٨

خلفت شارع سيدي كظمان أمام جامع الولي ياقوت العرش بميل للسيالة، حتى جامع الولي نصر الدين.

فسر لي الخادم مسعد بواعث تقاعس الشيخ عن استقبالي، هو مشغول فيما لم يتصور حدوثه، ولا كيف يعالجه.

كان الشيخ نصر الدين تلميذًا لأبي العباس، فهو مريد لأخص خواصي. هل انشغل بما كان عمله زمن حياته في الدنيا، قاضيًا شرعيًّا لأهل مصر.

تنقل مسعد بين الشمعدانات، في الجوانب والزوايا، غرق المكان في ضوء أميل إلى الشحوب.

شمل الشيخ عوض البابلي — واعظ مسجد نصر الدين — صحن المسجد بنظرة متأملة، المنبر والمحراب والنوافذ والأبواب، والرخام الملون في الجدران، والأرضية والنجفة الهائلة المتدلية من السقف، والقناديل المعلقة في الجدران، قبل أن يمضي — عبر الردهة الضيقة — إلى حجرة مقامه القريبة من الباب الخلفي.

لحقه صوت الخادم: المريد محمد عبد الشكور يلتمس العفو.

علا صوته الأجش: لو أنه أهمل طلبًا لي فلا بأس.

أضاف بنبرة تسليم: السهو عن ذكر الله يغفره الله وحده.

بدا صحن المسجد خاليًا، إلا من ثلاثة شكلوا ما يشبه الدائرة بالقرب من المدخل، وفرغوا لقراءة القرآن.

قال الشيخ في صوت متأثر: لم يعد أصدقاؤنا يأتون.

أمَّن مسعد بهزة رأس: آخر من كان يأتي حامد الملواني، اعتذر بأن المسافة بعيدة بين المكس وبحري.

هل تذبل الطريقة؟ هل تفقد مكانتها بين الفرق الأخرى؟

ما أراده الشيخ، وسعى إليه أن يكون مثلًا، يحاكيه من يختارون الصوفية طريقًا وملاذًا، عظاته للتنبيه والتحذير والإشارة إلى الصراط الذي نحسن السير فوقه، فنتجنب الجحيم. هي تنبيهات شرعية، تحذر من غواية الدنيا، فالآخرة خير وأبقى.

أولى نصائحه لمريديه أن يجاهدوا الأنفس، ويتدرجوا في المقامات والأحوال. خاف أن ينصتوا إلى صوت أنفسهم، فيخضعون — دون تنبه — إلى أهواء تقذف بهم إلى موارد الهلاك. طالبهم أن يكون جهادهم في البداية ضد أنفسهم، ضد ما قد تطلبه أنفسهم من المغريات. قال إن طهارة البدن عن النجس شرط في صحة القادر عليها، وإن عامة عذاب القبر من عدم التنزه من البول.

صنع الشيخ عوض البابلي ما رآه تعبيرًا عن نصائح الولي. تكررت تحذيراته من أن يؤدوا الصلاة بدون نية صادقة، يكبروا ويركعوا ويسجدوا من قبيل العادة، ورفع التكليف. وكان يطيل الصلاة، يصل ما بين التكبيرات بأدعية وابتهالات. حاكَوه في طقوسه؛ يطيلون الصلاة، يعتدلون الانتصاب فيها، يحرصون على التمكن والتطويل للركوع والسجود، رفع الأيدي للركوع، لزوم الصمت إلا لضرورة، إبطاء الخطوات، إرخاء العيون، إخفاض الرءوس، دوام الهيبة والوقار.

تعددت حالات طرد المريدين على ترك الصلاة في أوقاتها، منع الخلط بين أوقات الأحزاب وأوقات الأوراد، الأحزاب تُقرأ في أوقات محددة، والأوراد بلا وقت محدد لقراءتها. إذا طرد مريدًا من حضرته، فإن المريد لا يبرح الباب، يظل في موضعه، متمنيًا الصفح عما يكون قد أغضب الشيخ. تصيب عيناه كل من يسير في الطرقات عند رفع الأذان، لعله من مريديه. يلزم المذنب بالاستتابة، يقر بما فعله، ويطلب الصفح.

عرفت، بالقرب، أن الحياة الدنيوية — في نظر الشيخ عوض — بلا قيمة. صدق اليقين لا يتحقق بغير الخوف من الله تعالى.

نحن نرى مصائرنا في أجساد من سبقونا إلى الموت.

وتساءل: هل تعرفون كيف يتحلل الجسد؟

عاب على مريديه الفقر الروحي، وغياب المعرفة الصحيحة. حثَّهم على أن يقتدوا — وبقية الناس — بأقواله وأفعاله، رفض أن يسعَوا فيما يسعى إليه الناس من نعيم المعاش، يمارسون الظواهر دون المعاني التي تعبر عن صدق الإيمان، دعاهم لتصفية قلوبهم من شوائب النفس والدنيا، والاقتداء بسنة النبي، وأكل الحلال، وكف الأذى، وتجنب المعاصي، وأداء الحقوق.

ألف المريدون تحذيراته من الوقوع في الفتن، والالتفات إلى شيء من متاع الدنيا، ينخلعون عن طمأنينة الأمن بمطالعة الخبر، يتيقظون بنداء الوعيد.

ينطق لسانه بالمؤاخذة والتقريع عندما يجد بادرة خطأ، أو انحراف عن جادة الدين، يُظهِر المجانبة لمن أنسوا إلى شيطانهم. لا يشغل الشيطان نوعية الذنب الذي نرتكبه، ما يشغله هو الذنب مطلقًا، أن يرتكب المرء ذنوبًا وليدة غواية الشيطان.

عندما اختاروه شيخًا للطريقة، فإن معنى ذلك هو اصطفاؤهم له من بين كل المشايخ، أخذوا العهد عليه بالاتباع، والتسليم له في كل ما يصدر من أوامر وتوجيهات. عَمُق المعنى برضا الولي، القطب الأعظم، عن نهجه وأفعاله.

حدد مريديه بأنهم أهل البصائر والقلوب، ميزهم بكثرة العلم والمراقبة والزهد والخشية وعلو الهمة، وتنقية الظاهر والباطن من المخالفات الشرعية.

طريقه هي ما أجمع السلف على السير فيها، طالت عظاته في الخوف من عذاب الآخرة. طالب مريديه أن يخلعوا عن أنفسهم ما يرتدونه من زخرف الحياة وزينتها، لا تشغلهم الشهوات عن ربهم ودينهم، ولا تدفعهم الموبقات إلى ما يصعب حصره. هو يلقي الخوف في قلوب المريدين؛ حتى يتقوا عذاب الآخرة، سبيلهم العبادة والمجاهدة والزهد في الدنيا.

كانت عيون المريدين تُعلَّق بشفتيه، تلتقط كلماته وتهديداته، أشد ما كان يتعبهم، عندما تأخذهم لحظات ممتدة بالصمت، والسكينة، والتفكر في الله. يفاجئهم بالصيحة: النار!

تشمل الرجفة أبدانهم، ويكتمون الصرخات، تجتذبهم دوامة الخوف، يحذرهم من الغرور، والفتنة، والحرص على الدنيا، وفي يوم لا يجد المرء حوله سوى زبانية جهنم، يصحبونه إليها، يُعاقَب بما فعل في الدنيا. نحن نأتي إلى الدنيا دون أن يكون لنا رأي، ونذهب عنها دون أن يكون لنا رأي، أنتم تملئون البطون، وترضون الشهوات، وتعيشون البطالة، ثم ترفعون الرءوس إلى السماء بالاستغاثات، السماء لا تغيث إلا من يخلص لدينه وآخرته.

– أنا لا أعظكم لتدبير شئون دنياكم، إنما أعدكم ليوم الحساب.

أجمعت خطبه على ذم الدنيا، وتقبيحها، والتنفير منها. يسرف في تخويفهم حتى يأخذ معظمهم البول، دعاهم لأن يُلزِموا قلوبهم ذكر الموت، حتى تغيب الدنيا من أذهانهم تمامًا.

جعل الكتاب والسنة مدخلًا لدروسه، لا يميل إلى ما يخالفهما. حتى الأفكار التي تتولد من التأملات والرؤى، يحرص ألا تأخذها التهويمات والمعاني الخاطئة. نحن لا نعرف شيئًا حقيقيًّا عن أنفسنا، ولا نعرف ما يقدره لنا الله، علينا أن نعمل ما وسعنا، ونتقبل النتائج دون اعتراض.

حدد طريقًا واحدة إلى الله، هي الذل والانكسار والمسكنة. ألح على الخوف من الموت والآخرة والحساب والعقاب. تشهد على أفعال المرء كل أعضاء جسده؛ الجلود والرءوس والآذان والأعين والأيدي والأرجل والألسنة وكل ما شهد أفعال المرء من داخل نفسه. حظر على النساء نزول البحر، البحر ذَكر لا يجوز للمرأة أن تنزل في أمواجه.

أخذ على مريديه فهمهم للنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي. ساءه انشغالهم بأحاديث لا تتصل بما جلسوا من أجله، أبدى ضيقه من رفع الصوت في حضرته.

جال في عيونهم بنظرة ألزمتهم مواضعهم، فرغ لما بين يديه من قراءة، ثم أعاد النظر إلى عيونهم، فتنبهوا، فارقوا ما كان يصدر عنهم من تشوش. أشد ما يحرص عليه حفظ الحدود، وأداء الشريعة.

عُني بتوضيح اجتهاداته وآرائه المغايرة؛ ينكر الصلاة على النبي العظيم بعد الأذان، فهي لم تكن زمن الرسول، قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فالقرآن كله واحد، صلاة الجمعة في الشوارع والميادين، دعاء النصف من شعبان، احتفالات المولد والجلوات، الذكر أمام الجنائز، قراءة القرآن في المآتم، وعند القبور، زيارة الأضرحة والمقامات، التوسل بالأولياء والصالحين أحياء وأمواتًا، التمايل في حلقات الذكر، والذبح لأصحاب النذور، يرفض الأذان الذي يطيل المؤذن مفرداته ويمدها، التبليغ خلف الإمام، المبادرة قبل الفجر ويوم الجمعة. من يتأخر عن موعد بدء الحضرة، يجد الباب الداخلي موصدًا، يُضطر إلى التمدد في البهو حتى تنفضَّ الحضرة، فينفتح الباب.

أن تتوافر في داخل الصوفي شروط الولاية، أفضل من ارتداء الثوب القشيب، والعيشة الأبهة، وخلع ألقاب التدين والعلم، ما أحرص عليه، ما يجب أن يحرص الولي عليه، هو التواضع والمباسطة.

همه إقامة الطاعات بأحكامها وآدابها، هو المرشد والموجه والناصح، كلمته لا بد أن تكون نافذة. وكان يكثر من التحميد؛ لأن مريديه يحاولون الاقتراب، وإن لم يبلغوا الهدف.

يطيل الكلام حتى تنطق وجوه المريدين بالتأسف والحسرة على الأيام التي لم يأخذهم فيها اليقين.

ألف الناس صعوده أعلى المئذنة، يكبر — بأعلى الصوت — ويهلل، ويسبح، ويستغفر، ويصلي على رسول الله، ويسلم عليه، تتلفت عيناه كأنهما تحرصان على التقاط أية حركة، يظل السيف الخشبي في يده، حتى يلقي الخطبة، ويتهيأ للنزول من المنبر.

يتقارب مريدوه، اثنان أو ثلاثة، لا يبلغون الأربعة فلا تتعالى الأوامر الزاعقة، يستعيدون ما حدث، تهمس الشفاه، تصيخ الآذان، تشرد النفوس في التوقعات.

سمى جماعته، فرقته، طريقته: أهل القبلة. جعل من الطريقة مدرسة للتربية الروحية، تعلِّم أبناءها نهج التصوف على أسس سليمة. أشد ما عُني به أن يقتصر توكل مريديه على الله، وأن يتخلقوا بالصبر والقناعة والرضا والزهد والمراقبة والمحبة، ويدركوا الجوهر، فلا يقتصروا على ظاهر الأشياء. ما يرد على لسانه يقوله، دون تعمد ولا زواق. الموت حق، وعلى المريدين أن يجعلوه شاغل حياتهم، ويستعدوا له، كأنه سيلتقيهم في انحناءة الطريق.

قال الشيخ عوض البابلي: نحن ذرات من الغبار، أو الرماد، في كون الله!

وهز إصبعه كالمحذِّر: قبل أن يُبنى هذا المسجد كان الموضع لمقبرة، فاعتبروا.

أدار نظره في وجوه المريدين، يتعرف إلى رد الفعل في ملامحهم. ظلت الوجوه ساكنة، ضرب راحة يده في راحة اليد الأخرى.

– أنا أهدر كلماتي عندما أخاطب من لا يسمعون!

أخذ عليهم كدورات الطبائع، وظلمة الأحاسيس. صدق اليقين لا يتحقق بغير الخوف من الله تعالى.

أجاد السيطرة على المريدين، هم طوع إرادته، حفلت عظاته بكلمات: الموت، السؤال، الحساب، الصراط، العقاب، النار، الجحيم. الكلام عنده طرف خيط، يلتقطه فلا يفلته، يكثر من التلفت ليرى تأثير كلماته في الوجوه، ويكتشف أمارات المخالفة في عينَي المريد. من واجب الشيخ أن يفطن إلى الشر في نفوس الناس، حتى خواص مريديه، فيمنع تأثيراته.

وهبني الله تفويضًا بمعاقبة المخطئين.

ينقل إلى المريدين ما يتلقاه من التعاليم الجوانية، يتبع تأكيده لحروف الكلمات، شروح عن دركات الجحيم حتى القاع السفلي، ما يلقاه الخاطئ على أيدي زبانية جهنم.

إن استغرقوا في عظاته، نقلتهم الكلمات من حال إلى حال. صاروا في صحبة الشيخ حيث يجلس، ويتنقل، ويؤدي الصلاة. إذا أسلم الشيخ نفسه للنوم، جلسوا بالقرب منه، لا يتحرك حتى يصدر عنه ما ينبئ بصحوه. جعل لهم حصة من البن المحوج تعينهم على السهر في التهدج والذكر.

لم يكن يني عن إشعال مخاوف المريدين. يشعرون في مفردات النار والجحيم والسعير، كأنهم — وحدهم — من سيواجهون ذلك المصير، حتى الطقوس التي دعا المريدين إلى أدائها، بدت غامضة، وباعثة على الخوف، كأنها طريقهم إلى الموت، أو ما هو أقسى، فسروا تغيب المريد حمزة علوان بأنه تعبير عن غضبه من تعنيف الشيخ في آخر الحضرة.

بلغه قول حمزة علوان: الطاعة العمياء تُفقدني حريتي في التفكير.

أهمل قول حمزة بأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يحاسبه الله على أفعاله. وعد أن يعيده إلى الحضرة بعد أن يطمئن الشيخ إلى تطاير ما بنفسه من ذنوب.

قال: لا يملك الشيطان — لإغوائنا بالشر — إلا الوسوسة.

غامت نظرته، شرد في دنيا يراها وحده، ولا يراها المريدون:

إذا رفضنا سماعه فإننا نحتفظ بيقيننا.

وسرَت العصبية في صوته: غياب الولي قد يجعل الوسوسة صراخا!

ألزم مريديه أن يَقصُروا أرديتهم على الخيش. طالبهم بأن يُعنَوا بأرواحهم، يزيلوا — بطقوس كثيرة — ما قد تعانيه أرواحهم من الصدأ. نزع عنهم حق التصرف في أنفسهم، هم لا يتصرفون إلا وفق ما يريده شيخ الوقت، هو الذي يحكم إن كان ما يعتزمه المريد حلالًا أم حرامًا، مستهجنًا أم مكروهًا.

شكا مريده جابر السني من غواية الشيطان ووسوساته التي لا تتركه حتى في عزلته لذكر الله، نصحه الشيخ أن يغطس في المالح، لا يتحرك في المياه واقفًا، ما بين الفجر والفجر، حتى تتطهر نفسه مما علق بها من أدران.

أثار الناس — من خارج الطريقة — أن الشيخ لا ينظر إلا إلى عيوبهم، ولا يُعنى إلا بالكشف عن أخطائهم. وشَت ملاحظاتهم وميلهم إلى المجادلة بالرغبة في مخالفة عظاته، والخروج عن نواهيه، أخذوا عليه أنه يحرص على العبادات بأكثر من مراعاة أوضاعهم القاسية. لا تتحرى كلماته المعاناة والمشكلات والظروف الصعبة. ذهب ما كان قد استغرقهم — في كلمات الإمام — من الأمل.

ليست هذه عظات، ولا هي تعاليم الدين.

اعتبر نقباؤه ما يستنكره المريدون، وعامة الناس، من تصرفات الشيخ وأقواله؛ دليلًا على إخلاصه لولي الله، إنها تستعيد عِبَر الماضي، وتستشرف أفاق المستقبل.

مال المريد ياسر أبو علم عن الاتجاه نحو مقام ولي الله نصر الدين، عرف من كلمات الشيخ أنه فعل الكثير مما حذَّر منه الشيخ، ونصح بتجنبه. شعر — في اقترابه من المقام — بالخطايا تملأ نفسه، خشي أن يفاجئه الولي بعقاب يؤذيه، فأزمع العودة.

رُوي أن أباه دفعه في طفولته إلى مدافن العمود. اعتاد سيد عبد المقصود، القارئ بالمدافن، رؤيته وهو يدخل الباب المفضي إلى شارع الرحمة، يقتصر دوره على السير في طرقات المدافن، يرى حوشًا تُوزع فيه الرحمة والنور، يجري إلى شجرة الجميز خارج الباب الرئيس، يعلو صوته بالنداء، يفز الجلوس من أماكنهم، ويتبعونه.

لما جاوز الطفولة، عمل صييتًا للشيخ عارف الخولي مادح الرسول، يتبعه في الموالد والمناسبات الدينية. طرده الشيخ حين تبين محاكاته له في سرادقات بالإسكندرية، يؤدي مدائحه في ليالي المولد النبوي، والهجرة، والإسراء والمعراج، والنصف من شعبان، وشهر رمضان، وقدوم أيام الحج.

تعددت الروايات عن أنه كان ينام على الأرض، في أي موضع يصادفه، داخل مسجد، تحت شجرة، اتصال رصيف بجدار.

عرض نفسه على شيخ الوقت. جعله في خدمته يعد له مأكله وملبسه، ويلازمه كظله. ربما أذن له بأداء المدائح والإنشاد والذكر، يمتدح الرسول، يستعرض الأحوال وسوء الزمان.

قال الشيخ عوض البابلي: بُعد المسافة، هل هو السبب في تخلي مبارك الحنفي عن الطريقة؟

غالب الخادم حرجًا، وظل صامتًا.

واجهه الشيخ بنظرة مرتابة.

– كنتَ تبلغني بدبة النملة!

استطرد الخادم في حرجه.

– قال الحنفي وهو يغادر المسجد في آخر مرة: الشيخ يغطي عينيه، ويسد أذنيه، فلا يرى أو يسمع ما يدور في جلسات المريدين، بعيدًا عن الحضرة.

وخفض مسعد بصره.

– كان آخر ما سمعته قوله: لو أن شيخنا حاول أن يغادر الصَّدَفة، فسيكتشف ما أخفاه مريدوه في نفوسهم.

وجد في إنصات الشيخ ما دفعه إلى استعادة كلمات المبتعدين: إذا كان الدين اختيار الأبوين في طفولة المرء، فإن الصوفية اختياره حين يدرك الوعي. رفض المريدون أن يبقيهم الخوف في الطريقة، ليس معنى الخوف أن يقتلنا الفزع، ليس لديه ما نأخذه إلا التخويف، كأن متعته رؤية الخوف في أعيننا، صرنا نخاف شيخ الطريقة أكثر مما نخاف الله.

تحولت الفرقة إلى فرق صغيرة، تعددت مسمياتها وأنواعها، كلها تسعى للوصول إلى الهدف الواحد المحدد، لكن المسالك تختلف. لكل طريقة طريقها التي تخصها. ثمة أصحاب السجاجيد وأتباع الطرق وسكان الزوايا والمريدون والدراويش والمجاذيب، كل من نظر إلى نفسه هو شيخ، له مريدون وأوراد وأذكار. لم يعد حوله في الفرقة الأصلية سوى القلة من قدامى المريدين، هجر الباقون الطريقة، انضموا إلى طرق أخرى، لم يعد يتجاوز تأثيرُ كلماته جامع نصر الدين، تقتصر حضرته على الصحن الصغير، ما بين صلاتَي المغرب والعشاء.

راعه الظلام الذي حل فجأة.

كان مسعد قد أغلق النوافذ، فلم يعد إلا ضوء شاحب من ناحية الباب الخارجي. غاب الخادم في السواد، عاد وفي يده شمعة مضاءة.

سبق الشيخ إلى الباب الخارجي.

خلفت الخادم مسعد في حيرته، ونفذت إلى داخل الضريح.

أشفقت من التأثر الذي كسا ملامح ولي الله.

أعرف أن الشيخ أغلق ذهنه على ما تلقاه من سيرة الولي وعلمه، شغلته العبادة عن الإصغاء لكل ما يدور في الحضرة من دروس ومناقشات. أحاط نفسه بأسوار غير مرئية، لم ينفذ منها علم ولي الله ولا وعيه. فسر الشيخ الأمور على النحو الذي ارتآه فهمه. ضجر المريدون من قسوة عظاته، وسئموها.

قلت للشيخ عوض البابلي وأنا أتهيأ للمغادرة: إذا كان للناس حق عزل الحاكم الظالم، فمن حق المريدين أن يعزلوا الشيخ إن أساء التصرف.

– ابتعادهم عن شرع الله هو الذي ضيق أحوالهم.

– الله رحمن رحيم، لا يواجه عقابَه إلا من اتبع الشيطان.

لاحظت ضيقه، فاستطردت: عبادة الله بالاقتناع، وليس بكلمات التخويف.

ورمقته بنظرة غاضبة: نحن نحب الله لأننا نحبه، الكفار هم من تتجه إليهم عظات التخويف.

– العضو الذي يتيبَّس عن الطاعة ليس له — في عظة مولانا ابن عطاء الله — إلا البتر.

– القهر قد يؤخر قيام الثورة، لكنه يجعلها ضرورة!

وشى صوت الشيخ باستياء: خرج المصلون عن نصائحي وعظاتي.

– حفِّزهم على الإصغاء إليك.

– الطاعة واجبة لما يصدر عن الشيخ من نصائح وأوامر.

– ربما لم تحسن توصيل الكلمات؟

لاحظت في عينيه نظرة استرابة. أدركت مغزى النظرة، وما يدور في نفسه. همس بسحنة متغيرة: إذا لم يتعلم المريدون من شيخهم، فكيف يتعلمون إذن؟

– هل اقتصرَت مهمتك على التذكير بعذاب الآخرة؟

– نحن اليوم فوق الأرض … غدًا تحت التراب، وما يعنيه من حساب الملكين وعذاب القبر.

وعالَج حشرجة في حلقه: إذا كانت المحن قدر المؤمنين، فإني أرضى بما قسمه الله لي.

شردتُ في المدى: أن يحبوا الشيخ أفضل من أن يخافوه!

– هم يحبون رسول الله، لكنهم لا يتبعون سنته.

– الله وحده هو الذي يعلم ما في الصدور!

سكت، استحثثته بإيماءة على مواصلة الكلام.

غمغم من بين أسنانه: كيف يريدون الجنة وينحرفون عن طريقها؟

قلت وأنا ألتفت إلى الطريق: أرى أن الديناصورات لم تنقرض بعد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤