١١

خلفت ميدان الأئمة ورائي، زحام الباعة، وزوار المرسي، والدراويش، وحلقات الذكر على رصيف البوصيري. رقيت الدحديرة خلف جامع المرسي، تطل عليها زاوية الست مدورة.

في نهاية السور الحجري، رنوت بنظرة إلى المتبقي من صورة الميدان، تستعيد زيارتي أضرحة الخمسة عشر وليًّا وجوامع؛ أبو العباس وياقوت العرش وأبو الفتح ونصر الدين.

ملت ناحية شارع ابن طيفور الضيق، المتسربل بالرمادية، ومنه إلى شارع الموازيني، طالَعني الجامع إلى يسار الميدان الصغير. محل الخردوات ذو الفاترينة الزجاجية يتوسط واجهة الميدان، وعلى الجانبين محالُّ الخضر والجزارة والبقالة، ومطاعم الفول والطعمية والمكرونة، وعلى الأرصفة مشنات الباعة السريحة، وكومات الزبالة.

بعد أن أزيلت مدرسة البوصيري، لم يعد جدارها الخلفي الملاصق للجامع يحدد سعة الميدان، تداخلت البنايات إلى شوارع الكناني والموازيني وأبي العباس والحجاري. تحول الميدان إلى سوق يشغي بالباعة والبضائع المكومة خارج الدكاكين.

فاعلم أن الفقيه ليس من فقأ الحجاب عين قلبه، إنما الفقيه من فهم سر الإيجاد، وأنه ما أوجده الله تعالى إلا لطاعته، ولا خلقه إلا لخدمته. إذا فهم هذا كان هذا التفقه منه سببًا لزهده في الدنيا، وإقباله على الآخرة، وإهماله لحظوظ نفسه، واشتغاله بحقوق سيده وخالقه، مفكرًا في الميعاد، قائمًا بالاستعداد، حريصًا على جمع الزاد، ذاكرًا ليوم التناد.

أشفقت على الشيخ محمد عبد الهادي. بطرف ثوبه ينفض الغبار من الجدران والمنبر، ودكة المبلغ، والسور المعدني المحيط بمقام الولي علي الموازيني. ألقى الناس حمولهم عليه، يشاركهم تحلق المقام بالأدعية والابتهالات والهتاف والصياح والصراخ، ما زاد من إيمانهم بالشيخ، تعلقهم به، أن الأمنيات والدعوات والشفاعات — بفضل بركاته — تحولت إلى تجسيدات، يفيدون منها.

لماذا حل الصمت؟

أوكل إلى النقباء ترديد دروسه على المريدين. ينقل عنهم من المريدين أئمة بيوت الله، لا يعطي الشيخ من وقته للمريدين، ولا طالبي الشفاعة والنَّصَفة. لا يعنيه إلا أن يظل في حاله، لا شأن لأحد بخلوته وعبادته، ولا بحياته. يجد في انشغاله بالعبادة ما يصرفه عن كل ما حوله.

يذكِّرني بالخليفة الشهيد علي بن أبي طالب، حين وجد في إيمان الغلاة بألوهيته ما دفعه إلى الأمر بإحراقهم في النار. قالوا — والنيران تشوي جلودهم — الآن نحن على يقين أنك أنت الله!

فاعلم أن التوبة أول طريق السالك، قوامها النية والإخلاص والمحاسبة والمراجعة، السالك الصادق في تعبده لا يطلب الكرامات ولا المكاشفات ولا المراتب. لا يشغله إلا أن يحصل على طمأنينة القلب بإعطاء الله حق عبادته. يرفض مراتب الولاية، ارتقاء درجات التحقق بالكرامة، تلقي النور الإلهي، كشف ما في ملكوت السماء، الطواف بالبيت الحرام دون انتقال، الإخبار بالغيب والمجهول وما تخفي الصدور، استرداد ما بدا اختفاؤه منهيًّا، الأكل من قليل الطعام فلا ينتهي، أكل الفاكهة في غير أوانها، ما ينتسب إلى الكرامات.

الحديقة الصغيرة — قبالة ميدان المرسي أبي العباس — تتوسطها نافورة من الرخام، تنبجس منها المياه، وحول محيطها الدائري أرضية من الحصى الملون. فرش على النجيل منديلًا محلاويًّا، بسط عليه قطع جبن قريش، وفحل بصل، وأرغفة خبز، راح يأكل في بطء متلذذًا.

سُمي «محمد» لأن أمه رأت في المنام — قبل ولادته — ولي الله أبا العباس يدعوها لأن تُطلِق اسم خير الخلق على المولود المرتقب.

تابعت انتقال جثمان ولي الله علي الموازيني من طرف المدينة إلى موضعه الحالي، بالقرب من جامع المرسي أبي العباس.

بدأ حياته قارئًا للقرآن في مقابر العمود. يعيش على ما يقدمه له زوار مقابر العامود من الأقراص والمنين والفاكهة، رحمة ونورًا على أرواح الموتى.

تعلم صنعة تجليد الكتب على يد أبيه. لما ضاق بها، وقف خلف طاولة خشبية بثلاث أرجل، يبيع المصاحف الصغيرة ودلائل الخيرات وبردة البوصيري ومناقب الصالحين والسبح والبخور.

في قراءة: سأل إبراهيم بن أدهم أحد مريديه: أتحب أن تكون الله وليًّا؟

قال المريد: نعم.

قال ابن أدهم: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة، وفرِّغ نفسك الله تعالى.

ذلك ما فعله الشيخ محمد عبد الهادي.

كان يخرج من بيته في حارة ابن ماء السماء قبل رفع أذان الظهر، يلحق الصلاة — في أبي العباس — في موعدها، ثم يهبط من الدحديرة الخلفية إلى شارع أبي العباس، يقف خلف الطاولة، يتركها لأداء صلاتَي العصر والمغرب في جامع الموازيني القريب، ثم يصلي العشاء في جامع أبي العباس، ومنه يعود إلى البيت.

أعرف أنه بلغ مرتبة الولاية، وإن لم يظهر بواطنه على ظاهره. عين ما يظهره هو عين ما يبطنه، عين اليقين، ونوره، وحقه. قرأ تراجم أهل الزهد والعبادة والإرادة من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومن تبعهم من الأئمة الأربعة وأئمة السلف والشيوخ والمحدثين. ألف — في داخله — تصاعد إشراقات مفاجئة. أخذ نفسه بالتستر والاستخفاء وراء سلوك حياة الناس من سير في الأسواق، وبيع وشراء، كثر اتصاله بالمترددين على الجوامع والمساجد والزوايا، واللائذين بالمقامات والأضرحة. سقى الماء احتسابًا في شارع الميدان. وكان يعظ في سيره أمام المحال التجارية والوكالات والمقاهي. ربما اتجه بكلماته إلى المارة، ما يقوله يجاوز الحكمة، أو النصيحة، إلى فعل يُقبِل المريدون على أدائه بنفوس مستريحة. يعظ كل جماعة بقدر مراتبهم العلمية، ومنازلهم، وإلمامهم بأمور الدين والدنيا، وما تسعه عقولهم من الفهم، من بلغ درجة النقيب يختلف عن الدرجات التالية. حتى الإنسان العادي الذي يعرف القليل من علوم الظواهر، فهو لا يملك الكلام بكلام أهل المعرفة. وكان شديد التأثر، وعيناه سريعتا الاستجابة، حتى أثَّر الدمع — لكثرة بكائه — في عينيه.

خلَّف أبوه أموالًا هائلة وعقارات وأراضي، تتيح له العيش في بحبوحة، فلم يأخذ منها شيئًا. أصر أن يكون إنفاقه وعيشه من تعبه وحُر ماله. ثابر على المشاركة في مجالس العلم. يتردد على المساجد، يستمع إلى القرآن والحديث والفقه والرأي، وحكايات الصوفية وكراماتهم ومكاشفاتهم، وعلومهم اللدنية، يزور أضرحة الأولياء ومقاماتهم، يكلم الولي كأنهما يتحاوران.

دعا نفسه إلى الله، قاوم ترددها وتخاذلها، وانشغالها بالمغريات. صار من أهل الجذبة. عرف المعاني الروحية، فانتقلت حياته من حال إلى حال. استوفى أولى المراحل، ارتحل بعدها إلى ما يليها، جعل الدنيا في يده، لا في قلبه، فهي غير دائمة ولا مقيمة. انصرف إلى المجاهدة، يحاسب نفسه في الدنيا اتقاء الحساب في الآخرة، يتجنب وسوسة الشيطان، يذوق حلاوة العبادات، يسمو عن الدنيا، يحلق في السماء، يتلقى ما يرد على قلبه من الأسرار الروحانية.

فني عن ذاته وإرادته، عمد إلى المجاهدة والرياضة، الخلوة والصوم والصمت والتأمل والتفكر وطلب العبرة، والسهر حتى يُؤذَّن للفجر. ظل بالإرادة الإلهية، يتعبد طيلة الليل، يصلي الصبح بوضوء العشاء، يتجرد من كل ما عدا الله. رؤاه تعرج في السموات العلا، يتمتع بالمحاضرة والمكاشفة والمشاهدة، يرجع إلى المرسي فيما يواجهه من مشكلات تهم الطريقة، يُعنَى بمشورة السلطان، يحرص على تنفيذها.

يرفض الملابس الثمينة، ولا يرتدي مرقعة الصوفية. لباسه مما يرتديه سواد الناس في أعمالهم. سجادته الصغيرة لا تفارق إبطه. يُمضي وقت ما بين أداء الصلوات في تنقية نجيل الحديقة الصغيرة، المطلَّة على البحر، وعلى الميدان.

لا يختار الموضع الذي يلتقي فيه مريديه. قعوده في الساحة العلوية المفضية إلى صحن أبي العباس، الحديقة المقابلة لمستشفى الأطفال، امتدادات ردم الخلاء أيمن خليج الأنفوشي، بين فراغات المراكب في ورش القزق، الساحة الترابية أمام صالون الحاج محمد سليط، قهوة فاروق بشارع إسماعيل صبري، وقهاوي الحي الأخرى، وقعدات الشاطئ، يتبادل الأحاديث مع الصيادين وغازلي الشباك وفريشة الحلقة، حتى الساحة وسط قلعة قايتباي، استغرقه فيها الأخذ والرد حول قضايا الدين والدنيا. يقرأ كتبًا سطورها الاستغاثات والأحزاب والأوراد، يستعيد — وهو ينظر إلى أرفف الكتب في الطابق العلوي المطل على صحن أبي العباس — ما يتذكره من الوقائع، يتكلم عن أحداث التاريخ وعِبَره. يجيد الإنصات، حتى للكلمات الهامسة، يهمل النظرات المستغربة لتدخله، يواصل الكلام بما يعكس متابعته. يحفز التلاميذ على الإفصاح عن مشاعرهم وأفكارهم. يبدو كأنه قد حصن نفسه ضد الانفعالات، لا ابتسامة، ولا تكشيرة، وصوته لا يعلو عن الهمس، يجيل الفكرة في ذهنه قبل أن ينطق بها، يحثُّ مريديه على طلب حقائق العزيمة، لا يأخذون بظاهر الأمور، دون أن يتعمقوا في المعرفة، ويُعنَوا بأن يضيفوا إليها. يتمنى لو أن الله منحه ما خص به ابن عطاء الله، هو الوحيد من شيوخ الشاذلية الذي ألف الكتب، وأقبل مريدو الطريقة، وغيرها من الطرق، على قراءة كتبه، يتنسمون الأنفاس الروحية، ويأنسون في طاعة الله.

لم تجتذبني الطريقة، شعاراتها وأعلامها وبيارقها، بقدر ما وجدت في شخص الشيخ ما يرضي قناعاتي. أسعدني قيامه بالأوراد — وسط مريديه — على طريقة الشاذلية، الورد كما تعلم يُقال في أوقات النهار، وأوقات الليل، أما الحزب ففي كل الأوقات.

قرَّبه من الناس أنه لا يتخذ حُجابًا، ولا صبية يمنعونهم لقاءه، ولا يستتر عن أحد، وأنه يغيث الملهوف، ويرشد الضال، وينبِّه الغافل، ويؤمن الخائف، ويؤنس المستوحش، ويؤثر بما في يديه على فقراء المسلمين، أحبوه، فامتثلوا لنصائحه وأوامره، واجتنبوا ما نهى عنه.

لا يجلس في موضع الصدارة. هو دومًا في دائرة المحيطين من أهل الطريق بسلطان الإسكندرية المرسي أبي العباس. ربما اختار لقعدته بسطة الباب الرئيس للجامع، قلبه متلفت إلى المسجد، لا يحب الابتعاد عنه، يجد فيه روح القرابة، وحلاوة الخدمة. يكثر من التلفت، في اطمئنان إلى غياب نظرات الناس، وإن حرص على نعمة الصداقة، وأنس الأخوة والمحبة، يسأل الدعاء من أصحابه، ومن المترددين على مجلسه. يمتلك قدرة مذهلة في أن يشعر بما يشعر به محدثه، حتى لو حرص على إخفاء ما بداخله.

على كتفيه عباءة بنية أقرب إلى «البشت»، لا يبدلها بتغير الجو. يده لا تفارق المسبحة، حتى دون أن يجري بإصبعيه على حباتها. حرص أن تكون الطريقة قليلة المريدين، وذات انتشار محدود، لكنه عميق. يؤمن بشعاراتها من ينتسبون إلى الطرق الأخرى، يقيم العهد مع الجدد من مريديه أمام مقام المرسي، يشهد السلطان على القسم، فلا يخرج المريد عن عهده، يعتزم إطاعة أوامر الشيخ، والسير على نهج الطريقة.

يلزم الحضرة، يجلس في الدائرة التي تقضي الساعات في العظات وتلاوة القرآن والذكر والإنشاد والتسبيح، وعدد من المريدين يُعنَون بتوزيع الأقمشة والمشروبات والحلوى، وحراسة الأحذية، ومنع الممارسات الخطرة عند أداء الطقوس. لا يشارك في المناقشات، ولا يبوح بما يشغله، طبيعته تميل إلى الاستغراق في التفكير، يكتفي بأن يجيب عن الأسئلة. إذا تكلم قال ما يرشد مريديه، يدلهم على آداب الطريق، يوجههم في السلوك، يحضهم على تجنب مزالق الشيطان، والنهي عن فعل ما يغضب الله ورسوله، والسير في أمور الناس على الطريق المستقيم. رفض أن تُسدَل الستائر على الطابق المخصص للنساء في جامع المرسي. المشربيات الضيقة الثقوب تكفي لدرء النظرات المتسللة.

قصَر عظاته — بالكلمات الطيبة — على أفعال الخير، وبالكلمات الناصحة، أو المحذرة، على الأفعال الشريرة، يراعي اتجاهها إلى متلقين متبايني العلم والفهم والوعي، فهو يستطرد، ويعيد، ويكرر ما قاله بكلمات تتسع بمساحة التلقي، تهمل مفرداته كلمات الحسد والحقد والفساد والكبر والعجب والفحش والظلم والقسوة والغلظة.

لماذا نقرن الفضائل بأضدادها؟

لماذا لا تقتصر مفرداتنا على العلم والعمل والتقدم والفتح، وغيرها من كلمات الخير؟

يحرص أن يضمِّن كلماته حكايات طريفة، أو مثيرة للانتباه، يتجه المريدون — بأعينهم واهتمامهم — إلى شفتَي الشيخ الطيب؛ يرهفون الآذان، يحرصون على ألا تفوتهم كلمة واحدة من عظاته، يلتقطون كل كلمة، يتفهمون معانيها. حين يتجه إلى القبلة، فإنه يصرف اهتمامه عن كل شيء، عدا خضوعه لبارئه.

لا إله إلا الله هي بداية حضرة الذكر، الصلاة على النبي ، جامعة لذكر الله ورسوله، يتلوها ما يعيِّنه الشيخ من الأوراد والأحزاب، التدريج على الأذكار بحسب المقامات والأحوال، تعلو الأصوات بالأحزاب والأوراد والابتهالات والتسابيح.

يرفض الشيخ مصاحبة الآلات الموسيقية لأداء الذكر، يقتصر الإيقاع على الدف وتهليل الذاكرين، أو ينبثق إيقاع الذكر من داخله، فلا حاجة إلى مصاحبة أصوات موسيقية من أي نوع. يتدرج الرسيم من الرصد إلى الدوكا، فالسيكا، فالجهر كاه، ثم الحجاز والرهاوي والكردي والبياتي والصبا. ينتقل الذاكرون — بإيقاع تصفيق الرسيم — من نغمة إلى أخرى، يعهد إلى مريد برشِّ العطر والماء. حين يعلو الإيقاع، ويشتد الذكر، يستولي الوجد عليهم من الحال، فيغيبون عن أنفسهم.

تظل الحضرة قائمة، حتى يعلو صوت الرسيم بالقول: تذاكروا يا أحباب!

ربما قاد حلقات الذكر بنفسه بدلًا من الرسيم، يحذر الذاكرين من أن يجذب انتباهَهم شيء غير ما هم فيه، فالملائكة تشاركهم أداء الذكر، ينظم حركات الرءوس والأجساد بتصفيق اليدين، والعبارات المغناة.

تنفضُّ الحضرة.

ينصرف المريدون إلى بيوتهم، وقد غسل الله خواطرهم — بإرادة الله — من قلوبهم، كأنها أثواب نزعوها.

ألفت قدماه التردد على زيارة زاوية الست مدورة، وقراءة الفاتحة أمام ضريحها. أشرف بنفسه على تجديد الزاوية. من الصالح أن تبرز المرأة العفيفة للرجال، تخاطبهم، تتحدث إليهم، تسألهم وتجيب عن أسئلتهم، وإن وجد في إسدال النساء، وعلامة الصلاة على جبين الرجال، معنًى يطمئن إليه، أن يعرف الناس دينهم جيدًا فهو خير. فرض الله الصلاة خمس مرات كل يوم، للعبد أن يزيد على صلاة الفرض ما شاء من السنن والنوافل.

يلحظ إن كان المريد يضمر في نفسه ما يرفض البوح به. من يحرص على السرية والتكتم، فلا بد أنه يخفي ما يعرِّضه للمساءلة، المريد الذي يواجه اتهامًا في دينه أو دنياه، يقسم على المصحف أمام مقام سلطان الإسكندرية، ينجو بنفسه إن كان صادقًا، وإن كان كاذبًا، أو يرتكب الخطأ، فيرفض الاعتراف، أو حتى قبول مراجعة النفس، يلحقه الأذى في جسده.

ألزم نفسه بطلب رضا الله بالأعمال الصالحة، وألا يقول إلا الحق، ولا يخاف إلا من الله.

أخذ على القطب عبد القادر الجيلاني أنه ظل ثلاثين سنة لا يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله، خالق السموات والأرض. هو يرفض النظر إلى السماء بحثًا عن الله، الله ليس في السماء وحدها، الله في كل مكان، حتى في نفوسنا، في داخل كلٍّ منا. نجده فيما قد لا ننتبه إليه من الكلمات والإشارات والإيماءات.

– العرش الإلهي لا يقتصر وجوده على السماء، لكنه في الحياة من حولنا.

وتعلو نبرة صوته وهو يسترسل بالقول: إذا لم يكن الله في قلوبنا، فلن نجده في مكان آخر.

ويهز رأسه في هيئة الحسم: لو أننا أحسنَّا تأمُّل دواخلنا، فسنرى الله، يرعى ويراقب ويثيب ويحاسب.

همس المريد شامخ زلطة بأنه هجر فراش زوجته.

– لماذا؟

– تسيء معاملتي.

– نحن نقطف الوردة من الشجرة، نشمها، ثم نتركها للموت.

ومسح وجهه بباطن كفَّيه: لماذا لا نشم الرائحة الطيبة دون أذًى؟!

تهيأت لإبداء رأيي، لكنه استرسل في الكلام: أخشى أن تكرر مشكلة الزوج الذي أراد أن يعاقب زوجته، فخصى نفسه.

– لا إخصاء، معاملتها السيئة أفقدَتني الرغبة!

– ابحث عن وسيلة عقاب أخرى بدلًا من الهجر!

حدَج — بنظرة مشفقة — رجلًا لاذ بالصمت لصق الحائط، آخر صفوف القعود. ارتكب من الخطايا ما توهم استعصاءه على المغفرة.

– إذا لم ترتكب الذنب فلن تعرف الندم، ولن تطلب المغفرة.

استطرد وهو يخفض من صوته: لا بد للمرء أن يذنب حتى يستغفر عن ذنبه.

وهمس في نبرة مواسية: أنت لهذا تزور أضرحة الأولياء تطلب الشفاعة من الولي، والمغفرة من الله.

قال الرجل: ذنوبي كثيرة، فهل يغفر الله لي؟

– حين يطلب المرء مغفرة الله فلا بد أنه ارتكب ما يدعوه إلى هذا الطلب.

ونفض التراب من جبهته بتأثير السجود: خير الخطائين التوابون. هذا قول الله.

قصده الناس من أحياء الإسكندرية، ومن المدن الأخرى؛ يستفتونه فيما غمض عنهم من أمور دينهم، يرفعون إليه مشكلات دنياهم.

أوصى حين وفاته أن يُصلَّى عليه في جامع المرسي، وتعدِّد الست الحسامدية ما أسداه له السلطان من التجليات والمشاهدات وتنسم الأنفاس الروحية.

الابتسامة التي ملأت وجهه، غيبت ما كان في ذهني، كل ما فيه يختلف عن الصورة الموجودة في ذاكرتي.

حدست من إسناد أذنه إلى راحته، وميله ناحيتي بأعلى صدره؛ أنه يعاني ضعفًا في السمع، لا يستمع جيدًا إلا إذا اقترب محدثه من أذنه.

كأنه يبذل جهدًا للبوح بما في نفسه: أذكر قولي لكم: اعرف الله وكن كيف شئت.

– أذكر كذلك أني قلت: استعذ بالله من شر الدنيا إن أقبلت، ومن شرها إن أنفقت، ومن شرها إن أمسكت.

وهو يرنو إلى موضع غير محدد في أفق البحر: أحيانًا أسأل نفسي: هل كانت الطريق التي سلكتها صحيحة؟

– في الحياة أشياء تستحق معاناتنا.

سرَت في صوته بحة: هل أنا عند الله كما يظن الناس؟

– لا تتسول حكم الناس على فعلك، أنت خير من يحكم على صحة ما تفعله.

– إن أنصت إلى الناس فيزداد حزني.

حدست أنه يفتش — وهو مغمض العينين — عن الكلمات.

– لا أملك سوى الكلام، والناس يحتاجون الفعل.

سكتَ، نظرتُ إليه بنظرة مستحثَّة.

قال: يقين الناس أنهم يحيَون بمناقب الأولياء، فما يستطيع الأولياء أن يفعلوا لصالح الناس؟

يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه، اجمع بيني وبين طاعتك على بساط مشاهدتك، فرِّق بيني وبين هم الدنيا وهم الآخرة، ونُب عني في أمرهما، واجعل همي أنت، واملأ قلبي بمحبتك، وبهجة أنوارك، وخشِّع قلبي بسلطان عظمتك، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤