تقديم

الشافعي (١٥٠–٢٠٤) والأشعري (ت.٣٣٠ﻫ) والغزالي (ت.٥٠٥ﻫ) ثلاث شخصيات هامَّة في تاريخ الثقافة الإسلامية عامة، والفكر العربي خاصة، وتَرجِع أهميتهم إلى تأسيس الوسطية التي يرى كثيرون أنها أهم خصائص التَّجرِبة العربية الإسلامية في التاريخ، وهي الخَصيصة التي تتجسَّد فيها «الأصالة» التي يتحتم على المُجتمَعات العربية والإسلامية الاحتماء بها في صراعها ضد أعدائها الساعِين إلى القضاء عليها، وإذا كانت مسألة الصفة «الجوهرية» الثابتة محل نزاع وخلاف، فإن الثابت تاريخيًّا أن الشافعي قد أسَّس «الوسطية» في «مجال الفقه والشريعة»، وأسَّس الأشعري الوسطية ذاتها، ولكن في مجال العقيدة، أما الغزالي فقد أسَّسها في مجال الفكر والفلسفة، اعتمادًا على تأسيس كلٍّ من الشافعي والأشعري، ولا غرابة في الأمر على كل حال؛ فالغزالي شافعي المذهب في الفقه، أشعري المذهب في العقيدة، وكِلا المجالين — مجال الفقه ومجال العقيدة — مجال أصولي، قد يُسمَّيان «الشريعة والعقيدة» وقد يكونان «أصول الفقه» و«أصول الدين».

ويعود إلى الشافعي فضل الريادة في هذا المجال؛ بما أنه الأسبق تاريخيًّا، وهي الريادة التي تجعله مؤسِّسًا لهذا التيار الفكري بكل دلالاته الاجتماعية والسياسية، والذين يريدون أن يجعلوا من هذا التيار الخاص حاكمًا على الثقافة والتاريخ والواقع يستندون إلى «أصولية» الشافعي من جهة، وإلى سيادة الأشعرية، وتوفيقية الغزالي من جهةٍ أخرى، ولعل الكثيرين منهم لا يدركون أن أسبابًا تاريخية — اجتماعية اقتصادية سياسية — هي التي دفعت بهذا التيار إلى موقع السيادة والسيطرة، وأن تغير الظروف والملابسات كان يمكن أن يدفع تيارًا آخر. ومعنى ذلك أن القول بجوهرية «الوسطية» واعتبارها سِمة أصيلة من سِمات الفكر الإسلامي والثقافة العربية قولٌ يحتاج للمراجَعة يكشف بُعْده الأيديولوجي، بما أنه قولٌ يرفع تيارًا فكريًّا ذا سماتٍ وملامح أيديولوجية — في سياقه التاريخي الاجتماعي — إلى مستوى الحقائق العقلية الحضارية الثابتة الراسخة، ولا يَتأتَّى هذا الكشف إلا ببيان الطبيعة الأيديولوجية لذلك التيار الوسطي التوفيقي التراثي أولًا، حتى يَتعرَّى من ثياب القداسة التي أُلبِست له في تاريخنا الثقافي والعقلي.

وتعتمد هذه الدراسة — منهجيًّا — على تحليل الأفكار والكشف عن دلالتها أولًا، ثم الانتقال إلى مَغزاها الاجتماعي السياسي — الأيديولوجي — ثانيًا، وبعبارةٍ أخرى ستكون الحركة من الداخل إلى الخارج، من الفكر إلى الواقع الذي أنتجه، وذلك لتجنُّب مَزالق التحليل الميكانيكي — الانعكاسي — إذا كانت الحركة المنهجية من الخارج إلى الداخل، ومن الطبيعي والمنطقي أن يُوضَع فكر الشافعي في السياق الفكري العام للعصر الذي أنتجه من جهة، وفي سياق المجال المعرفي الخاص — مجال أصول الفقه — من جهةٍ أخرى. إن أطروحات الشافعي لا تُفْهَم حقيقة الفهم بمعزلٍ عن الصراع الفكري الذي كان محتدِمًا بين «أهل الرأي» و«أهل الحديث» في مجال الفقه والشريعة، ولا يمكن لهذا الصراع بدوره أن يُفْهَم حق الفهم إلا في سياق الصراع الفكري على مستوى العقيدة بين المعتزلة وخصومهم من المُشبِّهة والمُرجِئة. وهذا الصراع المركَّب يحيل من داخله إلى صراعٍ آخَر مركب أيضًا يدور على مستويين: مستوى ظاهر، هو مستوى الصراع الشعوبي بين العرب والفُرس خاصة، وهو صراع كانت له أبعاده الثقافية والفكرية الواضحة، فضلًا عن تَجلِّياته الضمنية في أشكال الصراع الفكري المشار إليها، والمستوى الآخر هو مستوى الصراع الاجتماعي – الاقتصادي – السياسي، الذي كان يَتَّخذ في الغالب شكل الصراع الفكري الديني، ويتركز في النهاية حول تأويل النصوص الدينية.

وإذا كان فقه الشافعي، أو بالأحرى أصوله الفقهية، تتركز في أربعةٍ هي: الكِتاب والسُّنة والإجماع والقياس، فإنه في ترتيبه لهذه الأصول كان دائمًا يؤسِّس اللاحِق منها على السابق، فالسُّنة تتأسَّس مشروعيتها — أي بوصفها مصدرًا ثانيًا للتشريع — على الكتاب، وبأدلةٍ منتزَعة من منطوقه أو مفهومه، ويكاد القارئ لكتابات الشافعي أن يجزم أن تأسيس السُّنة هَمٌّ من هُموم مشروعه الفكري، إن لم يكن بالفعل همه الأساسي؛ لذلك لا يجب أن يغيب عن بالِنا المَغزى العام لِلَّقب الذي أُطلِق عليه — ناصر السنة — من حيث إنه يشير — بدلالة المخالَفة — إلى تيارٍ فكري آخَر لا يعطي للسُّنة المركز الثاني في الأصول التشريعية أو العقائدية؛ لذلك لم يكتفِ الشافعي بتأسيس السُّنة على الكتاب، بل حاول تأسيسها على أنها جزءٌ عضوي في بنائه من الوجهة الدلالية، وإذ يصبح الكتاب والسُّنة بناء عضويًّا دلاليًّا واحدًا يمكن للشافعي بناء الإجماع عليه، فيصبح نصًّا تشريعيًّا يكتسب دلالته من دلالة النص المركَّب من الكتاب والسُّنة، ويأتي الأصل الرابع والأخير في أصول الشافعي — القياس/الاجتهاد — ليصبح استنباطًا من النص المركَّب من الأصول الثلاثة السابقة، والحقيقة أن هذا الترتيب للأدلَّة ترتيبٌ يعتمد في الأساس على تحويل «اللانص» إلى مَجال «النص» وتدشينه نصًّا لا يَقل في قُوَّته التشريعية وطاقته الدلالية عن «النص» الأساسي الأول، القرآن، وآلية تحويل «اللانص» إلى «نص» وما تُؤدِّي إليه من تضييق مساحة الاجتهاد/القياس، يربطه بوثائق النص ربطًا محكمًا، آلية لا تخلو من مغزًى أيديولوجي، في السياق التاريخي لفكر الشافعي، وفي فكرنا الديني الراهن على حدٍّ سواء، وسنحاول في تحليلنا العَينِي لنصوص الشافعي الكشف عن تلك الدلالات، لكن الأهم في سياق هذا التمهيد أن نؤكِّد أن تحليلنا لأصول الإمام أصلًا أصلًا لا يعني الفصل بينها بقَدْر ما يُعبِّر عن ضرورةٍ منهجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤