المنصف يهرب من دار ابن رشيق

أثناء وجودي في قاعة انتظار الطائرة الفرنسية المتجهة إلى تونس، لفت نظري — ربما أنظار كل من في القاعة — أن ستة من جنود الشرطة يحيطون بشاب تونسي على الأرجح. وعندما نودي على الركاب للتوجه إلى باب الطائرة، طلب إلينا هؤلاء الجنود الانتظار قليلًا، حيث قاموا بمرافقة الشاب الذي مضى بينهم وعيناه مصلوبتان على الأفق البعيد.

كان من الواضح أن باريس أو فرنسا كلها قد أصبحت بالنسبة له «ذكرى» أو ماضيًا يحاول بنظرته المصلوبة أن يقيم جسرًا مستحيلًا معه … فقبل لحظة قصيرة استأذن في استخدام الهاتف الذي تصادف أنني كنت أجلس قريبًا منه وسمعته يقول للطرف الآخر باللهجة التونسية ما معناه: هل تعرف أين أسكن؟ ولا أدري ماذا كان الجواب، ولكنه كرر السؤال: هل تعرف عنواني؟ ولم يكمل؛ فقد أقبل الشرطي ليأخذه، وكان رد فعله البسيط هو أن أعاد سماعة الهاتف بخشونة وغضب. وسار مع حراسه إلى باب الطائرة، وعيناه معلقتان بشيء ما وهُما تلتقطان آخر مشهد من مطار أورلي.

أو ربما — قلت لنفسي — لا تلتقطان شيئًا على الإطلاق. ربما كانتا تقيمان جسرًا مع الذكرى. ربما كانتا تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج. ربما كانتا تبحثان عن «مجهول ما» في الانتظار، هناك على أرض الوطن.

ربما وربما. ولكن ما لا ريب فيه هو أن هذه «النظرة» لن تغيب عن خاطري.

كان الشاب بطبيعة الحال مطرودًا. وهناك مئات مثله يُطردون من أعمالهم أو من زوجاتهم أو من الأوراق التي لا يحملونها أو من المشكلات التي لا يتحملونها. ولكن «نظرته» لم تكن واحدة من تلك النظرات اللامبالية أو الحزينة أو الشاكية كانت نظرته أكبر من عمره الذي لا يتجاوز في ظني السنوات العشرين، كانت نظرته أعمق من وعيه الذي لا يتجاوز ثقافة العمل، والإذاعة والتليفزيون. كانت نظرته تطاردني في قاعة دار الثقافة «ابن رشيق» أرى وأستمع لشعراء تونس الشباب. كانت هناك إحدى الأمسيات الشعرية التي نظمها اتحاد الكتاب التونسيين ضمن برنامج «الملتقى» الذي أقامه منذ أسبوعين لدراسة الشعر وإلقائه.

لم أذهب إلى «الأمسية» بمحض الصدفة. تعمدت أن أرى وأن أسمع الشعراء وجمهورهم. ولم أفعل ذلك بالنسبة للنقد والأبحاث والدراسات. هذه يمكن قراءتها في أي وقت يلي الشعر. الشعر أولًا. الشعر الذي هو الشاعر والقصيدة والملتقى والمناخ بأكمله. الإلقاء. تقديم الشاعر. التعليقات الصامتة. التعليقات السافرة. التعليقات العملية المباشرة كالدخول والخروج، كالهمس والصوت العالي والعراك. هذا كله وغيره يسبق النقد والبحث والدراسة. بل، ليس من نقد بغير معايشة لحضور القصيدة، وليس من بحث بغير الحوار مع تفاعلات القصيدة، وليس من دراسة لا تعانق مراحل الولادة والنمو والإثمار.

لم يعد ممكنًا للناقد أن يتزوج النص أو يطلقه في غرفة مغلقة. مختبرات الأصوات ومعامل تشريح اللسان، عظيمة الأهمية. ولكنها ليست النقد. إنها من أدوات البحث عن الحقيقة الشعرية، وهي بالتأكيد من عناصر الدراسة البيانية. ومع ذلك كله، فهي ليست النقد الذي يتوجه إلى «الحياة الشعرية» بحقائقها وأوهامها، ببلاغتها وسذاجتها، بأصواتها وخيالاتها، بلسانها ورؤاها.

هذه «الحياة الشعرية» هي القصيدة في تحولاتها وتجلياتها، في مراحل ما قبل ولادتها إلى تكوين الشاعر الذي حمل بها إلى طريقته في ولادتها إلى القابلة التي استدرجتها إلى الحياة، إلى الغذاء الذي أكلته والهواء الذي تنفسته حتى بقيت حيةً بيننا. وما لم يحاول الناقد بقدر ما يستطيع أن «يحضر» هذه التفاصيل فلن يستطيع أن «يحاضر» عنها. من الممكن أن يكون عالمًا في الصوتيات أستاذًا في الألسنية فقيهًا في اللغة، ولكنه لن يكون ناقدًا.

لذلك رأيت أن أذهب إلى دار ابن رشيق لأرى وأسمع. لم أكن وحدي. كان معي بعض الأصدقاء. ولكن أحدًا من هؤلاء لم يكن بمقدوره أن يلاحظ «نظرة ما» تطاردني لشاب عربي من تونس طردته فرنسا ذات صباح أو ذات مساء، كان حاضرًا وكان غائبًا بقوة لا تُضاهى، في قاعة ابن رشيق.

كان الشارع الذي يقع فيه فندقي وكذلك اتحاد الكتاب وأيضًا دار ابن رشيق هو «نهج باريس»، وكان الاسم وحده كافيًا لاستدعاء الذكرى أو الماضي الذي «انخلع» منه الشاب الذي سأسميه من الآن «المنصف».

وكان الحوار العنيف بين الشرطي والشاعر في مدخل القاعة. كان المنصف مظلومًا والشاعر منثورًا. كان التدخين ممنوعًا، والشاعر هو الأب الشرعي للممنوعات. الشرطي لا يعرف الشعر. كان المنصف شاعرًا وهو لا يدري، بل هو شاعر لأنه لا يدري. وكان الشرطي الفرنسي يطرد القصيدة. صديقي علي هو الآخر شاعر. لا يجيد قراءة الممنوع ولا كتابته، فلم يكن من الشرطة إلا أن طردت القصيدة.

المنصف هو القصيدة الطريدة.

•••

بدأ عريف الحفل يتكلم. لعله أحد «الشعراء الشباب» الذين سنستمع إليهم. أو لعله ناقدهم. ليس هذا مهمًّا، فالأهم أن المنصف تراءى لي خلف المنصة يقف في صمت مدهش، كأنه يعتزم الصلاة. غير أنه سرعان ما راح يهز كتفيه بسرعة مثيرة. كان العريف في واقع الأمر قد بدأ يقدم زملاءه وكأنه يستحضر دروس البلاغة في وصف الكنز المخبوء. وما إن انتهى من تقديم «الشاعر» الأول حتى كان قد استنفد المجلد الأول من استظهار كتاب «ذخيرة الإنشاء».

وانتشت نفسي محاولًا غض الطرف عن حركات المنصف وهو يهز كتفيه هزًّا متواصلًا دون تعب. حتى حين يسكت «الشاعر» استمر المنصف في هز الكتفين. وحتى حين بدأ العريف تقديم الشاعر الثاني لم يتوقف. ولكن النشاط البدني للمنصف لم يصرف أذني عن السماع ولا عيني عن الرؤية.

كنت قريبًا من باب الخروج، فأنا أفضِّل عادة الجلوس في الصفوف الخلفية. وسمعت فتاة تهم بالدخول مع رفيقاتها، ولكنها تقول بعد أن ألقت نظرة متعجلة على القاعة: إنها أمسية رجالية، فلا مكان لنا. مع ذلك دخلت، ومن المؤكد أنها اكتشفت كم كانت مخطئة. كانت القاعة شبه «كاملة العدد»، وكانت هناك قلة من البنات تناثرن بلا نظام حسب موعد قدومهن أو حسب رغبة من جاء معهن.

أغلب الظن أن الجمهور في أغلبه من الطلاب والطالبات ومن هواة الشعر والأدب وربما من محترفيه. كانت العيون الأنثوية كعيون الرجال، مثقلة بالهموم وأحيانًا بالوجه الراقد في صمت بليغ بين الرموش والأجفان. كان المنصف قد بدأ «يستريح» وينظر إلى العيون المتعبة من سهر بلا معنى أو من سهاد مليء بالمعاني، كأن العيون تحولت إلى مرايا.

وبدأ المنصف يتململ. رأى نفسه في القاعة ولم يرها في المنصة. رآها في النثر القاعد والقعيد والمتقاعد، ولم يشعر بها في «الشعر» الصارخ كأنه آلة تكبير الصوت، ولكن دون «صوت».

كان من الواضح أن الذين نراهم ونستمع إليهم شباب لا «الشعراء الشباب». وكان من الواضح أننا نقرأ منشورات وبيانات ضلت طريقها إلى الأحزاب أو المنظمات، وظنت أن «الشعر» هو بطاقة اللجوء السياسي الأكثر أمانًا.

ولكننا في الحقيقة خسرنا الشعر ولم نربح السياسة … فالبيان السياسي أو المنشور له قواعده وقوالبه التي تهيئ له مناخ التأثير وإبلاغ الرسالة. وحين يلجأ البعض إلى «نظم» البيان السياسي، فإنه لا يتحول إلى شعر، وإنما إلى نثر عاجز عن التحقق السياسي. لذلك يفقد البيان أو المنشور جماهير الشعر والسياسة جميعًا.

وليس معنى ذلك مطلقًا، بطبيعة الحال، أنه لا علاقة بين الشعر والسياسة. العكس هو الصحيح. ولكن تنظيم هذه العلاقة يخضع للموهبة. بالنسبة للشعراء هي الموهبة الشعرية.

أكبر الشعراء يكتبون في السياسة، من نزار قباني شاعر «الحب» كما يُسمَّى إلى أدونيس شاعر «الميتافيزيقا» كما يُدعى، مرورًا بالكبار من أمثال البياتي وحجازي ودرويش فضلًا عن الراحلين من السياب ودنقل وعبد الصبور، جميعهم شعراء «سياسيون» بمعنًى ما … هو المعنى الشعري، وليس المعنى الحزبي حتى ولو كان الشاعر منتسبًا لحزب من الأحزاب أو منتميًا لتيار إحدى العقائد.

السياسة في الشعر حقيقة. ولكنها في بوتقة الموهبة تنصهر لتصبح حقيقة شعرية.

وهذه كلها بديهيات. ولكن هذه البديهيات غابت عن شعراء دار ابن رشيق في تلك الأمسية التونسية الفاتنة. كانت جماهير الشباب في القاعة هي الفتنة بعينها، سواء بالتعليقات الهامسة أو الصاخبة لدرجة الخروج من القاعة. كان الانصراف قرب منتصف الأمسية قد أصبح ظاهرة، وراحت المقاعد تخلو. صفوف كاملة تعرت من الدفء بعد أن هجرها أصحابها. ولكن المنصف ظل صامدًا يتنقل بين المقاعد الخالية في قلق. كان ذهابه إلى فرنسا وعودته منها حكاية أطول وأعرض. وكان يعتقد مثلي أنه سيفهم القصة كلها في دار ابن رشيق. إخوته الذين لم يذهبوا إلى فرنسا ولم يطردوا منها، كانت لهم حكايات أطول وأعرض … وقد جاءوا ليفهموا القصة أيضًا … في دار ابن رشيق لا في دار أي حزب.

من زمن الشعارات المشرقية إلى زمن المترجمات المغربية كانت روح الشعر محاصرة، بحيث إن الزخم الشعوري والوهج لم يكن يجد لنفسه مكانًا فهرب.

وهرب المنصف أيضًا.

أقبل من المنفى الخارجي، وغيره أقبل من المنافي الداخلية ينشدون الانعتاق بالشعر، واللواذ بدهاليزه السرية بين الفردوس والجحيم، هناك في «المطهر» الغنائي، الدرامي، كما يشاء الشعراء. ولكن الشعراء ما كانوا هناك. كان الشباب حاضرًا وليس الشعر. باجتماع الشباب والشعر تقع المعجزة. ولكنها لم تحدث. كان هناك الحماس، الانفعال، والنوايا الطيبة ولكن القصيدة أفلتت. حملقت في أصداء الشعراء المشارقة وناحت … حملقت في أصداء الغرب وشهقت. حملقت في اللافتات والسرادق والمظاهرة، وهربت.

وهرب المنصف أيضًا. كان مبهورًا بالألفاظ الحلوة، والموسيقى الناعمة، والصور الجميلة، وفي اللحظة التي يترتب بعدها وصول صاحبة الجلالة القصيدة يهرب الشعر، ويبقى المنصف وحيدًا.

كان يشعر على نحو ما بأن الجالسين في القاعة أكثر قلقًا من «الشعراء» فوق المنصة، وأكثر حساسية بما لا يقاس. لم تأتِ البنات بحثًا عن الحب في دار ابن رشيق. هن أصلًا عاشقات يضنيهن ذلك الجسر المعلق بين عيني المنصف وهو سائر بين حراسه إلى باب الطائرة. قبلها سأل بالهاتف: هل تعرف أين أسكن؟ كانت آخر كلمات قالها بالعربية. البنات أيضًا حضرن الأمسية ولم يسألن الشعر: هل تعرف أين نسكن، كيف نحب، أين نبكي، كيف نأكل، أين نهمس، كيف نبوح، أين أين أين، كيف كيف كيف؟ لم يسألن الشعر، لأنه خدعهن وهرب، فخرجن إلى شارع «باريس» ولم يكن هناك أيضًا. كان المنصف قد خرج هو الآخر، ها هو ذا يضحك بصوتٍ عالٍ، عيناه لا تضحكان، قلت لنفسي. أمطرت سماء تونس فجأة وما زالت الشمس طالعة، قلت إنها دموع المنصف أخيرًا.

ومنذ ذلك اليوم أو منذ تلك «الأمسية» لم أعد أراه، لأننا صرنا صديقين. لأنه راح يقرأ الشعر في أماكن أخرى وربما في أزمنة أخرى.

ولكني لا أستطيع أن أمنع نفسي كل يوم من التوقف في شارع باريس كلما خرجت من فندقي الذي يقع بالصدفة عند منتصفه، لا أمنع نفسي من التوقف عند دار اتحاد الكتاب التونسيين، وبعد خطوات قليلة عند دار ابن رشيق … فيهما رأيت وسمعت وعشت لحظات أخرى عامرة بالخلق والإبداع والشباب. دخلت إحدى المرات اتحاد الكتاب دون دعوة. وكان الشعراء يلتفون حول مائدة حوار خصب. تساؤلاتهم وحيرتهم وعذاباتهم العميقة تنعكس في صفاء العيون المشتاقة إلى المجهول. وفي مرة أخرى كانت دار ابن رشيق عنوانًا حيًّا على الشباب. مئات مئات يقولون الشعر دون نظم. يترنمون ويرقصون ويرتلون وينغمون قسوة الكون ومرارة الوجود في رؤى تكشف الحجب وتهتك الأستار.

ولم يكن المنصف هناك.

كان ما يزال على الضفة الأخرى يبحث عن قصيدة. لم يجدها فطردوه. قال: هذا ليس طردًا. إنها العودة إلى الينبوع. العودة إلى القصيدة.

في اليوم الأول من وصوله لم يجدها. إنه يسألني قبل أن أرحل: هل طردوها هي الأخرى، أم هو المطرود دومًا؟ أم القصيدة هربت لأنها لم تجد شابًّا بين الشباب يمنحها الدفء والحنان … وحين وصل المنصف — زينة الشباب — كان الوقت قد فات؟ وكلاهما الآن يبحث عن الآخر في متاهات الدجى، لعل الشعر يعود يومًا إلى الشباب ليخبره ماذا فعل المنصف بعد هروبه من دار ابن رشيق.

١٤ / ٥ / ١٩٨٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤