الانفتاح والانغلاق في الثقافة المصرية

١

هل يمكن أن يكون هناك انفتاح مع التخطيط أم إن التخطيط والحرية متعارضان؟ وهل يمكن أن يكون الانغلاق مرادفًا — في جميع الأحوال — للتخطيط، أم إن الانغلاق يمكن أن يحدث في ظل الحرية؟

تجيب التجربة الثقافية في مصر، وقد تجاور فيها الانفتاح والانغلاق، أن التخطيط … بلا سلبيات، هو المقدمة الصحيحة للحرية؛ إذ هو يقوم بدور «الوعي بالحرية» … وأن الانغلاق الذي عرفته التجربة المصرية مرده إلى أن القرار لم يكُن في أغلب الأحيان ديمقراطيًّا، وأن الخطة كانت على وجه التقريب مرتجلة. غياب الديمقراطية عن صنع القرار أثمر التناقض الفادح الثمن بين وسائل التخطيط وأهدافه، بين فردية الأمر الفوقي وجماعية التنفيذ. أما الارتجال في صياغة الخطة فقد أثمر التناقض البشع والمبتذل بين الاستراتيجية والتكتيك، بين المرامي البعيدة والإنجاز المرحلي. هكذا تم اغتيال التخطيط باسم التخطيط، وبرزت الدعوة إلى الانفتاح والحرية وكأنها النقيض الأكثر تقدُّمًا من التخطيط.

رغم ذلك فقد أنجزت مؤسسات الدولة الثقافية وتشريعاتها — في ظل ثورة ٢٣ يوليو — العديد من الإيجابيات الفكرية والفنية التي لا يجوز مقارنتها بإيجابيات الليبرالية القديمة.
  • إن جيلًا جديدًا قد ولد على خشبة المسرح المصري منذ أواسط الخمسينيات، لم يكُن لتُتَاح له فرصة النمو والازدهار لو أن مسرح الدولة لم يكُن قائمًا بالاتساع الذي عرفه طيلة العشرين عامًا الماضية. باستثناء توفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير وتجربتي نعمان عاشور ورشاد رشدي اليتيمتين مع المسرح الحر، لم يكُن مقدَّرًا لعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وسعد وهبة وميخائيل رومان ونجيب سرور ومحمود دياب، أن يملئوا الساحة الفنية بمسرحهم «الجديد»، فكرًا وفنًّا. كان مسرح الريحاني ويوسف وهبي وبديع خيري هو القيمة الدرامية السائدة على جمهور «التياترو» … بالاقتباس والتمصير والفارس والميلودراما كانوا يهيمنون على الذوق العام، بقيم الطبقة المتوسطة كحدٍّ أقصى وكباريهات الحرب العالمية الثانية، في الأغلب الأعم. ثم أقبل الجيل الجديد من معطف توفيق الحكيم والثقافة العالمية والاحتكاك الأكثر وعيًا بشعب مصر، فاستطاع أن يخلق مسرحًا مغايرًا في الفكر والتعبير. جماليًّا، بدأت الولادة الحقيقية للمسرح المصري تكتمل بشتى المحاولات المفتوحة على التراث الشعبي والشعر الحديث والمدارس الفنية الحديثة خصوصًا بريخت وبيرانديلو. فكريًّا، لم يعُد النقد الاجتماعي الساخر مجرد قفشات مقاهٍ ونكات ليالي الأُنس والفرفشة، بل أصبح تجسيدًا عميقًا — أو سطحيًّا — لصراع القوى الاجتماعية مرموزًا إليها بالشخصيات النمطية والمتفردة وبالأحداث التاريخية أو المعاصرة وبالمواقف الكوميدية أو التراجيدية وبالمواقف التقريرية المباشرة أو الموحية الهامسة وبالرقص والموسيقى والديكور.

    وقد خلق ذلك كله نقدًا مسرحيًّا حقيقيًّا انتقل بالفعل — وفي أكثر نماذجه أهمية — من مرحلة العلاقات العامة بالمدح والقدح، إلى مرحلة العلم وفلسفة الفن نظريًّا وتطبيقيًّا. إن أهم أعمال مندور ولويس عوض في النقد المسرحي هي ثمرة هذه المرحلة رغم جهودهما السابقة. أما إنجازات علي الراعي ومحمود العالم وأمير إسكندر ورجاء النقاش وعبد القادر القط الحقيقية فقد كانت الابنة الشرعية لقيام هذا المسرح الجديد. تفاوتت المواهب والخبرات والانتماءات، ودرجات الثقافة من ناقد إلى آخَر، ولكن نقدًا مسرحيًّا حقيقيًّا كان قد وُلد. بل إن تعدَّد تياراته كان تأكيدًا لوجوده، لا نفيًا له. وأصبح النقد — كالمسرح — منبرًا للوعي، وشكلًا راقيًا للصراع. إن حوارًا هامًّا حول الشكل والمضمون ومعنى الفن كالذي دار بين مندور ولويس عوض من جانب، ورشاد رشدي وتلامذته من جانب آخَر لم يكُن قطُّ حوارًا أكاديميًّا نظريًّا مجردًا، بل كان وثيق الارتباط بالحياة الفنية الدائرة على خشبة المسرح من جهة والحياة الاجتماعية على أرض الواقع من جهة أخرى.

    ولم تكُن الرقابة غائبة عن تلك الخشبة ولا عن هذه الأرض، وكم تعرض المؤلفون والنقاد — فضلًا عن المخرجين والممثلين والجمهور — لعنت الاضطهاد والقهر، بالحذف والتعديل والإضافة والمنع. وقد كانت لجنة القراءة ورئيس المؤسسة فرعًا آخَر للرقابة. أي إن السلطة كانت طرفًا أصيلًا في الحوار بين الفن والمجتمع. ولكن الحصيلة النهائية — في ظل التخطيط — كانت انفتاحًا على العصر والمجتمع والجمال، بينما كان القطاع الخاص — ولا يزال — يشكِّل «انغلاقًا»، بين أسوار كباريهات الحرب الثانية. فنيًّا يقف في حالة «محلك سر» عند أعتاب الريحاني — في أحسن الأحوال — وعند أعتاب بديع خيري وأبو السعود الإبياري في معظمها. فكريًّا هو المخدر السريع الزوال لهموم مَن يرتادونه من أبناء الشعب المحروم، هو المكان الأكثر «راحة» لأصحاب الياقات البيضاء من عناء نهار طويل في النهب ومص الدماء.

    فهل يُصبح الانفتاح — مثلًا — هو فك الارتباط مع القطاع العام في المسرح، هل يصبح عبد المنعم مدبولي وفؤاد المهندس وأمين الهنيدي عنوان الانفتاح الجديد؟

    أم إن الانفتاح الحقيقي هو تخليص القطاع العام المسرحي من السلبيات — اللاديمقراطية والارتجال — ودعم الصراع الفكري والفني الذي كان جاريًا متدفِّقًا ومحتدمًا على خشبة المسرح المصري؟

  • إن جيلًا جديدًا قد وُلد في ساحة الأدب المصري الحديث، خاصة في الشعر والقصة القصيرة. وبالرغم من أن هذا الجيل الذي ظهرت بداية إنتاجه الفني في الستينيات، يكاد يقف على الطرف النقيض من المناخ الأدبي العام، وبالرغم من أن وسائل ذيوعه وانتشاره كانت المجلات ودور النشر في بيروت وبغداد، وبالرغم من أن بعضًا من أفراد هذا الجيل قد عانى ويلات القهر السياسي في السجون والمعتقلات … إلا أن تجربته الفنية في خاتمة المطاف هي وليدة معايشته الحارة للحياة المصرية طيلة السنوات العشرين الماضية.

    لقد كانت الأفكار الجديدة الوافدة مع فيض الترجمة الذي أغرقت به دور النشر الحكومية الأسواق، وكذلك صدور العديد من المنابر الأدبية كالمجلات والدوريات والبرنامج الثاني في الإذاعة، من بين الأسباب التي تفاعلت مع قدرات الشباب وتجاربهم الحياتية المؤلمة. كان عصر الباشوات في الأدب قد ولَّى ولم يعُد ميسورًا لعزيز أباظة جديد أو محمود تيمور أو توفيق الحكيم أو يحيى حقي أن يظهر. ولو كان أمل دنقل ومحمد عفيفي مطر ويحيى الطاهر عبد الله وعبد الحكيم قاسم وغيرهم عشرات، من أبناء مجتمع ما قبل ١٩٥٢م لما تيسَّر لهم الظهور رغم الموهبة. وإذا كانت الصعاب والأهوال قد حالت دون بروز بعض المواهب أو بلورتها، فإن الانفتاح الحقيقي لا يتم إلا بتهيئة المناخ أكثر فأكثر لهذا الجيل — الذي لم يعُد شابًّا — حتى لا تنقطع سلسلة التطور بقهر إحدى حلقاتها، وحتى لا تخلو الساحة للجثث التي تسعى على قدمَين. إن خصوبة نجيب محفوظ ويوسف إدريس وصلاح جاهين لا تتمثل في إنتاجهم المباشر فحسب، بل في ديمومة الاتصال المستمر بينهم وبين الأجيال التالية من بعدهم. وإذا كان «التقدم» بمعناه السياسي هو المضمون الغالب على أهم نماذج الشباب الأدبية، فإن الانغلاق دونهم بإقامة حواجز النشر ورقابة الفكر، يؤدي بنا إلى طريق مسدود. وكما كان مسرحنا السياسي ناقدًا عنيفًا لسلبيات النظام، ومع هذا كان من ثمراته اليانعة التي تُحسب له، فإن الانفتاح على الأجيال الجديدة — رغم تناقضاتها مع النظام — يسجل نقطة لهذا النظام لا ضده. أما الانغلاق الذي يكرسه المجلس الأعلى للفنون وجمعية الأدباء في شروط الجوائز والمسابقات والسفر إلى المؤتمرات، فإن من شأنه أن يبقى أمثال صالح جودت وإبراهيم الورداني كشواهد للقبور، لا رموزًا للثقافة الحية. إن ما تنشره المجلات الأدبية الراهنة في مصر، كمجلة «الجديد»، و«الهلال» و«الثقافة»، لا يعيد إلى الذكرى مجلتي «الرسالة» و«الثقافة» القديمتين، وإنما هو يستحضر للمُخيلة أبشع أنواع الانحطاط وأكثرها ابتذالًا. وليت هذه المجلات كانت تعبيرًا أمينًا عن واقعنا الثقافي — أي ما ينتجه أدباؤنا فعلًا — إذَن لما كان هناك تناقض. ولكن الحقيقة أن مصر الخصبة الخلَّاقة المبدعة تكاد تصبح أدبًا سرِّيًّا أو مكبوتًا أو مهاجرًا، أما وجهها العلني المنشور فهو قناع مهترئ ترتديه قسرًا تحت سطوة أشباح الماضي.

    وصحيح، إن الشباب الجديد المبدع بأصالة وموهبة، هو في خطِّه الفكري العام يمضي يسارًا. ولكن ما العمل إذا كان اليمين لم يعُد قادرًا على العطاء؟ هل نسجن «الفن» بدعوى سياسية (كان اليمين أول مَن يحاربها فيها مضى) فتزهق روح الجمال والتواصل والتطور؟ ليس هذا من الانفتاح في شيء، بل هو مزيد من الانغلاق والاختناق والموت. ورائحة الرمم لا تزكم الأنوف فحسب، وإنما هي تستولد طاقة قادرة على تحطيم المعبد كله بمَن فيه … فاحذروا!

  • إن قانون التفرُّغ للأدباء والفنانين هو من أهم الإنجازات الثقافية لحركة ٢٣ يوليو. ذلك أنه على الصعيد النظري يوحي بأن هناك تصوُّرًا إيجابيًّا لدور الأدب والفن. وبالرغم من أنه «قانون»، والدولة تشرف على تنفيذه ماليًّا، فإن حرية الفنانين والأدباء في اختيار موضوعاتهم وأشكالها الجمالية من الميزات الأساسية التي ينبغي احتضانها.

    وإذا كان الفن التشكيلي قد أنجز خلال السنوات التي مضت على التفرُّع كثيرًا من الأعمال الهامة لرمسيس يونان وفؤاد كامل وتحية حليم وجاذبية سرى وغيرهم، فإن الأدب والنقد لم ينجزا شيئًا في هذا المستوى من الأهمية. بل لقد ألغى النقد والبحث والدراسة الأدبية من مشروع اللائحة المعمول بها الآن.

    ذلك أن الفنانين التشكيليين قد أسهموا فعليًّا في صدور القانون والحفاظ عليه وتطويره لمصلحتهم، وأتيحت لبعضهم مسئوليات قيادية في الإشراف على تنفيذه. أما الأدباء والنقاد الذين يتقاضون في الصحف والجامعات أجورًا أكبر من الحد الأقصى لمرتبات التفرغ؛ فقد كان من الطبيعي أن يغضوا النظر عن الحماس للمشروع، فضلًا عن المشاركة. وأما الأدباء الشباب الذين يحتاجون إليه أكثر من غيرهم، فلم يعثروا في لجانه على مَن ينظر إليهم بجدية.

    وسواء بالنسبة للفنان التشكيلي أو الأديب، أصبح تجديد التفرغ من عام إلى عام يمرُّ بتعقيدات إدارية ومشكلات، تحول في أحيان كثيرة دون إنجاز العمل الذي تفرغ له الفنان أو الكاتب، ويصيب بعضهم الجزع لدرجة المرض السنوي أو الموت.

    والحقيقة هي أن التفرُّغ في جوهره انفتاح عميق ومسئول على مواهب الإبداع الكبيرة والجديدة. إنه لا يتحول إلى فرع لوزارة الشئون الاجتماعية إلا إذا أصبح ملجأً لضعاف الموهبة من المحاسيب والأنصار. وحينئذٍ يتحول عن هدفه الأصلي ويصبح مركزًا للعجزة وتنابلة السلطان.

    وأظن أن هدف الأهداف من التفرُّغ هو حماية كنوز الإبداع الفني من صدأ الحاجة والزمن، وهو هدف استراتيجي وليس «رعاية» مؤقتة. لذلك كانت اللائحة الراهنة بحاجة إلى تعديلات جذرية من شأنها أن تدفع بكبار الأدباء إلى طلب التفرُّغ، ومن شأنها أيضًا أن تبحث عن المواهب الجديدة بحثًا شغوفًا وجادًّا. وهذا لن يتم إلا برصد ميزانية سخية لأعلى الأدباء وإنما على الأدب، ميزانية لا تنظر إلى مكافأة الكاتب على أنها «إعانة شهرية»، بل حق مكتسب يغنيه — لو أراد — عن العمل الصحفي، بل والتعليم الجامعي إذا كانت موهبته الطبيعية أكبر من التدريس وأكثر شمولًا. ولا بد أن يكون هذا الحق حقًّا استراتيجيًّا لا حقًّا موقوفًا على عام أو اثنين أو ثلاثة، بل يصبح تأمينًا لحاجات الكاتب أو الفنان المادية طيلة العمر، وبعد الوفاة.

    كذلك فإن الانتخاب الديمقراطي للجان التفرُّغ هو أكثر الصيغ جدارة باحتلال مواقع الاختيار. بدلًا من الصراع بين التشكيليين والأدباء والموسيقيين، وبدلًا من تقديم الاعتبار السياسي على الاعتبار الفني أو العكس، وبدلًا من الهبوط إلى مستوى العلاقات الشخصية، فإن اللجان المنتخبة ديمقراطيًّا من جمهور الأدباء والفنانين هي الصيغة الأقرب إلى الانفتاح منها إلى الانغلاق الفئوي والطائفي والسياسي والفني والشخصي. لا بد من الاعتراف بأن ساحتنا الثقافية تضطرم وتغلي تحت الأرض وفوقها بالعديد من التيارات الفكرية والجمالية … والانفتاح الحقيقي وهو تهيئة مناخ صحي للصراع فيما بينها. ولا تجوز التفرقة مطلقًا بين فنان تشكيلي وناقد للتصوير أو النحت، ولا بين أديب وناقد للشعر أو باحث في الرواية أو دارس للقصة القصيرة.

    وهكذا يمكن التفرُّغ أن يتحول من كونه طموحًا نظريًّا إلى «بيت للحرية»، أساسه التخطيط العلمي المدروس، ذلك أن حصاده القليل الراهن هو ثمرة القرارات الفوقية والارتجال العشوائي والأهواء الشخصية. إنه في صياغته التنفيذية الحالية يكاد يشكل نقيضًا للأهداف التي صدر من أجلها قانون التفرُّغ. لقد تحول فعلًا في الآونة الأخيرة إلى «خزنة» لصرف معاشات العجزة والأرامل والأيتام وأبناء السبيل. والمطلوب أن يتحوَّل إلى منبر حي لصراع الفكر والجمال في بلادنا: داخله تتبلور الاتجاهات وتتضح التيارات وتتفاعل مع بعضها البعض، ثم تخرج إلى نور الواقع لتحتك به في وضح النهار، فتغتني أصالتها ويقل زيفها.

    إن نفي الحاجة المادية للفنان هي مقدمة صحيحة للانفتاح، بشرط ألا يتحول «بيت التفرُّغ» إلى صومعة للصلاة أشبه ما تكون ثمرتها بالمونولوج الداخلي. وتذكروا أن لنا تراثًا من أواخر الثلاثينيات وطيلة الأربعينيات من هذا القرن، حين كان يلتقي الأدباء والفنانون في «درب اللبانة» و«دار الأبحاث» ومجلة «التطور» والعديد من المعارض وقاعات الموسيقى ومحاضرات الثقافة وأحزاب السياسة. وقد أثمرت — دون تفرغ — بواكير الانفتاح الرائدة في آدابنا وفنوننا، وفي بياناتها النظرية وتطبيقاتها العملية على السواء.

فهل لنا — بالتفرغ — أن نواصل هذا الانفتاح الديناميكي الحر، ولم يعُد رغيف الخبز قيدًا على سواعدنا وعقولنا وقلوبنا؟

٢

تبدو كلمة «الانفتاح» وكأنها كلمة جديدة، وتدخل من الباب الخلفي إلى لغة الناس في حياتهم اليومية، كما سبق لأخواتها «النكسة» و«إزالة آثار العدوان» … إلى آخر القائمة. والخطر ليس كامنًا في أن «الكلمة» صدرت لأول مرة عن قائد أو زعيم في خطاب أو تصريح صحفي، وإنما في كونها تتحول إلى عملة «شرعية» لا يتم التعامل بغيرها في سوق الفكر حين تتلقفها أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وتشرع في تثبيتها بالأذهان بالترويج الواسع والتكرار المُلِح. ويزداد الخطر ويستفحل أثره عندما تنتقل «الكلمة» من أفواه المذيعين والصحفيين الصغار إلى أسماع الجماهير وعيونهم إلى أقلام كبار الكتاب والمفكرين. أي عندما تصدق العقول الكبيرة «الشائعات»، وتعاملها كالحقائق. حينئذٍ تستقر الكلمة «الجديدة» في القاموس السياسي المتداول، كمصطلح يجب تفسيره أو تبريره … أو حتى مهاجمته. وهنا بالضبط تحرز الديماجوجية نقطة لصالحها ضد الموضوعية والعلم.

ما معنى ذلك؟

معناه أنه قد تولد إحدى الكلمات قسرًا وتعسفًا وافتعالًا، فالواقع المستقل عن رغبات صاحب الكلمة لم يثمرها، احتياجاته الحقيقية لم تنبتها، لم تكن هناك ظاهرة جديدة تستوجب تعبيرًا جديدًا عنها. أو أن الكلمة قديمة وقد أُعطيت معنًى جديدًا، بقصد تشويهها أو الانحراف بها عن الدلالة المحددة المقصودة من رسوخها في وجدان الناس ومخيلتهم. أو أن الكلمة مجرد «لفظ» تقع بينه وبين التطبيق مسافة هائلة فيتحول من ثَم إلى شعار للتضليل.

و«الانفتاح» ليس مصطلحًا جديدًا حتى داخل مصر، لقد نادى الميثاق عام ١٩٦٢م بضرورة الانفتاح على تجارب الآخرين بلا عقد أو مركبات نقص أو تعصب. بعد الهزيمة أثارت مقالات هيكل حول «المجتمع المفتوح» جدلًا شديدًا حسمه عبد الناصر أيامها بقوله «المجتمع الثوري المفتوح» … وها هي ذي الكلمة تعود لتتصدر قائمة المفردات المتداولة حول الوضع الراهن في مصر من حيث منطلقاته وآفاقه المحتملة.

ولأن الوضع الراهن، متعدد الجبهات والميادين، فإنني سأقتصر هنا على مدلول الانفتاح الثقافي أو انعكاسات الانفتاح على الجبهة الثقافية.

وربما كانت الثقافة بالذات — دون غيرها من المجالات — هي الأكثر احتياجًا إلى الانفتاح الدائم المتجدد، وربما كانت الثقافة العربية في مصر، وغيرها من الاقطار العربية، أحوج ما تكون إلى التجدد والانفتاح.

ولكن، ماذا كان الوضع الثقافي في مصر — مثلًا — قبل الدعوة الجديدة إلى الانفتاح؟ كانت هناك، أولًا، إيجابيات ما زالت راسخة في شكل مؤسسات أو إجراءات أو تغييرات في مناهج التفكير. كما أن هناك إيجابيات أخرى لم تعرف طريقها إلى الرسوخ.

وكانت هناك، ثانيًا، سلبيات ما زالت راسخة، بعضها موروث من عصر ما قبل ١٩٥٢م ولكنه تدعم، وبعضها مستجد ولكنه أخذ طريقه إلى الاستقرار.

وليس أمامنا إلا أن نضرب الأمثلة فقط على كلا الجانبين:
  • على صعيد الإيجابيات، ربما كان قرار التعليم المجاني في كافة المراحل، هو أخطر إنجاز ثقافي لمصلحة الشعب المصري رغم كل ما يمكن رصده من تحفظات على برامج التعليم وأساليب التربية. إن ديمقراطية التعليم هي الدعامة الأولى للوعي السياسي والاجتماعي، رغم كل العورات التي يمكن إحصاؤها على قنوات هذا الوعي ومجراه.

    كذلك كان تأسيس وزارة للثقافة إنجازًا مجيدًا من جانب نظام ٢٣ يوليو، ذلك أن الفصل بين أجهزة الإعلام وأجهزة الثقافة من شأنه أن يحاصر «الدعاية» بين أسوارها الطبيعية ولا يخلط بينها وبين «الفكر»، ومن شأنه أيضًا أن يحصر «الثقافة» فوق منابرها الطبيعية كالسينما والمسرح والكتاب ومعارض الفنون واتحادات الأدباء والفنانين. وبالرغم من أن حصاد وزارات الثقافة المصرية المتعاقبة لم يرتفع قط في يوم من الأيام إلى مستوى الهدف من إنشائها، إلا أنها ظلت دومًا حصنًا واقيًا من الطوفان الإعلامي المبتذل.

    وأيضًا، كان تأميم الصحافة من المنجزات التاريخية في حياتنا … فعلى الرغم من تهديدات البطش المستمرة من جانب السلطة وأجهزتها الخفية، فإن انتقال ملكية الصحيفة من رأس المال الفردي إلى رأس مال الدولة كان نقطة تحول حاسمة في حياة الصحفيين المصريين. لقد حلت مراكز جديدة للضغط على الأقلام محل مجموعات الضغط الرأسمالية والإقطاعية السابقة، ولكن المبدأ الكامن في التأميم رغم كل الخدوش ظل ضمانًا — ولو نظريًّا — لحياة الصحفي.

    كما كان تأسيس القطاع العام في السينما والمسرح والنشر مكسبًا مؤكدًا لجمهرة العاملين في هذين القطاعين سواء كانوا ممثلين أو مخرجين أو مؤلفين … وقد حققت هذه المؤسسات نجاحًا حقيقيًّا في إبراز العديد من المواهب، وتبنَّت الكثير من القضايا التي شكلت ملمحًا جديدًا بارزًا على وجه الثقافة المصرية، على وجدان المصريين وعقولهم. وهذا على الرغم من كافة أشكال القصور التي ألمَّت بإنتاج هذه المؤسسات.

  • على صعيد السلبيات، كان التناقض بين القرار والتنفيذ مصدره الحقيقي هو أن القرار ظلَّ «فوقيًّا» في أغلب الأحيان … لم يكن قرارًا «اجتماعيًّا» مدروسًا وفق الاحتياجات الفعلية لعقول الجماهير ووجداناتها. وليست هناك في أضابير الجهات الرسمية للثقافة في بلادنا، أية دراسات ميدانية لاستجابات الجماهير، بالإقبال والإعراض، سواء في القراءة أو المشاهدة. وليست هناك في ملفات مؤسساتنا الثقافية أية محاضر لحوار المثقفين والجماهير مع المسئولين، فلم تكُن هناك أدنى درجات المشاركة في صنع القرار الملزم. ولم يكن هناك إدراك حقيقي بأن الأرض تغلي باتجاهات فكرية متباينة تباين الانتماءات الاجتماعية للجماهير والمثقفين والمسئولين جميعًا. لذلك كان يصل القرار في حالة «أمر» وظيفي كأننا في الجيش، المقتنعون بسلامته لم يشاركوا في صياغته، وغير المقتنعين لا يتحمسون له بطبيعة الحال. من هنا كانت البلبلة والاضطراب والفوضى والجمود من آفات غياب القرار الديمقراطي اعتمادًا على بديهية «الأثر الديمقراطي» وينسى الجميع أن همزة الوصل الضائعة على أحسن التقديرات هي التنفيذ المشلول أو المراوغ أو الجاهل.

  • كذلك من السلبيات الفاجعة أن الواجهة الرسمية للثقافة تناقضت تمامًا مع التطور الثقافي، ولعل جمعية الأدباء والمجلس الأعلى للفنون والآداب، من أبرز الشواهد على هول المسافة القائمة بين سيطرة العقاديين والأباظيين والسباعيين على الواجهات الثقافية المختلفة وبين الواقع الحقيقي لثقافتنا. حتى إن منظرنا أصبح مضحكًا في المؤتمرات الأدبية خارج ديارنا … ذلك أن الناس في عواصم الدول التي عُقدت فيها، لم يفهموا كيف أنهم يرون «أسماء» واراها الزمن، ولا يرون «أشخاصًا» ما زالوا يكتبون ويبدعون. ولم تكن القضية مطلقًا قضية يسار ويمين، ولكنها قضية الصراع بين الجثث والأحياء. ليست مأساة أن «يتقاعد» البعض وهم بعدُ على قيد الحياة، غير أن المأساة تبدأ حين تخرج الهياكل العظمية من القبور وتحتل أمكنة الأحياء. وقد كان هذا ولا يزال من مساوئ الماضي والحاضر، فالمنتجون الحقيقيون للثقافة بعيدون تمامًا — أو مُبعَدون — عن مؤسسات هذه الثقافة.

  • وأيضًا، كانت التغييرات العلوية للمراكز القيادية في حقول الثقافة، من أكثر الآفات ضررًا بإنتاجنا في الفكر والأدب والفن. ذلك أن تغيير «القطب» وحده — رغم احترامنا لدور الفرد في التاريخ! — لا يغير الأسس ولا يهز البناء. بل إن التناقض المروع والبشع كان محتومًا — وسلفًا — بين القمة القيادية والتسلسل الوظيفي المتدرج لهرم المؤسسة. وقد أسهم في أن يكون «حصاد الشر» كثيفًا لدرجة لا تُطاق، أن هذه التغييرات كانت سريعة ومتلاحقة، تمليها اعتبارات تكتيكية عارضة … فما كان يبنيه أحدهم في عام، كان يهدمه آخر في ساعات.

    وهكذا، والخاسر الوحيد في جميع الأحوال هو «منتج» الثقافة و«مستهلكها»، هو المبدع والجمهور.

  • وقد تسللت البيروقراطية في أغلب الوقت إلى أجهزة الثقافة ومؤسساتها بحيث تحولت إلى إدارات حكومية مخلصة للوسائل والتشريعات المحنطة، أكثر من إخلاصها لقضية الثقافة، هكذا كانت الرؤية إلى المشاريع الاستراتيجية كالمعاجم ودوائر المعارف رؤية إدارية تتباطأ في التنفيذ لدرجة الموت اختناقًا، وإتاحة الفرصة لأجهزة الاستعمار الثقافي أن تنشط وتعمل وتسد الفراغ.

    كما كانت الخبرات الرأسمالية والإقطاعية العريقة التي أدارت القطاع العام الثقافي، هي مصدر تحوله في أكثر الأحيان عن مهمته الأساسية كقطاع خدمات، إلى مؤسسات تجارية تستهدف الربح. هكذا أصبحت الخسائر المادية لهذه المؤسسات مبررًا كافيًا لدعم القطاع الخاص وتخريب القطاع العام. بل إن الطابور الخامس للبرجوازية داخل المؤسسات العامة، قد استطاع أن يحشو حصان طروادة بالفكر المعادي، ليغزو من الداخل البناء المادي للفكر الوطني … بمعنى أن القطاع العام في السينما والمسرح والنشر قد أنفق أحيانًا كثيرة على المشروعات الفكرية والفنية للقطاع الخاص.

تلك هي الملامح العامة لصورتنا الثقافية، من الماضي القريب إلى الحاضر الراهن. فأين الانفتاح وأين الانغلاق في هذه الصورة؟

لقد كان الانفتاح على أعرض قطاع جماهيري هو لُب اللباب في التجربة، وسيلته كانت التأميم والقطاع العام. وقد أنجز هذا الانفتاح على صعيد «الإنتاج» الفكري والفني، أعمالًا حققت للثقافة العربية في مصر مرحلة جديدة كيفيًّا من مراحل تطورها. كما أنجز هذا الإنتاج على صعيد «الاستهلاك» مستوًى لا شك فيه من الوعي السياسي والاجتماعي، لعل «الجيل الجديد» هو أصدق نماذجه.

غير أنه لا مجال — في نفس الوقت — لإنكار أن «انغلاقًا» واضحًا قد سيطر على حياتنا الثقافية، حال دون الوصول إلى نتائج حاسمة وأكثر تقدُّمًا في كثير من المجالات. مرد هذا الانغلاق هو غيبة الأسلوب الديمقراطي، وسطوة البيروقراطية، وغلبة النزعة الديماجوجية، واعتماد أهل الثقة لا أهل الخبرة، وهيمنة النظرة التكتيكية على الرؤية الاستراتيجية.

كان الانفتاح والانغلاق متجاورين، وهكذا تجاورت الإيجابيات والسلبيات.

وحين يطل اليوم من جديد تعبير الانفتاح، لا يجوز تصويره — عمدًا أو عن حُسن نية — أنه يعني الانقلاب على الماضي … إلا عند الذين يقصدون قصدًا أن يهدموا ما بنته سواعد الشعب العربي في مصر طيلة العشرين عامًا الماضية.

إننا بأمسِّ الحاجة إلى الانفتاح، أي بدعم الإيجابيات الباهرة وتأصيلها، بتأكيد ملكية الشعب لوسائل الإنتاج الفكري والفني، أي بتوسيع القطاع العام الثقافي وحمايته في كافة المجالات التشريعية والتنفيذية. إن وزارة الثقافة وجامعات الدولة والصحف ومعاهد وقاعات الموسيقى ودور النشر ومؤسسات السينما الخاضعة للتخطيط العام هي «قلاع» الشعب المحروم من نور الوعي وشعلة المعرفة، وكذلك قوانين تفرغ الأدباء والفنانين وحقوق المؤلفين والمترجمين وغير ذلك من تشريعات هي ضمانات الاستمرار الحي لهذه القلاع.

والانفتاح المطلوب إذن، هو هدم بيوت العنكبوت وأذرع الأخطبوط الممتدة من أسس البناء إلى سطحه، هو ديمقراطية القرار الثقافي، هو التلبية العلمية لاحتياجات الجماهير، هو الاعتراف العملي بتعدد الاتجاهات الفكرية، هو إعادة أهل الكهف إلى قبورهم، هو تسلم أهل الخبرة لمقاليد السلطة الثقافية، هو الاحتكام إلى مقاييس موضوعية إذا شحبت النتائج، هو تحكيم النظرة والبرامج الشاملة في التخطيط والتنفيذ.

هذا هو الانفتاح، وغيره سراب!

سراب الثورة الثقافية المضادة.

١٩٧٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤