٧

مسجد أبي الفتح الواسطي بالقرب من جامع أبي العباس — كما اعتدت رؤيته — فقير البناء، لا مئذنة له ولا قبة، أعمدة الصحن ثمانية، من الأسمنت المسلح. المدخل الضيق، البسطة المتكسرة الأرضية، السلالم الحجرية المنحولة، تصعد إلى الطابق العلوي.

اعتدت الدخول من الباب المغلق إلى القاعة الواسعة، المفروشة بالحصير. يندفع ضوء النهار من النوافذ — أعلى المنور — إلى داخل القاعة، يتدرج الشحوب في الداخل، حتى الظلمة الشفيفة. علقت على الجدران لوحات لقبر الرسول في المدينة والحرم النبوي، الحرم المكي والكعبة، البراق، ناقة صالح، الكعبة وفيلة أبرهة تهاجمها، سفينة نوح وما عليها من مخلوقات.

لا أتوقع — كما ألفت في زياراتي السابقة — ولي الله أبا الفتح الواسطي يتمشى متباطئًا، وكفاه معقودتان خلف ظهره.

شيخ الرفاعية بالإسكندرية. خلَّف ولي الله أحمد البدوي في القيادة الروحية لجماعة الرفاعية. استقر في الإسكندرية فترة، ثم انتقل إلى طنطا.

اختياره الإقامة في طنطا كان عن بصيرة وحسن رؤية. طنطا، طندتا، تتوسط المسافة بين ضريح ولي الله إبراهيم الدسوقي ومقامه، وبين مقامات آل البيت، وأولياء الله، أو أضرحتهم، في القاهرة.

أدين له بفضل إرشادي إلى أستاذي الشيخ الولي العارف الصديق القطب الغوث أبي محمد عبد السلام بن بشيش، الشريف الحسني. لما دخلت العراق، اجتمعت بالشيخ الواسطي، فما رأيت بالعراق مثله، وكان بالعراق شيوخ كثر، وكنت أطلب القطب.

قال لي الشيخ أبو الفتح: تطلب القطب بالعراق، وهو في بلادك. ارجع إلى بلادك تجده.

أذكر قوله: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أطاعه، ومن أطاعه قطع عن قلبه كل ما دونه، ومن حُرم المعرفة حُرم حلاوة الطاعة، ومن حُرم حلاوة الطاعة حُرم المؤانسة في الخلوة، فلا يجد في المعاملة رؤية المتعة، ولا يعرف قدر الله على الحقيقة، ويُقلَّب في الأحوال فيسقط عن استقامة السر مع الحق.

سبقني إلى إلقاء الدروس بجامع العطارين. يحثُّ تلاميذه على التمارين التأملية، وإدامة التدريب على لزوم الهمة، لا تصرفه عنها شواغل، ولا غفلات. يحرص أن يكون لكل تلميذ دوره في الطريقة. من تنقصه القدرة على نقل أفكار شيخ الوقت، يخدم التلاميذ ومحبي الطريقة بتقديم الطعام والمشروبات.

اللهم كن بنا رءوفًا، وعلينا عطوفًا، وخذ بأيدينا إليك أخذ الكرام عليك، وقوِّمنا إذا اعوججنا، وأعنَّا إذا استقمنا، وخذ بأيدينا كلما عثرنا، وكن لنا حيثما كنا.

أطلتُ الوقوف والتذكر أمام الضريح، تلوت الشهادتين والفاتحة وآيات من القرآن الكريم. انتبهت على قول الخادم: الشيخ مبروك يلزم — في الأيام الأخيرة — وكالة شارع الميدان.

فاعلم أن عمى البصيرة في ثلاث؛ إرسال الجوارح في معاصي الله، الطمع في خلق الله، التصنع بطاعة الله. هذا ما يصح نسبته إلى الشيخ مبروك أبي السعود.

باب الوكالة الخشبي يُفضي إلى فناء ترابي، تحيط به دكاكين ومخازن، وفي الطابق العلوي صالة واسعة، تحيطها غرف متلاصقة، مفتوحة، ومواربة، ومغلقة. في المواجهة ممر يفضي إلى الحضرة المطلة على الخلاء، يخلو فيها الشيخ مبروك أبو السعود إلى نفسه. تتوسطها مناضد مغطاة بالصاج، على قوائم خشبية، أو لصق الجدار. على الأرض حصيرة من البلاستيك الملون، وتتناثر وسائد صغيرة، متباينة الأشكال والألوان؛ للاتكاء عليها، أو للجلوس فوقها. زُين أعلى الجدران والأفاريز بالنقوش وآيات القرآن والكتابات العربية. مجامر البخور في الأركان والزوايا، تعلو بروائح المسك والعنبر والعود والصندل والمر.

في بالي ما أثاره في آخر خطبه عن إفشال مؤامرة لقتله. الملائكة تمنع السلاح من أن يصيب جسده؛ ضربات السيوف، طعنات الرماح، قذفات الخناجر والنبال.

هل يخاف الشيخ مبروك أبو السعود مريديه؟

يأتي المتشفعون ببركاته، يجلسون، يقفون، في وضع التأدب والخضوع، يحنون رءوسهم، ويكتِّفون أيديهم إلى ظهورهم. عدا الخواص، يراهم ولا يرونه، يسدل على جسده عباءة خضراء، وتكر أصابع يده مسبحة كثيرة الحبات، ويتمتم بأدعية تذهب الشر، وتقهر الشهوات، وتُخضِع النفس لله. ينتصر أولياء الرحمن على أولياء الشيطان.

أعد للانخراط في سلك طريقته طقوسًا خاصة، أولها طقوس الندامة والتوبة. إذا دخل التلميذ مجلس الشيخ، فإنه يخلع نعليه أمام باب الحجرة.

شدد على من يطلب الانضمام إلى الطريقة، حتى من ألزمهم المبايعة على السمع والطاعة، أن يعترف — بينه وبين شيخه — بما ارتكبه في حياته من ذنوب، فيشفع له عند الله.

لم يكن يأذن بأي خطأ، من يخطئ في التصرف الصغير، يفعل الشيء نفسه في التصرف الكبير. حدد دعوته بأنها لإيقاظ القلوب، وإحياء النفوس، وإخراج الضالين من الظلمات إلى النور.

يسكت عن الرد على أسئلة يرى فيها استفزازًا كي يكشف عن دقائق خصَّه الله بمعرفتها، فهو لا يملك أن يبوح بها حتى لأقرب التابعين.

أوصى المريدين ألا ينشغلوا بما يصدر عنه من كرامات، وخوارق يصعب تفسيرها. حذرهم من السؤال أو الاعتراض، المريد هو من تجرد عن إرادته، فلا إرادة له مع شيخه. لا يملك لنفسه شيئًا. المريد هو من يصير بين يدَي شيخه كالميت بين يدَي غاسله. إن أبى المريد سماع قوله، ردد تعاويذ، فسمَّره في الأرض، لا يقوى على الحركة.

قال إنه يتلقى الوحي مباشرة، ومنذ فترة طويلة، من الملك جبريل، يردد عليه ما ينبغي فعله، وينصحه. جعل إقامته في سرادق القرب، يرنو إلى التجليات الإلهية. تجلَّى الله عليه بالكشف عن مفاتيح الغيب، والتعرف إلى ما في خزائن الملكوت، تَصدُر أعماله عن الإلهام الإلهي، والهاتف السماوي، وأنباء الغيب.

جعل من مشاركته في سباق البنز، عصر يوم صيف، فعلًا ثابتًا، تنطلق عربات البنز ذات الجواد الواحد المزدان بأعلام صغيرة ملونة وشخاليل، من قصر رأس التين إلى قصر المنتزه. تعود من الطريق نفسها، يتقدم الشيخ السباق على جواده، في يده سيف خشبي يهزه، كأنه يتوعد أعداء العقيدة. يعي المريدون أن الأرض التي يطؤها الولي في السباق مباركة، وينسب الولي — من ناحيته — هتاف أبناء رأس التين والسيالة، كل إلى الآخر، ما يزيل عن النفوس صدأها.

يهتف أبناء رأس التين: سيالة يا سيالة … يا اللي ما فيكي رجالة.

يرد أبناء السيالة بالهتاف: قفة ملح وقفة طين … على دماغ راس التين.

حين تبادل مريدوه النظرات لعدم قيامه لوضوء أو صلاة، قال إن الله أسقط عنه التكليف، إلا إذا أراد، لا يصلي، ولا يصوم، ولا يسافر إلى مكة، ولا يطوف حول البيت الحرام، إنما الكعبة هي التي تطوف حوله، دون أن يبرح مجلسه.

فاعلم أن من يزعم رفع التكليف — سقوطه عنه — يعني إسقاط الشرائع. ذلك ما يرفضه الصوفية.

سأله خواصه — ذات أصيل — عن سبب شروده. قال إنه لم يشرد، إنما كان يطوف بالبيت الحرام، وجدد — في نهاية الطواف — وضوءه، وحضر صلاة العصر، ثم عاد.

يعتز بأنه أدى فريضة الحج من قبل أن يولَد. أتى المخاض أمه في آخر أيام أدائها مناسك الحج. نذرته المرأة من يومها لدينه.

قال لمريديه إن من يحرص على حضور مجلسه، والاستماع إلى عظاته، والعمل بما فيها، تحرم عليه نيران جهنم. أعلن امتنانه لأن ولي الله أحمد الرفاعي خصَّه بما يتفرد به عن بقية الأولياء؛ فهو يصلى الصبح — مثله — في البيت الحرام، والظهر في الروضة الشريفة، والعصر في المسجد الأقصى.

إن غلب عليه الحال، تكلم بلغات غير التي يتكلم بها الناس، يعرفون أنه يخاطب أناسًا آخرين في عوالم أخرى، أو أنه يخاطب ملائكة من جند السماء. وله صحبة مع الجن، يعينونه على قضاء حاجات الناس.

سلب المريدين قواهم وأفكارهم وإرادتهم، صاروا مثل الأوراق التي تبسطها إرادته وتطويها. هو قطب الغوث، يتصرف في الوجود، لا معقب لمريديه على أوامره، المريد لا يبدي رأيًا، ولا ينفذ قرارًا، إلا بعد أن يرجع إلى الشيخ، يعرض عليه الأمر من ألفه إلى يائه يطلب المشورة، وما ينبغي فعله.

جذب المريدين إلى حضرته، فلا يستطيعون التحول عنها، لا يفارقونه إلى شيخ آخر، أو ينتمون إلى طريقة أخرى، الطريقة ليست رداء ننزعه بالضيق، أو الملل، نختارها فتلتصق بجلودنا. العهد صلة يملك الشيخ فصمها وحده.

إذا انقطعت الكهرباء، واصل المريدون تلاوتهم للقرآن، وقراءتهم للأوراد والأحزاب، في ضوء الهالة المحيطة برأس شيخ السجادة.

صار له — بكثرة الأتباع — نجدة ومنعة على من ينافسه في طريقة أخرى، يأتمرون بأمره، ويبطش بأيديهم.

يلتقي أتباعه داخل المساجد والمقاهي، ربما اندسَّ أحدهم وسط لمة المتفرجين على صيد الجرافة، لا يعرف الناس أين يقيمون، ولا الأعمال التي يمارسونها، حدس حتى مشايخ الطرق أنهم مريدو فرقة صوفية مما تشغل خيامها وسرادقاتها ميدان أبي العباس. وزع أعوانه في المدن والقرى والبنادر وتحت الجسور، يرتدون أزياء مختلفة، يتكلمون لهجات تنتسب إلى الأقاليم.

تمنيت — في سيري ناحية جامع ياقوت العرش — أن يستغفر الشيخ رب العالمين مما جرى منه من أقوال وتصرفات قاسية في حق مريديه.

أخذت عليه تشدده؛ فهو يرفض أن يجالس المريدون شيخًا غيره، ولا يأخذون العهد على شيخين، مهما تكن البواعث التي يستندون إليها. اقتصار المريد على شيخ واحد، لا يبدله؛ لأنه اختار الأكمل في ظنه، الأفضل بين المشايخ الذين اقتعد مجلسهم، والاستمساك به واجبه وحقه. اكتسبتُ شخصيًّا — واكتسبَت الطريقة — تسامحًا؛ لأني أخذت العهد من مشايخ الطرق جميعًا.

لا يشغلني انتساب المريد إلى فرق مختلفة، ما يهمني أن يتشاركوا في المجاهدة، وطلب العلم.

المطر لا تصنعه سحابة واحدة.

استعدت في نفسي قولي للمريدين: اصحبوني، ولا أمنعكم أن تصحبوا غيري، فإن وجدتم منهلًا أعذب من هذا المنهل، فرِدُوا.

لم أضق برقم السبعين الذي بلغته فرق الشاذلية، تفرعَت عن الفرقة الأم فرق، تفرعت منها كذلك فرق أخرى، حتى بلغت ما انتهت إليه، أو أنها ربما تزيد إلى أرقام أكبر، الطرق إلى الله كثيرة، تفضي جميعها إلى الرحاب العلوية.

لا تثريب على المريد لو أنه أخلص في فهم الكتاب والسنة بمراجعة تعاليم أئمة التصوف، وأئمة الفقه، والعلماء الصالحين. للمريد — بعيدًا عن الطريقة التي ينتمي إليها — أن يختار من يأخذ عنه العلم، يتنقل بين يدَي شيوخ الطرق وأرباب القلوب والمعاملات، دون أن يسيء ذلك إلى شيخ طريقته، يختار من الفرق ما يجد فيها قربًا إلى نفسه، ومن الشيوخ ما يطمئن إلى دروسه ووعظه وإرشاده. إذا استقر اختياره، فإن الالتزام هو الطريق التي لا يبدلها، يخضع المريدون لما يرشدهم إليه من سلوك. إعجاب المريد بشيخه، وتتلمذه عليه — هذا ما ينبغي — لا يَحُول دون أن يطلب العلم من المشايخ الآخرين، يلجأ إلى كل من يُتاح له الأخذ عنهم من أهل العلم والفقه. الذي يرفض أن يتبع تلاميذُه شيخًا آخر إنما يخاف في نفسه قوة الفِرق الأخرى.

قلت للشيخ في هاتف: إلى أين وصلت رؤاك؟

رُوي أن الشيخ رأى — ذات أصيل — تغيرات كونية لم يُتَح رؤيتها لبقية الأولياء والناس العاديين؛ غليان في مياه البحر تصاعد منه بخار شكَّل سحبًا في سماء المينا الشرقية، مذنَّب تهاوى في نهاية الأفق، تعالي أدعية وتسابيح وابتهالات وإنشاد غائب المصدر.

فسَّر الشيخ ما اقتصرت رؤيته له من متغيرات كونية، بأنه في تلك اللحظة وُلد إمام العصر، وقطب الزمان.

تلفَّت الشيخ بالتشكك والحيرة: الإشارات تعددت في حياة الناس، لكنهم لم يفطنوا إليها!

قلت: تنبأ المشايخ من قبل كثيرًا بنهاية الزمان، والزمان باقٍ، لا يعلم نهايته إلا الله.

ورنوت إلى أسطح المدينة ومآذنها وقبابها وأبراجها وبناياتها العالية.

– شيخ المتصوفة يحب مريديه بلا علة، ولا يردُّهم بارتكاب زلة.

ذكَّرني بقول لي: على المريد أن يعتصم بالشيخ، ويتمسك به تمسُّك الأعمى على شاطئ البحر بقائده، بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، فلا ينازعه في الأمر، ولا يخالفه.

قال: اعلم أن من قال لشيخه «لمَ» لا يفلح أبدًا.

وهو يحرك سبابته على نقوش السجادة: من لا شيخ له فالشيطان شيخه.

– شيوخنا كل من علمونا الدين.

من مفردات الصوفية وتعبيراتها: العزلة، الخلوة، السهر، الورع، الزهد، التقشف، الصمت، التأمل، التفكير، المجاهدة، الصلاة، قراءة القرآن وصحيح البخاري، الذكر، الحضرة، الأدعية، الابتهالات، الإنشاد، مجالس الصلاة على النبي، القطب الغوث، الأقطاب، الأبدال، النقباء، الإشارات، الرموز، الألغاز، الجذبة، الصعقة، الغيبة، المحو، السكر، الشوق، المكاشفات، المشاهدات، الإشراقات، المقامات، القبض، البسط، القرب، الأنس، المحبة، المراتب الروحية، وغيرها مما يشق مسالك الأحبة.

همني أن أسبر غوره، ماذا يضمر في نفسه؟

– يؤلمني أنك تكفِّر من يستعصي عليه الفهم!

أخرج من جيب العباءة منديلًا محلاويًّا، فرده، مسح به رأسه وجبهته ووجهه.

– لم أحلل إلا ما يستحق التسمية، وحرمت الخبائث.

– ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.

وأنا أضغط على مخارج الكلمات: وجادلهم بالتي هي أحسن.

علا صوته مغضبًا: ما قيمة الدين إن لم أمارس شعائره؟

وشوح بيده: إذا رضي مولاي عني فلا أبالي بسخط سواه.

كما تعلم، فإنه عندما يواجه الشيخ آراء مريديه بالقوة، يحاول قمعها؛ فهذا دليل ضعفه.

همست بالسؤال: من شيخ طريقتكم؟

ضرب الأرض بعصاه: إذن فأنت تنكرني؟!

لاحت في الأفق نُذر شيء غيبي، لا أعرف كنهه ولا تأثيراته.

– النصيحة واجبي. من حقك أن تقبل نصيحتي أو ترفضها.

حملق في وجهي، كأنه لا يصدق ما قلت.

قلت: عندما تعمق الكراهية، فلن تجد في آراء من تكرهه، أو حتى تصرفاته، ما يدعوك إلى قبولها. سوء الظن يبقى جسرًا وحيدًا بينك وبينه.

علا صوته بالغضب، فانتفخت عروق رقبته: من يرفض الدواء ليس عليه أن يأمل البرء من المرض!

– إذا لم تفهم أفعال الناس لقاء كلماتك وتصرفاتك فستظل الجدران قائمة بينك وبينهم.

داخَلَني إشفاق لتقلُّص ملامحه: أن يحب المريد شيخه أفضل من أن يخافه!

– أشعر أني محترم في نفسي، لا أطلب الاحترام في أعين الآخرين ولا كلماتهم.

ومد يده، يمسح الرذاذ المتناثر من فمه على كتفي: الشيخ الحقيقي لا يستحي من أفعاله.

علا صوتي بما لم أعهده في نفسي: انفضَّ عنك أتباعك فلن تجد من تقوده، وإذا أديت صلاة الجماعة فلن يشاركك الصلاةَ أحدٌ.

زفر في نفاد صبر. ضرب الفراغ بعصاه:

– أنا لا أجبر أحدًا على الأخذ عني!

أهملت التلميح الذي وشت به كلمات الرجل:

– افعل ما ييسر لك الله فعله.

– هذا ما أفعله.

ملتُ بظهري إلى الخلف، بتأثير الجلسة الساكنة الطويلة:

– حتى لو حاولت من ناحيتي أن أصنع شيئًا فسيكون حرثًا في البحر.

وتهيأت للنهوض: ما لم ينقذك الله فستظل بعيدًا عن الطريق حتى تتوه.

عامل الشيخ مبروك أبو السعود مريدي الطرق بالترغيب والترهيب، والمنح والمنع، يفسح صدره لمن يقصدون حضرته، يصبر على مريدي الفرق الأخرى إن لزموا المسالمة.

مال إلى حب الرئاسة والجاه والمدح وخوارق العادات. أملى عليه طموحه أن يتسلط على الفرق، يجد في اختلافاتها، ونزوع شيوخها إلى القسوة، ما يدفعه إلى التسلل بأتباعه.

سكت مريدو مشايخ الحي عن الشرط الذي حمله أتباعه، أن تكون كلمته نافذة على كل الشيوخ، يلتزمون بما يقضي، لا يفتي أحد مشايخ الطرق دون أن يعرض عليه اجتهاده. من يأذن له بوِرد يرفض أن يتركه أبدًا، هو الورد الذي رضي به الشيخ، ومن واجب المريد ألا يخالفه.

جعل له مريدوه منزلة أفضل من منازل شيوخ الطرق الأخرى. تجري الأمور وفقًا لما يراه الشيخ، ويقضي به، وسط الحلقة، يؤمِّن المشايخ ومعلمو الحلقة وعامة الناس على كلماته، وما يقضي به من أحكام.

قلت في حزن حقيقي: أخشى أن تفقد الأمر والنهي في هذه الجماعة.

ورفعت صوتي ليعلو على ضجيج الزحام: ربما لا يكون لك مكان بين ناس بحري.

تابعته وهو يمضي في اتجاه البحر، عدت إلى الميدان بعد أن غيَّبَته انحناءة الطريق إلى الكورنيش.

لم أناقش — حين عودتي إلى حميثرا — ما بلغني من روايات الناس في بحري، القلة من المقيمين في البنايات المتقاربة، أو المتلاصقة.

شاهدوا مبروك أبا السعود وهو يركب جواده على الأرض المسفلتة، بين البنايات المتقاربة في نهاية لسان السلسلة، تقافز الجواد فوق رمال الشاطئ، في سيره نحو البحر، أثارت حوافر الجواد رذاذًا متناثرًا فوق الموج الساكن، لما بلغ العميق، جذب لجامه، فهبط في الموج بكل جسمه، الدوامة الهائلة اتسعت دوائرها، تقلصت مساحتها حتى التلاشي.

أدرك المحو ما كان من أمر الشيخ أبي السعود، زال من حياة الناس، كأنه لم يكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤