ليالٍ عربية على الطريقة التونسية

ليالي القاهرة كليالي بيروت أيام العز كليالي باريس، ساعات ممتدة حتى الصباح في المقاهي الشهيرة، تضم ألوانًا متباينة من التجمعات البشرية التي تمنح نهارها للعمل وليلها للحياة.

تونس، إحدى مئات العواصم التي لا تعرف الليل خارج الدار. يسهر التونسيون، ولكن في بيوتهم. لذلك، حين وفد المصريون واللبنانيون واللاجئون في باريس، لم تكن بانتظارهم مقاهي الفيشاوي أو ريش أو الأتيليه أو الهورس شو أو الإكسبريس أو الدولشفيتا أو كليني أو نوتردام أو جورج سانك. لم يكن أمامهم سوى التسليم للطريقة التونسية، وفي الحقيقة هي أكثر الطرق شيوعًا في العالم كله. بينما ليالي القاهرة وبيروت وباريس هي الاستثناء.

في الفندق قالت سيدة الجيل العملاق أمينة رزق: من أربعة جدران إلى أربعة جدران؟ لن أنتقل من هنا، ما دمنا سنذهب إلى بيت.

أقول لها: يا مولاتي، هنا لا توجد سوى المطاعم تسهر حتى العاشرة، لا توجد هنا أماكن عامة كالكازينوهات المصرية. والوقت شتاء. والمكان المغلق دافئ. والدار، أية دار، هي الأكثر دفئًا بين الأماكن المغلقة.

تصر على موقفها وهي تحملق في الفراغ: عام ١٩٢٨م أول مرة زرت فيها تونس. ولا تنسَ — توجه حديثها للوزير ابن سلامة — أن زكي طليمات هو الذي أسس المسرح التونسي.

يشاغب عليها المخرج المغربي أحمد الطيب: وعزيز عيد يا ست الكل هو الذي أسس المسرح المغربي.

يتلقف الكرة المخرج الجزائري مصطفى كاتب: وجورج أبيض هو أول من أسس المسرح الجزائري.

تفرح أمينة رزق فرحًا طفوليًّا. يقول لها البشير بن سلامة في مودة غامرة: لا تسافري الجمعة، فالوزير الأول يريد استبقاءك إلى يوم السبت لتكريمك أنت وعبد الله غيث. هناك جائزتان استثنائيتان لكما معًا.

تحمر وجنتا العجوز الشابة، ويبدو عليها الحياء لامعًا بتواضع حقيقي: شكرًا ولكني ملتزمة بموعد آخر في أثينا. شكرًا عميقًا، ولكني لا أستطيع.

تداعبها نضال الأشقر، جوهرة لبنان: ولكنك لن تذهبي يا أمي قبل أن تروي لنا قصة غرامك بيوسف وهبي.

يزداد احمرار خديها وترتبك نظراتها، تغمغم بصوت خافت وقد وقفت في مكانها تبحث عن طريق للهرب: مش صحيح يا نضال مش صحيح. أنا لم أحب رجلًا في حياتي. لا يوسف بك ولا غيره.

تمسك بها نضال ولا تدعها تفلت: هل يمكن لإنسان أو فنان ألا يحب؟ تجلس الست أمينة أخيرًا لتقول: نعم أحببت. أحببت مصر والمسرح وأنتم. ألا يكفي؟

•••

لا. لا يكفي. الحب للإنسان هو دينامو الحياة، وللفنان هو الحياة ذاتها. تقول نضال وتشرح: أقصد الإبداع حين أقول الفن، فالثورة إبداع أيضًا. هناك فنانون يكتبون أو يمثلون أو يرسمون ولا يستحقون هذه التسمية لأنهم غير مبدعين. وهناك بسطاء لا يعون أنهم فنانون. رغم أنهم يبدعون كل لحظة.

كنا قد وصلنا بيت أحد الأصدقاء، حين قال كرم مطاوع: بلاش فلسفة يا ست نضال، المهم مفيش مسرح. منذ أكثر من عشر سنوات مفيش مسرح. هل هي صدفة أن بلادنا في جحيم؟ هل هي صدفة أن عُمر الجحيم ملازم لغياب المسرح؟

يسألني عبد الله غيث بغمزة تواطؤ: ما رأيك؟ أقول: كرم يبالغ، ولكن معه حق. يبالغ حين يقصر الأمر على المسرح، فالحقيقة أنه لا مسرح هناك ولا سينما ولا حركة ثقافية بالمعنى الذي كان أيام المجد.

تصرخ سناء جميل: أي مجد؟ هات لي نصًّا جيدًا أعطك مسرحًا جيدًا. لقد هربتم جميعًا، كُتاب المسرح والنقاد، إلى الخارج وتركتمونا وحدنا.

تكهرب الجو. تنظر سناء إلى فاروق القاضي: أنت مثلًا، أراك في لبنان في سوريا في الأردن في تونس التي أراها للمرة الأولى، ولا أراك في القاهرة، هل هذا معقول؟ هل هو صحيح؟ هل هو ممكن؟

أحاول الرد عبثًا. أحاول التأكيد لنفسي أننا لسنا في «ندوة»، وأن خطوط وخيوط الحوار سوف تتمزق دائمًا في جلسة «همشرية» كهذه. ولكن عبد الله غيث يبتسم مشيرًا إليَّ أن أستمر، فأقول: الستينيات لم تكن مسرحًا فقط. الستينيات كانت قطاعًا عامًّا وسدًّا عاليًا وتعليمها مجانيًّا. يكمل عبد المنعم القصاص: وكانت سينما وفنونًا تشكيلية وأدبًا. يعود الفنان القادم من عدن إلى حديقة البيت ليستأنف الشي و«ذكريات» جيل بدأت تتجمع في دخان الشواء ورائحته المخدرة. جيل يبرر نفسه، أم هو حزين حتى الموت؟ عبد المنعم الفنان المقاتل في بورسعيد عام ١٩٥٦م هو عبد المنعم الفنان المحاصر في بيروت ١٩٨٢م يقاتل بالريشة والقلم في «المعركة» التي يصدرها المقاتلون. أكثر من ربع قرن واللون الفضي يغزو الرأس المثقل بالحزن والأمل. هو الآن في عدن، في جبهة أخرى من نوع مختلف. وسنوات «الطليعة» على كتفيه رصيد ورمز لشعلة متوهجة لا تنطفئ.

فهمي حسين يترك الشواء ليأتيني بمفاجأة الليلة كلها: نسخة من «إصرار» ديوان الجيل. طبعًا، هو جيل الأربعينيات. وطبعًا هو إسماعيل صدقي باشا الذي وقف في مجلس الشيوخ صائحًا: هل قرأتم هذا الديوان؟ البلد في ثورة ونحن نثرثر، حكومة بيضاء وشعب أحمر. لقد صادرنا الشعر ويجب أن نصادر الشاعر. وقد نسي رئيس الوزراء أن كمال عبد الحليم كان مسجونًا بالفعل.

فاروق القاضي ينظر إلى سناء جميل في عتاب صامت. عندما كان أحد المسئولين يبحث عنه لدى شقيقه الضابط الحر جمال القاضي لمجرد أن عبد الناصر ذكر فاروق بالخير، وكان الشقيق يقول: عندما تريدون حبسه تجدونه بسرعة، وعندما تريدون ترقيته لا تجدونه على الإطلاق. فاروق القاضي وروز اليوسف وصباح الخير ولويس جريس زوج سناء. فاروق ترك الصحافة والسينما ورحل إلى فلسطين، إلى حركة المقاومة، أصبح فلسطينيًّا. من فاروق القاضي إلى طاهر الشيخ أي من أقدم الأجيال (خمسون عامًا) إلى أحدث الأجيال (خمسة وعشرون عامًا) كانت مصر حاضرة في قلب فلسطين، في قلب حركة المقاومة … فطاهر الشيخ هو المقاتل المصري الشاب الذي بقي في خط الدفاع الأمامي من بيروت حتى الرحيل إلى تونس في سبتمبر ۱۹۸۲م.

فاروق يعتب على سناء: إننا لم نهرب. لم نخرج من مصر. كنا داخلها أكثر من بعض الذين يعيشون على أرضها. ولكن عبد الله غيث يكاد يصرخ: صحيح، لكن عودوا إلى مصر. عودوا الآن قبل غد. ليست هناك حركة مسرحية أو فنية أو ثقافية أو اجتماعية أو سياسية وأنتم خارج البلاد. أنتم بداخلها دائمًا، ولكن آن الأوان لعودة اللحم والدم والعظم، بأشخاصكم لا بد أن تكونوا معنا. لقد عاد أحمد بهاء الدين وعلي الراعي ومحمود السعدني، عظيم ولكن هذا لا يكفي. عودوا جميعًا. الخصوم أقوياء وحاضرون وبكثافة. أما نحن، فقليلون، بكُم نقوى، عودوا أيًّا كانت الظروف والنتائج. وليسجنوكم، فلستم ضيوفًا غرباء على السجون.

كان الحماس قد أخذ عبد الله إلى المنتهى. وكان الجميع صامتين في خشوع. سناء جميل اعتبرت موقف عبد الله غيث انتصارًا لها … ولكنه سرعان ما أوضح نفسه بدرجة أقل من الغليان: أنا شخصيًّا سأموت من السينما والتليفزيون. أريد مسرحًا. قلت للمنصف السويسي حين فاتحني في الأمر إنني مستعد للتمثيل هنا. أريد خشبة يا ناس.

كرم مطاوع من الطيور العائدة بعد طول هجرة، يمسح جبينه أو يعتصره لا أدري. سنوات طويلة في الكويت والجزائر والعراق، سنوات مع سهير المرشدي وسعد أردش وتوفيق صالح ومحمد توفيق ونادية السبع وأحمد عبد الحليم وعايدة عبد العزيز وعشرات من ألمع نجوم مصر وأغلى كواكبها، شرقت بهم الأرض وغربت بهم الشمس في أرجاء العالم الواسع. برهنوا على أن جزءًا من قلب مصر وعقلها يهاجر، فليس السياسيون وحدهم أو الكتاب وحدهم، أو أساتذة الجامعات والأطباء والعمال والفلاحون والطلاب وحدهم، بل الفنانون من الروائيين والشعراء المسرحيين والسينمائيين والتشكيليين والموسيقيين، جميعًا من كل صوب واتجاه هاجروا إلى وطنهم العربي أو إلى أوطان الغرب والشرق. وطأة الانحطاط كانت عاتية. بالنسبة للبعض ما تزال. عاد البعض الآخر، وما زالت أغلبية الطيور مهاجرة.

يقول كرم بلوعةٍ أسيانة: كان «الحسين ثائرًا وشهيدًا» هو آخر أعمالي التي صادرتها الحكومة، حتى بلا تصوير. احتشد للعمل مائة وثمانون فنانًا من أكبر ممثلي مصر، أين هم الآن؟ بعضهم في رحاب الله، والآخرون لم يعودوا كما كانوا. أيامها رجوت الوزير أن يتكرم فقط بتصوير المسرحية لأرشيف الدولة، ولم يوافق. العمل لا يقاس بالزمن الذي انقضى في إنجازه بل في الأزمنة التي سبقته من عمري، ذلك كان أكبر أعمالي فأعدموه. خرجت من مصر، وحين عدت بعد سنوات من التعب والمرض والغربة الطاحنة، كان نصيبي أنا وسهير المرشدي أن أحرقوا المسرح بما فيه. كانت البروفات على المسرحية التي سأفتتح بها نشاطي الجديد قد تمت فإذا بهم يحرقون ليلًا كل شيء، كل شيء. ماذا أفعل؟ هل أنا ممثل أم مخرج مسرحي؟ لا يغريني النجاح في التليفزيون أو السينما، لا يغويني التمثيل مهما تقلدت من أوسمة فأنا مخرج، كما أن عبد الله غيث ممثل، فماذا نفعل؟

كانت نضال الأشقر تستمع بصبر، لأن تجربتها تختلف. هذه البنت اللبنانية التي رضعت السياسة والنضال من طفولتها. أبوها أسد الأشقر يدخل السجن ويخرج فلا يجدها، لأنها تدخل السجن يوم خروجه. منذ سبع سنوات تعيش في الأردن. أول الحرب الأهلية ناضلت نضال، وإذا بالأمور تختلط، ولا يبقى سوى الحفاظ على النفس والقيم. نضال رمز المقاومة الوطنية في المسرح اللبناني، والمكافحة الجسور في الحياة اللبنانية، هي الأخرى هاجرت إلى عمان. تتأمل كلام المصريين بحوار صامت. تكابد الأهوال داخلها. عندكم سادات واحد، اثنان، عشرة، عشرون؟ أما نحن فالسادات يضاجع أحلامنا ويتنفس هواءنا، عشرات الألوف لا تستطيع التمييز بينها، من يكون السادات بينهم، يرتدون من الأقنعة ما يضلل الملائكة. ارحمونا، كفاية. صرخت، وكادت تبكي.

سناء جميل تتمزق بلا هوادة. تبرق عيناها وتهمس في أذن المثقفة السورية العاشقة لمصر والمكافحة الثابتة عن جمال عبد الناصر، ثريا متولي.

يقول محمد قناوي الذي أمضى نصف عمره في السجون والنصف الآخر في الصحافة: ما جرى لمصر ولبنان والمقاومة من هزيمة ٦٧ إلى هزيمة ٨٢ يفسر الأزمة كلها. تاريخيًّا، نشأ المسرح وازدهر في مصر وسوريا ولبنان راهنًا، تعاني هذه المنطقة الجغرافية ويلات أزمة تاريخية، من الطبيعي أن تنعكس على المسرح، والثقافة كلها.

أقول: يا سناء هانم، لم تكن المشكلة في أي يوم مشكلة نص جيد يبني مسرحًا. المشكلة بالضبط هي غياب النص الاجتماعي-السياسي الجيد أولًا. والجودة لا تعني أننا في الستينيات الذهبية، كما تقولون، كنا نعيش عصرًا زاهيًا … كلَّا، فإلى جانب القطاع العام والسد العالي والتعليم المجاني والألْف مصنع، كان هناك الانفصال بين مصر وسوريا، وكانت هناك السجون والمعتقلات، وكانت هناك الهزيمة. من السلب والإيجاب. كان هناك نص اجتماعي-سياسي جيد، أي إنه النص الذي يوفر مناخًا جيدًا لازدهار الثقافة والفنون وفي مقدمتها المسرح.

حاولت سناء مقاطعتي، ولكني استمرأت الصمود: في الستينيات أغلقت إحدى القاعات ليلة عرض «المخططين» ليوسف إدريس، وفي الستينيات تمزقت أوصال مسرحية «العرضحالجي» لميخائيل رومان بأيدي الرقابة، وفي الستينيات حضر كبار الرسميين مسرحية «الفتى مهران» لا لتهنئة المؤلف أو المخرج أو الممثلين، بل للتثبت من أنها لا تهاجم نظام الحكم. حدث هذا وأكثر في الستينيات، ولكننا في السبعينيات نلاحظ شيئًا آخر هو الموت المفاجئ لنصف كتاب المسرح واغتراب النصف الآخر إلى الداخل أو الخارج وهجرة كوادر الإخراج والتمثيل هجرة دائمة أو هجرة مؤقتة إلى عواصم النفط العربي.

وعندما لاحظت أن سناء جميل تستمع استطردت: لا بد من الاعتراف بأن تغييرًا اجتماعيًّا عميقًا حدث في مصر طيلة الخمسة عشر عامًا الماضية، كان من شأنه استحداث واستمرار مسرح نسميه حينًا بالتجاري، وهو في الحقيقة مسرح النظام الاجتماعي الطارئ. مسرح يلبي تحت شعارات التسلية والضحك احتياجات شرائح اجتماعية جديدة. هذا المسرح يستجيب لعصر «الانفتاح» الذي لا يحتاج لما نسميه خطأ بالمسرح الجاد، والمقصود هو المسرح الحقيقي. فالمسرح الجديد ليس أكثر من كباريه لا يحتاج لكرم مطاوع أو سعد أردش أو ألفريد فرج أو محمود دياب أو سناء جميل أو سميحة أيوب أو محسنة توفيق، ولا إلى نقاد المسرح الذين نسميهم جادين والمقصود أنهم أصلاء كعلي الراعي ولويس عوض. هؤلاء وغيرهم ممن كانوا يشكلون أعمدة «الحركة المسرحية» في الماضي، هم أيضًا جزء من نسيج اجتماعي-ثقافي ينتمي إلى ذاك الماضي. أما «حركة الكباريه» المعاصرة، فهي ابنة شرعية للانقلاب الاجتماعي الراهن والدائم منذ الهزيمة … ربما كان ميخائيل رومان أو نجيب سرور أو محمود دياب قد ماتوا غيظًا أو احتجاجًا، ولكن المؤكد أن زملاءهم الذين ما يزالون على قيد الحياة والذين لم يتركوا مصر أو عادوا إليها، ليس أمامهم وحواليهم من خيار سوى الصمت أو اللهاث وراء الإذاعة والتليفزيون والسينما والفيديو وبقية منجزات عصر النفط. هو نفسه عصر الانفتاح، هو كذلك العصر الأميركي-الصهيوني.

•••

جاءني الصوت الهادئ من بعيد: هه … بدأنا … كنا نتكلم في الفن، وسنقلبها سياسة … يا ساتر استر.

وكان صوت الديك قادمًا من الأفق مع تباشير الفجر، فقالت صاحبة الصوت: وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.

اعترضت نضال الأشقر في همس: لننتظر حتى يصيح الديك مرة ثانية وثالثة، وبعدها سنبكي بكاء مرًّا.

۱۹۸۳م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤