النقد الأدبي: إشكالية منهجية

في الأسبوع الأخير من مارس ١٩٨٥م أقام اتحاد الكتاب في المغرب ندوة حول النقد والإبداع، في الدار البيضاء، بمشاركة الاتحاد العام للأدباء العرب. وقد فوجئ الجمهور المغربي بغياب أهم النقاد العرب، ولا نقول «ألمع» أو «أبرز»؛ فقد يكون البروز أو اللمعان مصطنعًا ولأسباب بعيدة عن الأدب والنقد. ولكننا نقول «أهم» من حيث القيمة والتأثير.

وقامت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» في عددها المؤرخ ۳/۲۷ باستطلاع مجموعة من الأدباء والنقاد المغاربة حول آرائهم أو انطباعاتهم عن الندوة المذكورة، بلغ عدد هؤلاء تسعة أشخاص، ثلاثة منهم اتخذوا من الندوة موقفًا إيجابيًّا، والستة الأخرون اتخذوا موقفًا سلبيًّا.

ماذا قال أصحاب الرأي الإيجابي في الندوة؟

  • حدد بنسالم حميش (باحث وشاعر) أن «هذا اللقاء كان فرصة بالنسبة للباحثين ليظهروا ما جد في أبحاثهم بخصوص نمط العلاقات القائمة بين الإبداع والنقد». كذلك فإن «الجمهور المناقش والمتتبع لأعمال هذه الندوة قد استفاد».

  • أضاف أحمد بوزفور (قاص) أن «أهم شيء يستفاد من عقد مثل هذه الندوات هو سلسلة اللقاءات التي تتم بين الكتاب المغاربة وغير المغاربة على هامش الندوة».

  • وقال محمد عنيبة الحمري (شاعر) أن الندوة كانت إيجابية لأنها «شهدت حضورًا مكثفًا»، ولأن هذا الحضور استفاد باطلاعه «على عينيات أدبية»، ولأن «عقدة الشرق انتهت»، ولأن الندوة عقدت في الدار البيضاء حيث «كل الطاقات وفي شتى الميادين».

    يتضح لنا من هذه النصوص التي تشكل في مجموعها ثلث الإجابات أن هناك إحساسًا غامضًا بفوائد هذه الندوة. إنها عند الأدباء الثلاثة ذلك اللقاء بحد ذاته، حتى إن أحدهم لا يذكر «هذه الندوة» وإنما «مثل هذه الندوات». واللقاء مهم بحد ذاته، وإن تم «على هامش الندوة».

    إن التباعد بين المشرق والمغرب كان من شأنه دائمًا أن يحدث التباسات وأن يولد صورًا غائمة عن الثقافة والمثقفين هنا وهناك. كان المغاربة، وما يزالون، يتابعون الإنتاج المشرقي متابعة تفصيلية. وحين يلتقون بأحد المثقفين المشارقة يذهلهم جهله بإنتاجهم. لا يقتصر ذلك على المغرب الأقصى وحده، وإنما يشمل المغرب العربي كله. كذلك كان التأثير الفرنسي على الثقافات المغربية يكاد يدفع بعض أقطاب هذه الثقافات إلى الشعور بالانتماء إلى مواقع التقدم «العلمي» أو «المنهجي» في المغرب، والإحساس بالتفوق والتعالي والنظرة الفوقية إلى إنتاجات المثقفين المشارقة، وخاصة في مجال العلوم الإنسانية. ولكن المغاربة في الوقت ذاته كانوا — وربما ما يزالون — يعانون مما أسماه أحدهم «بعقدة الشرق» حيث تختفي الازدواجية اللغوية، وحيث يحقق الأدب في الشعر والرواية والقصة القصيرة مستويات من النضج لا سبيل لنكرانه، وحيث الذيوع والانتشار يبدأ من بيروت والقاهرة وبغداد ودمشق. حتى إذا كان الكاتب مغربيًّا، فإنه لا يصيب الشهرة الحقيقية إلا إذا نشرت أعماله أو نقلتها عن الفرنسية دور النشر اللبنانية، مثلًا.

    من هنا يأخذ «اللقاء» بين المثقفين المشارقة والمغاربة حجمًا يتجاوز أحيانًا نوعية اللقاء وقيمته. اللقاء في ذاته هو المهم، بمناسبة الندوة أو على هامشها لا يهم.

    ولكن هذه المبالغة التي تختزن دلالات الالتباس التاريخي بين المغرب والمشرق، لا تساهم في إقامة الجسور القوية بينهما. ربما كان العكس هو الصحيح؛ لأنها حين تحجب النواقص والثغرات فإنها تساهم في كبح جماح «المسكوت عنه» وتحرض على تراكم المكبوتات غير المسموح بالإفصاح عنها. ذلك أنها لا ترى في ندوة الدار البيضاء مثلًا، السلبيات الخطيرة في تكوين «اللقاء» وفي مقوماته الأساسية، وهي المقومات التي قد تشدد على أهمية اللقاء في ذاته وتركز على حجمه، وتغفل عن الهدف والنوعية والقيمة والفاعلية.

    وهي الأمور التي جرأت على محاولة كشفها النسبة الغالبة من المثقفين الآخرين الذين يشكلون ثلثَي العدد المستجوب.

  • يقول محمد برادة (ناقد) إنه «في مجال الانطباع السريع عن ندوة الإبداع والنقد، يمكن القول إنها — رغم إيجابياتها — لم تحقق الحد الأدنى المطلوب من ندوةٍ، المفروض فيها أنها تمثل المستوى العربي، وتحاول تقديم حوار وأسئلة جديدة» و«كنا نتمنى أن يكون الحوار في الندوة ممثلًا لكل الكفاءات العربية، لأن الهموم والأسئلة مشتركة، ولأن فرص اللقاء العلمية قليلة، ومن ثَم تبقى مسئولية الاتحاد العام للكُتاب العرب كبيرة فيما يخص ضرورة توفير شروط هذا الحوار المتكافئ والديمقراطي بعيدًا عن كل الحسابات الضيقة، خارج عقلية مراعاة المردودية السياسية الظرفية.»

  • ويؤكد أحمد السنوسي أنه «حينما يتم تغييب فلسطين عن عمد، ثم تصبح موضوع اعتذار عن ضغط وقصد، تصبح القضية أبعد ما تكون عن مستوى الإبداع والنقد، وتصبح أيامها شاهدة على الذين أسكنونا حقبة تنزف تخلفًا وانشقاقًا وترديًا.»

  • ويضيف ب. أبو الشتاء «غاب النقد، غاب الإبداع، تلك هي الخلاصة التي يمكن أن يستخلصها المتتبع لندوة النقد والإبداع.» ويتساءل «هل نشير بإصبع الاتهام إلى الأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب حين استدعت من استدعت، وغيبت من غيبت؟»

  • ويحسم محمد العياشي (قاص) الأمر بقوله «لم تصل الندوة في مجملها إلى الأفق-الهدف المرسوم لها.» ويلقي علينا بالسؤال «هل هي مسئولية الأمانة العامة لاتحاد الكتاب العرب؟»

  • ويشير الميلودي شغهوم إلى «أن أغلبية العروض كانت ضعيفة جدًّا، فهي إما اكتفت بالوقوف موقف المتهجي لمبادئ النظريات أو أنها أعطت ملخصات عن النظرية دون إخضاع ذلك للتطبيق.»

  • وينتهي قمري بشير (قاص وناقد) إلى «أن الندوة لم تستطع أن تحقق ما كانت تهدف إليه»، و«اختلط الخطاب النقدي بالخطاب الصحفي، فهناك كثير من البحوث التي طغت عليها النزعة الصحفية.»

هذه الإجابات الست ليست فقط ثلثَي العدد المستجوب، وإنما يتحدد حجمها بنوعية المضمون الذي تحمله وجملة الدلالات التي تسوقها.

أول ما نلاحظه هو ذلك السؤال الاستنكاري حول دور الاتحاد العام للكتاب العرب في تغليب السلبيات على الإيجابيات عند تقويم الندوة، وهي ملاحظة لا تخفي الوجه السياسي المباشر في تشكيل هذه الندوة.

والملاحظة الثانية تتعلق بالأولى حتمًا من حيث غياب «أهم النقاد» ومن حيث تغييب أي تمثيل فلسطيني.

والملاحظة الثالثة تخص المستوى العلمي لأبحاث الندوة حيث يتهمها البعض بالترجمة غير الأمينة عن الغربيين، ويرى فيها البعض الآخر خطابًا صحفيًّا. وهذا المستوى الضعيف هو نتيجة للسببين السالف ذكرهما.

هذه الملاحظات الثلاث تفرق بين الفريق الأول والفريق الثاني، لا من حيث الكم وإنما من حيث الكيف. ذلك أن هذا الفريق الأخير يفصح عما يخفيه الآخرون، ولو في اللاوعي. إن الغموض السالف الذكر والتعميم في ذكر «الفوائد» يعكس بشكل معقد أن ثمة مسكوتًا عنه يرقد في تيار الشعور في عمق الأعماق. أما الفريق الثاني فهو يمثل الغالبية من المثقفين المغاربة خارج حدود الاستطلاع، حيث إن عروبة الثقافة المغربية ليست موضع نظر، وبالتالي فليست هناك عقدة «مشرقية» بالسالب أو بالموجب. يستطيع محمد برادة، مثلًا، أن ينقد مغربيًّا آخر بقسوة لأن بحثه مليء بالاستعارات غير المتمثلة. ويستطيع غيره في الوقت نفسه أن ينقد مشرقيًّا لأنه كتب مقالًا سياسيًّا لا بحثًا علميًّا.

هذا الفريق الذي يمثل الأغلبية، هو أيضًا الأكثر تحسسًا لتجربة اتحاد كتاب المغرب، وتجربة منتدى الفكر والحوار. هاتان التجربتان لها رصيد من القيم والتقاليد الإيجابية في الدعوة إلى حلقات دراسية وندوات فكرية. وهي قيم قومية عربية أولًا، أي لا علاقة لها بأية نزعات فرانكفونية أو إقليمية أو عرقية. وهي تقاليد ديمقراطية ثانيًا، أي لا علاقة لها بأية نزعات تحتكر الحقيقة، وتفرد لرأيها الواحد الحيز الأكبر، ولا تسمح عمليًّا بصراع الأفكار.

لذلك يصبح أكثر من طبيعي أن يكون أصحاب هذه الأصوات هم الأكثر تحديدًا لإشكاليات ندوة النقد والإبداع التي عقدت في الدار البيضاء. ومن الواضح أن هناك إشكالية مركزية هي الدور المتعاظم للانتماء الحزبي والسياسي في نشاط الاتحاد العام للأدباء العرب. ويتفرع عن هذه الإشكالية مساءلة أساسية حول هذا التنظيم غير النقابي وغير المهني وغير الثقافي بالمعنى المسئول للثقافة.

ولا أعتقد أن هناك من يقول في الوقت الراهن بانفصال الثقافة السياسة، سواء داخل العمل الثقافي أو في تكوين المثقفين أنفسهم. ولكن القضية ليست هنا، وإنما في الابتعاد التدريجي عن أصحاب القضية الأدبية والنقدية والاقتراب الوثيق من أصحاب القرارات السياسية.

إن أحدًا لا يمنع أي أديب أو كاتب من الانحياز السياسي، حتى إذا كان هذا الأديب أو الكاتب أمينًا عامًّا لتنظيم الأدباء والكتاب العرب. ولكن العقيدة السياسية شيء، وإلحاق هذا التنظيم بالإدارة السياسية للنظام الذي يتبعه الأمين العام أو الرئيس أو القيادة شيء آخر.

لقد عانى الأدباء والكتاب العرب من هذا الإلحاق المتعسف معاناة هائلة في مختلف العهود. أي منذ كان يوسف السباعي سكرتير عموم كافة الجمعيات والاتحادات والروابط الأدبية المصرية والعربية والأفريقية والآسيوية. ورغم أي تقدير لجمال عبد الناصر؛ فقد كان تقرير يوسف السباعي على الأدباء المصريين والعرب والآسيويين والأفريقيين، عبئًا باهظًا على ضمائر الذين يحبون عبد الناصر ويرفضون الإلحاق الإداري بدولته.

ولقد كان الكُتاب المصريون من أوائل الذين طالبوا بالتغيير، حتى من قبل ما جرى في مصر عام ١٩٧٧م بحيث كنا أسعد الجميع باختيار عواصم عربية وكتاب عرب غير مصريين في مواقع القيادة لاتحاد الأدباء. ولكن هذه السعادة كان عمرها بالغ القِصر، لأن البعص تصور أن مصر قد ماتت للأبد. ولأن البعض كان أكثر من يوسف السباعي في تنشيط عمليات الإلحاق الإداري، إلحاق الاتحاد بالدولة التي ينتمي إلى نظامها الأمين العام.

كم تداخلت أموال النفط ومخططات السياسة، في تشكيل محاور إقليمية غير أدبية ولا علاقة لها بالثقافة. وكأن الناقد الأدبي أو الشاعر أو الروائي في بلدٍ ما هو بالضرورة ملتزم بالخط السياسي أو الحزبي لنظامه واختيارات هذا النظام غير السياسية. إذا كان النظام مرتبطًا في محورٍ بأقطار معينة، على الأديب أن يختار لقيادة التنظيم الأدبي مَن ترشحهم أجهزة الأمن والمخابرات، سواء من بلده أو من الأقطار المشاركة في المحور.

لذلك يصعب كثيرًا في ندوات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب أن تعثر على الكفاءات الموهوبة، ولا على غير المَرضِي عنهم من أجهزة هذا البلد أو ذاك.

•••

من هنا كان توريط «اتحاد كتاب المغرب» في الدعوة إلى ندوة الدار البيضاء، عملًا بعيدًا كل البعد عن التقاليد الديمقراطية الراسخة لدى الهيئات الثقافية المغربية، بما فيها اتحاد الكتاب. وإنما أراد «الاتحاد العام للكُتاب العرب»، أن يشرك معه في المسئولية من يمنحه براءة ذمة.

وقيمة التصريحات التي أدلى بها المثقفون المغاربة أنهم أعلنوا بأعلى صوتٍ براءتهم هم من هذه الندوة التي لم تحقق «الهدف» من عقدها، كما قال بعض الأدباء في شهاداتهم، لم تحقق هذا الهدف باستبعاد الكفاءات والمواهب النقدية الحقيقية، وباستبعاد الشخصيات المرفوضة سياسيًّا أو حزبيًّا.

لذلك فشلت الندوة، رغم أية إيجابيات «للقاء» بين المشارقة والمغاربة، ورغم الحضور الكثيف. وسوف تفشل أية ندوات مماثلة في إطار «اتحاد عام» يقيس الأمور ويرتبها حسب معايير السياسة والأحزاب وأجهزة الأمن والتمويل.

وستنجح فقط تلك الندوات العلمية والفكرية الأصيلة التي ارتادها في الأدب اتحاد كتاب المغرب، وفي الفكر الاجتماعي والقومي منتدى الفكر والحوار. أي أن المبادرة المغربية، إلى الآن، هي الصيغة الديمقراطية الثقافية التي أبدعها الكُتاب العرب الموهوبون في المغرب، هذه المبادرة هي الأصل الأصيل، أما ندوة الدار البيضاء فهي غير مغربية. وقد أصلت جريدة «الاتحاد الاشتراكي» المغربية (عدد ٢٩ / ٣ / ١٩٨٥م) نشر التعليقات النقدية على ندوة الدار البيضاء التي أقامها الاتحاد العام للكتاب العرب بالاشتراك مع اتحاد الكُتاب المغاربة.

ولأن القضية، في مستواها الأعمق، تمس الأدباء العرب جميعًا كأفراد وكتنظيم؛ فقد رأيت أن أنقل الآراء الجديدة للأدباء في المغرب، بقصد استخلاص أكثر الدلالات رجحانًا سواء بالنسبة لوضعية الاتحاد العام للأدباء العرب أو في موقف القيادات الراهنة لهذا الاتحاد … خاصة أن هناك إجابتين غير مغربيتين، وأربع إجابات مغربية.

  • يقول بيير أبو صعب (صحفي لبناني) «إن الاتحاد العام لا يمثل الكتاب العرب، بمعنى أن الذين على رأس هذه المؤسسة وفي كل مستويات الهرم الذي يشكله الاتحاد هم بالدرجة الأولى مثقفو سلطة، هذا إذا استحقوا أن يحملوا صفة مثقف.» وعن الندوة ذاتها يضيف «كان هناك تفاوت مضحك بين العروض، بعضها لا يستحق أن يكون محاضرة لطلبة الصفوف الثانوية. فمداخلتا ريتا عوض من لبنان ومحيي الدين صبحي من سوريا كانتا مخجلتين.»

  • ويدلي واصف منصور (مسئول الإعلام الموحد بمكتب م. ت. ف بالرباط) بعدة ملاحظات على الندوة أهمها غياب «الغالبية العظمى من النقاد العرب … هل لأسباب سياسية لم يستدع هؤلاء النقاد؟» ثم إن غالبية الأبحاث «كانت منصبَّة على المدارس الغربية في النقد مما جعلنا نتساءل هل الندوة مخصصة للنقد والإبداع الغربيين؟» وعلى الصعيد السياسي لاحظ أن كلمات الافتتاح تعرضت لكل القضايا العربية «إلا قضية فلسطين».

  • وسجل محمد زفزاف (قاص وروائي) أن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب «لعب دورًا في إقصاء بعض الأسماء، وهذا شيء لا نغفره للأستاذ علي عقلة عرسان.»

  • وأضافت خناتة بنونة (قاصة وروائية) أنها مع الآخرين «كنا نتوقع أن تكون الندوة أكثر إيجابية ومردودية.» وأن أسباب إخفاق الندوة يتمثل في «عدم حضور أسماء بارزة في الساحة الثقافية العربية.» ولاحظت غياب الإبداع عن الندوة، فكانت أغلب العروض «عبارة عن استقراء للنقد الغربي بالدرجة الأولى فيما يتعلق ببعض البحوث الجادة، أما غيرها فكان مجرد هرطقات.» و«كنا نتوقع — على صعيد النقد — أن نحس بتبلور علامات لمدرسة نقدية عربية جديدة، ولكن للأسف لم يظهر.»

  • وأكد عبد اللطيف بن داود (ناقد) أن الندوة لم تستطع «أن تصل إلى المبتغى الذي وُضعت من أجله.» فإذا سألناه ما هو هذا المبتغى؟ يجيب «كان على الندوة أن تتوجه إلى إعطاء المفهوم الحقيقي للإبداع العربي والنقد العربي.»

  • أما إدريس الخوري، فيرى أن الندوة بصفة عامة لم تعطِ ما كان متوقعًا منها «بدليل غياب كثير من الأسماء المقترحة والفاعلة التي كانت ستُغني محاور الندوة والنقاش، وهذا ما جعل الندوة متواضعة في محتواها الفكري والنقدي.» ولكنها في الوقت نفسه «مكنتنا من التعرف على مستوى النقد العربي الحديث ممثلًا في الأسماء المشاركة، وجعلت الاتحاد العام للأدباء العرب يخرج بحصيلة معرفية تفرض عليه إعادة النظر في الطرح الفكري للنقد العربي، وكذلك إعادة النظر في اختيار أسماء بعيدًا عن الحسابات السياسية التي فرضت علينا أسماء لا فعالية لها.»

إنني لا أنقل هذه الآراء هنا، لكونها تتخذ موقفًا سلبيًّا من ندوة «النقد والإبداع»، في الدار البيضاء، فهذه السلبية تنال ما يشبه الإجماع، ولا تستحق عناء الاستشهاد. وإنما هذه المجموعة من الانطباعات، قد سجلَتها أولًا صحيفة مغربية، وهي ثانيًا لعديد من الاتجاهات والأجيال. وفي هذه المرة فإن التدقيق والإفصاح التام يميزان الإجابات، بالإضافة إلى اشتمالها على إجابتين غير مغربيتين.

ولست هنا اتبنى حرفيًّا ما تضمنته الآراء المنشورة، لأنني لم أحضر الندوة ولم أقرأ نصوصها. وإنما أحاول تحليل المضمون الكامن فيها، كأية نصوص تحتوي داخلها ما ليس مقطوعًا تمامًا عن الخارج.

هذه النصوص تشير إلى قضايا عامة مثل:
  • (١)

    أن الاتحاد العام للأدباء العرب لا يمثل الأدباء العرب.

  • (٢)

    أن الهيكل التنظيمي لهذا الاتحاد يتكون من مثقفي السلطة.

  • (٣)

    هناك شك في أن هؤلاء مثقفون أصلًا.

كيف أمكن لأصحاب التعليقات استخراج هذه القضايا العامة من الندوة ذاتها؟ سؤال يحتاج إلى وقفة.

قبلها نشير إلى القضايا النوعية في نصوص هؤلاء الأدباء:
  • (١)

    هناك تغيب لبعض النقاد لأسباب سياسية.

  • (٢)

    هناك ضعف في بنية الندوة بسبب هذا الغياب.

  • (٣)

    هناك نتائج ركيكة ثمرة هذا الضعف.

  • (٤)

    هناك متهم رئيسي هو مكتب الأمانة العامة لاتحاد الأدباء العرب، ومتهم محدد هو الأمين العام الأستاذ على عقلة عرسان.

هذه الاستخلاصات بدورها، ليست نتيجة مباشرة لاستقراء النصوص النقدية، وإنما هي نتيجة غير مباشرة لاستقراء حركة الاتحاد العام، والمقارنة الضمنية مع ندوات اتحاد كتاب المغرب.

أما المقاربة النقدية لنصوص الندوة ذاتها، فإنها ألهمت الأدباء أصحاب التعليقات الأحكام التفصيلية التالية:
  • (١)

    سيادة التغريب الفكري؛ حتى إن النصوص الجادة كانت شرحًا وتأويلًا وعرضًا لمدارس النقد الغربي.

  • (٢)

    سيادة الوصف الانطباعي السردي المدرسي في النصوص التي جانبت التغريب.

  • (٣)

    ومن ثَم غاب النقد الإبداعي الذي هو بالضرورة نقد عربي، وإن تفاعل وتمثل أغنى التقاليد النقدية في الآداب الإنسانية كلها.

  • (٤)

    وهذا النقد ليس غائبًا عن العرب وإن غيبته الندوة.

هذه الحصيلة التي أضافتها المجموعة الجديدة من أصحاب التعليقات على ندوة الدار البيضاء، تشير بدقة إلى قضيتين منفصلتين: الأولى تخص الموقف من الاتحاد العام للأدباء العرب. والثانية هي قضية النقد.

وحين أقول إن هذه الحصيلة أضافت، فإنما اعني أنها أكدت وفصلت بعض ما سبق طرحه في المرة السابقة، كما أعني أنها دققت وحددت ما كان مائلًا نحو التعميم.

ندوة الدار البيضاء، بكل ما اشتملت عليه من نصوص نقدية ومن نصوص تنظيمية ومن نصوص سياسية ومن نصوص المداخلات والمناقشات، هي ذاتها نَص مركب من هذه العناصر كلها. وباعتبارها نصًّا على هذه الدرجة من تعدد المستويات؛ فقد كان ممكنًا لأصحاب التعليقات أن يستخلصوا القضايا العامة وفي مقدمتها إشكالية الاتحاد العام كتنظيم قومي للأدباء العرب. إنه استخلاص من داخل النص بهذا المعنى المشار إليه.

وإنصافًا للحقيقة، فإن القول بأن الاتحاد لا يمثل الأدباء، وأن قيادته من مثقفي السلطة، وأن ثمة شكًّا في كونهم مثقفين أصلًا، لا يجوز أن نخص به القيادة الراهنة للاتحاد وحدها، أو نخص به وضعية الاتحاد الراهنة وحدها، وإنما هذا التوصيف القيمي ينطبق على الاتحاد وقياداته منذ نشأته إلى اليوم. لقد تمت ولادته في حضن الأنظمة، عاش حياته في ظلها. غاية ما هنالك أن الأدباء العرب منذ ثلاثين عامًا كانوا في المستوى والثقل والنوعية، أفضل من أدباء زماننا. كان لديهم الحد الأدنى من تقاليد العلم والأخلاق والشعور بالاستقلال. أي أنه بالرغم من وجود سكرتير عام (أبدي) كيوسف السباعي، إلا أن وجود طه حسين ومحمد مندور ونظرائهما في بقية الأقطار العربية، كان يضع حدًّا أدنى من «الشرف» وضوءًا أحمر يصعب تجاوزُه.

وبالرغم من أن السلطة في ذلك الوقت هي السلطة الناصرية بحجمها وراياتها الوطنية والقومية، إلا أن الأدباء الأصيلين كانوا حريصين على التمايز وحتى الافتراق إن اقتضى الأمر. لذلك لم يكن مشهدًا استثنائيًّا فصْلهم من أعمالهم واعتقالهم وخروجهم كبارًا كما كانوا، وأكثر.

جوهر الأنظمة لم يتغير، ولكن ما سُمِّي زمنًا طويلًا بالأنظمة الوطنية هي التي تغيرت وتغيرت حتى بصمت تغيراتها على الثقافة والمثقفين. لم تعد العلاقة زخرفية أو ديكورية، كما كان شأنها في الماضي، وإنما أضحت جزءًا من «ترسانات السلاح» الدعائية. وارتبطت الثقافة بالإعلام واختلطا بالتنظيم السياسي وأجهزته. حتى إن كلمة «المثقف» أمست بالفعل بحاجة إلى تعريف جديد. هل هو الأداة الدعائية للسلطة، أم أنه منتج الفكر الذي عليه أن يتستر بأردية الخبراء، أو يدلف إلى ظلام السجون وأروقة المنفى، أو يتخفى في وظائف التعليم والتخطيط والتصنيع وغير ذلك.

كان هيكل الاتحاد العام للأدباء مرشحًا بالضرورة لأن يكون حاصل جمع الأوضاع الثقافية الرسمية العربية. وباستمرارٍ كان هناك اتحاد قُطري أو اتحادان أو ثلاثة على أقصى تقدير، يمكنه تشكيل «جو» المعارضة داخل الاتحاد. ولكن الشرعية، نظامًا ومعارضة، ظلت دائمًا انعكاسًا أمينًا للأوضاع الثقافية الرسمية في بلاد العرب.

وليس انفضاح الاتحاد العام للأدباء العرب في ندوة الدار البيضاء، إلا لأن الأدباء المغاربة واتحادهم القطري له تقاليد راسخة في الوعي والديمقراطية، كما أشرت من قبل. ولكن مؤتمرات الاتحاد الدورية ليست إلا مسلسلًا من الفضائح الموسمية التي يسدل عليها ستار الصمت والكتمان الضاحك المضحك.

الاتحاد لا يمثل الأدباء العرب. الاتحاد يعزل الأدباء والنقاد لأسباب سياسية. ندوات الاتحاد حلقات مكررة لاستعراض موضوعات إنشائية. مؤتمرات الاتحاد مظاهرات سياسية أو فرص للسياحة. هذا كله، في الحقيقة، ليس جديدًا. والجديد أن أدباء المغرب الشجعان قالوه بوضوح في عيون المتهمين.

لقد عاش الاتحاد ثلاثين عامًا لا يغير عناوين مؤتمراته: الأدب والقومية العربية، الأدب وقضية فلسطين، الأدب والتراث العربي، الأدب والإنسان العربي، الأدب والنضال العربي. النقد والعروبة. النقد والأدب العربي. الأدب العربي في النقد العربي. وهكذا إلى ما لا نهاية من موضوعات سياسية لا علاقة لها بالأدب ولا بالنقد، وفي تقديري لا علاقة لها بالوطنية ولا بالقومية.

فكيف يمكن أن ننتظر فجأة من هذا الاتحاد أن يقيم ندوة ناجحة، حتى ولو كانت بالاشتراك مع اتحاد كتاب المغرب؟ كيف يمكن أن يكون الهدف من ندوة عن النقد والإبداع هو تحديد «المفهوم الحقيقي» للنقد العربي كما جاء في انطباع أحد الأدباء؟ وكيف يمكن أن نتوقع حضور النقاد الجادين أو استبعاد المستويات الدنيا التي تغطي عورتها المعرفية بمصطلحات الغرب أو تعبيرات التراث العربي القديم؟

إن الاختيار السياسي من موقع السلطة، يستحيل معه أن يغلب الموهبة أو الثقافة أو الوعي، على درجة «الاستزلام» السياسي. ولا أقول الانتماء أو التخريب، وإنما الاستزلام، هذه اللفظة الدارجة التي تدل على الارتباط المرتزق. وهو النقيض المتطرف للموهبة والثقافة.

ولذلك، فإنني أعتقد أن جملة انطباعات الأدباء في المغرب عن ندوة الدار البيضاء هي شهادة صحيحة تعيد فتح الملف من البداية، من بداية البدايات. لم تكن الندوة — في مكانها وزمانها — أكثر من نصٍّ اشتمل على كل النصوص. ولذلك كانت البراءة في أجوبة الكتاب المغاربة، ولعلها المفاجأة أيضًا … فهم ما كانوا يتصورون الأمور على هذا النحو، ما دام اتحادهم بخير، وما دامت تقاليدهم ليست كذلك.

غير أن هذه العفوية الحارة الصادقة التي وضعت كل النقاط على كل الحروف، هي التي تملك الصيغة القادرة على تصحيح الملف الخاطئ.

فكيف نبدأ؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤