أبي هريرة التي كثُر الكلام فيها بين المعارِضين والمؤيِّدين، (انظر: ابن قتيبة، تأويل مختلف الحديث، ص١٦، ٢٨–٤٤، دار الكتب العلمية، بيروت).

إذا انتقلنا من «السَّند» إلى «المتن» فإن أول ملاحظة يَتعيَّن إبداؤها هي أن هذا الإعلاء من شأن «قريش» وبيان فضلها على الناس لا يقف عند حدود الماضي أو الحاضر، بل يمتد إلى المستقبَل كما في الحديث رقم «٦»، وهو أمرٌ يثير الرِّيبة في أن تكون هذه المرويات وُضِعَت لنُصرة الدولة العباسية، خاصة بعد أن دخلَت مرحلة الصراع مع «العلويين» بعد مرحلة «التقارُب» معهم أوَّلَ نشأة النظام. إن التركيز على «قريش» في هذه المروِيَّات يستدعي التركيز على فضل «آل البيت» في التراث الحديثي الشِّيعي، وكأن «الحديث» أصبح سلاحًا في معركة الشرعية السياسية بين بنِي العباس والعَلويِّين.

الملاحَظة الثانية، وربما الأهم، أن هذا الحديث عن «الفضل» المُطلَق لقريش أو لغيرها يُعارِض المبادئ الإسلامية الكلية المنصوص عليها في القرآن الكريم، وفي السنة المتواتِرة «إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم»، «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى» … إلخ، وما يخالف تلك المبادئ الكلية والأسس العامة يصعب قبوله داخل دائرة «النصوص» الدينية، وإذا خالفَت الرواية القرآن الكريم فلا اعتبار بها ولا اعتداد؛ لأن النصوص الثانوية لا يصح أن تُخالف النص الأوَّلي، خاصةً في حالة وضوح الدلالة الظاهرية، ومعاضدة الأدلة المستنبَطة من نصوصٍ أخرى لتلك الدلالة.

الملاحَظة الثالثة، أن كل تلك المرويات تتضمَّن شواهد ودلائل تدل على أنها من «الموضوعات» التي وُضِعت في عصورٍ متأخِّرة، ذلك أن أحدًا من الذين اشتجر بينهم الخلاف في سقيفة بني سعد لم يستشهد بواحدةٍ من تلك المروِيَّات، ولو كانت معروفة كلها، أو بعضها على الأقل، لكان من السَّهل حصْر الخلاف بين قريش والأنصار (انظر: الطبري، تاريخ الأمم والملوك، الجزء الثالث، ص٢٠٣-٢٠٤؛ وانظر أيضًا: الأشعري، مقالات الإسلاميين، الجزء الأول، ص٣٩–٤٢)، الذي يُورِد أن أبا بكر احتج بقول النبي : «الإمامة في قريش» فأذعنوا له مُنقادِين، ورجعوا إلى الحق طائِعين. وهي حُجة لم تَرِد عند الطبري، الأمر الذي يكشف عن البُعد الأيديولوجي الذي وُضِعت هذه الأقوال لمساندته.

أما عن الدلالة العامة لتلك المروِيَّات، فالملاحَظة الأولى التي نُبديها أن تلك المرويات الخاصة بالأنصار ومكانتهم، رقم «١١»، «١٢» إنما هي مرويات وُضِعت من قبيل «المُصالَحة»؛ لأنها ما تزال تضع «الأنصار» في منزلة مَن هم تحت حماية «المهاجِرين» وولايتهم، ونحن نعرف من تاريخ الطبري أن سعد بن عُبادة الذي كان مرشَّحًا للخلافة من قِبَل الأنصار رفَض مبايَعة أبي بكر رفضًا تامًّا، كما نعرف أن المهاجِرين استطاعوا استثمار الخلافات القديمة بين «الأوس» و«الخزرج» لكسر إجماعهم على ترشيح سعد بن عبادة، وليس من المستغرَب والحال كذلك أن تكون هناك محاوَلة لرأب الصدع ومصالَحة الأنصار، خاصة مع حاجة «معاوية بن أبي سفيان» للإجماع عَشية مقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب، وتنازُل الحسن بن علي له عن «الخلافة» فيما عُرِف بعام «الجماعة».

وهذا يقودُنا إلى الملاحَظة الثانية والتي تتعلق بالرواية رقم «١٤»؛ لأنها تستدعي ما ذهبت إليه طوائف الشيعة من رفض خلافة كل من أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، فضلًا عن عثمان بن عفان، على أساس أنهم جميعًا اغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب، ومِن الجدير بالذِّكر أن «الرافضة» لم يكونوا وحْدَهم بين الشيعة الذين ذهبوا هذا المذهب، فالزيدية — وهم أشد المذاهب الشيعية اعتدالًا من منظور أهل السُّنة — يرون أن عليًّا كان أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر لأفضليته، ولكنهم لم يتشددوا في رفض خلافتهما كالروافض، بل ذهبوا إلى «جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل.» في نوعٍ من التقارب السياسي في سياق مُناهَضة النظام الأموي. ومن الواضح أن الرواية المذكورة في صيغة رؤيا نبوية تهدف إلى بيان فضل كل من الخليفتين في حياة الأمة الإسلامية.

الملاحَظة الأخيرة في سياق مجموعة الملاحَظات الخاصة بالدلالة العامة، أن كل تلك المرويَّات ليست إلا نصوصًا أُنتجِت في سياق صراعاتٍ أيديولوجية، بدأت بخلاف السقيفة، ثم بالرِّدَّة، فالفتنة التي قُتل فيها الخليفة الثالث، فالصراع بين عليٍّ من جهة، وطلحة والزبير والسيدة عائشة من جهةٍ أخرى، ثم الصراع بين عليٍّ ومعاوية، ثم القلاقِل التي أثارها الخوارج والشيعة ضد النظام الأموي، ثم صراع العلويين والعباسيين معًا ضد النظام الأموي، فاستقرار الأمر للعباسيين في نهاية الأمر حتى الغزو المغولي لبغداد، انتهَت الصراعات السياسية وظلَّت النصوص شاهدة على التاريخ من جهة، ومحرِّكة لصراعاتٍ فكرية لم تنتهِ بعدُ من جهةٍ أخرى.

ألا يستحق الأمر من الباحثين التأمُّل والتساؤل، خاصة حين ترد هذه المرويات في سياق «مسند» مرتَّب على أبواب الفقه، وليس على أسماء الرواة كما هو شأن «المسانيد» الأخرى المعروفة؟ ولماذا تَرِد هذه المرويات في «فضل قريش» مع مروياتٍ عن «الأشربة» في سياقٍ واحد؟! وهل من إجابةٍ على تلك التساؤلات إلا بالنزعة القرشية للإمام، والتي لا تفهم إلا في سياق الصراعات المحتدمة فكريًّا؟ وهي ليست نزعة قرشية منبتة الصلة عن نزعةٍ عروبية تنطلق من أساس أن «قريش» هي العرب، وأن لهجتها هي لغة القرآن، فهي لغة كل العرب وكل المسلِمين.

هذا النزوع القرشي العروبي للإمام لا يتعارَض مع عواطفه «العلوية» وحبه لآل البيت، فما من مسلمٍ، إلا ويحمل هذه العواطف، ولم تصل العاطفة «العلوية» عند الإمام إلى حد «التشيع» بالمعنى السياسي أو المذهبي، وما ينسب إليه من أنه قال:

إن كان رفضًا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي

لا يمكن أن يتخذ قرينه على علويةٍ متعصِّبة تصل إلى حد «الرفض» أو «التشيع»، وهذا هو الذي يفسر عدم اعتداد الإمام بالمرويات الشيعية عن «الوصية» بالخلافة نصًّا للإمام علي.

٩

لكن ما علاقة هذا النزوع القرشي العروبي بالخِطاب الفقهي الذي أنتجه الإمام الشافعي، أو يمكن عكس السؤال فيقال: ما علاقة ما قام به الإمام الشافعي من جهودٍ لتأصيل عِلم الفِقْه بذلك النزوع القرشي العروبي؟ والتحليل الذي يُقدِّمه الكتاب — في محوره الأول عن «الكتاب» — لأنماط الدلالة يطرح بعض جوانب الإشكالية ويُقدِّم بعض الإجابات. إن الدفاع عن عروبة القرآن ونَقاء لُغته نقاءً مطلقًا لا يعتمد على ما صار مستقرًّا قبل الشافعي، من أن ما يُتوَّهم أنه أجنبي من ألفاظ القرآن هو في الأصل كذلك، ولكنه اختلط بلغة العرب قبل نزول القرآن بآمادٍ طويلة، فعرَّبته العرب، وأخضعَته لقوانين اللسان العربي صوتيًّا وصرفيًّا ونحويًّا ودلاليًّا، وبذلك صار عربيًّا حين نزل القرآن، الشافعي لا يقف عند حدود هذا الطرح اللغوي المستقيم للمشكل، بل يتجاوَز حدود الدفاع عن لغة القرآن للدفاع عن نقاء اللغة العربية ذاتها، إلى حد القول إن «لسان العربي أوسع الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، ولا يعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي.»

هذا الربط بين «اللغة» و«النبوة» مع أن اللغة موجودة قبل ظاهرة الوحي، يستدعي من الباحث التوقُّف لطرح سؤال آخر: هل الدفاع عن العربية من مدخل الدفاع عن نقاء اللغة القرآنية دفاع عن «العربية» فعلًا أم دفاع عن «القُرشية» التي استقرَّت قراءة القرآن على القراءة بلهجتها بحسب المعلوم من علوم القرآن، وبعد إسقاط الحروف الستة الأخرى؟ ونقترب من حدود الإجابة حين يضع الشافعي «السُّنة» في موضعٍ مساوٍ للغة «اللسان العربي» كمرجِعَين تفسيريين للقرآن الكريم، وذلك باستثناء النمط الدلالي المعروف ﺑ «النص» وهو عزيز جدًّا ونادر في القرآن.

وتتضح الإجابة من خلال تحليل المكانة التشريعية للسنة في خطاب الشافعي، خاصة بعد أن وسع مفهوم «السُّنة» بحيث يضم الأقوال والأفعال والموافَقات، وبعد أن جعلها «وحيًا» مساويًا للقرآن من كل وجه، إن «السُّنة» المحمدية، بهذا المفهوم الواسع الذي لا يميز بين التشريع والعادات، تتضمن بالضرورة العادات والتقاليد والأعراف التي لم يرفضها الإسلام ولم ينكرها، وهذه العادات والتقاليد والأعراف هي الممارَسات القرشية التي كان يمارسها الرسول بوصفه إنسانًا يعيش في التاريخ والمُجتمَع والواقع. وإذا كان الإمام مالك يُدخِل «عَمَل أهل المدينة» في نطاق السُّنة، وذلك حين يقول: «السُّنة عندنا» فإن الإمام الشافعي بما قام به من إدماج السُّنة في «الوحي» حول التقاليد والأعراف والعادات القرشية إلى «وحي»، وإذا كان الإمام «مالك»، رفض دعوة الخليفة العباسي لفرض كتابه «الموطَّأ» على الأمصار الإسلامية كافة، فإن الإمام الشافعي جعل من عادات «قريش» وأعرافها دِينًا ملزِمًا للناس كافة.

وليس الأمر هنا أمْر «قصد» و«نية» مُبيَّتة من الإمام الشافعي ليفعل ذلك تآمرًا، أو لتحقيق أغراضٍ سياسية نفعية — كما حاول بعضهم أن يروج ناسبًا ذلك كله إلى الباحث، كأن تحليل الخِطاب تفتيش في النوايا والمقاصِد. والحقيقة أن تحليل الخِطاب علم لاكتشاف الدلالات المعلَنة والمضمَرة، والمسكوت عنها في الخِطاب انطلاقًا من حقيقة أن للخطاب، من حيث هو خطاب، آليات مستقلَّة عن قصدٍ منتجِه في إنتاج الدلالة. إن الخِطاب علاقة تواصُل بين منتجٍ ومتُلقٍّ، فهو بمثابة «العملة» المتبادَلة التي لا تتحدَّد قيمتها من طرفٍ واحد، بل تتحدَّد من خلال «التداوُل»، وبعبارةٍ أخرى ليست «اللغة» في الخِطاب أداة توصيل يشكلها المنتِج للخِطاب، فتستجيب بطواعيةٍ مُطلَقة لقصده ونيته، بل إن للغة وجودًا في سياق «التداول» الثقافي والفكري يجعلها محمَّلة بدلالاتٍ قَبليَّة سلبية وإيجابية.

إن القارئ لخطبة «الرسالة» مثلًا، من منظور تحليل الخطاب، يمكنه أن يستشفَّ المكانة المتميِّزة جدًّا لشخص الرسول في خطاب الشافعي، وهي مكانة تتجاوز حدود الخِطاب السابق على الشافعي من هذه الزاوية، هذا بالإضافة إلى أن الشافعي يُضفِي تلك المكانة الخاصة على «قوم» الرسول — أهل مكة — بالتبعية، وذلك اعتمادًا على تأويل آية قرآنية هي قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (الزخرف: ٤٤) تأويلًا يضعها في خانة نمط الدلالة «المستغنَى فيه بالتنزيل عن التأويل» وهو نمط «النص».

ويتم السَّرد على الوجه التالي: بعد الحمد والشكر والاستعانة وطلب الهداية والاستغفار والشهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) يُصنِّف الشافعي الناس قبل البعثة المحمدية إلى صِنفين فقط: أهل كتاب بدَّلُوا وكفَروا، وصِنف كفَروا فابتدعوا ما لم يأذن به الله، ونصَبوا حجارة وخشبًا وصورًا استحسنوها، وأولئك هم العرب الذين سلكَت طائفة من العجم سبيلهم في هذا، وفي عبادة ما استحسنوا من حوتٍ ودابَّة ونَجم ونار وغيره (ص١٠)، وحين ينتقل السرد إلى وصف ظهور محمد ، وما ترتَّب على ظهوره وظهور رسالته بنزول الوحي عليه، من السهل إدراك بعض ملامح نزعة صوفية في الخطاب، تتجلَّى في استخدام مفردات وتراكيب شائعة في الخِطاب الصوفي.

يقول الشافعي: «فلما بلغ الكتاب أجلَه، فحق قضاء الله بإظهار دينه الذي اصطفى — بعد استعلاء معصيته التي لم يرضَ — فتح أبواب سمواته برحمته، كما لم يَزل يَجري — في سابق علمه عند نزول قضائه في القرون الخالية — قضاؤه … فكان خِيرته المصطفى لوحيه، المنتخَب لرسالته، المُفضَّل على جميع خلقه بفتح رحمته وخَتْم نبوَّته، وأتم ما أرسل به مرسل قبله، المرفوع ذكره في الأولى، والشافع والمشفَّع في الأخرى، أفضل خلقه نفسًا، وأجمعهم لكل خُلُق رضِيَه في دين ودنيا، وخيرهم نسبًا ودارًا، محمدًا عبده ورسوله.» (ص١٢-١٣).

وقد نتوقَّف هنا أمام بعض الصياغات والتراكيب التي تستدعي الخِطاب الصوفي: أول هذه الصياغات: «المفضل على جميع خلقه: بفتح رحمته، وختم نبوته» فهي صياغة تستدعي مفهوم «الحقيقة المحمدية» الموجودة منذ الأزل قبل خلق آدم، والتي تمثِّل في الخِطاب الصوفي انفتاح الوجود بالرحمة الذاتية لإظهار الأسماء والصفات الإلهية، التي كانت باطنه … في «الذات»، فهي من هذه الزاوية تمثل «فتح الرحمة»، هذه الحقيقة الإلهية تتجلَّى وتظهر في الأنبياء جميعًا بدءًا من آدم حتى يكون مُجلَّاها الأخير، وظهورها الخاتم في محمد في مكة، فهي من هذه الزاوية «ختم النبوة» (انظر دراستنا: فلسفة التأويل، دار التنوير، بيروت، ط٢، ١٩٩٣م، ص٢٦٢، ١٧٧، ٢٣٣–٢٣٨).

وتؤكد هذه الدلالات المُستدعاة أن الشافعي — بدلالة الخِطاب — يجمع بين «الأزَلِي» و«التاريخي» في شخص محمد، وهذا يسهل إلى حدٍّ كبير عملية تحويل «السُّنة» بدلالتها الواسعة جدًّا إلى «وحي»، ويدعم هذه الدلالات كون محمد «أفضل خلق الله نفسًا» و«أجمعهم لكل خلق رضيه الله في دينٍ ودنيا» أليس هو محمد «المرفوع ذكره مع ذكر الله سبحانه وتعالى» وذلك تأويلًا لقوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ؟! هذه المصاحَبة في الذكر لا تقف عند حدود تأويل المفسِّر التابعي مجاهد: «لا أُذْكَر إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.»؛ أي لا تقف عند حدود إعلان الإسلام بالشهادتين، بل تتجاوز عند الشافعي هذه الحدود ليكون الاقتران بين الله والنبي في الذكر شاملًا: «عند الإيمان بالله والآذان، ويحتمل ذكره عند تلاوة الكتاب، وعند العمل بالطاعة، والوقوف عند المعصية.» (ص١٦)؛ وانظر: تأويل «مجاهد» في تفسير الطبري، الجزء الثلاثين.

في كل ما سبق يمكن القول: إن خطاب الشافعي يَتناصُّ مع الخِطاب الصوفي ويتفاعَل، وهذا الخِطاب الأخير هو الذي حوَّل محمدًا من «التاريخ» إلى «الأزَلِيَّة»، ومن الحقيقة الاجتماعية التاريخية إلى «الحقيقة الأزَلِيَّة» السارِيَة في كل شيء، لكن الخِطاب الصوفي كان يفعل ذلك من أجل انفتاح الدلالة الدائم للنصوص الدينية، وذلك من خلال فلَك «الولاية» الذي يستمد قُدرَته التأويلية من فلك «النبوة»؛ ولذلك حرص الخِطاب الصوفي أن يجعل فلَك «الولاية» منفتِحًا دائمًا تعويضًا لفلك «النبوة» الذي ختَمه محمَّد التاريخي.

في هذه النقطة يفترق خطاب الشافعي عن الخِطاب الصوفي؛ لأن الشافعي يسحب الدلالات السابقة كلها من «الفرد» إلى «القوم»، فالله الذي رفع ذكر محمد جعل القرآن ذكرًا له ولقومه، ومرة أخرى يستدعي الشافعي تأويل مجاهد للآية بأن القوم المَقصودِين هم «قريش»، ويبالغ في تأكيده قائلًا: «وما قال مجاهد من هذا بَيِّن في الآية، مُستغنًى فيه بالتنزيل عن التأويل.» (ص١٤)، والعبارة الأخيرة يكررها الشافعي دائمًا حين يريد أن يحدِّد نمطًا من أنماط الدلالة بيِّن في ذاته لكل قارئ، وهو «النص». والدلالة واضحة أن الشافعي يجعل منطوق الآية رفع ذكر «قريش» إلى جانب ذكر «محمد» في القرآن.

ولأن هذا التأويل لا يستقيم للشافعي، فإنه يطيل الاستشهاد بأن الله خصَّ عشيرة محمد الأقرَبِين بالنذارة أولًا «وعمَّ الخلق بها بعدهم» ورفع بالقرآن ذكر رسول الله، ثم خص قومه بالنذارة إذ بعثه، فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، ويواصل الاستشهاد: «وزعم بعض أهل العلم بالقرآن أن رسول الله قال: يا بني عبد مناف! إن الله بعثني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وأنتم عشيرتي الأقربون.» (ص١٤-١٥) والسؤال الآن: هل يترتب على كون عشيرته الأقربين أوَّل مَن توجَّه إليهم بالإنذار والدعوة أية ميزة أو فضيلة، سواء كانوا عبد مناف أم كانت قريش كلها؟ وهل تضمَن لهم تلك الأسبقية في الخِطاب فضائل وميزات أزلية حتى قيام الساعة؟! وفي الإجابة عن السؤال تنكشف حقيقة النزعة القرشية في خطاب الشافعي، حين تضاف هذه الخطبة إلى كل التحليلات التي قمنا بها.

١٠

بَقيَت بعض المسائل الجزئية، تَصوَّر محمد بلتاجي لفرط ثقته في «محفوظاته» التي لُقنت له — وما زال يلقنها لطلابه — أنه يستطيع من خلالها نفي الباحث من دائرة «التخصُّص» الذي لا يتخيل منافسًا له فيه. وقد مرَّت بنا مسألة الخطأ الطباعي بما يُغنِي هنا عن إعادة القول فيه. المسألة الثانية: هي مسألة تقسيم السُّنة إلى: متواتر، ومشهور، وآحاد، يتعالم بلتاجي على الباحث قائلًا: «ومعلومٌ لطلاب الإسلاميات أن التقسيم الثلاثي خاص بالأحناف، في مقابلة جمهور العلماء الذين يُقسِّمون السُّنة من حيث عدد الرواة إلى: متواترٍ وآحاد فقط، والمُضحِك أنه ينسب هذا التقسيم الثلاثي إلى الشافعي نفسه دون أن يفهم شيئًا مما أورده من كلام الشافعي، وهو واضحٌ جدًّا لكل من يفهم.»

ومشكلة محمد بلتاجي، ومن يَلُف لفَّه، أن كل شيء بالنسبة لهم «واضح جدًّا»، وذلك بحسب ما استقر عليه منهج «التَّلقِين» الذي درج عليه، وكنا نتمنَّى أن يبين لنا هذا الواضح جدًّا من كلام الشافعي الذي سُقنَاه في الكتاب، هذه هي مشكلته الأولى، أما مشكلته الثانية فهي العجز التامُّ عن النظر للفكر الفقهي في سياق تطوُّره التاريخي، فالحديث عن فقه أبي حنيفة في عصر الإمام الشافعي لا يمكن الاستناد فيه إلى تطور الفقه الحنفي عند المتأخِّرِين، إن أبا يوسف تلميذ أبي حنيفة — كما هو معروف — تولَّى القضاء لثلاثةٍ من الخلفاء العباسيين، ومن شأن مَن يتولى القضاء وظيفة رسمية أن يلجأ لإحداث توازن — قد يصل أحيانًا إلى حد التنازل — بين قناعاته الفكرية، ومُتطلَّبات الوظيفة الرسمية؛ لذلك عمل أبو يوسف على دعم آرائه بالحديث، وهو أول فقهاء مدرسة «الرأي» الذين قاموا بذلك فيما يقول «أبو زهرة» (انظر: أبو حنيفة، ١٩٧).

واختلاف أصحاب أبي حنيفة مع اجتهادات أستاذهم شائعٌ معروف، وذلك معلول بحيوية المذهب أساسًا، وانفتاحه العقلي والفكري، ويكفي هنا أن نذكر اختلافهم معه في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة بغير اللغة العربية؛ إذ يَعتَبِر أبو حنيفة أن القراءة بالفارسية كافية: «ويعتبر الشخص أدى ركن القراءة عند أبي حنيفة، سواء كان عاجزًا عن القراءة بالعربية أم غير عاجز، ولكن يكره ذلك عند عدم العجز، وقال أبو يوسف ومحمد لا تُقبَل القراءة بغير العربية إلا في حالة العجز عن العربية.» (أبو زهرة، أبو حنيفة، ص٢٤١).

لكن عقل بلتاجي — ومَن يلف لفه — ينظر إلى القواعد التي تلقَّنَها عن المذهب — الحنفي أو الشافعي — بوصفها قواعد ثابتة منذ المؤسِّس الأول للمذهَب، وليست قواعد تكوَّنَت وتراكَمت عبْر عملية سيرورة تاريخية محكومة بقواعد وقوانين اجتماعية مالَت بها إلى التَّقَولُب والتَّجمُّد والثَّبات. من هنا يُقرِّر في خفةٍ عقلية وبساطة ذهنية يُحسَد عليها أن تقسيم السنة الثلاثي (متواتر – مشهور – آحاد) خاص بالأحناف وحْدَهم، متجاهلًا أنه تقسيم أقدم من الانقسامات المذهبية، وإذا كان «الأحناف» المتأخِّرُون هم الذين حافَظوا على التقسيم الثلاثي، في حين اكتفَت المذاهب الأخرى بالتقسيم الثنائي (متواتر – آحاد) فما ذلك إلا لأن مفكِّري المذاهب المتأخِّرِين قرَّروا إدماج «المشهورات» في «المتواتِرات» بهدف توسيع نطاق درجة «اليقين» في السنة.

ومن الصعب أن نتتبع كل مُغالَطات بلتاجي؛ لأنه يحيل دائمًا إلى كتب «الأحناف» المتأخِّرين، مثل «المبسوط»، و«كشف الأسرار»، في حين أن تحلِيلَنا كله ينصبُّ على خطاب الشافعي في سياق القرن الثاني الهجري. إن الرجل ببساطةٍ لا يَعي «العلم» بوصفه ظاهرة تاريخية متطوِّرة نامية محكومة بسياقٍ يُحدِّد لها اتجاه التطور ومدى النمو. إن هذا الفارِق بين عالمٍ مفكِّر كأبي زهرة وبين «مُتلقِّن» لا يجيد البحث والاستنباط مثل بلتاجي؛ لأن أبا زهرة يُدرِك أن الأصول التي وضعها المتأخِّرون من علماء المذهب الحنفي ونَسبوها إلى أئمة المذهب «ليست من وضع أئمته حتى يقال إنهم وضعوها أنفسهم بالاستنباط على أساسها، بل هي من وضع العلماء في ذلك المذهب، الذين جاءوا بعد عصر الأئمة وتلاميذهم، الذين اتجهوا إلى استنباط القواعد التي يُضْبَط بها استنباط فروع المذهب، فهي جاءت متأخرة عن الفروع.» (أبو حنيفة، ص٢٣٧).

إن كتاب «كشف الأسرار» — مثلًا — لمؤلِّفه علاء الدين عبد العزيز ابن أحمد البخاري (ت.٧٣٠ﻫ) ينتمي إلى القرن الثامن الهجري، إلى فترة «الانحطاط» في الفكر الإسلامي، حيث صارت غاية المجتهِد الشرح أو التلخيص أو الموازنة بين الآراء والخلافات الفرعية، من هنا لا تَعجَب من الطريقة التي يُدافِع بها مُصنِّفه عن الإمام أبي حنيفة ضد هجوم الشافعية؛ لأنه كان يُقدِّم الرأي على السُّنة. يقول عبد العزيز البخاري معلقًا على متن «البدوي»: «ولما طعن الخصوم في أبي حنيفة وأصحابه — رحمهم الله — أنهم كانوا أصحاب الرأي دون الحديث، يَعنُون به أنهم وضعوا الأحكام باقتضاء آرائهم، فإن وافق الحديث رأيهم قَبِلوه، وإلا قدَّموا رأيهم على الحديث، ولم يلتفتوا إليه، رد (البزدوي) عليهم طعْنَهم بقوله (وهم أصحاب الحديث)، وقد حكى أن الشيخ المصنِّف — رحمه الله — ناظَر إمام الحرمين في أوان تحصيله ببخارى … وأفحمه، فلما تفرَّقوا قال إمام الحرمين: إن المعاني قد تيسرت لأصحاب أبي حنيفة، ولكن لا ممارَسة له بالحديث فبلغ الشيخ فردَّه في هذا التصنيف وقال: هم أصحاب المعاني والحديث، أما المعاني فقد سلم لهم العلماء؛ أي سلَّمُوها لهم إجمالًا وتفصيلًا، أما إجمالًا فلأنهم سَمَّوْهم أصحاب الرأي تعبيرًا لهم بذلك، وإنما سَمَّوهم بذلك لإتقان معرفتهم بالحلال والحرام، واستخراجهم المعاني من النصوص لبناء الأحكام، ودقة نظرهم فيها، وكثرة تفريعهم عليها، وقد عجز عن ذلك عامة أهل زمانهم، فنسبوا أنفسهم إلى الحديث، وأبا حنيفة إلى الرأي.» (١ / ١٦).

كيف يقرأ بلتاجي مثل هذا النص «السِّجالي» سواء في أصله عند البزدوي، أم في شرحه عند البخاري؟ وهل يستطيع بلتاجي أن يضع هذا النص «الدفاعي» في سياق عصر مُنتجِه الأول — البزدوي — حيث الصدام بين إمام الحرمين «الجويني» — شيخ أبي حامد الغزالي — وبين مُمثِّل المذهب الحنفي بِقلَّة البضاعة في الحديث؟ أم هل يستطيع أن يضع النص «الشارح» للبخاري في سياق القرن الثامن الهجري كما سبقت الإشارة؟! أغلب الظن أن الرجل لا يستطيع شيئًا من ذلك؛ لأنه لا يمتلك وعيًا بالتاريخ بقدر ما يمتلك «حافظة» تلقَّنَت القواعد العامة، ولا تفتأ تستعرض مهارتها بترديدها دون مَلل. أما كيف تَكوَّنت تلك القواعد وتطوَّرت ونَمت، وما هي الظروف والملابسات الفكرية والتاريخية والاجتماعية التي كوَّنَتها، فتلك كلها أسئلة يحتاج تحليلها ومقاربتها للوعي التاريخي والعقل المتسائل، وأنى لبلتاجي وأمثاله ذلك؟!

تبقى مسألة أخيرة عن مكانة «عبد الله بن عباس»، هل هو صحابي أم تابعي؟ في يقينٍ جازم لا يتلجلج يرى بلتاجي أنه «صحابي عريق الصحبة»، والرجل فيما يبدو لا يعرف اللغة العربية جيدًا حين يصف صحبة ابن عباس للنبي بالعراقة، رغم أنه فيما يروي البخاري عنه كان ابن عشر سنين فقط حين تُوفِّي الرسول ، ولو افترضْنَا أن عبقرية ابن عباس تجعله قادرًا على الحفظ والاستيعاب والفهم منذ سن السادسة لكانت صحبته للنبي مِقدارُها أربع سنوات فقط، فأين «العراقة» يا صاحب الفضيلة؟!

ومع ذلك فهناك اختلاف في تحديد معنى «الصحبة» الاصطلاحي، وهو المعنى الذي يُؤدِّي إلى وصف الشخص بأنه «صحابي»، هناك تعريف البخاري في صحيحه: «كل من صحب النبي أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه.» (٤ / ١٨)، وهو التعريف الذي وافقه فيه أحمد بن حنبل وأخذ به في مُسنَده، وهذا هو التعريف الذي سادَ واشتهر في تاريخ الفقه، وهو تعريف في حاجةٍ لمراجعة من منظور «الرواية» و«النَّقل» و«التحمُّل»؛ لذلك ذهب عبد الله بن عمر بن الخَطَّاب — كما ورد في «الكفاية» — إلى أن: «كل من رأى رسول الله، وقد أدرك الحلم، وأسلم، وعقل الدين ورضيه، فهو عندنا من الصحابة ولو ساعة من نهار.» أما التابعي سعيد بن جبير فيرى أنه «لا يعتبر من الصحابة إلا مَن أقام مع رسول الله سنةً أو سنتين وغزَا معه غزوةً أو غزوتين.»

هذا الاختلاف في تعريف «الصحابي» ينفي عنجهية اليقين في خِطاب بلتاجي، ناهيك عن «العراقة» في الصُّحبة التي يدعيها بلتاجي لابن عباس، ولو كان يتمتَّع بأدنى حس تاريخي، أو عقل نقدي لأدرك أن شخصية «عبد الله بن عباس» قد نُسِجَت حولها كثيرٌ من الروايات الموضوعة التي نُسِب أكثرها إليه، وقِيلَت على لسانه وعلى لسان غيره، ولو كان له أدنى معرفة بنقد الروايات لأدرك أن أكثر الروايات عن ابن عباس مشكوك في صحته، خاصة ما يرويه عنه مولاه عكرمة، ولكن من أين يأتي العقل النقدي لمن تعوَّد على «التلقين» و«الحفظ» و«الترديد»؟

إن وضْع عبد الله بن عباس في قائمة «الصحابة» بالمعنى الاصطلاحي الذي يفيد القدرة على الفهم والاستيعاب والتحمل ونقل المرويات، كانت جزءًا من محاولة النظام العباسي للاستناد إلى مشروعيةٍ «فقهية» معرفية إلى جانب مشروعية «النسب»، وفي هذا السياق كان لا بد من مواجهة مشروعية الشيعة التي جعلت عليًّا هو الوصي والإمام والخليفة الحقيقي، و«باب» مدينة العلم، هذا إلى جانب علاقة المُصاهَرة والنَّسب، من هنا مصدر المبالَغات التي تراكمت حول «عِلم» ابن عباس، ومنشأ الروايات التي وُضِعت ونُسِب أكثرها للرجل (انظر على سبيل المثال: الطبقات الكبرى، لابن سعد، ٣ / ٢٧٨–٢٨٥).

والسؤال: هل هذا النقد التاريخي يُمثِّل طعنًا في شخص ابن عباس، أو تقليلًا من شأنه؟ أغلب الظن أن بلتاجي — ومن يلف لفه — لن يعدموا وسيلة لاتهام هذا المنهج النقدي بالطعن في الصحابة. إن «الحُفَّاظ» ومُتلقِّنِي «القواعد» يتصورون أن الصحابة أشخاصٌ مُقدَّسون، وليسوا بشرًا وفاعِلين اجتماعيين، مُتجاهِلين في تصورهم هذا حقائق التاريخ التي تذكر اختلافاتهم إلى حد حمْل السيوف وقتْل بعضهم بعضًا، ومنذ قال القائلون من المُرجِئة والمُفوِّضة: «كلهم على حقٍّ بحسب تأويله.» والمُتلقِّنون يتجاهلون أن هذا القول نفسه يمثِّل عجزًا عن الفهم، ومحاوَلة لطمس التاريخ، فانتقلوا من مجرد «التبرير» إلى «التقديس»؛ لذلك لا يخجل بلتاجي من أن يُقرِّر في بداهةٍ يُحسَد عليها: «إذا كان الصحابة كما يَصِمُهم (!) المؤلِّف، فهل يبقى بعدهم مسلم واحد صحيح الإيمان خالص التوحيد؟ ثم يبقى ماذا يفعل المؤلِّف في آيات القرآن الكريم التي وصَفَتْهم بنقيض «ما وصمهم هو» به؟ أيكون القرآن والدين — الذي تولَّوا هم وحْدَهم نقْلَه إلينا جيلًا بعد جيل — صحيحًا نقله وعليه أمناء؟ ومُجمَل القول — في ذلك كله — إن عندنا في الصحابة شهادتين: الأُولى ما شهد الله ورسوله لهم بها، والثانية ما وصَمَهم (!) بها نصر حامد أبو زيد، ولكلٍّ منا أن يختار لنفسه: بمن يؤمن ومن يصدق.»

ولا يمكن لهذا المستوى من الذعر أن يصيب بلتاجي، إلا لأنه كرر مسألة «الوصم» في هذه السطور أربع مرات تفظيعًا لأقوالٍ لم يقلها الباحِث، وإنما استنبطَها عن سوء نية مُبيَّت عبد الصبور شاهين، وتابَعه بلتاجي فتابعهما صبي «المُلقِّنِين»، ولكي تتصاعد نعمة التفظيع يضع هذا التعارُض بين قول الله سبحانه ورسوله من جهة، وقول الباحث من جهةٍ ثانية، متباكيًا في ألمٍ يقطع نِياط القلب: مَن نُصدِّق: الله ورسوله أم نصر أبو زيد؟!

والإجابة مُضمَرة بطريقةٍ مكشوفة، ولو كان بلتاجي يُحسِن قراءة كلام الله سبحانه وتعالى — ودَعْك مِن كلام نصر أبو زيد — لَأدرَك السياق ومَناط المديح في النصوص القرآنية كلها، وأحيله إلى «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ليرى أن نقْد الصحابة لا يعني إطلاقًا «التكذيب» بما ورد في القرآن الكريم من مدْح المُهاجِرين الأوَّلِين والأنصار، ولو كان «تأويل مختلف الحديث» لا يكفيه فليراجع «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر الأندلسي، وهو متأخِّر عن ابن قتيبة بحوالي قرنين من الزمان، ينقد ابن عبد ربه نقدًا شديدًا — نقلًا عن المازني شارح «الأم» للشافعي حديث «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.» ينقل ابن عبد ربه عن المازني قوله: «إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه (= الرسول) وشهدوا به عليهم، فكلهم ثقة مؤتَمن على ما جاء به لا يجوز عندي غير ذلك، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كان عند أنفسهم كذلك ما خطَّأ بعضهم بعضًا، ولا أنكَر بعضهم على بعض، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه» (٢ / ٩٠).

إن بلتاجي وأمثاله، من أساتذته وتلاميذه، يَظنُّون — وبعض الظن إثم — أنهم يُدافِعون عن التراث ويحمون هوية الأمة من الضياع، لكنهم في الحقيقة يفسدون في الأرض، وهم يَحسَبون أنهم يُحسِنون صنعًا؛ ذلك أن الذي يحمي هوية الأمة، ويحفظ للتراث نَضارته وحيويته «النقد» الذي يزيح الضباب عن التاريخ والواقع والتراث. إن الحفاظ بمعنى «الحفظ» هو التجميد الذي يُفضي إلى التشويه فالقتل، بينما يُفضي «النقد» إلى استعادة الحيوية والنضارة وتجديد شباب هذه الأمة، ومما قدمناه في كل ما سبق خير شاهد على ذلك، فعبد الصبور شاهين وبلتاجي وأتباعهما يُقدِّسون الماضي تقديسًا أعمى، وينفرون من أية محاولةٍ لإعادة اكتشاف هذا الماضي، بينما «الأسلاف» حتى القرن الرابع الهجري قادرون على «النقد» دون تقديس، ودون فزعٍ من الضياع، والإمام الشافعي نفسه، الذي كان خطابه موضوع تحليلنا يناقش خصومه — كما رأينا — دون استعلاءٍ أو تعالُم، ودون أن يقرر أن ما يقوله هو من قبيل البدهيات العقلية، فمَن الذي يدافع عن الشافعي ويحميه؟ مَن يكشف دلالات الخِطاب في سياقه التاريخي، أم من يكرر الأقوال وحفظها، ويُردِّدها دون أن يدرك مرجعيتها؟ في هذا التساؤل الأخير ينكشف المستور ويحمى الوطيس.

١  وقع هذا الحوار في مكتب رئيس الجامعة، وذلك قبل عرض موضوع «الترقية» على مجلس الجامعة، ولم يكن أحدٌ يدري أن الدكتور مأمون سلامة كان قد بيَّت النية على عرض الموضوع بطريقةٍ مُباغِتة على المجلس في غير دورته العادية، كانت هناك جلسة استثنائية لمجلس الجامعة لمناقشة مشكلات «فرع الخرطوم»، فأدرج مأمون سلامة الموضوع في هذه الجلسة تحت بند «ما يستجد من موضوعات».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤