مقدمة

هذه مجموعة من التأملات والمطالعات والرحلات داخل النفس وخارجها. أحداث ثقافية وأخرى مضادة للثقافة، تركت بصمتها على العقل والوجدان. تساؤلات عن الماضي في الحاضر حول المستقبل. تجارب ورؤى وأفكار تزاحمت على المخيلة، ولم يكُن أمامي سوى هذا التجوال الصعب بين مختلف وجهات النظر.

***

وباستثناء المقال الأول في هذا الكتاب (والمؤرَّخ بعام ١٩٧٤م) فإن بقية الصفحات كُتبت خلال الثمانينيات. وبالرغم من أنها صفحات في الأدب والفن والفكر والجمال، فإن نبضات الحياة وأحزانها وارتعاشات الإبداع بين جنباتها تكاد تظلل الكلمات بألوان الأسى وإيقاعات الدمع بين الانحباس والانفلات.

حرارة العاطفة لا برودة العلم هي التي صاغت هذه «اليوميات» التي لا تؤرخ للشكل الخارجي، بل لدهاليز القلب وتضاريس الروح بين نشوة الفرح المبتلة بأضواء الفجر، وانكسار الخاطر المجفف بسخونة الأشواق.

لن يجدني القارئ هنا كما اعتاد دارسًا وباحثًا بالمعنى الأكاديمي لمثل هذه المصطلحات. وإنما سيجد الوجه الآخَر القابع هناك وراء كل درس وبحث، الوجه الذي يعانق تجليات الحياة في طزاجتها وحيوية مراوغتها وتدفُّق ألغازها.

وربما كانت المطاردة المزدوجة هذه حيث تُطاردني الحياة وأطاردها، تكشف لي من أسرار العبث ما قد يتراءى منطقًا كامل الأركان، كما تكشف لي من أسرار المنطق ما قد يتبدى فوضى وعبثًا في منتهاه.

هنا تصبح اللغة وإياي في مأزق الغواية. تنسرب الإشارات إلى الأسماء والأفعال، وتنسل الأزمنة من مخادع الشهداء إلى مصارع العشاق. وتكتسب الحروف وهج الظهيرة في ولوج العتمة حيث المجهول … لا يزال.

طفولة الشيء هي جسد اللغة التي تنفرد بإبداع النطفة الناطقة المتحركة في أوصال الكلمة وشرايين الفقرة، فإذا بالكتابة، أية كتابة إبداعية جديرة بهذه التسمية، هي الحياة ذاتها دون زيادة أو نقصان.

لنقُل إن هذا الكتاب هو كتابة أولًا وأخيرًا، مجموعة نصوص كتبت صاحبها وهو يكتبها، كالشهيق والزفير لا حياة من دونهما معًا.

د. غالي شكري
القاهرة ۹ / ۱۱ / ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤