مرثية الزمن المستعار

١

لم يكن الطريق طويلًا إلى «الأهرام» بالرغم من زحام البشر والحجر والحفر. من «باب اللوق» حيث أقيم إلى ميدان طلعت حرب (سليمان باشا سابقًا)، لم يكن الطريق طويلًا.

هذا مقهى «ريش» خالٍ من أصحابه الحقيقيين. في الصباح ليسوا هنا. بالأمس كانت الأصوات تتداخل وتتهامس وتتشاجر وتتناغم، فلا تدري أين ومن وكيف ومتي، إلا أنك على يقين سحري بأن غدًا سيأتي ومعه رواية جديدة وقصيدة جديدة ونقد جديد.

أي أمس، وأي غد؟

منذ عشرين عامًا مضت كان هؤلاء الكهول الذين تراهم الآن يتوجعون من طموحات الشباب الذي لا يتحقق، أو التي لا تتحقق. طموحات تتمزق وتلتئم وتحزن فجأة وتفرح فجأة وتغضب دون مفاجأة. تغضب دائمًا. ما زال فرسان الستينيات في الساحة، بأعمالهم وإبداعاتهم ورصيدهم من الماضي القريب، ولكنهم أضحوا من الحكماء الأكثر صمتًا من الصمت. قليلون هم الذين يرتفع صياحهم دون سابق إنذار، ولكنه صياح مبلل بدموع مكبوتة.

فرسان الستينيات كتبوا أفضل أعمالهم بعد «عصرهم». السبعينيات والثمانينيات شهدت أفضل ما كتبه بهاء طاهر وعبد الحكيم قاسم وإبراهيم أصلان وجمال الغيطاني وجميل عطية إبراهيم ويوسف القعيد ومحمد البساطي وعبد الرحمن الأبنودي ومحمد عفيفي مطر و… أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله. وأين محمود دياب ونجيب سرور وصلاح عبد الصبور؟ ليسوا من أبناء الجيل، ولكنهم من أبناء العصر … المهزوم. أدب يقول إن علاقة الإبداع بالواقع ليست مجرد انعكاس، بل إن هذا الانعكاس ما هو؟ الزمان الواحد والمكان الواحد والطبقة الواحدة والثقافة الواحدة، وربما الأسرة الواحدة، كل ذلك يثمر الظاهرة ونقيضها، ينتج الخصب والعقم، البصيرة والعمى، الحساسية والبلادة، الموهبة والصناعة، فأي انعكاس معقد وأية علاقة أكثر تعقيدًا بين الفن والواقع.

شيء ما تغير. أشياء كثيرة تغيرت. هكذا تقول «ريش»، وبعدها بقليل «الحاج مدبولي» أشهر بائع كتب في الستينيات، أصبح من أشهر الناشرين الآن. ويحاولون اقتلاعه من «بدروم» في عمارة قديمة، وهو الذي فضل استيراد ونشر وبيع الكتب، بينما فضل غيره فتح «البوتيكات» المزدانة بالملابس الداخلية الواردة من باريس.

وتلقي نظرة على عشرات، مئات الكتب، وتتوقف عند «وصف مصر» بلوحاته المعتقة الجمال، ينشرها مدبولي بعد أن عجزت الإدارات الثقافية المتعاقبة عن إنقاذ الأثر التاريخي من الضياع.

تقرأ الأسماء الوافدة من بطن مصر الحبلى دومًا بالجديد، دون انقطاع. وماذا اختلف معك أو مع غيرك هذا أو ذاك من المتوثبين للحياة في أول لقاء معها، وربما معك، وربما مع غيرك. ماذا يهم إذا كانت روايات وقصص وأشعار جديدة تلفح وجدانك بحرارة جديدة وتنطق في أحشائك بلهجات جديدة وترى بعينيك رؤى جديدة؟ وماذا إذا اختلف المبدعون الجدد مع السابقين من الكهول والشيوخ، ومعك أنت.

وما دام عبده جبير وسعيد الكفراوي والمنسي قنديل ومحمود الورداني وإبراهيم عبد المجيد ورفعت سلام وحلمي سالم وإسماعيل العادلي وسهام بيومي وسحر توفيق وسلوى بكر وغيرهم، يكتبون ويكتبون ويزرعون الحرف الجديد من طمي جديد، فماذا يهم إذا تناحروا أو تشاجروا أو تصارعوا أو تحالفوا أو تنادوا أو تنادموا؟

ولكن المقهى والرصيف والمنتدى وبار الفندق، يقولون إن ثمة شيئًا قد تغير، بل ربما أشياء عديدة قد تغيرت.

والطريق إلى «الأهرام» ليس طويلًا.

تبحث في عيون السائرين نيامًا وفي أصوات المهرولين كأنهم مطاردون من أشباح غير مرئية، عن «معنى» القصيدة التي غمضت عليك بالأمس، و«مغزى» اللوحة التي هربت خطوطها إلى مخيلتك وأنت تغرس ذاكرتك في ألوانها، و«مدلول» النقد الذي راهنت على صواب المنطق في بنائه، فإذا بمواد البناء تخذلك حتى الإعياء. تبحث وتبحث، ولا تعود تكلم نفسك، فأنت تقترب خطوات من المكان الذي عشت فيه من سني عمرك أجملها وأعذبها. أنت الآن على موعد لم يحدث من قبل. موعد قديم. موعد كتبته بكيانك منذ أكثر من عشرين عامًا. نعم، أكثر.

كنت ما تزال في العشرين حين رحت تتردد على كازينو أوبرا صباح كل جمعة، لتلتقي بذلك الذي التقط وعيك الغض منذ سنوات. كان في الخامسة والأربعين تقريبًا، يلتف حوله، حول ابتسامته وتواضعه وطيبته الأصيلة، مجموعة من الإشعاعات الصادقة و«المواهب» المزورة، فكان يجيد الاختيار، ولكنه يجيد المودة والمحبة الصافية. وتشرع في صحبته، تقرأ الإنسان والكلمات، وتزداد به ارتباطًا مع الأيام. تغيب وراء الشمس وتعود فإذا به الرجل الرجل، لم تبدله الملمات ولم تغيره اختبارات الزمن العتيد.

وأصبحت في التاسعة والعشرين حين صدر لك «المنتمي» أول كتاب عنه.

لم يكن نجيب محفوظ قد صار «مؤسسة»، ولا كانت رؤياه تطابق رؤياي. ولكن عمله الدءوب الحنون المتصل العذب الجميل، كان الأعمق رسوخًا في العقل والوجدان. كان الأقرب إلى «الشباب»، إلى جيلي كله — حينذاك — بتعبير أدق … لأنه انخرط في روح وجسد «المجتمع» المصري، ولأنه ناضل عن التراث الديمقراطي لمصر في وقت صعب.

والطريق إلى «الأهرام» ليس طويلًا، فكانت قضية «الانتماء» هي المحور والمركز لأدب الكاتب الذي أحببته، وهي ذاتها قضية الجيل والوطن. ولذلك كان «المنتمي». لم يكن مجرد بحث في النقد الأدبي، بل أكثر. أكثر كثيرًا. ولأنه كذلك؛ فقد غير من شكل وأدوات المنهج التقليدي. لم أفكر في صياغة زمنية تتابع «التاريخ» و«التطور». ولم أفكر في صياغة موضوعية تتابع «العمل» في بنيته الشاملة. وإنما استخلصت «كمال عبد الجواد» من الثلاثية وافتتحت به الدراسة-الأزمة. كمال الأعزب، المحايد، العقلاني، المعتدل، الكاتب. ثم بحثت عن محجوب عبد الدايم وحميدة وعباس الحلو وحسنين وبقية «المحاولات» التي انتهت بعبد المنعم وأحمد شوكت عام ١٩٤٤م ثم استأنفت «الحالات» مسيرتها بعد خمسة عشر عامًا في «اللص والكلاب» و«الطريق» و«الشحاذ» و«ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» تابعت خطى نجيب محفوظ حتى عام ١٩٦٦م في فصل جديد لطبعة جديدة، أخذت «عنوان المنتمي في أرض الهزيمة».

في تلك السنوات، كان توفيق الحكيم يلاحق الجيل الجديد (الأجيال الجديدة؟) ببصمات لا تمحى: «عودة الروح» يقول عنها جمال عبد الناصر أنها الرواية التي قرأها وتأثر بها، و«يوميات نائب في الأرياف» يقول عنها الجميع أنها «الكتابة الجديدة» التي صهرت البنية الروائية المصرية في بوتقة الفن والمجتمع (الريف المصري) فأصبحت لنا رواية لها مذاقها الخاص ونكهتها الفريدة. ولكن البصمات الجديدة للحكيم تخلع عنه «البيريه» وترمي من يديه «العصا» وتشطب على شعاره الكاريكاتيري: عدو المرأة. بصمة «السلطان الحائر» (١٩٥٩م)، و«بنك القلق» (١٩٦٦م)، تقول للجيل الجديد إن صاحب «الكل في واحد» لا يقف مع «المستبد العادل». وعندما يتحول «الأهرام» إلى أكبر جامعة مصرية تضم مراكز الأبحاث والدوريات الفكرية الجادة يتحصن داخلها الكبار والشباب على السواء — بإشراف محمد حسنين هيكل — يصبح الحكيم ومحفوظ «قيادة شرعية» لعدة أجيال واتجاهات متباينة. يصبح الطابق السادس في المبنى الاستثنائي الحداثة، هو مقر القيادة الفكرية الذي يضم اليمين واليسار والوسط، بتنويعات مختلفة، ولكن في إطار الشرعية الناصرية. وحتى إذا كانت روايات محفوظ ومسرحيات الحكيم تغمز وتلمز، فيتدخل هيكل تارة، وثروت عكاشة تارة أخرى، إلا أن الشرعية تبقى الإطار الذي يضم الجميع بدءًا من لطفي الخولي ولويس عوض ويوسف إدريس وليس انتهاءً ببطرس غالي وعبد الملك عودة وعائشة عبد الرحمن. والقاسم المشترك الأعظم يبقى توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. في مكتبيها تجد الجميع: ثروت أباظة، علي الراعي، كمال الملاخ، نعمان عاشور، ألفريد فرج، إبراهيم منصور. الجميع هنا.

والطريق إلى «الأهرام» ليس طويلًا؛ فقد عشت أبهى سنوات العمر وأكثرها إيلاما في هذا المنبر العظيم. ولما اقتربت من توفيق الحكيم بحكم الجوار والحوار، تيسرت لي كتابة «ثورة المعتزل» منذ عشرين عامًا على وجه التمام. وكنت في الحادية والثلاثين من عمري حين صدرت طبعته الأولى. الحكيم السياسي والروائي والمسرحي، هو الحكيم المبدع في اللغة والدراما والخيال الشعري الذي أصبح رصيدًا حيًّا متجددًا لأجيال واتجاهات متباينة من المبدعين المصريين والعرب.

كان هناك دائمًا، قناع الحكيم. وباقترابي من الرجل تعرفت على بعض وجهه وبعض ملامحه، ذلك العاشق الكبير لمصر والفن.

«المنتمي» و«ثورة المعتزل» إذن، علاقة شديدة التعقيد بين الاثنين، وبينهما وبين مصر، وبينهما وبين مجمل الثقافة العربية الحديثة … حتى وقع «الزلزال» المباغت، بالرغم من تعدد الانفجارات.

انفجر الطلاب والمثقفون في بداية السبعينيات، ووقف الرجلان إلى جانب التحرك الثقافي الواسع، وعوقب الجميع، عقابًا أدى بالبعض إلى «الخروج الكبير» حين بدأت أعداد كبيرة من الكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات في الرحيل إلى عواصم عربية أو غربية. ولكن سرعان ما ظهرت «عودة الوعي» للحكيم و«الكرنك» لمحفوظ … ولم تكن الكراسة الأولى كتابًا في الفكر ولا كانت القصة الثانية رواية. وإنما كانتا إدانةً مباشرة لفجائع الديمقراطية بالأمس، وترحيبًا باللافتات الديمقراطية، اليوم.

وما زلت أتذكر تلك «الندوة» التي ضمت الرجلين مع عشرة من زملائهما في حضرة رئيس عربي، وعقدت بإحدى قاعات الاجتماعات في «الأهرام». كان ذلك عام ١٩٧٢م قبل زيارة القدس الشهيرة بخمس سنوات. ولكن توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي قالوا في حضور ذلك الرئيس: لا حل للمشكلة الفلسطينية بغير الصلح مع إسرائيل.

ولذلك فقد ظن كلاهما وغيرهما في وقت مبكر، أن الحكم الذي يحرق أشرطة التصنت على المواطنين، يستحيل أن يلجأ ذات يوم إلى الدكتاتورية. وظنَّا كذلك أن إسرائيل التي تطالب بالصلح منذ تأسيسها لا بد أن تسلم بحقوق الفلسطينيين إذا اصطلحت معها أكبر دولة عربية.

وأكرر أن ذلك كان موقفها قبل «المبادرة» بسنوات خمس، بالنسبة لقضية فلسطين، كما أنه كان موقفهما من الديمقراطية طيلة العهد الناصري. أي أنه، على وجه اليقين، ليست هناك شبهة نفاق للحاكم أو خوف أو ربح.

ولذلك ما إن تفجر «البركان» على مراحل، حتى كانت الفجيعة شاملة: ربحت إسرائيل الصلح وخسر الفلسطينيون واللبنانيون والعرب جميعًا، ووصلت «الديمقراطية» إلى نهاية الحائط المسدود في سبتمبر ١٩٨١م ثم حادث المنصة بعد شهر.

انهزم الحلم وسقط الرهان.

ولكنها ليست إشكالية الكاتب والكتابة بل هي إشكالية طبقة كاملة ورؤية كاملة، هي ذاتها الطبقة التي هزمت فانهزمنا معها، والرؤية التي سقطت، وحاولنا ألا نسقط معها.

ويبقى نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم شاهدين عظيمين على أن أحدًا، مهما بلغ حجمه، لا يتجاوز مقتضيات التاريخ.

ويبقى الطريق إلى «الأهرام» ليس طويلًا جدًّا؛ فقد وصلنا رغم زحام البشر والحجر والحفر في الموعد المحدد، الموعد القديم قِدم الحرف الذي طالعته عيناي للمرة الأولى.

أطل نجيب محفوظ من الباب المفتوح لمكتب الحكيم، فذهبت معه إلى مكتبه.

في الماضي كنا تقول إنه يستمع لما ولمن يجب الاستماع إليه، فإذا لم يكن «يحب» الكلام أو المتكلم اشتكى من أذنه التي لا تسمع جيدًا. وإذا كان العكس، فهو ينصت باهتمام لما يقال، ويشارك في الحديث بكل جوارحه.

أما الآن، فقد ثقلت أذناه الاثنتان، وتبدو «الساعة» فيهما واضحة.

ولكن نجيب في جميع الأحوال، ليبرالي. أي أنه على قناعة راسخة بجدوى الحوار، واعتراف لا يتزعزع بأهمية «الآخر». وهو يؤمن بأن «الحقيقة» تظل أبدًا بحاجة إلى الكشف.

أقول له إن هذه الليبرالية تتناقض مع الحتمية التي عرفتها أعماله «الواقعية»، حيث تبدو مصائر محجوب عبد الدايم وحميدة وعباس الحلو وحسنين وكمال عبد الجواد وأحمد وعبد المنعم شوكت، كأنها «أقدار». وهي ليست أقدارًا ميتافيزيقية، ولكنها «جبرية» لا اختيار فيها.

يستمع الرجل بإنصات يغري بالتداعي: الليبرالية في ظني بدأت مع «اللص والكلاب» ولم تنته في «الطريق» و«السمان والخريف» و«الشحاذ» و«ثرثرة فوق النيل» حتى «ميرامار».

يستوقفني نجيب محفوظ: هل تقصد ليبرالية الموقف الروائي أم ليبرالية الكاتب. أجبت: لحسن الحظ، لا يفترق الاثنان، فالروائي الليبرالي يبني عمله من شخوص وأحداث ومواقف وحتى في اللغة بناءً ليبراليًّا.

سألني: هل معنى ذلك أنني لم أكن ليبراليًّا في بواكير حياتي، وأصبحت كذلك في ختامها؟ وضحك، تلك الضحكة المجلجلة التي افتقدتها منذ رأيته. ضحكته العامرة بالمعالي.

قلت: لا، فلقد أردت في «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي» و«زقاق المدق» و«بداية ونهاية» و«الثلاثية» أن تقول مرتين: إن الليبرالية السياسية — إن وجدت — فهي تمنع الليبرالية الاجتماعية. وهذا أنت، فالليبرالية رؤية شاملة في أدبك، وإذا كنت قد ركزت على غياب الليبرالية الاجتماعية قبل الثورة، فإنك ركزت على غياب الليبرالية السياسية بعدها.

سألني: إذن، لماذا كانت الأولى حتمية والثانية ليبرالية، أو لماذا كنت جبريًّا ثم أصبحت ليبراليًّا؟ قلت: ليس الأمر كذلك تمامًا، فالحتمية والليبرالية تتجاوران في أغلب أعمالك … ولكن حتمية السقوط الاجتماعي في نظام ما قبل الثورة هو الذي فرض بروز اتجاه «الجبر» متجسدًا في النهايات المأسوية لحميدة في «زقاق المدق» وحسنين في «بداية ونهاية». ولكن الليبرالية كانت حاضرة في الشخصيات التي لم تلقَ مصرعها التراجيدي، في تكوينها وحركتها ومصيرها على السواء. والأمر نفسه في المرحلة الثانية، حيث يبدو بناء المجتمع «الثوري» الجديد «حتميًّا»، ولكن هزيمته كانت حتمية كذلك، بسبب غياب البعد الليبرالي. الجبر والاختيار قائمان في سعيد مهران ورءوف علوان (اللص والكلاب). وهما الظل الملازم لحركة الباحث عن «الحرية والكرامة والسلام» (الطريق)، ويتطوران حتى انتحار ممثل الاتحاد الاشتراكي (ميرامار).

وهو تطور الطبقة الاجتماعية التي كانت صاعدة في العهد الملكي وأضحت في السلطة الناصرية أسيرة الرؤيا الناقصة من جهة، والتناقض بين الوجه والقناع من جهة أخرى.

وأقول لنجيب: كانت أعمالك في هذه الفترة تحدد النقص بأنه الليبرالية. وكان هذا نفسه تحديدًا ناقصًا. وكنت تكشف بحسم عن ضراوة المسافة بين الشعار والفعل، ولكن الشحاذ وأنيس زكي في «ثرثرة» توقفا وغيرهما في مكان ما في تلك الهوة الواسعة بين اللافتة والإنجاز.

وكان من حق نجيب محفوظ كاملًا أن يقول ما لم يقله: في عام الهزيمة كان قد مضى على عمله المتصل ربع قرن، كان خلال هذا الزمن «مؤسسًا وبانيًا» للرواية المصرية، لغةً ونسيجًا وجمهورًا … فالرواية كظاهرة اجتماعية نشأت من البنى الليبرالية لرؤيا نجيب محفوظ، رؤيا الطبقة الوسطى المصرية في مرحلتي صعودها وانكسارها. خلق الشخصية الروائية المستقلة ولغة الحوار المتعدد الأطراف، والكيان الملموس «للأشياء» المنفصلة عن الكيان البشري، والجمهور الذي استقطبته الرواية حتى اعتبرها منبره الشعبي، كانت كلها من عناصر الهرم الليبرالي الشامخ في مجده ومأساته معًا.

وتذكرت مع نجيب محفوظ أنني ضبطته متلبسًا بمناورة الرقيب، وهو ينشر حلقات «الحب تحت المطر» عام ١٩٧٢م وكيف أصبحت للرواية ثلاثة نصوص: النص المراقَب في مجلة «الشباب» التي كانت تنشر الحلقات، والنص المراقب في المطبعة والناشر بصدد إصدارها في كتاب، والنص الأصلي بحوزة المؤلف. وقد أتيح له النشر بعد ذلك.

في تلك الأيام تضاحكنا، وما زلت أذكره وهو يقول لي: كان من الممكن ألا تظهر هذه الرواية على الإطلاق، أقصد ألا تظهر في ذهني، فالذي حدث أن بضع شخصيات تبقت من «المرايا» حفزتني لصياغتها في «الحب تحت المطر».

قلت لنجيب محفوظ، وهو يستعد للخروج في موعده، الواحدة تمامًا، حسب النظام الغذائي الصارم الذي اقتضاه مرض السكر: هل تصورت في أي وقت أنك ستكتب «أولاد حارتنا» و«ميرامار» و«الكرنك» و«أمام العرش»؟

كنت أعلم أن الروائي لا يتطور في قمرة سفينة فضائية خارج الجاذبية الأرضية، وأن الثوابت والمتغيرات تتفاعل داخل العملية الإبداعية تفاعلًا شديد التعقيد. قال لي نجيب محفوظ إن «أولاد حارتنا» كُتبت بعد سنوات من الصمت. بل إن عدة مسودات من روايات كتبتها بأسلوب المرحلة السابقة على الثلاثية، لم ترَ النور قط، لأنني تصورت أن الثورة أنجزت ما كنت أحلم به. «أولاد حارتنا» هي لحظة تأمل سابقة على الرحلة الجديدة، هي الرحلة التي ما زالت مستمرة.

وهو يتكلم، سرحت في «معنى» الانقطاع عن الكتابة خمس أو سبع سنوات في حياة كاتب كنجيب محفوظ، يكتب في الظروف العادية رواية كل سنة. إنه الصدق. والصدق نصف الموهبة. كان هناك مجتمع قديم يتهاوى، وآخر جديد قيد البناء. وكان على روائي الطبقة شبه السائدة أن يتأمل المشهد بعد الولادة. مشهد يختلف عن الحلم، يتفق مع الحلم، يختلف ويتفق، الأمر يحتاج إلى وقت، فتوقف المبدع. وأثناء وقوفه غابت وجوه ورموز وراء الشمس. ولجأ نجيب إلى الرمز. ولكنه الرمز المباشر: الدين والعلم والاشتراكية في «أولاد حارتنا» وتصبح الرواية التي وافقت عليها الدولة ونشرها «الأهرام»، هي ذاتها التي لا يسمح، ولم يسمح «الأزهر» بصدورها في كتاب. إنها ذروة الصراع؛ فقد آن الأوان للروائي أن ينفلت من حصار الخمسة ألاف نسخة، وينضم إلى صحيفة المليون قارئ. وهو نفسه الكاتب الممنوع عن الصدور في كتاب. وكانت دعوة محفوظ في «أولاد حارتنا» صريحة إلى العلم والاشتراكية. وكانت البلاد تستعد لإجراءات جديدة سُميت نظريًّا بالاشتراكية العلمية، واليسار الاشتراكي العلمي في السجون والمعتقلات. كانت بشارة الروائي شديدة التفاؤل، وقد انتهت الرواية بانتصارٍ ملحمي. ولكن «مجتمع الكفاية والعدل» لم يخلُ من الثغرات، وبدأ نجيب محفوظ رحلة البحث عن الحرية والكرامة والسلام التي انتهت بالهزيمة. هزيمة الليبرالية رادفت هزيمة المجتمع والنظام. ولكن الهزيمة كانت «إشكالية» الروائي في الفكر والحياة.

قال لي نجيب وهو يودعني: تقول كانت! سامحك الله، وهو وحده يعلم متى تنتهي؟

وكانت هذه «كلمة السر» في تفسير ما جرى داخل «الأدب» وخارجه؛ «المرايا» محاكمة لرموز العصر، و«الكرنك» محاكمة ليبرالية للقمع. كلتاهما من زاويتين مختلفتين تمامًا تصوغان هزيمة الرؤيا الناقصة التي سقطت، بينما الكاتب يظن أنها هزيمة «الآخر» الذي لا ينتمي إليه. لذلك خسرت الليبرالية نفسها في «الفن» و«الواقع» على السواء، ذلك أن ما كان يميزها في مرحلة الجبر التاريخي قبل الثورة ومرحلة «الإنجاز» بعدها هو تعدد الأصوات. لم يكن الصوت الواحد لنجيب محفوظ موزعًا بين شخصيات وأحداث ومواقف، بل كانت أصواتًا متعددة لمصالح ورؤى متباينة. هذه التعددية الموعودة في دولة «العلم والإيمان» ماتت انتحارًا وجنونًا واغتيالًا، وصولًا إلى اعتقال مصر في سبتمبر ۱۹۸۱م وحادث المنصة بعد شهر.

كان نجيب محفوظ قد ذهب، وأنا عائد إلى مكتب الحكيم أقول لنفسي إن المسافة بين الوجه والقناع في القهر «الراديكالي» قد ولدت الهزيمة، ولكن سقوط اللافتة في العهد «الليبرالي» قد أثمر الضياع. ولأنها في الجوهر هزيمة الطبقة الوسطى وضياعها، فإن رؤياها تتوقف عند الأطلال، ويصبح أدبها مرثية طويلة للزمن المستعار. تنتهي «حتمية» التغيير الاجتماعي الذي كان حلم الأجيال قبل الثورة، وتنتهي اليوتوبيا الليبرالية المشتهاة في المجتمع الجديد، ولا يبقى سوى الرماد المتخلف عن القديم والجديد معًا. وهو رماد عقيم لا تخرج منه العنقاء الجديدة التي تعيد بناء عشها من أطيب النباتات فوق أجمل الأغصان لأروع شجرة.

هذه المرثية، أفلتت منها في لحظة «ملحمة الحرافيش» الرواية العظيمة الجلال إفلات الصدفة من أسار الحتمية الصارم، إفلات الموهبة العبقرية التي كانت وستظل تحمل اسم نجيب محفوظ لعصور طويلة مقبلة، تنمحي خلالها آلاف آلاف الأسماء، ويبقى هو بقامته العملاقة من عظماء الضمير البشري في تاريخ «أم الدنيا».

٢

تريثت قليلًا في مكتبٍ جانبي يواجه مباشرة مكتب نجيب محفوظ المجاور لمكتب الحكيم. كانت هناك عند المدخل، سيدة برفقة فتاة، تحملان آلات تصوير فيديو أو سينما. السيدة تمسك بحمار صغير منحوت، والفتاة تمسك بالكاميرا. بالقرب منهما يجلس بعض الشباب، أحدهم يحمل آلة تصوير فوتوغرافية، يقف فجأة ثم يجلس، وزميله يسترق النظر إلى مكتب الحكيم، وجرس التليفون يدق في مكتب محفوظ يدخل «الساعي» إلى مكتب الحكيم، فيعود معه نجيب محفوظ. الرجل لم يكن في مكتبه إذن. تلك عادته القديمة أن «يستقبل» في مكتبه ويستريح» — بالاستماع والمشاهدة والحوار أحيانًا — في مكتب الحكيم.

أسرعت إليه، وهو ما يزال ممسكًا بسماعة التليفون. شيء ما قد تغير، أشياء قد تغيرت. ولكن روح نجيب محفوظ تبقى وهجًا دافئًا حبيبًا ذكيًّا قادرًا على احتواء المفاجأة واختصار الزمن. ما من شيء يستعاد. ولكن الذاكرة العبقرية تسبق الحلم وتردم الهوة كأننا لم نفترق إلا الأمس، ولكن أين ضحكتك المجلجلة أين؟ والسمع أصبح ثقيلًا والجسد نحيلًا، ولكن نظرتك الغائرة في النفس ازدادت حكمة.

أخذني من يدي ودخلنا على توفيق الحكيم. عدة أشخاص يجلسون من بعيد في مواجهة الشيخ اليقظ. لمعت عيناه ونجيب يبتسم. إلى جانب المكتب على يساره هناك «خواجا» يرطن بلغة لا أفهمها، ومترجم مصري يقول إن السيد هو أكبر روائي في أرمينيا السوفيتية، وإنه جاء ليهدي الحكيم ميداليةً تذكارية. وتتكاثر ومضات الكاميرا حتى يتعب الجميع، فيسأل الحكيم ضيفه: ما هي أسعار الثقافة في بلادكم؟ بكم مثلًا يباع الكتاب والأسطوانة، وما ثمن تذكرة السينما والمسرح؟ ونفهم من الرجل أن متوسط سعر الكتاب يساوي نصف جنيه مصري، فيقول له نجيب محفوظ: في مصر يبلغ ثمن النسخة من كتاب صغير الحجم جنيهين، ويصل ثمن النسخة من كتاب كبير الحجم إلى خمسة عشر جنيها. يسأله الحكيم: وماذا يأخذ المؤلف؟ يجيب الضيف: حسب حجم الكتاب، هناك تسعيرة لكل ملزمة، وحسب عدد الملازم يتقاضى الشاعر أو القصصي أو الباحث أجره. وأسأله بدَوري: أليست هناك فروق بين مكافآت الكتاب، أي هل تتساوي أجورهم جميعًا عن الملزمة؟ يقول الروائي الأرمني: هناك فروق بالطبع، وكلما أعيد طبع الديوان أو الرواية أو البحث أخذ الكاتب ستين في المائة من أجره السابق.

يهز الحكيم رأسه قليلًا وينظر خفية إلى نجيب محفوظ، ويطلب مني أن أجلس بجانبه. يهمس لي: ستأتي الآن سيدة مزعجة، وسأتآمر معك عليها فنكذب معًا كذبة بيضاء، أقول لها إنك تعد كتابًا جديدًا عني، وإنها تستطيع الرجوع إليك والاتصال بك، وتوافقني أنت على ذلك. ولم أكن قد أجبت حين دخلت السيدة فعلًا، واستأذنت في الجلوس مكاني، إلا أن الحكيم صدها بحسم فانفعلت على نحو لا يليق. حينئذ كان المترجم المصري يقول إن الروائي الأرمني ليس راضيًا عن هذا الأسلوب في التعامل مع الأدب. قال نجيب محفوظ: بالطبع، فإنه يؤدي إلى ميزان غريب، فالشاعر، أو الكاتب عمومًا سيحاول أن يزيد من عدد الملازم ليحصل على أجرٍ أعلى، ولو على حساب الفن. قال «الخواجا» السوفيتي: هذا صحيح، فالموهبة مهما كانت كبيرة، إذا تجسدت في صفحات قليلة، فإن صاحبها لا يحصل على شيء كثير. وهذا ظلم. علق نجيب محفوظ: ظلم للأدب لا للأدباء.

سألني توفيق الحكيم: هل رأيت لويس عوض؟ قلت نعم. قال: الشباب يهاجمونه لأنه لا يمتدحهم، أو لأنه صريح. قلت: بل لأن أشياء عديدة تغيرت، من بينها الأدب والنقد. ولقد كتب الرجل تاريخ الفكر المصري الحديث في عدة مجلدات، ولا يزال يكتب. وقد كتب «مقدمة في فقه اللغة العربية»، وما يزال يكتب سيرته الذاتية. إنه لم يكف عن الكتابة. ولكن النماذج التي كانت تغريه بالنقد الأدبي، لم تعد هي ذاتها الآن.

كان نجيب محفوظ ينصت في صمت. وفجأة قال: ليست هناك أزمة حقيقية في الإنتاج الأدبي، وإنما هناك أزمة في النقد بمعنى المتابعة. روايات وقصص كثيرة تصدر خلال السنوات الأخيرة، وقصائد كثيرة أيضًا. ولكن الفحص الدقيق لما ينشر بات نادرًا إن لم يكن متعذرًا. قال الحكيم: ولكني أرى الحق في جانب لويس عوض. لم يعلق نجيب. قلت: لا أظنها معركة، كتلك التي نشبت بين طه حسين والعقاد من جانب والمجددين من جانب آخر في أوائل الخمسينيات. كان الحوار القديم يدور حول «الوزن» في الشعر الجديد، حول استخدام اللهجة العامية، وحول الواقعية وغير ذلك، من مفاهيم ومصطلحات ومناهج. أما «المعارك» الجديدة فليست لها هذه المقدمات ولا تلك النتائج. قال الحكيم: إنها فقط، لأن رجلًا كبيرًا كلويس عوض لم يكتب عن هؤلاء الشباب. وقال محفوظ: بل لعله كتب عن المرحوم أمل دنقل، ومؤخرًا كتب عن محمد إبراهيم أبو سنة. قلت: ليس هؤلاء هم المقصودين بالشباب، فالحق أن جيل الستينيات لم يعد شابًّا لا بالمعنى الزمني ولا بالمعنى الفني، فلقد كبروا شكلًا ومضمونًا. هناك شباب جديد في الأدب المصري.

نجيب محفوظ يقول بهدوء: هذا صحيح، هناك إنتاج أدبي جديد في مصر، وكثير أيضًا. والمشكلة في النقد لا في لويس عوض أو عبد القادر القط أو علي الراعي. النقد ليس هو النقاد فقط. قال الحكيم: النقد طليعة ثقافية. كتيبة صدامية، مع الذوق السائد والمعايير السائدة، مع الأدباء والقراء على السواء. والوضع الثقافي الآن لا يسر. قلت: هناك نقاد آخرون غير الذين ذكرهم نجيب محفوظ، من أجيال ورؤى مختلفة. ولكن النقد لم يعد «الحركة» من منابر وأفكار واتجاهات ومحاورات ومؤسسات ونظريات ومؤلفات ومترجمات، ومن علاقات حية بين النقاد والأدباء والقراء. النقد بلا جمهور ليس نقدًا، والأدب بلا نقد ليس أدبًا، والجمهور دون هذا وذاك ليس جمهورًا من القراء. ليس ذوقًا جديدًا وموازين جديدة وأحلامًا جديدة.

أقول لنجيب محفوظ بعد أن تذكرت: كل سنة وأنت طيب، عيد ميلادك الخامس والسبعين. وأنظر للحكيم قائلًا: بالرغم من أنني تأخرت إلا أنني لا أرى بأسًا في تهنئتك بعيد ميلاك السابع والثمانين. محفوظ يبتسم بحياء ومحبة، والحكيم يقف للمرة الأولى منذ دخلت مكتبه متوجهًا إلى مكتبته فيفتح زجاجها ويأخذ نسخة من كتاب ما. يمسك الكتاب، ويقول: هذه مجموعة مقابلات معي، أخذت أقرأ إحداها، وقد نشرت أكثر من عشرين عامًا، ما إن وصلت إلى السطر الأخير حتى فوجئت باسمك. إذن، فهذه النسخة لك.

سألت نجيب محفوظ: كنت في الثامنة من عمرك حين قامت ثورة ١٩١٩م ومع ذلك فهي لا تغادر مخيلتك الوجدانية والفكرية، حتى إنك تقيس بها كل ما جرى بعدها — خاصة ثورة يوليو — فهي النموذج «الثابت» في تكوينك. قال: نعم، وقد بكيت حين مات سعد زغلول. قلت: لقد صور الحكيم هذه الثورة في «عودة الروح»، وصورتها أنت في أحد أجزاء «الثلاثية»، وما أبعد النسيج هنا عن النسيج هناك. وأقصد نسيج الرؤية لا نسيج الأحداث. سألني الحكيم: ولكن ماذا تقصد بالثبات، أو النموذج الثابت؟ قلت: أي أنها المعيار. مثلًا، هي الثورة التي طالبَت بالجلاء والدستور، أي أنها ثورة ليبرالية. وهي أيضًا ثورة وطنية مصرية شعارها الدين لله والوطن للجميع ومصر للمصريين، فهي ثورة القومية المصرية. ثم أنها ثورة الأفندية والتجار والطلاب والفلاحين والعمال، فهي ثورة «الجبهة الوطنية» بقيادة الطبقة الوسطى.

كان الحكيم يمسك يدًا بيد وأحيانًا تشتبك أصابعه فيخلصها من بعضها البعض وكأنه يعد عليها ويحصي ما أقوله، ثم نظر إلى نجيب محفوظ وسألني: وأخيرًا، أين المعيار الذي تتكلم عنه؟ قلت: إن هذا المحتوى في ثورة ١٩١٩م قد تحول إلى فكر ووجدان عند جيل كامل من المثقفين المصريين مهما تعددت أيديولوجياتهم وتجليات مواهبهم، إنه الجيل بالمعنى الواسع، الذي يضم في إهابه عدة أجيال: طه حسين، العقاد، سلامة موسى، توفيق الحكيم. لويس عوض، محمد مندور، نجيب محفوظ، حسين فوزي، أمين الخولي، عبد الرحمن بدوي، زكي نجيب محمود.

بهدوء علق نجيب محفوظ: إنهم عدة أجيال وعدة اتجاهات بالفعل. قلت: وأيضًا عدة رؤى وانتماءات تلتقي في نقطة جوهرية، وهي مصر المصرية الليبرالية. وقد تكتب أنت «عودة الروح» مركزًا على «الكل في واحد» وقد يكتب نجيب الثلاثية مركزًا على الصراع الأيديولوجي. ولكن النتيجة واحدة. يهز الحكيم رأسه، وهو ينظر إلى ورقةٍ أمامه، يلتقطها ويقول: أية نتيجة؟ نتيجة الثورة؟ يبتسم نجيب محفوظ: ربما نتيجة الأدب أو نتيجة الامتحان. لا أتردد في القول: بل هي بالفعل نتيجة الامتحان في الأدب والثورة معًا.

تتسع عينا الحكيم ويأذن بدخول السيدة التي تمسك بمنحوتة الحمار الصغير، ويقول: يا سلام، هكذا إذن؟ أقول له وأنا أنظر إلى نجيب محفوظ: أنت قلت في «عودة الروح» إن الكل في واحد هو شعار مصر الوطنية الموحدة. أدرك عبد الناصر وزملاؤه ما تقصده. قرءوا أيضًا ربما «شجرة الحكم» وفيها تدمغ الحياة الحزبية بالفساد، فأدركوا ما ترمي إليه. لذلك أحبوك مرتين: حين ألغوا الأحزاب وحين أصبح الكل واحدًا. وتناسى الجميع، أنت وهُم، أنك من دعاة القومية المصرية وحدها دون ارتباط بأية «عروبة».

تظاهر الحكيم بالغبطة وتساءل بدهشة ماكرة: ما هذا كله؟ أجبت: دون سابق تعارف قررت الناصرية أن تكون أحد المبشرين بها، وهي تدري أنك لا تطيق رؤية الرداء العسكري في الحكم. وقررتَ أنت ممارسة اللعبة إلى النهاية. نظر نجيب محفوظ في ساعته، واستأذن إلى لقاء. قلت للحكيم: أصدرت أغلب إنتاجك في العهد الناصري، نقدته مرتين مشهودتين: يوم أن دخل اليسار السجون في «السلطان الحائر» وعشية الهزيمة في «بنك القلق». وفي بعثة «الحمير» و«الصراصير» بعد ذلك. أنت أنت لم تتغير. وما إن غاب عبد الناصر حتى وجدت نفسك في شعارات العهد الجديد: الليبرالية والمصرية. ولكن الزمن كان قد تغير. وأضحت الليبرالية ترادف الانفتاح المتوحش، وأمست المصرية تعني مخاصمة العروبة لدرجة الاعتراف بالعدو التاريخي.

قاطعني الحكيم، وهو يرفع عينيه من الورق إلى السيدة التي قدمَت له منحوتة الحمار وطلبت الجلوس إلى جانبه للتصوير. ودارت كاميرات الفيديو أو السينما لا أدري. وجه لها الحكيم الكلام: هل سمعت كلام النقاد؟ ولكنه كلام ناقص، لأنني اعترضت على التوحش الداخلي والخارجي. وكذلك فعل نجيب محفوظ. هل قرأت أعماله الأخيرة؟ إنه يندد بالانفتاح، وفي تصريحاتي المتكررة استنكرت مواقف إسرائيل. ولكنك بدأت الكلام بثورة ١٩١٩م ولم أفهم إلى الآن ماذا تقصد؟

قلت: أظنك فهمت تمامًا ما أعني، فلا أنت ولا جيلك كله تخلى عن رؤى ثورة ١٩١٩م المصرية الليبرالية، والتي هي في الصميم رؤى الطبقة الوسطى الصاعدة بشرائحها المختلفة. كلكم حاكمتم ثورة يوليو بموجب موازين تلك الثورة، بالرغم من أن الدنيا كلها — ومصر طبعًا — كانت قد تغيرت. وكلكم تعاملتم مع العهد الجديد على أساس تطابق شعاراته مع شعاراتكم، ولكن الزمن كان قد تغير أيضًا. وتلك هي «المأساة» بالمعنى الدرامي: تناقض التكوين الأصلي والثابت للكاتب مع المتغيرات، فمرة يرفضها لأنها ضد رؤياه ومرة يقبلها كأنها رؤياه، ثم يكتشف — بعد فوات الأوان — أنها ليست كذلك. والعيب ليس في الرؤية ولا في نقيضها، ولكنه في الثبات حين يتطلب الأمر التغيير.

قال الحكيم وقد ضاق ذرعًا بالتصوير المستمر: كفاية، أريد أن أتكلم مع الرجل الذي لم أره منذ زمن. وانصرف الجميع، وبقيت معه. دخل الناقد عبد الرحمن أبو عوف، وهو الذي دعاني أصلًا للموعد، فسأله الحكيم وهو يضحك: تعرفه، إنه كما قلت لك عن كتابه، وهو يتحدث معي منذ ساعتين وكأنه يؤلف كتابًا جديدًا. قلت له: هذه «كذبة» لم تنطلِ على السيدة المزعجة. قلت له أيضًا: نجيب محفوظ، سواء كتب أو لم يكتب هو نجيب محفوظ صاحب الإبداع المستمر مما أعطاه في السابق. إنه يبدع في الأجيال الجديدة، وهو شريك أصيل في كل حرف من الأدب الجديد داخل مصر وخارجها. وأنت لست مجرد قيمة تاريخية، فأعمالك ستظل من قيم الإبداع العربي في كل العصور. لقد أبدعتما فينا روح الحياة.

سألني، وقد بدت معالم التأثر في وجهه: هل ستقرأ «ملامح داخلية»؟

أجبت: إنني أقرؤها دومًا، دون ملل، ملامحك جزء من «داخل» مصر والحرف.

۳

ليس لمكتب توفيق الحكيم جدران. هذا هو الباب، فالمكتبة، فالحكيم ثم … شارع الجلاء، فالجدار الطويل العريض هو نافذة زجاجية كبيرة. أقول ذلك، لأن جدران المكتب الصغير لنجيب محفوظ تجذب عينيك إلى لوحتين لا تغادران مخيلتك، كلتاهما لجورج البهجوري، من معرضه القديم الذي صنع اسمه كرسام في الطليعة: أطفال الحارة؛ لون التراب المصري بتدرجاته المختلفة التي تملأ اللوحة بالظلال البنية الصفراء الكابية، حتى إن التمايز بين الرأس والعينين والجسد يقترن بذلك الضوء الخافت السواد والخطوط الحادة الصمت والتكوين المشبع برائحة نفاذة من خلال التضاد والتقاطع بين الوجه والروح.

قلت لتوفيق الحكيم: هل قست المسافة بين «عودة الروح» و«عودة الوعي»؟ هز رأسه، وهو ينظر إلى عصاه، ثم تمتم: أربعون عامًا. قلت: أنت تتكلم عن الزمن، ولكني عنيت المسافة بين الوجه والقناع. كأنه فوجئ، وفي اندهاشٍ ماكر سألني: هل تقصد المسرح؟ أجبت: بل المسرحي. ولا أقصد العصا والبيريه وصينية البطاطس التي لا تجيد المرأة سواها. هذه كلها — لمن عاش في باريس سنوات — «حركات مشروعة»، باستثناء أنني منذ وصلت لم أشرب فنجانًا من القهوة إلا في مكتب نجيب محفوظ. أما «عدو المرأة» فليست أكثر من شائعة تؤكد أنك «حبيبها». المرأة في مسرحك الفرعوني اليوناني الإسلامي المملوكي المصري، لا علاقة لها بصينية البطاطس. وإذن فالوجه والقناع مسألة أخرى، قال لي. واستطرد: لعلك تقصد أقنعة الشخصيات التاريخية أو الفلكلورية أو الدينية كأهل الكهف وسليمان الحكيم وأشعب وشهرزاد وإيزيس؟

قلت لتوفيق الحكيم: أقصد المسافة بين «الروح» و«عودتها»، وأيضًا المسافة بين «الوعي» وعودته، أيهما الوجه وأيهما القناع؟ عودة الروح تعني أن الروح كانت غائبة، وأنت تعني بها روح الثورة أو روح مصر. أين كانت هذه الروح، هل غيابها كان الوجه وعودتها هي القناع، أم أن الروح ذاتها كانت وجهًا وأنت القناع، أو العكس. أريد ردًّا على هذا السؤال قبل الانتقال إلى «عودة الوعي».

كان الحكيم في هذا الوقت تمامًا ينظر عبر الزجاج ممسكًا بالعصا بين يديه، مبتسمًا كأنه يطالع عينيه في المرآة: أنت ماذا تريد بالضبط؟ سؤالك غريب كأنه «فزورة». قلت: السؤال الجديد أغرب: ماذا يمثلك أكثر «عودة الروح» أم «يوميات نائب في الأرياف»، وقد كتبتهما في وقتٍ متقارب مع بداية الثلاثينيات؟ على الفور، أجاب: كل حرف يمثلني، وليس هناك ما يمثلني أكثر. كتبت «عودة الروح» بتحريض من ثورة ١٩١٩م. قاطعته: كان قد مر عليها أكثر من أربعة عشر عامًا حين بدأت تكتب الرواية. كلنا يعلم أنك بدأت كتابتها أولًا في فرنسا وفي الفرنسية، ثم عدت إلى صياغتها في العربية. وهي العمل الوحيد الذي لم تخشَ فيه استخدام بعض المفردات، وأحيانًا الفقرات العامية. ومن الغريب أن يكون محمد حسين هيكل قد سبقك إلى هذه «الأطوار» كلها في «زينب» باستثناء أنه لم يجرؤ على توقيعها باسمه عام ١٩١٤م. ولكنه كتب منها في البداية أجزاءً بالفرنسية ثم أعاد صياغتها واستكملها بالعربية التي لا تخلو من العامية، وهو أيضًا رجل قانون مثلك، وتعلم في فرنسا. ألم تفكر في أوجه الشبه والاختلاف بينكما؟

كان الحكيم قد ارتكز بذقنه على عصاه، وهو يقول لي: بل إنني أفكر في أسئلتك التي تراكمت، وربما ننسى بعضها، وهذا أفضل. أنت في العادة لست خبيثًا، فماذا جرى لك؟ سؤالك الأصلي حول الوجه والقناع، أليس كذلك؟ ولكنك «عقدت» المشكلة التي تفرعت كثيرًا. أنا لم أفكر مثلًا في أية مسافة بين الروح وعودتها، ولكني أفكر معك الآن بصوتٍ عالٍ. ثورة ١٩١٩م هي نفسها روح مصر التي تختفي أحيانًا ولكنها لا تموت أبدًا. أين القناع إذن الروح والثورة ومصر مترادفات لوجهٍ واحد بلا قناع. و«يوميات نائب» كتبتها أثناء عملي وكيلًا للنائب العام في الأرياف، وهي أيضًا صورة لمصر بعد الجفاف، جفاف الروح. إنها وجه وليست قناعًا، أو هي أحد وجوه مصر الخافية عن العيون. ولا شك أن رواية «زينب» كانت موجودة، وعن الريف أيضًا، ولكنها بعيدة عن الجو الذي استهواني وحرضني على كتابة «اليوميات». ما هي قصة الوجه والقناع معك؟

قلت: أنت تغري الناس بفكرة الوجه والقناع من زاويتين لا أتوقف عندهما، وهما الشعارات الخارجية كعدو المرأة والبخل والعصا والبيريه من ناحية، والرموز الداخلية في أعمالك المسرحية المستلهَمة من التاريخ والتراث الشعبي. إنني لا أتوقف عند هذه المعاني التي قد تكون هي ذاتها «قناعًا» يخفي وجهك الحقيقي. إنني أتوقف عند البنية الفكرية-الجمالية في عالمك، وأتساءل ربما في صيغ غير مطروقة أو غير مطروحة. ولكن دعنا نقول إننا نبحث عن السر، سرك.

اضطربَت العصا بين يديه، وعيناه تلمعان، وهو يتحرك فوق مقعده: سري! أعوذ بالله، ليس لدي أسرار، قل كلامًا آخر يا شيخ.

قلت: هذه هي المشكلة بالضبط، أن لك باستمرارٍ كلامًا، وكلامًا «آخر». قاطعني وهو يبرز العصا بين يديه: إياك أن تنسى نفسك، واعلم أن العصا ليست نكتة. استأنفت: الليبرالي في «عودة الروح» يرتدي «القناع الاجتماعي» في يوميات نائب، لتقول الشيء ونقيضه: أنت مع الثورة الليبرالية، ولكنك ضد الأحزاب والبرلمان، أليس هذا كان موقفك؟ سألني: ثورة ١٩١٩م عظيمة، وسعد زغلول عظيم، ولكن الأحزاب خيبت ظني، هل هذا عيبي أم عيب الأحزاب؟ وحتى ترتاح، فثورة يوليو عظيمة ولكن غياب الديمقراطية، مأساة، والهزيمة كارثة، فهل هذا عيبي أم عيب الأمر الواقع الذي شرحته في «عودة الوعي»؟

وجدتني أصارحه: أنت لم تكن حزبيًّا عندما هاجمت الأحزاب، ولم تكن اشتراكيًّا في عهد الاتحاد الاشتراكي، أي أنك حين تمارس الليبرالية أو الراديكالية اخترت الكتابة قلعة لك، والوظيفة حصنًا، فكنت آمنًا طول الوقت، أليس كذلك؟

بسرعةٍ أجاب: ليس كذلك. وأنت تعرف أنني اضطُهدتُ في العهد الملكي، وكدتُ أُضطَهد في العهد الناصري لولا جمال عبد الناصر نفسه، والسادات هاجمني حين كتبت ووقعت على بيان الكُتاب بالإضافة إلى أشكال متعددة من الهجوم والضغوط التي تعرف بعضها ولا تعرف البعض الآخر.

قلت: أنا لا أنكر ما تعرضتَ له، وهذا طبيعي لأي كاتب بحجمك، ولكن هناك ظاهرة الاستقلال عن الأحزاب قبل الثورة. وهي ظاهرة تشملك أنت ونجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس على سبيل المثال. ولكن نجيب محفوظ كان له قلب وفدي، أما أنت وإحسان فقد وقفتما ضد «الحزبية»، وبالذات ضد «الوفد» بالرغم من موقفكما الوطني الصريح الواضح.

تنهد لأول مرة، وهو يقول: على أية حال، هذه مسألة أخرى، فما علاقتها بالوجه والقناع؟ قلت: إن البعض يتصور — وله العذر — أن لك مواقف متناقضة من ثلاث قضايا: أولاها «اليسار»، ونستطيع أن نراجع معًا كتاب «ملف عبد الناصر بين اليسار وتوفيق الحكيم». والقضية الثانية هي «الإسلام» ونستطيع أن نراجع معك كتابك «الأحاديث الأربعة» والآخر «الإسلام والتعادلية». والقضية الثالثة هي «إسرائيل»، ونستطيع أن نراجع مجمل تصريحاتك وتصريحاتك المضادة بشأنها.

يأخذ ورقة صغيرة وقلمًا، فيدوِّن شيئًا ثم ينتبه إلي قائلًا: إنني معك في أنه لا يجوز الفصل بين الفكر والسلوك، ولكن ما هو المرجع؟ إنه النص. نص الكاتب ليس هو التصريحات الصحفية، بل هو العمل الأدبي.

سألته: هل تعتقد أن وعيك كان غائبًا حين كتبت «الطعام لكل فم» و«السلطان الحائر» و«بنك القلق»؟ قال: كلا. نعم، قال: كلا، فقلت: هذه الأعمال صرخت بأعلى صوت: العدل الاجتماعي والديمقراطي، فلم يكن هذا وعيًا غائبًا، بل هي المسافة بين الوجه والقناع. ضحك وهو يقول «تاني!» أجبت: نعم تاني وثالث ورابع، لأن «عودة الوعي» ليس عملًا أدبيًّا، ولكنه القناع، لأن البيان الذي كتبته لروز اليوسف عن موقفك من اليسار هو الوجه الذي طالعناه في النص المكتوب: الطعام لكل فم والسلطان الحائر وبنك القلق. المسافة بينهم تملؤها: الضغوط السلفية التي مورست لتغيير عنوان عن الأحاديث، والضغوط التي مارستها على نفسك امتدادًا لدعوى «الاستقلال».

كان الحكيم صبورًا، وهو يشرح لي باهتمام: أعرف انشغالك بموقف الكاتب، ولكني أعرف أيضًا أن الكاتب مهما حاول التخفي فإن النص يكشفه. أدبنا وثيق الارتباط بالواقع كأي أدب آخر، وأدباؤنا حياتهم مطبوعة في أدبهم كأي أدباء آخرين في العالم. ولكن المشكلة متعددة الجوانب: الكاتب ليس سياسيًّا، ولكنه يقوم بدور سياسي تتضاعف أهميته في العالم المتخلف. في العوالم الأخرى هناك الأحزاب والبرلمان والنقابات والصحافة الحرة والإذاعات الحرة والتليفزيونات الحرة، وغير ذلك. الكاتب في بلادنا، يحاسَب كأنه عضو مكتب سياسي لهذا الحزب أو ذاك، ولكنه في الحقيقة عند الامتحان، لا ظهر يسنده؛ لذلك فإنه في مواجهة الدولة أو الحكومة وحيد. أين المفر؟ إنه النص. هو المأوى الحقيقي والنهائي للكاتب. هو الوجه إن شئت. وهكذا، فأنت تستطيع أن تفسر لماذا كان أدبنا وما يزال سياسيًّا إلى هذا الحد، ولماذا كان أديبنا مستقلًّا عن الأحزاب والسياسيين إلى هذا الحد؟ أدبنا متخَم بالسياسة، قياسًا بالآداب الأخرى. وأدباؤنا المستقلون أكثر كثيرًا من زملائهم في البلاد الأخرى. ليس هذا تناقضًا، بل العكس، فالوجهان هما لعملة واحدة، وليس كما تتصور الوجه والقناع. قلت لتوفيق الحكيم بعد فترة من الانشغال بزائر عابر: أنت لم تكتب الرواية كثيرًا، ولكنك حين كتبت «عودة الروح» كنت تمهد الطريق، كذلك حين فعلت في «يوميات نائب». هذا الطريق الذي سبقك إلى التكهن به الكثيرون، كنت أنت الذي عرفت أوله. وأقبل نجيب محفوظ ليؤسس ويبني، بالرغم من أن الطلائعيين كانوا هناك ولكن توفيق الحكيم بقي حريصًا على مواصلة الطريق الآخر: المسرح، والطريق الثالث: الفكر. الرواية تهيكل الأحداث والشخصيات والمواقف في نسيج زمني ومكاني لا يحتملان الأقنعة وإن احتويا الرموز. المسرح يستكمل القناع في الحوار، والفكر يباعده في المنولوج. أنت اخترت المسرح لاستكماله، وكذلك الفكر … هل تسلل إليك الوجه من هنا، والقناع من هناك؟

الحكيم يمسك عصاه ويقول: اتق الله، فأنت الآن تدخل بنا في مجاهل البحار العميقة، في أعالي البحار. الروائي المسرحي؟ المسرحي المفكر؟ لا بد من أن هناك صلة بين الصفة والموصوف، فالرواية باستمرارية كتابتها تطبع الروائي بالكثير من صفاتها. وإذا كنت تقول بخلوها من القناع فكاتبها يخلو من المعادل الذاتي لهذا القناع. أما المسرحي فيختلف، ما دمت تقول بأن القناع جزء من البنية الدرامية. هنا لا يصبح القناع ستارًا على الحقيقة ولا ازدواجية في الشخصية بل جدل بين البصر والبصيرة، وبين القلب والعقل، وبين الحدس والخيال. هذا الجدل يتخذ شكلًا آخر في الفكر، شكلًا لا مضمونًا. الفكر مونولوج في الظن، وديالوج في الفعل. إنه ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب في وقتٍ واحد. جماع الأزمة إذن. الحواجز الوهمية تصوغ الوجه والقناع، كمحاكمة للذات والموضوع في وقت واحد.

توفيق الحكيم يستعد للذهاب. لا تبدو عليه معالم الإرهاق. يطلب السيارة أن تنتظره بالباب. يهز عصاه مجددًا، وهو يلتفت إلى الورقة التي خطط فيها بعض الكلمات. يلاحظ أن عبد الرحمن أبو عوف كان «ينتقي» من المكتبة طبعات جديدة صدرت لأعماله القديمة. يقول له: خذ ما تشاء إذا كانت هناك أكثر من نسخة. يتكلم معه حول أحد الدارسين لأدبه. يقول الرجل: عيبه أنه لا يحلل، وأنه يقارن مع أعمال لا علاقة لها بي. النقد إبداع أدبي كالقصة والمسرح والشعر. إبداع، وليس هامشًا أو تعليقًا أو انطباعًا. أما الأكاديميون فيكتبون «دراسات أدبية وبحوثًا علمية» لا نقدًا أدبيًّا، والصحفيون يكتبون انطباعات وهوامش وتعليقات في أحسن الأحوال، لا نقدًا أدبيًّا. النقد يحتاج إلى جانب الموهبة المساوية في المعدن لموهبة الأديب، إلى العلم والفكر، ثم يترجم نفسه في حالة إبداعية كاملة.

كانت السيارة تنتظره، وهم يطلبونه بالتليفون لأن الشوارع مزدحمة. كان هو يردد: حتى الزمن له وجه وقناع، لا المكان وحده، فكيف يتعرى الوجه البشري تحت حرارة الشمس وجليد الشتاء؟

أجبت نفسي وأنا أودعه على باب «الأهرام»: هذا العملاق يطاول الزمن لأنه استطاع أن يبدع اللغة في منتصف المسافة تمامًا بين الوجه والقناع.

يناير ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤