١٦

أزمعت — قبل ميدان المنشية — دخول ساحة بناية السنانية. اسم السنانية كما تعلم يرجع إلى سنان باشا، خادم السلطان العثماني سليمان الأول. لم تُشيَّد البناية في عهده، ولا بأمر منه، لكنه صمم عشرات المساجد والجوامع والبنايات، وأشرف على إنشائها.

هي إضافة إلى الكثير من المساجد، والخانات، والحمامات، والبنايات التي تقدم الخير لفقراء الناس. أعود — في مكاتب الأوقاف — إلى المراجع والملفات والكتب والمذكرات والرسائل والوثائق ومحاضر التحقيقات، أفيد مما تحمله في تحقيق الانفراجة، تيسر حياة الناس، وتعينهم على فهم الصحيح. كلمات الخضر ألحَّت بما دفعني إلى السعي للقاء آخرين من المتصوفة والفقهاء والعلماء.

حياتي في العبادة والكتب والتلاميذ.

أحزنني تبدد ما في المكتبة من تراث يجب الحفاظ عليه، تسربت الكتب والمخطوطات والوثائق والرقائق، آلاف الأوراق بالعربية والفارسية والتركية والسريانية والأمهرية والعبرية واللاتينية والأرمنية والإنجليزية والفرنسية والروسية والهولندية. أقلام علماء مسلمين ورهبان ومؤرخين تناولت قضايا المسلمين من رؤًى متفقة ومتعارضة، تعمق فائدتها الفرمانات والخرائط والرسائل المتبادلة. بدت لي ذات قيمة علمية، ليس في أمور الوقف وحده، إنما هي مقصد الباحثين لدراسة أحوال المسلمين، ومسلمي مصر خاصة، في توالي العصور، منذ الفتح حتى الآن.

آخر ما شاهدته — في زيارة قريبة — أرفف خشبية غطت الحوائط، عليها كتب ومخطوطات وملفات ووثائق ورسائل، حافلة بقصص الأنبياء والزهاد والحكماء، وكتب الفقه، والأشعار الصوفية والأحزاب والأوراد، وقوام المتصوفة من البداية إلى إنشاء التكوينات، وآداب الحضرة، والوقت، والمقام، والحال، والاستماع، والرسائل التي تناقش ما يتصل بالتصوف، وقضايا التسليم، وعدم المجادلة، والعبودية والربوبية، والروحانية، وحقيقة الوجود المحمدي، وعلم الباطن، والمشاهدة، والمحبة، والحرية، والفناء الصوفي.

لماذا اختفت؟ من أخذها؟ هل أُودعت في مكان ما، أم أنها ضاعت؟

الرجل الخمسيني وراء المكتب الخالي من الأوراق وأدوات الكتابة. يرتدي صديرية بيضاء مقلمة على قميص بني. غطى رأسه ومعظم وجهه بتلفيعة، خمنت أنه مصاب بشلل في جانب الوجه.

هاتفته، وأنا أجول بنظرتي في الفراغ: أين ذهبت الملفات؟

غالب ارتباكه وهو يشير ناحية النافذة: في المخازن.

عاود الهاتف سؤاله: هل نبحث عنها هناك؟

– أغنت عنها الكتب. الحاجة إليها قليلة.

تعثرَت الكلمات على شفتيه، بدت الحروف ممضوغة.

استعدت ما ألفت العودة إليه؛ الصور، كتب المذاهب الإسلامية، المذكرات، الرسائل، الوصايا، عظات العلماء والفقهاء، أصول الأوقاف والتركات. حتى عندما لم تكن الصور موجودة، لجأ السلف إلى رسمها بتصور ملامحها.

قلت وأنا أتهيأ للمغادرة: الوثائق لا غنى عنها.

لم أجد في المبنى الذي وسمه القِدَم ما كان يحويه من المخطوطات والمؤلفات القديمة، والحديثة، ما يُعنَى بالجذور والأصول، الأحكام الشرعية، وفتاوى الأحوال الشخصية، والمواريث والوصايا، وحيثيات أحكام القضاء، ووثائق ملكية العقارات، والأوقاف على بيوت الله وأفعال الخير والأقربين. خلَت الجدران — أو كادت — مما رأيته قبلًا من الأرفف الممتلئة بالكتب والمجلدات والرسائل الأكاديمية ودوريات الصحف من الأرض إلى السقف. تعرَّت الأرفف المتبقية من الملفات، فوقها المتون والمذكرات والتقارير والبيانات، والخرائط والحواشي وعقود الملكية، والسندات وإيصالات الإيجار، ومحاضر التنازل، وفواتير الترميم والإصلاحات، وسجلات الصادر والوارد، وسجلات المديريات، وسجلات ديوان شورى المعاونة، ووثائق المصالح الحكومية، والمخطوطة الإسكندرية، والقصاصات المودعة في ملفات، والأطلس العربي، وفهارس الاطلاع والمصادر والمراجع، ما يصلني بما كان، كأني لم أتركه.

تنبهت — في اتجاهي ناحية الباب — إلى صوت قرب النافذة. بدت اليمامة — تحت الإفريز — مكوَّمة على ما أدركتُ أنه صغارها. بادلتها نظرات المحبة والإشفاق. ظلت في موضعها، ومضيت إلى الباب.

نزلت الدرجات دون أن أجد من تصورت أنه سيعينني.

سرت خطوات في اتجاه شارع السنانية، المفضي إلى شارع محمد كريم والكورنيش، ثم ملتُ إلى اليمين، في اتجاه ميدان المنشية.

توقفت لحظات — أول شارع فرنسا — أمام فرشة بائع الصحف على جدار صيدلية جاليتي، بالقرب من الميدان، قرأت العناوين، ثم واصلت السير.

خشيت أن يسرقني الوقت لو أني ملت إلى أيمن الطريق، الأسواق المتوازية والمتقاطعة؛ المغاربة، الطباخين، الخراطين، الحبالين، النقلية، الترك، الخيط، العطارين، المناخلية، المنجدين، الصيارفة، الحدادين.

خلَّفتُ الشارع في اتجاهي إلى ميدان المنشية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤