البعض يفضلونها ديمقراطية

۱

في صيف ۱۹۸۲م تلقيت دعوة لحضور اجتماع في تونس لمناقشة فكرة تجميع قوى المثقفين في منظمة عربية للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي. ولم يكن الحاضرون رغم اختلافاتهم الفكرية يمثلون معظم التيارات الثقافية والسياسية في الساحة العربية.

وتم الاتفاق على عقد اجتماع ثانٍ يكون أكثر ديمقراطية. وفي ديسمبر ۱۹۸۳م عُقد الاجتماع الثاني في قبرص وتضاعف عدد الرجال الحاضرين من أربعين إلى ثمانين. وانكمش عدد النساء إلى امرأة واحدة أميرة من إحدى البلاد النفطية. واتضح أن فردًا واحدًا أو بضعة أفراد قلائل داخل هيئة عربية في بيروت قد احتكرت العمل … إلى آخر ما جاء في شهادة الدكتورة نوال السعداوي الواردة بجريدة «الأهالي» المصرية بتاريخ ٢١ / ۱۲ / ۱۹۸۳م.

وهي شهادة جديرة بالتأمل، لأن ما جرى في ندوتَي تونس وقبرص المشار إليهما كان يحتاج إلى صوت شجاع ممن حضروا أو حضرن يروي لنا الحكاية من أولها إلى آخرها.

وأصل الحكاية أن هناك أزمة في الديمقراطية العربية. وصحيح أن الأزمة قديمة ومستمرة، ولكن مناقشتها في أي وقت أفضل بكثير من تأجيل المناقشة إلى أجل غير مسمى لأنه لا يجيء مطلقًا.

والحقيقة الأخرى أن أحدًا لم يهمل أزمة الديمقراطية، فالجميع تقريبًا يعترف بالمأساة ويقترح لها الحلول ويشير غالبًا بأصابع الاتهام العشر أو العشرين إلى مختلف الدول العربية ما عدا الدولة التي يتكلم من أحد منابرها في العادة، أو هو لا يستثني أية دولة بما فيها دولته التي يتكلم من أحد سجونها أو مستشفياتها أو منافيها في العادة.

وستظل قضية الديمقراطية كأية قضية فكرية أو اجتماعية أخرى بحاجة إلى النقاش مهما نوقشت في السابق، وخاصة إذا كان النقاش جماعيًّا وبين تيارات وبيئات مختلفة … لذلك لا يعترض أي غيور على الديمقراطية أن يجتمع بعض الناس حول هذه القضية في تونس أو في قبرص، ولا ينبغي كذلك أن يعترض أحدهم على «هذه المجموعة من الناس» التي بادرت إلى الدعوة حتى ولو دعت نفسها فقط لمناقشة هذه المسألة. وأنا لا أحب اتهام الآخرين بالدكتاتورية بينما نيتهم الخالصة هي الحوار الحر حول الديمقراطية. يجب أن نفترض العكس ونقول إن أصحاب الدعوة من الديمقراطيين حتى ولو لم يدفعوا ثمنًا لهذه الديمقراطية.

على أية حال، فقد تفضلت الدكتورة نوال السعداوي بالإدلاء علنًا بشهادتها التي يجب إضافتها إلى مجموعة الوثائق التي توافرت عن الندوتين … مع العلم بأن الوثائق لا تعني المحاضرات أو الكلام وحده، بل السياق الذي تولد فيه وتتشكل هذه التنظيمات والمنظمات المنادية بحقوق الإنسان العربي. من هنا وجب التأمل بإمعان وتدقيق لا في شهادة نوال وحدها، بل في كل ما يحيط هذه الندوات من ملابسات.

والملاحظة الأولى هي أن أكثر من جهة عربية دعت إلى ندوة حول الحريات، مما يؤكد أن «عدة مفاهيم» أو تصورات عن الحرية تطرح نفسها في السوق. وأن هذه الندوة أو تلك مهما اكتمل لها النصاب الديمقراطي من التيارات المختلفة، فإنها في خاتمة المطاف تعبِّر عن الجهات العربية وتبرر سلوك هذه الجهة في القضية المطروحة للبحث. وإلا، فلماذا لا تتوحد هذه الدعوات والندوات كلها، خاصة إذا كانت تلد دائمًا «منظمة» للدفاع عن الحريات؟ لماذا تتعدد هذه المنظمات الوليدة للدفاع عن حقوق الإنسان العربي إذا كان هدفها الحقيقي هو هذا الإنسان فعلا؟

والجواب، أنها كالمنابر الإعلامية، تكثر وتتعدد بتعدد الأنظمة وجهات التمويل. وهذا يعني أن كل منظمة سوف تتهم علنًا وبشجاعةٍ نظامًا معينًا أو مجموعة أنظمة بإهدار حقوق الإنسان، وستخفي في الوقت نفسه أو أنها ستدافع ضمنًا عن نظامٍ آخر أو مجموعة من الأنظمة لا تقل بشاعة في إهدار الحريات. ومن الطبيعي أن يتحول الأمر كله بعد حين إلى «حرب» بين المنظمات العربية للدفاع عن حقوق الإنسان، هي حرب الممولين والسياسات التي هي الوجه الآخر لحروب الإعلام. وكما أن هذه لا تثمر «الحقائق» فإن الأولى لن تثمر «الحقوق». سيظل الإنسان العربي مطحونًا وهامشيًّا ومجرد ذريعة في حروب لا ناقة له فيها ولا جمل.

على ذلك، فإننا في مجال التأمل في شهادة الزميلة نوال وغيرها من الوثائق، نقول إنه لمما يلفت النظر حقًّا أن «المبادرة» الأولى لعقد ندوة تونس-قبرص جاءت من واشنطن. ولا يعني ذلك أن صاحب المبادرة نفسه موضع اتهام، فهو أستاذ من أصل فلسطيني لعله يعاني في جامعة جورج تاون من العنصرية الأمريكية والحقد على العرب والموالاة لإسرائيل. وهذه كلها تدفعه لأن يفكر في فلسطين أكثر كثيرًا مما يفكر في الديمقراطية، خاصة وقد تربى في الصبا والشباب على مبادئ الحزب القومي السوري الذي يرفض الوجود الصهيوني جملة وتفصيلًا. كما أن ظروف الثورة الفلسطينية في لبنان وبعد لبنان تدفعه لأن يحصر التفكير والمعاناة في القضية الفلسطينية.

على أية حال؛ فقد استطاع الرجل أن يتجاوز همومه الخاصة وهموم شعبه وأن يفكر في الديمقراطية. حسنًا. ولأنه «مثقف» فقد اختار، هو الذي اختار، عددًا من المثقفين الذين يرفعون، هم الذين يرفعون، راية الليبرالية. وليس ذنبه أن غالبيتهم لم تعرف السجن يومًا واحدًا ولا القهر، فالتخيل يحل أحيانًا مكان المعايشة. وليس ذنبه أن زميله في الجامعة الأمريكية بالقاهرة هو الذي «بادر» بالاستجابة الحارة، فكلاهما مستقل عن النظم والدول العربية. هما وغيرهما في حماية «الليبرالية الأصيلة» يتمتعان بالحياد والموضوعية. وليس ذنب الأستاذين بالجامعة الأمريكية — الفلسطيني في واشنطن والمصري في القاهرة — أن غالبية المثقفين الليبراليين العرب ممن أعجبوا بالغرب ولا يزالون، وممن تربطهم به أوثق الروابط. هو أمر طبيعي للغاية، فالليبرالية في الغرب لا في الشرق ولا في الجنوب.

بدأت ندوة تونس وانتهت في ذروة البكاء العربي على فلسطين ولبنان والعرب. والحقيقة أن أعضاء الندوة أنفقوا عليها من حر مالهم فلم يدفع لهم أحد ثمن بطاقات السفر. والحمد لله أن الدعوة لم توجَّه أصلًا لمثقف يحتاج لثمن البطاقة يسدد به ديونه أو يسدد أجرة المحامي الذي يترافع عنه في إحدى قضايا الرأي.

ويجب الإقرار هنا بأن البيان الختامي للندوة المختصرة قد منح تأييد هؤلاء المثقفين لمسألة الحريات تأييدًا مطلقًا، وأدان بوضوح وحسم التجاوزات العربية لمبادئ حقوق الإنسان في كل قُطر.

وليس مهمًّا في هذا الصدد أن الغرب في هذا الوقت تمامًا كان يمارس الليبرالية في أبهى ذراها، بالمدافع والقذائف والطائرات ضد العرب في لبنان، ضد اللبناني والفلسطيني والسوري وكل ما هو عربي. ليس هذا مهمًّا؛ فقد كان الضحايا شهداء للحرية وللعالم الحر وقد نعاهم ريجان شخصيًّا وكذلك السيدة تاتشر والرئيس ميتران والهركول.

ثم إن الخلط بين الثقافة والسياسة هو من بقايا التخلف والهمجية، فما جرى في لبنان شيء وما يجري في كل بلادنا شيء آخر. وما يفعله الأجانب ضدنا طبيعي، وما نفعله ضد أنفسنا محليًّا غير طبيعي. لذلك وجب التنويه والتنبيه. إن الغزو الصهيوني للبنان والقصف الأمريكي للجبل والبقاع، والخروج الفلسطيني من بيروت، لا يستحق ذلك كله «تناديًا» للمثقفين العرب. إنه أولًا وأخيرًا شأن سياسي. أما الديمقراطية فهي شأن المثقفين.

على أية حال، في قبرص تمت التعديلات المطلوبة لهذه المفاهيم المغلوطة. صحيح أن قائمة المدعوين قد تعدلت هي الأخرى أكثر من مرة. وصحيح أن العدد تضاعف وضم مجموعة لا بأس بها من السياسيين، فانعدمت المسافة بين الثقافة والسياسة. وجاءت البحوث لامعة بإحصائيات اقتصادية واجتماعية وجداول وبيانات جيولوجية ديموجرافية. وأقبل المتحاورون. من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مرورًا بالوسط الذهبي. أبحاث جادة وجديدة، وصارخة، تنتهي بالبشرى السارة: تأسيس المنظمة العربية للدفاع عن حقوق الإنسان. وهذه المرة، لن نفتقد الأسماء ذات الشأن والوزن في القهر والدفاع عن المقهورين. كل شيء تام، جاهز، كأننا أمام «الجريمة الكاملة». وكالجريمة الكاملة لا بد من ثغرة تتسرب منها الحقيقة. وقد كانت هناك ثغرات.

ثغرات «الأكاديمية» العميقة في الأبحاث.

وثغرات «السياسة» الحميدة في الندوة.

ولقد أتيح لي أن أقرأ الأبحاث التي أحاطت بألف الديمقراطية ويائها من أثينا القديمة إلى المملكة الأردنية المعاصرة. وأسعدني غاية السعادة أن هناك قُطرًا عربيًّا واحدًا على الأقل يتمتع بالحرية، هو الأردن الشقيق. وتمنيت على الله أن يحمي لنا هذا الكنز. ولكم فضلت أن يبقى هذا الأمر سرًّا، كما حدث مع بحث الدكتور غسان سلامة عن المملكة العربية السعودية الشقيقة؛ إذ رفض المشرفون على الندوة إذاعة ما انطوى عليه البحث من «أسرار». ولكن يبدو أن أسرار غسان سلامة كانت من النوع الذي يدفعنا للتهدج «يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف» وليس من النوع الأردني الذي يدفعنا للرقص البلدي.

وعلى هذا المنوال سارت الندوة على السلك المشدود تحت سقف السيرك أو بين الأسلاك الشائكة فوق سطح السجن، فلم نحظَ بجديد لا في النظرية ولا في التطبيق. لم يحطم أحد مثلًا الحاجز النفسي بيننا وبين الديمقراطية فيقول إنها وهم وأن المطالبين بها واهمون. ولم يبادر أحد بزيارة الديمقراطية العربية المحتلة في الدار والمدرسة والشارع والجامعة والمصنع والمزرعة والمكتب والجسد الإنساني خصوصًا منطقة المخ.

ولم يتبرع أحد، بدلًا من التعب، بترجمة التقرير السنوي لهيئة العفو الدولية … ما دام أحد لم يتعب نفسه بالبيان الوحيد المطلوب، والذي يرصد بالاسم والعنوان والمهنة والتاريخ جميع الذين استشهدوا أو قيد الاستشهاد على ذمة الحرية في كل كل كل أقطارنا العربية خلال الفترة الواقعة بين انعقاد ندوة تونس وانعقاد ندوة قبرص.

ولأن البيان الوحيد المطلوب لم يكتبه أحد، ولم يعرضه أحد، ولم يهمس به أحد؛ فقد تآزر المدعوون في حركة جماعية شُجاعة لتأسيس «منظمة» للدفاع عن حقوق الإنسان العربي. إنها الديكور الأكثر لمعانًا لتغطية العورة.

٢

«الديمقراطية كالغلاء أزمة عالمية»، «التنمية والديمقراطية لا يجتمعان في العالم الثالث»، إلى غير ذلك من شعارات «أكاديمية» تبرر غياب الديمقراطية، تصبح من الأطروحات القابلة للنقاش في أي وقت. كما أن تفاصيلها الأيديولوجية والسياسية لا تحتاج إلى «مناسبة» لطرح القضية برمتها تحت الأضواء الساطعة … فالقول مثلًا إن هذا أو ذاك من بلدان العالم المتخلف ينفع له الرجل القوي أو المستبد العادل وتضره الليبرالية لا يقل خطورة عن القول بالتنظيم السياسي الواحد الموحد والجامع المانع لدماء صراع الطبقات.

وهكذا تصبح التساؤلات النظرية حول الديمقراطية والخصوصية أو الديمقراطية وقوانينها العامة أو الديمقراطية والثورات أو الديمقراطية بين التقدم والتخلف، كلها من الإشكاليات المشروعة في علم الاجتماع السياسي. كما أن التساؤلات التطبيقية حول أزمة الديمقراطية هنا أو هناك في الشرق والغرب والشمال والجنوب، أو مأزقها بين الأيديولوجية والاقتصاد، أو تمزقها بين التربية العائلية والتربية المدرسية، أو تشرذمها بين الجامعة والبطالة والعمل، أو تشنجها بين العمل اليدوي والعمل الذهني والتكنولوجيا، كلها من الإشكاليات المشروعة في علم اجتماع المعرفة.

غير أننا نلاحظ في ندوتَي تونس-قبرص حول الديمقراطية، أنها لم تتعرضا قط للمسائل النظرية ولا للمسائل الواقعية، بالمعاني التي أوردتها … وإنما في إطار التعميم والإطلاق والتجريد المثالي الموغل في الطوباوية، فالديمقراطية في مختلف الأبحاث هي الليبرالية والليبرالية هي الحرية المطلقة من كل قيد أو شرط. وهو الأمر الذي لم تعرفه أكثر البلدان الغربية عراقة في التقاليد الليبرالية. ولكنه لدى مفكرينا يتحول إلى «قانون» و«مقياس» ينادي بكل شيء أو لا شيء. ولما كان الحكام العرب والحكم العربي، كما نعلم، فالنتيجة المؤكدة هي لا شيء. بل ولما كان المجتمع العربي نفسه على النحو الذي نعرف، فإن اللاشيء يصبح هو الصفر التاريخي.

وربما كنا نستطيع تفسير هذه الحساسية المرهفة لدى المفكر العربي لقضية الديمقراطية وما يمكن تسميته بالمنهج المثالي في تناولها، بأن إهدار حقوق الإنسان في بلادنا وصل حدًّا مذهلًا من الانحطاط وانعدام الضمير والكرامة … إننا نفتقد الحريات في أقطار تنادي أصلًا بالليبرالية الاقتصادية، كما نفتقدها في الأقطار المنادية بالتخطيط المركزي. نفتقدها عند السلطة القائمة وعند المعارضة أيضًا. نستشعر غيابها في العلاقة بين الأب وابنه وبين المعلم وتلميذه وبين الحزب وقواعده وبين الإدارة والعمال وبين الجامعة والطلاب وأيضًا بين الكاتب والقراء وبين الفنان والمشاهدين … وهكذا وهكذا.

ومع ذلك ففي بعض بلاد الغرب يواجهون الأزمة على الأقل بالتوصيف والمسح والإحصاء: ما أثر الكمبيوتر على الديمقراطية أي على دولة المؤسسات؟ وفي الشرق يتساءلون عن الحوافز والتسيير الذاتي. وفي بلادنا لا أحد يسأل عن مقومات الديمقراطية في التراث الحي الساري بدمائنا. لا أحد يسأل مجرد السؤال عن علاقة الديمقراطية بالبني الاجتماعية العربية القائمة منذ ثلاثين عامًا، مثلًا لا أحد يقول لنا أي شيء محدد عن أي شيء محدد. لا أحد يقول لنا ما هي الجرثومة المضادة للديمقراطية، المقيمة في بلادنا بشكل مزمن لا تتأثر بأي مصل؟

لم يتعرض أحد في ندوتَي تونس وقبرص لهذه القضايا الملموسة، وإنما تردد القول حول الحرية كأننا تفوَّقنا على الشرق والغرب، وكأن الحرية المطلوبة هي حرية المثقفين في الكتابة والخطابة فقط لا غير، وكأن الله يحب المحسنين إلى الديمقراطية من الحكام والسلاطين.

كيف نفسر إذن هذا الذي يجري حوالينا ومن خلفنا وأمام عيوننا؟

كيف نفسر انطلاق المبادرة من أستاذين فاضلين يعملان في الجامعات الأمريكية، أحدهما فلسطيني والآخر مصري؟

كيف نفسر الحماس المرهف للقضية المطروحة في وقت تتراكم على رءوسنا وتتساقط مشكلات لا تقل خطورة كغزو لبنان؟

كيف نفسر المصادفات التي تجمع أغلبية من المثقفين تنتمي أفكارهم الأساسية إلى الحضارة الغربية؟

كيف نفسر الصراع بين أكثر من جهة حول تأسيس منظمة لحقوق الإنسان العربي؟

•••

للجواب على هذه التساؤلات يجب استعادة الماضي القريب … فمنذ عشرين عامًا أو أكثر قليلًا، ظهرت في الأفق منظمة تدعى «المنظمة العالمية لحرية الثقافة» ومقرها المركزي فرنسا. وكانت هذه المنظمة تصدر في أوروبا بعض المجلات الثقافية الجادة التي اشتهرت من بينها لدى المثقفين العرب مجلة «إنكاونتر» الإنجليزية التي رأس تحريرها الشاعر والكاتب البريطاني الأشهر ستيفن سبندر.

منذ عشرين عامًا، أكرر، قامت المنظمة المذكورة بعملين بارزين يخصان الثقافة العربية. أولهما الدعوة إلى مؤتمر للأدب العربي المعاصر في روما. وقد حضره من اللامعين حينذاك بدر شاكر السياب وأدونيس وسلمى الخضراء الجيوسي ومحيي الدين محمد وإبراهيم بيومي مدكور وغيرهم. وكان العمل الثاني هو تأسيس مجلة فكرية تصدر مرة كل شهرين هي «حوار».

وسواء في المؤتمر أو في المجلة، فقد كان اختيار الأسماء للمشاركين العرب بالغ النضج والموضوعية فهو اختيار لا يقتصر على اتجاه معين، بل تعددت الاتجاهات والأجيال، من اليمين إلى اليسار والوسط وما بينها وعلى أطرافها. وكان واضحًا أن «المستوى» الفني أو العلمي أو حجم الموهبة من المعايير الصارمة في الاختيار للمؤتمر أو للمجلة. وكان واضحًا كذلك أن قضية الحريات تفوز بأولوية صريحة في برنامج المؤتمر وتخطيط المجلة. وكانت هذه الأسباب وراء الإقبال المشهود على «حوار» من الكتاب والفنانين والقراء المثقفين في فترة قياسية، بالرغم من الحملة المكثفة التي شنتها جهات عديدة لأسباب تجارية وأخرى عقائدية.

ومهما قيل بالأمس أو اليوم أو غدًا من أصحاب الحملة التي أعلنوها لأسبابٍ بعضها لا علاقة له بالوطنية ولا بالقومية ولا بالتقدمية، فإن الأيام كشفت بشهادة الأهل — وهي صحيفة الواشنطن بوست — أن المنظمة العالمية لحرية الثقافة هي إحدى المؤسسات التي تمولها المخابرات المركزية الأمريكية. وعلى الفور استقال ستيفن سبندر من «إنكاونتر» وتوفيق صايغ من «حوار»، وقبلهما كان العديدون من المثقفين العرب قد توقفوا عن الكتابة في مجلات المنظمة.

وانتهت «الزوبعة» التي شغلت المثقفين العرب أكثر من ثلاث سنوات، بالاتهامات والاتهامات المضادة، بالرغم من أن بعض الذين شنوا الحرب على منظمة الحرية من المواطنين المتحمسين الشرفاء، وكذلك المائتا كاتب وفنان ممن شاركوا في مؤتمر روما أو في مجلة «حوار».

أين تكمن المشكلة إذن؟

تكمن أولًا في الأزمة الديمقراطية العنيفة التي بلغت حد أزمة الضمير في ظل الأنظمة الوطنية الوافدة مع الخمسينيات … إذ لم يبرهن «الاستقلال» على أنه أكثر رحمة بأصحاب الوطن من سلطة الاحتلال الأجنبي. وبدت الأمور للناس يومها كما لو أن التحرر من الاستعمار لا يعني تمامًا التحرر من القيود.

أكثر من ذلك أن الدنيا أظلمت إلى درجة القول بأن أعياد «الجلاء» هي تاريخ العبوديات الجديدة، وأن الاشتراكية والحرية لا يجتمعان.

وتكمن المشكلة ثانيًا في ضعف المعارضة الوطنية ومؤسساتها، بحيث إنها لم تستوعب المتغيرات في علاقة المثقف بالسلطة من ناحية، وفي علاقته بالمجتمع من ناحية أخرى. كان المثقف الأصيل قد بدأ يشعر بأن الثقافة تفقد معناها الحقيقي وأنه بالتالي يفقد دوره، فشتان ما بين الأصداء والصوت وما بين الصور والأصل. شعر المثقف العربي فجأة أن المطلوب منه أن يكون صدى لا صوتًا وصورة لا أصلًا. شعر أن الثورة التي ضحى من أجلها أغلى سنوات العمر تزمع أن تقيم دولتها على حسابه وليس لحساب الأمل.

هنا، كانت تكمن المشكلة الثالثة، وهي أن المثقف أصبح بين شقَّي الرحى محاصرًا بسلطة تعلن أنها الثورة وأن خصومها هم الثورة المضادة، إذا انضوى تحت لوائها فهو يخون نفسه ومبادئه، وإذا خاصمها فلن يجد المظلة التي تميزه عن غيره من الأعداء. لذلك يصبح الحل الذهبي في متناول اليد خارج الحدود، في المجلات ودور النشر والمؤتمرات، كلها قنوات للتنفيس بدلًا من الموت كمدًا أو الانتحار جنونًا أو النفي اختيارًا.

وهكذا تكمن المشكلة، رابعًا، في أن أعداءنا الاستراتيجيين يدرسون هذه الظواهر ويتكيفون معها للانحراف بها عن مسارها الألصق بنبض الشعب وتراب الأرض وكيان الأمة، وهم يستفيدون بعد كل تجربة يسقطون فيها. يستفيدون مثلًا من سقوط مجلة «الصداقة» والمجلد الأنيق «أمريكا»، ويستفيدون من سقوط مؤسسة «فرانكلين» ومجلة «المختار» ويستفيدون من سقوط «المنظمة العالمية لحرية الثقافة» والمجلات الصادرة عنها بمختلف اللغات.

إنهم يستفيدون من أخطائهم وأخطاء غيرهم، من سلبياتهم ونواقص غيرهم، ويحاولون بأقصى ما يملكونه من طاقات، أن يتستروا تحت جلودنا داخل دمائنا. ومن المعروف أن «الغزو من الداخل» هو سلاح قديم، ولكن أدوات هذا السلاح هي التي تتجدد وتتلون وتتشكل بما يناسب المتغيرات.

•••

ما هي المتغيرات في زماننا الراهن؟

أهمها على الإطلاق سقوط مجموعة من الشعارات كانت الجماهير العربية ترى فيها البوصلة القادرة على هدايتها. كانت هذه الجماهير أكثر قدرة من المثقفين على الصبر والتحمل، وكانت أكثر قابلية للتنازل عن بعض حرياتها في سبيل الأمل بالحصول على بعض «الاشتراكية» وبعض «الوحدة العربية».

ولم يكن الذي سقط عام ١٩٦١م هو القومية العربية، وإنما كانت «الوحدة الانفصالية» هي التي سقطت.

ولم يكن الذي هوى عام ١٩٦٧م هو الاشتراكية، وإنما كانت رأسمالية الدولة هي التي هوت.

غير أن الجماهير في ذروة المأساة وفي غمرة الكوارث لم تر الانفصال ولا الرأسمالية. رأت «الاشتراكية» و«الوحدة» هما اللتان تسقطان. كلتاهما مسئولة عن هاوية الهزيمة.

ولا أحد يستطيع أن ينكر تيارات اليأس الشامل التي حامت فوق رءوس الجميع.

بعضنا قال إنها منتهى نهاية النهايات، فاستقر في عمق أعماق الهاوية واسترد إلى الوعي أجمل لآلئ ثقافة «اللامبالاة».

وبعضنا نفض الغمة بعد حين و«عادت ريمة إلى عادتها القديمة» وكأن شيئًا لم يحدث. وبعضنا الأخير حاول اكتشاف البدائل.

غير أن هزيمة ١٩٦٧م لم تكن نهاية النهايات. كل عام أو كل عامين أو ثلاثة كانت هناك «نهاية» جديدة تزرع اليأس في مساحات أوسع، أو تغرس البدائل في مساحات عالم يتغير بأسرع من الضوء والصوت.

كان البديل الراديكالي لامعًا في الأفق وما يزال طيلة خمسة عشر عامًا. بعضه كان دينيًّا والآخر كان قوميًّا-اشتراكيًّا.

وكان البديل الآخر هو الديمقراطية، التي عنت لدى الأغلبية الساحقة: الليبرالية.

ولم تكن هذه البدائل وغيرها مجرد أطروحات نظرية مجردة من التاريخ الاجتماعي أو المحيط القومي أو العلاقات الدولية.

كانت التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية الوافدة مع عصر النفط والانفتاح المصري والحرب اللبنانية والثورة الإيرانية، كلها من المتغيرات التي ترجح هذا البديل أو ذاك في زمن كامب ديفيد وغزو لبنان والخروج الفلسطيني واغتيال السادات والجميل.

وبالرغم من أن التيارات الدينية هي الأكثر ضجيجًا في الشارع العربي، فإن المبادئ والأحداث معًا ساهمت في صنع «الفجوة» بين هذه التيارات من ناحية والقطاعات الأوسع من المثقفين من ناحية أخرى.

وبالرغم من أن التيارات القومية الاشتراكية لها من الأرصدة والرموز ما يكفل لها الأضواء على الأقل، فإن التضحيات الراديكالية للمفاهيم الشائعة عنها لم تعرف الحدود الدنيا من الذيوع والانتشار سواء لهيمنة الرؤية البرجوازية على الفكر القومي أو لسيطرة الرؤية الذرائعية على أطروحات الاشتراكية العربية.

وبقيت الليبرالية وحدها، تبدو كما لو كانت المنقذ من الضلال. ليبرالية من نوع خاص فريد، متحررة من الاقتصاد والمجتمع والتاريخ والجغرافيا السياسية، فهي «الحرية» وانتهى الأمر.

وبالرغم من أن الغرب الليبرالي هو الذي يتفنن في دعم الدكتاتوريات العربية ويتفانى في حمايتها ويقاتل من أجلها كشأنه مع مختلف الدكتاتوريات الأفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية … إلا أنه على الصعيد الثقافي يبقى قبلة الليبراليين العرب.

إننا بكل تأكيدٍ من أكثر شعوب العالم احتياجًا للحريات الديمقراطية لأن أنظمتنا من أكثر دول العالم إهدارًا لحقوق الإنسان. ولكننا نعلم في نفس الوقت أن الديمقراطية الليبرالية بالذات قد شنقت في طول الوطن العربي وعرضه بسبب إفلاس الفئات والشرائح والطبقات الوسطى العربية، صاحبة المصلحة في الليبرالية الاقتصادية.

ومن ثَم فإن الإلحاح في طلب المستحيل، هو المرادف لشعار «كل شيء أو لاشيء». وتصبح النتيجة العملية هي اللاشيء، أو الصفر التاريخي.

والجميع يعلم — بالإحصاء الدقيق — أن الغرب قد انشغل بالتيارات الدينية في الوطن العربي وما يزال منشغلًا، بصورة عملية سواء بالدراسة والمسح والرصد، أو بالعلاقات المباشرة.

ولكننا أكثر علمًا، دون إحصاء، بأن الغرب يفرق بين الشارع الشعبي والشارع الثقافي وأن «الديمقراطية» هي العنوان الأكثر لمعانًا في الشارع الثقافي، عنوان الجميع من الخارجين على السلطة العربية. وهو أيضًا، العنوان البديل الأكثر جذبًا وعنفوانًا. بديل الهوية القومية، وبديل الاشتراكية معًا. بل وكلما بعدنا عن الجذور والتأصيل، فإنه يصبح بديلًا عن «التحرر الوطني» أي عن الحلقة الرئيسية في النضال العربي المعاصر.

وهذا الكلام لا يعني أن ندوتَي تونس-قبرص عن الديمقراطية والمنظمة التي نشأت عنها من تأليف الغرب وتلحين الإمبريالية. بالعكس تمامًا، لقد ضمت الندوتان بعض أشرف الرموز الوطنية والقومية. ولكننا في الوقت نفسه ندري أن الغرب يستفيد من أخطائه السابقة، وأنه يجدد أدوات غزوه الداخلي، بحيث إننا لا نستطيع أن ننقد النتائج (أبحاث ومجلدات الندوة وبنيان المنظمة العربية لحقوق الإنسان) دون أن نتسلح بمعرفة حقيقية للمقدمات والسياق الذي قد يؤدي إلى نتائج أخرى غير النتائج المعلنة.

حينذاك لن تفيدنا النوايا الطيبة، ما دمنا نجد أنفسنا في خاتمة المطاف على أبواب جهنم.

٣

أعلن السياسي المصري المخضرم فتحي رضوان عن قيام المنظمة العربية لحقوق الإنسان بدار نقابة الصحفيين في القاهرة بصفته رئيسًا لهذه المنظمة، كما تكلم في المؤتمر الصحفي الدكتور سعد الدين إبراهيم بصفته أمينًا تنفيذيًّا. وبذلك يكون النصيب المصري في نشأة المنظمة كبيرًا، إلى جانب النصيب الأردني والنصيب العراقي.

وبما أن «لكل مجتهد نصيبًا»، فإننا نؤكد للمرة الثالثة أننا من أكثر الناس سعادة لانتشار الدعوة إلى احترام حقوق الإنسان، فلقد نفوز على الصعيد الشخصي بعودة جواز سفرنا إلينا وربما يتهور البعض ويعيد إلينا حقوقنا المدنية والسياسية.

ولكن المشكلة التي تعترض سعادتنا هي أن المنظمة الوليدة لا تضيف جديدًا إلا من حيث الكم، فلا شك أن عدد المنظمات العربية للدفاع عن الحريات قد زاد، وإن كانت الحريات نفسها قد نقصت.

وتتناقص سعادتنا كلما تفحصنا الأوراق التي تؤسس المنظمة الجديدة، فنُصاب بدهشة شديدة عندما تفقأ عيوننا هذه الملاحظات.

إننا لا نعرف الصيدلي الأردني أمين شقير ولا الطبيب الأردني جمال عبده الشاعر، فلربما كان الأول أحد عباقرة الصيدلة والآخر من نوابغ الطب. ولكن الصفة التي وضعت بجانب اسميهما أنهما من أعضاء «المجلس الوطني الاستشاري» في الأردن، أو البرلمان البديل لمجلس النواب الغائب.

وطبعًا هناك عشرات الألوف من الصيادلة والأطباء العرب ممن تحترق صدروهم بالشوق للحرية والدفاع عنها. ولكننا لم نسمع قط بأن أعضاء المجلس الأردني «الاستشاري» قد استشهد أحدهم من أجل الحرية، فهم جميعًا أعضاء «معينون»، وهم جميعًا «مستشارون» لا نواب … هذا إن كان هناك من يستشيرهم بالفعل.

وبما أن المنظمة الجديدة لم يقع اختيارها لسوء الحظ على مئات البرلمانيين العرب المشهورين بالدفاع عن الحريات، فإننا نعتذر عن فهم الدوافع أو الضوابط أو المعايير التي جعلت من عضو استشاري في مجلس معين مناضلًا جسورًا عن الديمقراطية الغائبة، الأمر الذي يؤهله لعضوية منظمة «قومية» للدفاع عن الحريات العربية كلها.

وبالقياس نفسه، فقد يكون الوزير البحريني حسين محمد البحارنة من أنجح الوزراء، وقد تكون الدكتورة سعاد عبد الله الصباح من أنجح باحثات الكويت، ولكن القضية المطروحة أو المنظمة المطروحة لا علاقة لها بالنجاح في الحكم أو في الدكتوراه.

ولذلك وجب التوقف طويلًا أمام النسبة الهائلة من «المثقفين» بالتعريف الضيق لكلمة الثقافة، وكأن المنظمة الجديدة هي منظمة الدفاع بالمثقفين عن المثقفين. بينما الدفاع عن الديمقراطية يتجاوز الشريحة الضيقة من الكُتاب والفنانين إلى الفئات الأوسع من السياسيين إن لم يكن المجتمع بأسره. إن هذا «الانحراف الثقافي» إن جاز التعبير عن غلبة المثقفين على تكوين المنظمة الطارئة يحدد مهامها بأنها دفاع عن حرية الفكر … رغم أن المطلوب كما أعتقد هو الدفاع عن حقوق «الإنسان» لا عن حقوق المثقفين وحدهم.

وفي اختيار المثقفين سوف نلاحظ هيمنة مؤسسة بعينها، هي بالتأكيد مؤسسة ناجحة في مجالها، ولكن من غير المعقول أن تبدو المنظمة الجديدة كما لو أنها أحد فروع هذه المؤسسة. ولا يجوز أن يكون ذلك مكافأة لما قامت به المؤسسة ومن وراءها في تمويل ندوة قبرص. إن الهيمنة التي أشير إليها يجسدها عدد الموظفين في المؤسسة المذكورة والعاملين في إطارها الفكري ممن شاركوا في الندوة وتأسيس المنظمة.

وقد كان من «الشجاعة» أن تتمثل بعض الأقطار العربية بمعارضيها. ولكن هذه الشجاعة اختفت بالنسبة لبقية الأقطار، وهي الغالبية. بل لقد كان من المفارقات المثيرة، أن يكون هناك «عضو» معارض لبلده وأن يكون هناك آخرون من رجال السلطة في بلد آخر. وقد يكون هؤلاء الرجال من المؤمنين بالحرية، ولكنهم بالتأكيد ليسوا من المدافعين عنها. وإذا كان هناك «بلد» عربي واحد يرى المشرفون على الندوة والمنظمة أن الحرية تحققت فيه يصبح السؤال مشروعا: لماذا اجتمعوا في ليماسول لا في عاصمة ذلك البلد؟

إن وجود رموز للمعارضة في تكوين إحدى المنظمات الديمقراطية أمر طبيعي، ولكن أن تقتصر هذه الرموز على بلد أو بلدين، فإن ذلك يعني ببساطة أن الديمقراطية العربية بخير ويجب تعميمها على العالم، ولا يحتاج الأمر حينئذ إلى إنشاء منظمة للدفاع عن حقوق الإنسان العربي، بل للابتهاج بتفوق هذا الإنسان في الحصول على حقوقه، باستثناء بلد أو بلدين يمكن تحريرهما ولو بقوة السلاح.

وقد كان منصور حسن — من مصر — رجلًا أمينًا حين كتب بجانب اسمه أنه «رجل أعمال». ومن المؤكد أن هذا الوزير المصري السابق والذي كان قريبًا غاية القرب من السادات فقد منصبه بسبب «اعتراضه» على نقل الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى أعمال أخرى عقابًا لهم على معارضتهم. ولكن المؤكد أيضًا أن أحدًا في مصر لم يكن يعرف منصور حسن عشية تعيينه وزيرًا، باستثناء تجار العطور الذين فوجئوا بانحراف زميلهم من التجارة إلى السياسة. ولكن المصريين جميعًا باتوا يعرفون بعد ذلك أن «الصديق هنري» هو الذي رشح منصور حسن للمنصب، لأنه لم يكن مجرد تاجر عطور، وإنما كان تلميذا نجيبًا لكيسنجر في جامعة هارفارد.

ولا أعتقد، مخلصًا، أن هذه السيرة ترشح صاحبها لأن يكون أحد رموز الديمقراطية أو الدفاع عنها. ولكن الفرق بين منصور حسن والعديد من مؤسسي المنظمة الوافدة، هو أن الرجل كان أمينًا وكتب إلى جانب اسمه «رجل أعمال». بينما هناك آخرون لم يجرءوا على كتابة وظائفهم الحقيقية. ونحن دائمًا على استعداد لكتابة كل الحقائق، إذا شاء البعض ذلك.

إننا بالطبع من القوميين العرب الذين يدافعون عن هويتهم الوجدوية في زمن الانحسار المروع للمد العربي، ولسنا ممن ربحوا أيام كان هذا المد في ذروة المجد. وبالتالي فإنني من حيث المبدأ لا أرفض أن تكون هناك غالبية مصرية أردنية عراقية خليجية، تمثلني.

إنني على استعداد لأن يمثلني أي عربي بشرط ألا يكون شاهدًا أو شريكًا أو مشاركًا في ذبح أبناء شعبه ونفيهم وقتلهم أحياء وانتهاك أعراضهم. وكلها مدونة في أحدث تقارير هيئة العفو الدولية بالاسم: اسم الجاني وأسماء المجني عليهم.

وأجدني على استعداد لأن يمثلني العربي الديمقراطي الحر إذا كانت هناك الضمانات الفكرية على الأقل، فلا يعقل أن تتمثل التيارات المحافظة بهذا الكم الهائل، وتغيب التيارات الراديكالية غيابًا شبه تام، ثم نزعم أننا ندافع عن الحريات. فاقد الشيء لا يعطيه. ولا يفيد أحدًا تغطية الحقائق بحضور عدة أشخاص موثوقين أو بتطريز الثياب الأكاديمية اللامعة.

لا. لن يخدعنا أحد.

•••

فلا شيء يولد من الفراغ.

وكان مثيرًا أن يجيب أحدهم في نقابة الصحفيين المصريين على سؤال لجريدة «الأهالي» حول ما إذا كانت المنظمة الجديدة قد اتصلت بلجنة الحريات في نقابة المحامين أو لجنة الحريات المنبثقة عن جهود الأحزاب المصرية، فقال: ليس بعد، لقد تم الاتصال عربيًّا ببعض الهيئات، ولم يكن لدينا الوقت للاتصال ببقية الهيئات.

وهي إجابة مثيرة فعلًا.

لأن الرئيس والأمين التنفيذي من مصر، وكلاهما على صلة بالأحزاب والنقابات، وهي أقرب إليهما من حبل الوريد.

ولكن المشكلة، حقًّا، ليست في الاتصال أو عدمه. هذه صورة مقلوبة تمامًا، فالأصل هو أن هناك هيئات وطنية وأخرى قومية وثالثة دولية للدفاع عن الحريات.

هناك هيئات ناضلت عن الحرية ودفعت الثمن كنقابة المحامين في مصر، وكلجنة الحريات من كل الأحزاب، وكاللجنة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية. هذا في مصر وحدها.

وهناك هيئات ممثلة في معظم الأقطار العربية.

كلها منظمات لم تولد بعمليات قيصرية، وإنما ولدت بشكل طبيعي من رحم الحياة العربية ذاتها بكل متناقضاتها وصراعاتها.

وهناك منظمات ماتت.

في باريس مثلًا جرت محاولتان. الأولى باسم «مركز الدفاع عن حقوق الإنسان في مصر»، نشأ بكفاح بعض المصريين الحاصلين على الجنسية الفرنسية وعلى الدعم المادي من أحد الأنظمة العربية. وقد تصالح هذا النظام مع مصر، فتلاشى المركز تدريجًا حتى صفى أعماله نهائيًّا.

والمحاولة الثانية دعيت «التجمع المصري من أجل الديمقراطية». وقد حضرت شخصيًّا اجتماعها الأول في مكتب الجامعة العربية. مجموعة من الشباب والكهول والشيوخ الذين ينتمي بعضهم إلى أحزاب والبعض الآخر من المستقلين والبعض الأخير من أجهزة الأمن المصرية والعربية والدولية.

ولم أحضر أي اجتماع آخر لهذا التجمع، فسرعان ما صفى أعماله لحدة صراع الإدارات. كان لمكتب الجامعة العربية في باريس هدف يختلف عن أهداف الأحزاب والسفارات والمخابرات الممثلة في هذا «التجمع». لذلك سقط. أو لعله نجح حسب «الهدف» المضمر لدى كل فريق، ربما كان «تعرف» بعض العناصر فقط هو الغاية التي تحققت.

على أية حالة، فإن سقوط المحاولتين يشير إلى حقيقة الحقائق، وهي أن استزراع أي تنظيم أو هيئة في الخارج — خارج الوطن العربي — هو كالحرث في البحر، محكوم عليه سلفًا. الميلاد الشرعي والطبيعي هو الذي ينبت من صلب الأرض المحلية في أحضان الواقع الحي الدافئ بعرق المناضلين ودماء الشهداء.

ومن هنا، فالإشارات النقدية السابقة لما سمي بإعلان منظمة عربية للدفاع عن حقوق الإنسان، هي إشارات جزئية لا تقصد تحديدًا هذا الفرد أو ذاك الفكر أو تلك المؤسسة، وإلا لقدمنا البديل. وليس الأمر صعبًا. فمن أيسر الأمور توصيف الديمقراطية في الباب الأول من أية لائحة تنظيمية، ومؤهلات العضو سواء كان من رجال القانون أو السياسية أو النضال.

ولكنني قصدت في الحقيقة عدة نقاط: هي الحذر من اختراع ندوات ومنظمات تستجيب شعاراتها وعناوينها لجراح حقيقية، ولكنها قد تستدرجنا بالتداعي أو النوايا الطيبة إلى استراتيجيات لا نملك كل خطوطها ولا كل خيوطها.

والنقطة الثانية هي أن أزمة الديمقراطية في بلادنا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأزمة النمو، وهذه ترتبط ارتباطًا أوثق بأزمة التحرير والهوية القومية. إننا لا نعاني من أزمة الديمقراطية الليبرالية ولا من أزمة الديمقراطية الاشتراكية، وإنما نكابد أهوال أزمة الديمقراطية الشاملة للاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة. ديمقراطيتنا مرتبطة من ناحية بتحرير كامل التراب العربي من العدو الإمبريالي-الصهيوني، ومن ناحية أخرى بتجسيد هويتنا القومية في دولة الوحدة العربية. وبغير اكتشاف معمق للمفهوم الديمقراطي ذي البعدين القومي والاشتراكي، لن نتوصل إلى الإطار الصحيح للدفاع عن حقوق الإنسان في بلادنا.

والنقطة الثالثة، هي أن التحديد السابق يتطلب البدء من أسفل، من القاعدة الشعبية العريضة، من الواقع النضالي للعرب المعاصرين. أي البدء من داخل المنظمات والهيئات القائمة للدفاع عن الحريات، بتأصيل الجذور وترشيد الفروع … لا بتخدير المثقفين ولا بأحلام النخبة ولا بمزايدات قُطرية رخيصة أو مناقصات دولية أكثر رخصًا.

•••

أيام زمان، وقبل أن يسحق البولدوزر مكتبات سور الأزبكية في مصر، كنا نردد: لماذا نشكو من الديمقراطية، وها هي ذي الكتب من كل لون فوق السور العتيد بلا رقيب.

ولكن ديمقراطية الأزبكية لم تدم، فيومًا كان قراؤها من المثقفين داخل السجون، ويومًا آخر كانت هي نفسها قد اختفت.

ولا أعتقد أنه يمكن الدفاع عن حقوق الإنسان العربي على طريقة سور الأزبكية.

٤

قال لي وعيناه تشعان بأسى التاريخ: تأمل معي هذه الظاهرة ثم احكم بما شئت، من هم الذين يدخلون السجون والمعتقلات في بلادنا؟ هل هم الذين ينادون بتطبيق ميثاق حقوق الإنسان؟ هل هم أعضاء لجان الدفاع عن الديمقراطية؟ هل هم أعضاء هيئات العفو الدولية؟ في كلمة واحدة، هل هم الليبراليون؟ أم إنهم الاشتراكيون والقوميون والإسلاميون؟

قلت: دعني أحترز في الجواب وأقول إن السجون مليئة بكل هؤلاء. ربما تتفاوت النسبة العددية بين بلد وآخر حسب الوزن السياسي لكل فئة أو فرقة أو حزب، وحسب الموقع الذي يحتله هذا الفريق أو ذاك من النظام الحاكم. ولكن الموضوعية تقتضي القول إن الجميع — تقريبًا — في السجون.

قال، وما زالت عيناه تقطران دموعًا غير مرئية: كلا، ليست هذه هي الموضوعية، لأن العالم يتغير كل لحظة بمعدلات قياسية. لقد انتهى الزمن الذي كان فيه حق النشر وحق التظاهر وحق الإضراب هي «كل» حقوق الإنسان. وحتى في ذلك الوقت البعيد — أيام الثورة الفرنسية وما بعدها — كان الفرق شاسعًا بين مصير الذين يدافعون عن هذه الحقوق وبين الذين يمارسونها. كان السجن وما يزال يمتلئ بالذين يكتبون وينشرون ويخطبون ويتظاهرون ويُضرِبون، أكثر كثيرًا من امتلائه بالذين يدافعون عن حق هؤلاء في الاجتماع والكتابة والإضراب والتظاهر … وإلا لكان جميع المحامين في السجون، أليس كذلك؟

لم أُجب؛ فقد استأنف كلامه متحفزًا في هلع من شيء ما: كان ذلك في الماضي، حين كانت غاية المنى أن يجتمع البعض، أن يخطب أحدهم في مظاهرة أو اعتصام. أما الآن، فلم تعد الأمور على هذا النحو من البساطة. أصبحت حقوق الإنسان تعني إلى جانب حق التفكير وحقه الآخر في التعبير وحقه الثالث في الاحتجاج وحقه الرابع في الاتصال وحقه الخامس في التنظيم، أصبحت «حقوق الإنسان» إلى جانب ذلك كله تعني حقوقه الأقل رفاهية والأقل ترفًا والأكثر اقترانًا بالطبيعة والحياة ذاتها، لأن حقوق الإنسان المعاصر أضحت تعني البديهيات للأسف، كحقه في الخبز والشاي والحليب والمسكن والتدفئة والعلاج والتعليم والمواصلات. إنها حقوق الإنسان، كما ترى، منذ ملايين السنين، فهي حقوق الإنسان لمجرد كونه إنسانًا في كل زمان ومكان. ولكن «التقدم» الذي أحرزته البشرية على مدى العصور كان يتخلف بالغالبية العظمى من البشر إلى ما وراء العصر الجليدي والعصر الحجري وأحيانًا إلى ما وراء العصر البدائي. كلما أحرزنا تقدمًا كان لحساب فئة على حساب أخرى، أو لحساب وطن على حساب آخر، أو لحساب عِرق، طائفة، لون، مذهب، على حساب الأخريات أو الآخرين. وبالرغم من أن «التقدم» تحرزه البشرية ككل اجتماعيًّا وحضاريًّا، إلا أن الفائز بثماره هم أقلية الأقليات، ألا ترى معي أن الحرية الإنسانية قد اختلفت معانيها، وتخلفت بالتالي حقوق الإنسان خطوات واسعة إلى الوراء؟ وألا ترى معي أن المدافعين عن الحريات في بلادنا بالمعاني الليبرالية المجردة لا يشعرون غالبًا بمعنى حاجة طفل إلى كوب من الحليب الساخن؟ وألا ترى معي أن الذين يحاولون الحصول على هذا «الحق» الإنساني — كوب الحليب — هم الذين يدخلون السجون العربية، سواء من الباب الإسلامي أو الباب القومي أو الباب الاشتراكي؟

كان التعب قد بدأ يغزو عينيه، حين حاولت أن أكون الطرف الآخر في حوار قلت: ما زالت حقوق الإنسان كما كانت في القديم، ولكن الزمن أضاف إليها ولم ينقص منها. إننا بالقطع، لا نعود إلى الوراء. وليس المطلوب هو حق الطعام أو الشراب أو الاتصال أو العلاج أو التعليم بالمعاني المجردة لهذا الحق، كما كان عليه الأمر في الماضي القريب أو البعيد … فالطعام ذاته تغير، والشراب، والعلم، والطب، والمعرفة. والقضية إذن خاصة بشروط هذا الحق، لا بالحق ذاته. وهذه الشروط تتوافر في العصر الراهن ضمن متغيرات راديكالية في وسائل الإنتاج وقوى الإنتاج. ومن ثَم «القيم الاجتماعية» المترتبة على متغيرات «العلاقات الاجتماعية الجديدة».

سألني: ماذا تقصد؟ هل يتوافر لعامل اليوم ما كان يأكله عامل الأمس، وهل يتوافر لفلاح اليوم ما كان يشربه فلاح أول أمس؟

قلت: نحن نتكلم عن أمرين مختلفين تمامًا، فلقد تغير «الإنتاج» ذاته بدءًا من النفط وليس انتهاء بالكمبيوتر، وكان لا بد من أن يتغير الاستهلاك من حيث الإطار الاجتماعي وقوانينه وقيمه. ربما كان الحليب والبصل والجاز والكتاب وحلاق الصحة، كلها ما تزال موجودة في القرية أو الحي الشعبي من المدينة. ولكن المشكلة أن ما طرأ من تغيرات اجتماعية في هيكل المجتمع وبنائه التكنولوجي والمكتشفات الوافدة إليه من الخارج وقوانين السوق، قد فرضت على الفلاح «وسائل» للحياة لم يعرفها من قبل. وهذه الوسائل فرضت بالتدريج «غايات» لم تخطر على باله من قبل. الكهرباء والإذاعة والتليفزيون وأحيانًا السينما والمسرح والمدرسة والجامعة والبوتاجاز والسيارة والقطار ومعمل الألبان ومصنع الأعلاف ومشغل النسيج ومختبر التحاليل الطبية، هذه كلها وغيرها كثير مما لا يحصى ولا يعد من مليارات التفاصيل التي لا ترى، قد ألغى من حياة العامل والفلاح والتلميذ والموظف وصاحب الأرض والمصنع، «مشاهد كونية» كاملة، ألغى حِرفًا وصناعات وأطعمة وملبوسات وأفكارًا ومشاعر ومعتقدات، ألغى علاقات ومناهج. وأحل مكانها وسائل جديدة للعيش وغايات جديدة للحياة.

هذه الوسائل الجديدة والغايات، لا يملك أحد معها أن يصور حق الطعام، كما كان هذا الحق في الماضي. وقُل الأمر نفسه عن الشراب والعلاج والتعليم. لقد تطور هذا الحق في موازاة تطور الإنتاج والاستهلاك في عالمنا المعاصر. إننا إذن لا نعود القهقرى إلى المجتمع البدائي حين كان حق الطعام مقترنًا بالقدرة على الصيد مثلًا، بل نطالب بحق الطعام أو العلاج أو التعليم في ضوء التطور الخطير الذي أحدثته البشرية بأسرها، بمختلف الطبقات الاجتماعية والأجناس والأديان والألوان والمواقع الجغرافية. أي أن المطلوب هو حق المشاركة، في ثمار هذا التطور.

تمامًا، كما كانت المطالبة بحق التفكير والتعبير هي مطالبة بحق «المشاركة» في صنع القرار السياسي و«المشاركة» في رقابة تنفيذه.

وسيبقى حق التفكير والتعبير والمشاركة في الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد، هو جوهر الديمقراطية. ومن يدافع عن هذا الحق سيبقى من رموز الدفاع عن إنسانية الإنسان. ولكن الاقتصار على ذلك هو الذي لا يدفع بغالبية الليبراليين إلى السجون، بينما يدفع بغالبية الاشتراكيين والقوميين والإسلاميين إلى أقبية التعذيب.

لقد تجاوزت الإنسانية مرحلة الثورة الفرنسية. ولكن هذا التجاوز لا يعني أننا تجاوزنا ميثاق حقوق الإنسان. سيبقى هذا الميثاق هو حجر الزاوية، لأي بناء جديد للضمير البشري ونحن الآن في أي مكان من العالم المعاصر، نحتاج إلى هذا البناء الجديد الذي من دونه سيبقى الاختلال الاجتماعي الفادح على صعيد الكرة الأرضية كلها. إن ازدياد معدلات الجرائم كمًّا ونوعًا، ليس أكثر من إنذار على بشاعة الخلل بين شمال العالم وجنوبه، وبين القوميات المختلفة وبين الطبقات الاجتماعية والطوائف والأعراق. تعاظم العنصرية. تزايد الحركات الانفصالية. اتساع رقعة الحروب. التوتر بين الشرق والغرب. تكاثر شبكات الإرهاب. عالمية الجنوح والسرقة والشذوذ والاغتصاب. ضخامة انتشار مافيا الأحداث والمخدرات. كلها عناوين مبسطة للخلل التاريخي في عصرنا. لا ينجو منه «المتقدمون» ولا «المتخلفون».

ولن ينسى التاريخ الفرنسي على سبيل المثال أن أعظم رموز الليبرالية — شارل ديجول — قد توجه في غمرة تصاعد انتفاضة ١٩٦٨م إلى الجيش. وكانت الإشارة تعني أن لليبرالية حدودًا وحتى هذه اللحظة لا تستطيع «مظاهرة باريسية» أن تتجاوز حدودها المتفق عليها سلفًا مع الشرطة. سيكون هناك على الطرف الآخر من الحدود رجال الأمن المركزي القادرون على تمريغ الليبرالية في الوحل البشري الأحمر.

وقد يستطيع جاك بيرك وعشرات غيره من المفكرين والصحف وحتى الإذاعة والتليفزيون، الاحتجاج على «الهمجية» و«البربرية» بل و«الفاشية البوليسية». ولكن أحدًا منهم لن يدخل السجن. سيدخله فقط العمال المغاربة والجزائريون والتونسيون والسود. هؤلاء الذين يُطردون من عملهم ويُحرَمون من هويتهم ويمتهنون في كرامتهم، كل دقيقة، يوميًّا. هل هي العنصرية؟ نعم، ولكنها على الوجه الآخر هي «اللاديمقراطية» التي تُمارَس في بلاد ميثاق حقوق الإنسان. لأن حقوق الإنسان في فرنسا، وفي أي بلد آخر، لم تعد مقصورة على حق الفكر والتعبير والخطابة والكتابة. لقد تطورت هذه الحقوق، ولم تعد المسافة الواقعة بين جان جاك ومونتسيكو، بكافية أو بقادرة على استيعاب الحقوق الجديدة.

سيبقى الجوهر قائمًا، وهو حق المشاركة لكل مواطن في صُنع القرار والرقابة على تنفيذه. وسيبقى هناك شهداء في كل العصور من المدافعين عن هذا الحق.

ولكن تجليات هذا الحق في عصرنا عمومًا وفي بلادنا خصوصًا تحتاج إلى «ميثاق» جديد.

قاطعني صديقي وقد ابتلَّت عيناه ببريقٍ خاطف: ميثاق؟ المواثيق تكتبها الثورات، وليست الندوات أو المنظمات، فعلى أي نحو تريد الميثاق الجديد؟ وهل هو ميثاق لنا وحدنا، أم لغيرنا أيضًا؟

وحتى لا يستطرد، بادرتُ إلى الجواب: لقد أردت أن أفكر معك بصوتٍ عال حول ما أثير ويثار هذه الأيام عن ندوات ومنظمات جديدة للدفاع عن حقوق الإنسان العربي.

أردت أن أقول، أولًا، إننا لسنا بحاجة إلى منظمات جديدة بقدر ما نحن بحاجة إلى أفكار وأعمال جديدة، تتطلب الحد الأقصى من التنسيق بين لجان الحريات القائمة فعلًا في مختلف الأقطار العربية.

أردت أن أقول، ثانيًا، إننا لسنا بحاجة إلى منظمات جديدة بقدر ما نحن بحاجة إلى رؤى جديدة لمسألة الديمقراطية … فالدفاع عن حقوق الإنسان بالمعنى الوارد في مواثيق الأمم المتحدة يظل من النضالات الحيوية في بلادنا، ولكنه يكتسب المشروعية الكاملة باستيعابه المتغيرات البالغة التركيب والتعقيد.

ولعلِّي أضرب مثالًا عمليًّا من الانتفاضات الثورية العربية في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن. لقد ارتبط مطلب الجلاء بمطلب الدستور في نضال الرواد من الوطنيين الديمقراطيين. كانت العاصمة العربية في هذا القُطر أو ذاك تطلب الديمقراطية داخليًّا والاستقلال من الاحتلال الأجنبي في وقتٍ واحد. كانت «الوطنية» تعني هذا النضال المزدوج.

ولكن الدنيا العربية تغيرت بعد نصف قرن. لم تعد حقوق الإنسان العربي في الداخل هي الصحافة الحرة والبرلمان فقط لا غير.

أضحى من الحقوق المباشرة للإنسان العربي حقه في مقاتلة العدو دفاعًا عن حقه في «الأرض». وأضحى من حقوقه المباشرة حقه في مقاتلة الإقليمية؛ دفاعًا عن حقه في «الهوية القومية». وأضحى من حقوقه المباشرة حقه في مقاتلة الاستغلال والتبعية دفاعًا عن حقه في «الاستقلال» والتقدم الاجتماعي الشامل.

هذه وغيرها بكل التفريعات والتفصيلات أضحت من حقوق الإنسان المشروعة وغير المدونة في الوثائق والمواثيق. لم تعد الديمقراطية هي حقي في الخطابة والكتابة والتظاهر والإضراب والاعتصام «لإثبات» رأي و«إقناع» الآخرين. وإنما أمست الديمقراطية هي حقي المشروع في أرضٍ محررة وهوية قومية وتقدُّمٍ اجتماعي.

قاطعَني من جديد: أين الغاية هنا؟ وأين الوسيلة؟ أليست الكتابة أو الخطابة أو التنظيم وسائل ديمقراطية؟

قلت: نعم، ولا بد من توفيرها والذود عنها. ولكن تحرير الأرض أو المجتمع أو الثقافة ليس مجرد غايات تحققها الوسائل السابقة. ليست الليبرالية مجرد وعاء يصلح لاحتواء الاشتراكية مثلًا. كلا. كلتاهما شكل ومضمون في نفس الوقت. الليبرالية ليست تعددية حزبية فقط، وإنما نظام اقتصادي أيضًا يسمون أخطر مراحله «بالانفتاح». ليست الديمقراطية هي الليبرالية وحدها. والليبرالية ليست هي ذاتها التي كانت منذ قرنين. كل شيء يتغير. وحين تتراءى الليبرالية لبعضنا وكأنها البديل عن القومية والاشتراكية يجب أن نتساءل ماذا دهانا؟ لأن حق أي طفل من صعيد مصر أو جنوب تونس أو نابلس أو صور في كوب من الحليب الساخن هو أحد عناصر الديمقراطية الجديدة. ولأن حق أي شاب لبناني أو فلسطيني في رفع السلاح ضد المارينز وقوات أرينز هو أحد عناصر الديمقراطية الجديدة.

وليس أمامنا ولا خلفنا ولا حوالينا سوى البحث عن بقية عناصر هذه الديمقراطية الشاملة، أو الطوفان … لأن تحويل الحقوق الأساسية للشعب العربي إلى مجرد ديكورات زخرفية، والتفرغ للدفاع عن هذه «الأشكال» الجميلة قد لا يدفع بالليبراليين العرب إلى السجون، ولكنه سيفتحها عن آخرها، لغيرهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤