١٧

تساءلت بيني وبين نفسي عن تسمية الشاذلي؛ لماذا؟ مَن اختارها؟

تناهى الهاتف السماوي: إنما أنت الشاذلي، بتشديد الذال، يعني المفرد لخدمتي ومحبتي. أجد خدمة الله ومحبته في التعرف إلى مشكلات الناس، ما توسموا في الأولياء علاجها، أرشدهم إلى الطريق الروحي، فتبدو معالمه واضحة، يقطعون الأسباب التي تشغلهم عن الذات الإلهية، يستوحشون عن كل ما سوى الله، يرجعون إليه، يحافظون على حدوده، يبتعدون عن نواهيه، يجاوزون ظلمات الكثائف إلى نور اللطائف، وظلمات الهوى إلى نور التقوى، وظلمات السكون إلى شهود المسكون، وظلمات التدبير إلى إشراق نور التفويض.

ربما — لتقتطف زيارتي ثمارها — أجاوز بحري إلى حي مجاور. أزور ضريح ولي الله ابن أبي رندقة الطرطوشي، في نهاية شارع الباب الأخضر، ناحية باب الكراستة.

أبو رندقة الطرطوشي، عالم جليل ينتسب في موطنه إلى الأندلس، كما انتسب، وينتسب العديد من الفقهاء والعلماء. تعلم مبادئ العلوم في «طرطوشة»، مسقط رأسه، قبل أن يرحل إلى سرقسطة، حيث عائلة أمه. نذر حياته للعلم، لا حرفة تعلَّمها، ولا صنعة حاول التقوُّت منها، حتى التجارة غابت عنه مفرداتها من بيع وشراء.

حصَّل من العلوم ما يعينه على الجلوس إلى الناس، يتكلم بما يعرف، يُبدي الآراء في أحوال الدين والسياسة ومشكلات الحياة، يسألون ويجيب، يوضح ما غمض من أمور دنياهم وآخرتهم.

نفسه التواقة دفعته للاستزادة من المعرفة. أزمع أن يرحل — كما فعل الكثير من علماء الأندلس، وكل من انتوى أداء فريضة الحج — إلى الشرق. هو واحد من الآلاف الذين تركوا بلادهم بعد توالي سقوط دول الطوائف. مضى مع مئات الأندلسيين والمغاربة في رحلة النفي إلى مصر، ثم إلى مكة لتحقيق مقدمة غاياته. عاد بعدها إلى وطنه، أمضى ثلاثة عشر عامًا، ثم عاود الرحيل إلى المشرق؛ مدفوعًا بالحنين، وبما حصَّله من العلم، ومجالسه مع العلماء والفقهاء.

مال — في طريق العودة من مكة — إلى بغداد، المركز المهم لعلوم الدين الإسلامي آنذاك. أقام سنوات تردَّد فيها على معاهد العلم، وحلقات الدرس في المساجد، التقى العلماء الكبار؛ أبا حامد الغزالي وأبا إسحاق الشيرازي وغيرهما، تتلمذ عليهم، وأخذ عنهم. حصَّل من المعرفة ما يمهد طريقه، ثم انتقل إلى البصرة، فالشام.

عرف من دقائق العلوم والمعارف ما لم يعرفه معظم علماء عصره. أذكر قول عالم دمشقي: «إن الذي عند أبي بكر الطرطوشي من العلم هو الذي عند الناس، والذي عنده مما ليس عند غيره هو دينه.»

لم تأذن صراحته، والتزامه قولة الحق، أن يظل في الشام، بعد أن استقرت حياته فيها. رحل إلى مصر، اختار مدينة الإسكندرية، درَّس لناسها على المذهب المالكي، صارت مُقامَه، فلم يبرحها. سُئل عن ارتياحه للبقاء في المدينة، قال: وجدت قومًا ضالين فكنت سبب هدايتهم.

اجتمع إليه الكثير من الطلاب والمريدين وعوام الناس، يفيدون من دروسه وعظاته، يداومون — بإرشاده — على القراءة والاطلاع، يقرءون كتب الصوفية، منذ «سفر أيوب» إلى كتابات المحدثين؛ إحياء علوم الدين، رسائل إخوان الصفا، الرسالة القشيرية، الحكم العطائية، اللمع، قوت القلوب، اللمع السراج، بوارق الحقائق، الفتوحات المكية، الفيوضات الربانية، فتوح الغيب، الجوهرة في التوحيد، التعرف لمذهب أهل التصوف. يستعيدون تراجم شيوخ التصوف؛ سهل، ذي النون المصري، الحسين بن منصور الحلاج، عمرو المكي، الجنيد، ابن سبعين، الكلاباذي، أبي يزيد البسطامي، هذا الذي عاش لا يريد، ولا يحب، إلا ما أراده الله تعالى، وإن شرب في حياته ما لا نهاية له من شراب المحبة، ما كلَّ ولا ارتوى. أبان عن تواضعه بالقول: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه، فهو متكبر.

سأله تلميذ: متى يكون المرء متواضعًا؟

قال: إذا لم يرَ لنفسه مقامًا ولا حالًا.

أقدِّر سفر ولي الله الطرطوشي من الإسكندرية إلى القاهرة. مضى إلى دار الوزير الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالي، بما في داخله من ميل إلى الوعظ والصراحة التي ربما تثير الغضب. أذكر رده على الإمام أبي حامد الغزالي في «إحياء علوم الدين»، وما حدد به الصلة بين الحاكم والرعية في كتابه «سراج الملوك»، ما يجب أن ينتبه إليه الملك والوزير والوالي والقاضي والعلماء والصالحون. السلطان إذا عدل انتشر العدل في رعيته، فأقاموا الوزن بالقسط، وتعاطَوا الحق فيما بينهم. إذا جار السلطان انتشر الجور، وعمَّ العباد، فرقَّت ديانتهم، واضمحلت ثرواتهم، ففشت فيهم المعاصي، وذهبت أمانتهم، وضعفت النفوس، وقنطت القلوب، فمنعوا الحق، وتعاطَوا الباطل، وبخسوا المكيال والميزان.

بادر الجمالي بالسلام، استطرد بعد أن رد الوزير سلامه: «أيها الملك، إن الله سبحانه وتعالى قد أحلَّك محلًّا عاليًا شامخًا، وأنزلك منزلًا شريفًا باذخًا، وملَّكك طائفة من ملكه، وأشركك في حكمه، ولم يرضَ أن يكون أمر أحد فوق أمرك، فلا ترضَ أن يكون أحد أولى بالشكر منك.»

كوَّر الطرطوشي قبضته على مقبض العصا.

– ليس الشكر باللسان، لكنه بالأفعال والإحسان، فاتقِ الله فيما خوَّلك من هذه الأمة، فافتح الباب، وسهِّل الحجاب، وانصر المظلوم، أعانك الله على ما ولاك، وجعلك كهفًا للملهوف، وأمانًا للخائف.

أظهر الأفضل تقبله النصيحة.

غادر الطرطوشي مجلس الوزير، وفي داخله شك أن الملامح الباسمة تخفي نفسًا معتمة. عاد إلى حلقات تدريسه في الإسكندرية، لم تقتصر — كما بدأت — تحت بيته، امتدت إلى الخلاء والحدائق، وزاد عدد الطلاب والمريدين. أعد الطرطوشي نفسه لمواصلة ما بدأ حتى نهاية العمر، اقتصرت علاقته على تلاميذه، لا يتركهم إلى ذوي السلطة؛ ما أحنق قاضي المدينة أبا حديد، الذي استبدل الناس مجلس الطرطوشي بمجلسه. عمَّق مشاعرَ أبي حديد ملاحظاتُ الولي حول الترف الذي أحاط به القاضي نفسه، بينما الناس في فقر. أيقظ القاضي في نفس الأفضل ما كان غافيًا، فاعتقل الطرطوشي في مسجد الرصد الجنوبي بالمقطم، لا يتصل بأحد، عدا الخادم الذي أقام معه.

ظل الشيخ في معتقله، لم يبرحه، ولا عاد إلى الإسكندرية إلا بعد أن لقي الأفضل شاهنشاه مصرعه.

عاد الرجل إلى حلقات دروسه، تتلمذ على يديه الكثير من العلماء؛ أبو بكر بن العربي، المهدي بن تومرت، القاضي عياض، أبو الطاهر بن عوف بن مكي، سند بن عنان، وغيرهم من نوابغ العلماء. أمضى جانبًا كبيرًا من وقته في تأليف كتاب «سراج الملوك»، أربعة وستون فصلًا، قوامها العظات التي تُقال للملوك، ومقامات العلماء والصالحين عند السلاطين والأمراء، وعلاقات التابعين بمن هم أدنى، حتى ناس الأسواق.

قرأت «سراج الملوك»، كما قرأت مؤلفات الطرطوشي الأخرى، اثنين وعشرين مؤلفًا، تدور حول الكثير من أمور الدين والدنيا.

رحل الشيخ عن الدنيا في السادسة والستين من العمر. خلَفَه في مدرسته تلميذه سند بن عنان. نقل الكثير مما تعلمه عن أستاذه، واحتذاه في تعامله مع العلماء والطلاب وعامة الناس. تلاه خلفاء آخرون، إلى الخليفة الحالي بهجت المجذوب.

أزمعت زيارته بعد أن توضحت لي الصورة كاملة، تناثر الروايات عن حقيقة ما حدث، جعل الجلوس إلى الخليفة ضرورة. إذا مال المريدون إلى رفض أحقية الابن الأكبر بالمشيخة بعد موت أبيه، فإن الحفاظ على الطريقة أفضل في كل الأحوال من الخروج عن الطاعة.

لم تتبدل هيئة المكان عما رأيته في زياراتي السابقة، الأبواب والأقواس والأسقف من الخشب، الأفاريز والزوايا تعاني التشقق، المنور ذو النوافذ يضيء — حتى الليل — صحن المسجد. ضريح ولي الله أبي بكر الطرطوشي في حجرة إلى يسار القبلة. الإهمال على حاله. لم تعد تقربه يد بالتنظيف والرعاية، لحقته تشوهات فكادت تندثر معالمه.

قرأت الفاتحة لولي الله، ولتلميذه محمد الأسعد في ضريحه المجاور.

•••

وقف بهجت المجذوب على رأس الحفرة الترابية، حتى انتهى المريدون من توسيد جثمان أبيه القبر، بدءوا في إهالة التراب بالجاروف، حتى تغطى القبر تمامًا. أطلت نظرات متسائلة في أعين الواقفين، عشرات من عارفي فضل الشيخ، تلاصقوا في زحمة، وطوَوا الأعلام، كأنهم ينتظرون ما يقرره بهجت، أشار بيده ناحية باب الحوش، واتجه إليه.

أدار الناس رءوسهم ناحيته، تأملوه بنظرة فاحصة، تابعوا خطواته البطيئة حتى غيبته انحناءة الطريق.

قلَّب في دولاب أبيه، أخرج العباءة البيضاء ذات الإطار الأسود، كان أبوه محسن المجذوب قد استبدل بالعباءة جلبابًا أهداه له حمدون شكر الله شيخ الطريقة الوفائية حين عودته من الحج، لم يشغله أن العباءة كانت فضفاضة على جسده، همه أن يرتدي ثيابه، لاحظ خواص مريديه حيرته في كيفية إسدال العباءة على كتفيه، ساعدوه حتى اطمأن إلى اتساقها على جسده.

رجَّح الخواص أن يكون تعلقه بأبيه هو السبب لتصرفه، ما كان في نفسه يختلف عن هذا المعنى. أزمع — حين أقعد أباه مرضُ الموت — أن يفعل كل ما كان يفعله، يستعير نبرة صوته، يقلد حركاته، حتى مفردات كلماته يحرص أن يعبر بها.

اختار حجرة أبيه يقيم فيها، أخلى حجرته للخواص، تطل على شارع خير الله بك.

مال خطوات قبل نهاية صفر باشا، ناحية قهوة أنح. دخل المقهى، اختار طاولة تبعد عن المدخل، وعن زحام الملتفِّين حول طاولات لاعبي الطاولة والكوتشينة، تشمم رائحة بول، أدرك أن الباب مجاور لدورة مياه، اتجه إلى الناحية المقابلة. جلس على الطاولة المجاورة للباب، وألقى التحية. اعتاد الشيخ المجذوب الجلوس في الموضع نفسه، يقصده من لديه شكاية أو مطلب.

دار بالنظر حوله، يحاول اجتذاب النظرات المتسائلة.

بادر بالجلوس إلى جانبه، عدد من رواد المقهى، ومن الطريق، ساعة أو أقل، ثم استأذن في الانصراف، خشي أن يزول الحاجز بينه وبين الناس، طبيعة العلاقة التي حرص أبوه عليها، حتى رحل.

التوريث تقرُّه العقيدة والشريعة. من حق الابن البكر أن يَخلُف أباه في مشيخة الطريقة، هو الوريث الجدير بخلافة أبيه.

إنما جعل من نفسه ربانًا للسفينة، باختيار الخاصة من المريدين، همه أن يصبح الامتداد للسلسلة الطيبة، بنسبها وأفعالها وأقوالها.

أخذ مريدو الطريقة على أبيه العهد، العهد هو البيعة، البيعة عقد إلزام، يُلزِم المتعاقدين بالوفاء، الشيخ بالنصيحة وحسن التوجيه، والمريد بالإصغاء والعمل بما تطلبه حكمة الشيخ. من ينقض العهد كمن يرتد عن دين الله. أزمع أن تكون كل تصرفاته قائمة على هذه الحقيقة التي لم يكن يعرفها. تملَّكه شعور أن الأمر سينتهي على نحو جيد.

قرأ ما أعاره له الخواص من كتب تتناول آداب الطريقة، تعلم الكثير من العبادات والمجاهدات الروحية والمقامات والأحوال والكرامات والتجلي. قرأ في علوم الشريعة والحديث والتفسير وأصول الدين وفقه اللغة. حاول إحكام القراءة الصحيحة، ضبط مخارج الحروف، مراعاة الوقف، والوصل، والمد، والغَن. تمنى أن توضع جميع الكرامات — كما كانت لولي الله الطرطوشي — تحت سجادته. عرف أن الإتيان بالكرامات صفة ضرورية لتحقق المشيخة، وربما الولاية.

ترك لخواصه إفهام المريدين أنه ورث الأسرار الخفية من أبيه، شيخ الطريقة وراعيها.

كان المريدون ينفذون أوامر أبيه، لا يشغلهم تعب ولا مشقة، ما يعنيهم أن يُثبتوا خضوعهم لإرادة الشيخ. تبدل الأمر، فمالت نفوسهم إلى الاستيضاح وإثارة الأسئلة. يرفعون الرءوس دون خوف، يرفضون العمل من أصله، ويُؤثِرون البطالة، والتنقل بين المساجد والحضرات والمقاهي. آلمه ترامي صوت بالقول إنه لا يستحق العباءة التي يرتديها.

انفضَّ معظم المريدين. انصرفوا عنه، وأعرضوا عن تعاليمه. ثمة من طالب ما رآه لنفسه من حق شرعي في تولي أمور الطريقة.

بلغني أن الشيخ تاج الدين الخضيري ابتعد عن الطريقة؛ لم يعد يشارك في الحضرات، ولا في المناسبات التي تخص الطريقة. ساءه أن تُورَّث الولاية للأبناء، ربما تبعه أتباع آخرون.

جُعلَت موافقته — كما أوصى الخواص — شرطًا لقيام المريدين بعمل ما، لا يفعلون أي شيء ما لم يحصلوا على موافقته. هدَّد بعقاب من يتصرف من نفسه، أو لا يحسن تنفيذ ما يطلب.

أحس أنه بلا حول ولا قوة، لا يستطيع أن يفرض شرطًا ما، لا يستطيع أن يبدل أحوال الناس، ما لم يبدلوا أحوالهم. ضاقت دنياه بالعزلة والوحدة والظلمة والظل والتخفي والحذر والترقب والانتظار، والأشباح والأطياف والكوابيس، والتكتم والفزع.

الشاذلية كما تعلم تأخذ بالقرابة الشعائرية، شيخ الطريقة من تبين قدراته في تحمل المسئولية، توظيف إمكاناته ومواهبه في تيسير الصعب.

أعرف أن الشيخ عبد الحكيم المجذوب هو الذي بايع — قبل أن يقبضه الله — ولده على الخلافة. أذاع ذلك أمام خاصة المريدين، تأكيدًا للتأييد والمساندة، بعد أن تفقد كلماته — برحيله — تأثيرها. وراثة الابن لأبيه تعني انتقال الاعتقاد من الشيخ إلى أكبر أبنائه، ومبايعته خليفة لأبيه. الصوفية الحقيقية تفضِّل قرابة الشعائر بدلًا من قرابة الأبوة، للأب الطبيعي أبناء لا يزيدون عادةً عن عدد أصابع اليدين، أما الأب الروحي فأبناؤه، كل أبنائه الروحيين من أبناء الطريقة. مشيخة الطريقة تكليف من السماء، وليست بالتعيين. شيخ الطريقة لا يأتي بالوراثة ولا بالتعيين، إنما تختاره قلوب مريديه، يجدون فيه الراعي والقدوة والمثل، لا أحد يساوي شيخ الطريقة في مقامه، حتى يرثه — بعد رحيله — من يساويه، أو يقاربه، في العلم وتقوى الله.

قلت: تعلم أني لم أستخلف أحدًا من أبنائي الذكور.

وأغمضت عينيَّ بالتذكر الجميل: اخترت أبا العباس المرسي لأنه الأكثر علمًا، والأشد قدرة على رعاية المريدين.

ونقرت على الطاولة بسبابتي: طبيعي أن نغرق في البحر لو لم نكن نجيد السباحة.

قال بهجت المجذوب: لم أبدِّل شعيرة ألفوها أيام أبي.

– اعتادوا العيش في خلافة أبيك. من حقك أن ترثه، لكنهم ليسوا من الميراث.

وافتعلتُ ابتسامة: هم مريدو الطريقة، وليسوا مريدي المشايخ.

وهو يحك ظهر يده بظفر متوتر: يحزنني أن رءوسهم تنحني للصلاة، لكن النفوس طافحة بالكره.

– إذا كان حبك الله صادقًا فلن تجد ما يرقى إليه من حب البشر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤