نجوم العصر السعيد

١

ليس صحيحًا أن هناك نجمًا لكل العصور. من الممكن لألحان سيد درويش أن تبعث بعد وفاته بنصف قرن، ولكن هذا لا يعني أن الشيخ سيد نجم العشرينيات هو نفسه نجم السبعينيات. معناه فقط أن موسيقاه قادرة على البقاء لأمد طويل. ولا أحد يعلم ما إذا كان سيد درويش نجمًا في عصره أم لًا، لأن النجومية بحد ذاتها لا ترادف الموهبة؛ فقد تواكبها ولكنها لا تلازمها بالضرورة. هناك عباقرة ليسوا نجومًا، في كل مجال من مجالات الفكر والعلم والفن والحياة.

النجومية تعني أولًا الحضور والجاذبية. ولا تفيد الموهبة وحدها في ذلك، بل هناك فن صناعة النجم. وهو الفن الذي بلغ الذروة مع تقدم وسائل الإعلام. قبل ظهور الصحافة حتى أثناء ظهورها، كانت الفرقة المسرحية تلف المدن والقرى فوق الحمير والبغال والعربات التي تجرها الخيول، لتعلن عن «الليلة» أي السهرة المسرحية. وحتى أفلام السينما كانت تعلن عن نفسها بدق الطبول والنفير والصاجات والهتاف من ميكروفون بدائي عن تمثيل «الحب الأول» أو «حكم القوي» في صالة نجيب أفندي بجانب القهوة البلدي بعد المغرب، وتعالوا شوفوا ست ليلى تغني وتمثل وأنور وجدي، اتفرج يا سلام، سلام مربع. وهات يا مزيكة حتى يبدأ الفيلم.

الإذاعة غيرت الدنيا. لم يعد صوت أم كلثوم حكرًا على بكوات وباشوات وأفندية العاصمة الذين يستطيعون أن يدفعوا ثمن التذكرة و«يرون الست بعيونهم». أصبح الجميع، من يملك الراديو ومن لا يملكه، يستطيع أن يسمع الست. وفي هذا الوقت كانت الملصقات في الشوارع على جدران الأبنية، وكانت صور الفنانين — كارت بوستال — قد بدأت، بمشاركة الصحافة، في صناعة نجوم السياسة والأدب والسينما والمسرح، وأيضًا نجوم المجتمع من سيدات ورجال أعمال.

السينما، بعد المسرح، كرست النجومية. الفرقة المسرحية تنتقل ولكن في أضيق الحدود. والبعض — أو الأغلبية إن تمكنت — تفضل المسرح الذي تشاهد فيه يوسف وهبي بلحمه ودمه والست فاطمة رشدي شخصيًّا وجورج أبيض بجلالة قدره. ولكن السينما أكثر شعبية، فالصورة الناطقة المتحركة جسدت الخيال في ألمع حالاته.

ولكن ليس كل من خطب في الماضي أصبح سعد زغلول أو مصطفى النحاس أو جمال عبد الناصر. كان هناك عشرات الباشوات الجهابذة في القانون والسياسة إلى جانب، وفي مقابل سعد زغلول والنحاس، ولكنهم لم يكونوا نجومًا. وكان هناك الكثيرون من الضباط والثوار إلى جانب وفي مواجهة عبد الناصر، ولكنه وحده كان نجمًا. ليست الأضواء وحدها هي السبب، لأنها قد تتوزع بقدرٍ متساوٍ على الجميع، ولا يبرز سوى «النجم». وقد تخلق الأضواء زعيمًا في السياسة وغيرها، ولكنها لا تخلق «الكاريزما» أي الشخصية الساحرة الآسرة بجاذبيتها الطاغية.

والنجم ليس بالضرورة هو «المحبوب»، ولكنه الرائج. وقد تتوافر المحبة والشعبية والموهبة لأحد النجوم، وقد لا يتوافر لغيره سوى الحضور والموهبة فقط. ولا أحد يعلم على وجه اليقين من أحب محمد نجيب ومن كرهه، ولكن المؤكد أنه كان نجمًا وحاضرًا وجذابًا أيضًا. وربما يظل النجم منطفئًا لزمن يطول ثم يلمع فجأة، حين يرتبط حضوره بالزمن الذي يناسب نوعية جاذبيته. جمال عبد الناصر كان نجمًا محبوبًا وشعبيًّا لدى الغالبية الساحقة، ولم يكن أنور السادات محسوبًا في عداد النجوم بالرغم من أنه عمل بالصحافة والبرلمان. لم يكن الزمن مؤهلًا لتفجير مواهب الرجل، زمن التحولات الوطنية والاجتماعية نحو الاستقلال. ولكن السادات أصبح نجمًا، وأن يكن مكروهًا من الغالبية الساحقة، نجمًا له حضوره وجاذبيته، بأسلوبه في التعبير وطرائقه في التفكير وأدائه السياسي. ولكنه نجم زمن جديد. وليست صدفة أن تتسابق صوره إلى أغلفة المطبوعات العالمية، ولكن متى؟ حين وطئت قدماه الأرض المحتلة أصبح نجمًا عالميًّا لمدة ساعة في كل بيت أوروبي وأمريكي. وكما قيل عن كيسنجر ذات يوم، بلسان رئيسه نيكسون «إنه وزير خارجية العصر» ثم هوى النجم من حالق ووترجيت، كذلك قال الإعلام الغربي إن السادات هو نجم العصر بعد أول إنسان هبط على سطح القمر، ولكن هذا الإعلام سرعان ما قارن بين جنازة الملايين الخمسة (في رحيل عبد الناصر) وجنازة الخمسين رصاصة «السادات» الذي كان ألمع نجوم عصر «الانفتاح» بل كان العنوان الرئيسي إلى أبواب هذا العصر.

في جميع الأحوال، ليس العصر متجانسًا، أي أنه قد يثمر النجم والنجم المضاد إن جاز التعبير. ولكنها حالة نادرة في بلادنا، تتطلب توازنًا ليبراليًّا مفقودًا. وعندما يختل هذا التوازن لمصلحة مجموعة من القيم والبنى الاجتماعية-الثقافية، تصبح النجومية محصورة، غالبًا، في الفئة الأكثر تعبيرًا عن العصر الجديد، بل تصبح من ملامحه الفارقة.

في الزمن الناصري بمرحلتيه الوطنية والاجتماعية، كان هناك نوع من التوازن الليبرالي بين النجوم: توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وأنيس منصور وفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وعبد المنعم إبراهيم وعبد المنعم مدبولي وشفيق نور الدين وتوفيق الدقن وفؤاد المهندس وشويكار ونجوى فؤاد وسهير زكي وسميحة أيوب وسناء جميل وسهير البابلي ومحسنة توفيق وكرم مطاوع وسعد أردش وسعاد حسني وصلاح جاهين ولويس عوض ولطفي الخولي وصلاح عبد الصبور وصلاح أبو سيف ويوسف شاهين وحسن الإمام وجمال كامل وعبد الغني أبو العينين وجورج البهجوري وأحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل وتحية حليم وعلي ومحمود رضا وفريدة فهمي وإنجي أفلاطون وعبد الله غيث. بانوراما هائلة التنوع من نجوم الأدب إلى نجوم الرقص إلى نجوم التمثيل والموسيقى. والأسماء التي ذكرتها مجرد أمثلة ترِد عفو الخاطر، وتقودنا إلى الصفة الأولى المميزة للعصر: وهي إفساحه المجال لأكبر عدد من المواهب ذات الحضور والجاذبية، دون اعتبار كبير للانتماء الأيديولوجي. وهو الاعتبار الذي يحول دون التعددية السياسية، فلم يكن هناك سوى نجم سياسي واحد. ولكن الفن «التجاري» مثلًا كانت له حدود، فلم يتجاوز نجومه حدود القيم العامة الشائعة في المجتمع.

وكانت المثل العليا في الحياة اليومية لطبقات المجتمع الذي يتحول، هي الأحلام الرائجة عند الشباب: كأن يصير أولًا «متعلمًا» ومثقفًا إن أمكن، وحبذا لو كان ضابطًا أو طبيبًا أو مهندسًا أو صحفيًّا، وكان حلم الفتاة أن تتزوج وأن تعمل. ولم يكن «السياسي» من النماذج السائدة على الأحلام، فالسياسيون يذهبون إلى السجون والمعتقلات، والتجار لا مستقبل كبيرًا لهم، والثقافة أناقة عقلية بعد مجانية التعليم وفرض الحراسة على أناقة باريس ولندن. أما الجيش والطب والهندسة والصحافة، فتهيئ مستقبلًا مضمونًا ماديًّا ومعنويًّا حتى في ظل «الاشتراكية».

وكان هناك «ضباط يكتبون» كجمال عبد الناصر نفسه الذي تنافس بعض الأدباء على استكمال روايته «في سبيل الحرية» وثروت عكاشة وخالد محيي الدين وأحمد حمروش ويوسف السباعي وسعد وهبه (كان ضابط شرطة). والسباعي كتب عن حياة الضباط الثورية والعاطفية. ولأنور وجدي فيلم شهير «٤ بنات وضابط». هكذا اقترن الجيش بالثورة بالحب بالكتابة. وظهرت مئات الأفلام المسرحية والأغاني التي تصور حياة السد العالي والمصانع والمستشفيات والصحافة. ووجد ملايين الفتيان والفتيات أنفسهم في ضحكات مدبولي والمهندس وبكائيات فاتن حمامة وحسن الإمام وفريد الأطرش. واكتشفوا أحلامهم في آهات أم كلثوم وكاريكاتير جاهين وثوريات عبد الحليم. وكان التليفزيون قد ولد في قلب الحدث السياسي الأكبر: الوحدة. وهكذا انتعشت أفلام الحرية والاشتراكية والوحدة حسب الترتيب الناصري.

وكان هناك بالطبع «النجم المكبوت» أو النجم «المسكوت عنه»، المعتقل السياسي. ولكنه لم يتحول قط إلى نجم محدد ملموس، فكان البعض يدخل السجون ويخرج دون أن يتحول إلى نجم مهما أشيع عنه من بطولات. غير أن «السجين السياسي» المجرد، ظل شبحًا لنجم لم يظهر قط. ولكنه ظل كامنًا في اللاوعي الجمعي.

وإذا كان مسرح وسينما ورقص وصحافة وإذاعة وتليفزيون القطاع العام قد حدد النجومية في إطارة القيم والعلاقات الاجتماعية المتصارعة — وليست السائدة — في إطار النظام الاجتماعي للسلطة، فإن فنون ومسارح ودور نشر القطاع الخاص أتاحت إطارًا آخر للنجم. وهكذا فإن عبد المنعم إبراهيم في «حلاق بغداد» لألفريد فرج أضحكنا بأسلوب يختلف كليًّا عن أسلوب فؤاد المهندس في «أنا وهو وهي». ولا يعود السؤال، من هو، من هو أكثر موهبة من الآخر، لأن عبد المنعم إبراهيم وعبد الرحمن أبو زهرة وعبد السلام محمد وسهير البابلي وملك الجمل أضحكونا من أشياء وعلى أشياء مختلفة تمامًا عن أسباب ضحكنا في عروض المهندس وشويكار ومدبولي ومحمد رضا وأمين الهنيدي. والضحك ليس تشنجًا لذيذًا في عضلات الوجه، بل هو رؤية تطبع الفنان وأدوات الفن، تطبع الكاتب والممثل ومهندس الديكور والموسيقى ومصمم الملابس، بصفات خاصة. هنا يختلف عبد المنعم إبراهيم عن عبد المنعم مدبولي، لا في حجم الموهبة، وإنما في تكيف أداء الممثل لأدواره المستمرة مع رؤية الضحك التي تجسدها. وهي رؤية البرجوازي الصغير، في مجتمع مضطرب القوام الطبقي. لذلك كان البطل — النجم متعدد الأنماط — هو الرومانسي والبراجماتي والمتمرد والديماجوجي والإصلاحي والدوجماتي والتوفيقي … ولكنه في جميع الأحوال هو «النجم الصاعد» حتى صيف ١٩٦٧م.

في تلك الفترة كاد يبرز نجم من نوع جديد، علا صوت صاحبه من إذاعة الدولة، وعرفه الناس أو حفظوه من شعاراته السريعة الاشتعال: الأكس في التاكس، العملية في النملية. إلى آخر هذه العبارات العبثية ذات النكهة الكابوسية التي كان يمكن تبينها بسهولة في قصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتمثيليات توفيق الحكيم، وقد كتبوها عشية وغداة الهزيمة-الكارثة. قلت كاد يبرز نجم جديد، ولكنه لم يظهر، وعندما انتفض الطلاب والعمال مرتين عام ١٩٦٨م كاد النجم يلمع، ولم يكن سرابًا. ولكن الكاريزما الناصرية وحرب الاستنزاف، حالت كلتاهما دون أن يشق النجم الجديد طريقه. البرجوازي الصغير يدري أن البيت الآيل للسقوط قد سقط، وأنه قد عاش ثلاث سنوات في العراء وقد آن الأوان برحيل عبد الناصر أن يشيع «فارس الأمل» إلى مثواه الأخير. وكان المسرح معدًّا لاستقبال البطل-النجم الجديد.

كان أبطال الحكيم ومحفوظ قد هزموا، ما عاد بإمكانهم أن يصيروا نجوم العصر الجديد، بالرغم من أن «الكاتب» كان «مؤيدًا» و«داعمًا» لهذا العصر. وهذه هي المفارقة الإشكالية؛ أن النجم الجديد لم يولد من الكتابة-الرؤيا. كان التأييد للشعار، للقناع، أما الوجه فكان فاجعًا. ولم يثمر ذلك أدبًا-نجمًا. كانوا نجومًا في العهد الناصري وهم معارضوه، ولم يصبحوا نجوم الانفتاح وهم مؤيدوه.

كانت النجوم تولد في مكان آخر. كان مهدها الطبيعي هو الكباريهات ومسارح القطاع الخاص والمارد المحبوس في قمقم الذكريات. وكان المهد الأصلي هو الانقلاب الاجتماعي الشامل الذي لم يسمح للقوام الطبقي بالتبلور، وإنما بالاختلاط والتمازج والتقمص والتناسخ المالي — البترولي — الربوي. وأصبح «تاجر الشنطة» الذي كانت بيروت أقصى مناه، «رجل أعمال» يتاجر في العملة والمخدرات والتهريب. وأصبح «مقاولًا» متفرغًا لبناء العمارات القابلة للسقوط بعد أسابيع أو أشهر، أو تأجير العمارات التي لا تبنى أبدًا. ولم يعد البرجوازي الصغير أكثر من مختلس أو مرتش أو قاتل. ولم يعد القتل للثأر أو العرض، لأن الأب راح يقتل أولاده، والابن يقتل والديه، والعائلة تقتل بعضها بعضًا. وانتهى زمن الضابط فتى الأحلام أو الطبيب والمهندس وأستاذ الجامعة، وأضحى المليونير الذي كان شيالًا، والسمكري والسباك، أو المهاجر، هو ملك أحلام الشباب. تغيرت القيم تغيرًا بركانيًّا، فأمست اللامبالاة بالعمل العام — أي عمل عام — والصدفة والحظ والوصولية هي قيم العصر الجديد.

وكان لا بد لهذا العصر من أن يصنع نجومه، وقد أصبح التليفزيون ملونًا، وانتشر الفيديو. وعلى عكس العصر السابق تمامًا؛ فقد أصبح لدينا نجوم سياسيون لا نجمًا واحدًا، وقل عدد النجوم في بقية المجالات، على إطلاقها. ولم يكن من الممكن أن تكون الثقافة هي أبرز سمات «حضور» النجم وأسباب جاذبيته، حتى عندما يكون هذا النجم هو «السياسي». كانت «الحركة» وهي المصدر الرئيسي للنجومية الجديدة، سواء في المسرح أو في السينما والتليفزيون أو في الخطابة والمحاضرة. وكانت «التسلية» هي الوظيفة الرئيسية للحركة، بهدف التخدير وتسريب الوعي الزائف. «أنا وحدي» الذي أصل، لأنني العبقري أو صاحب المال أو صاحب الحظ أو كل ذلك مجتمعًا. هذا هو النموذج الجديد الذي لا يبني المسرح القومي أو المسرح الحديث أو المسرح الكوميدي، بل يفتت المواهب إلى شظايا منفوخة على مقاسات الذوق الانفتاحي الجديد، في التليفزيون والمسرح والفيديو والقاعات العامة.

أساسًا تتوقف الكتابة عن ولادة النجوم، وكذلك المسرح الذي يحتاج دومًا إلى «خشبة» اجتماعية. تزدهر الرواية والقصة القصيرة ازدهارًا عظيها بعيدًا كليًّا عن أضواء النجوم والنجوم القديمة تفقد بريقها، لأنه لا مكان في سماء العصر الجديد إلا لنجوم الحركة المخدرة المسلية المثيرة لضحكات ودموع وأحلام الوعي المزيف، سواء كانت حركة الممثل أو المغني أو الخطيب أو السياسي. وإذا كانت الهزيمة قد بدأت منذ عشرين عامًا في «الأكس في التاكس» فقد انتهينا إلى الاعتراف ﺑ «احنا اللي خرمنا التعريفة» أي نحن الذين ثقبنا العملة نصف القرش، و«احنا اللي دهنا الهوا دوكو» أي إننا نحن الذين طلينا الهواء. هنا يتحول العبث إلى سخرية بلهاء من النفس والعالم، ويتحول الكابوس إلى دعوة خفية للانتحار ضحكًا أو خدرًا أو استمتاعًا أو ترهبنًا. وهي الأنماط التي جسدت، وجسدها لنا نجوم العصر الانفتاحي السعيد.

٢

في إحصاء طريف أن أربعة ملايين ونصف مليون كاسيت لعبد الحليم حافظ بيعت العام الماضي في مصر وحدها، أما أغاني أم كلثوم فقد بيع منها تسعة ملايين من الأشرطة. يقول الإحصاء أيضًا إن ما لا يقل عن عشرين فيلمًا قديما تعود إلى الخمسينيات والستينيات، قد شرع بعض المنتجين في إعادة إنتاجها.

تقول الإحصائية كذلك إن الروائي نجيب محفوظ ما زال يتصدر القائمة الأكثر مبيعًا، وإن رواياته وقصصه القصيرة تتحول فور كتابتها إلى أفلام ومسلسلات تليفزيونية أكثر من أي كاتب آخر.

أما الشاعر الأكثر رواجًا فهو … أحمد شوقي الذي أعادت دور النشر طباعة أعماله. والكتاب الذي فاز بالإجماع هو «ملفات السويس» لمحمد حسنين هيكل. والموسيقي الذي يتجدد الإعجاب به من مختلف الطبقات والأعمار هو سيد درويش. والنحات الذي يتذكره الناس هو مختار وتمثاله «نهضة مصر».

«السياسي» الأكثر بروزًا في المخيلة هو: صلاح الدين وأحمد عرابي ومصطفى النحاس وجمال عبد الناصر، الأربعة كانوا في الطليعة دون تفاوت كبير بين أحدهم والآخر، وإن تقارب صلاح الدين وعبد الناصر تقاربًا شديدًا.

و«المفكر» الذي يستحوذ على الانتباه هو: رفاعة رافع الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وطه حسين وسيد قطب، والتفاوت هنا أيضًا لا يكاد يذكر بين الأربعة وإن تقارب الطهطاوي والأفغاني تقاربًا شديدًا.

تقول الإحصائية أيضًا إن أربعة في المائة من القراء هم دون الخامسة والعشرين، أغلبهم من شباب الجامعات. وإن خمسة وعشرين في المائة من القراء لم يتجاوزا سن الأربعين، وهم في الأغلب من الموظفين والمحامين والصحفيين والباحثين وأساتذة التعليم المتوسط والعالي وطلاب المعاهد الدينية العليا في مراحل الماجستير والدكتوراه. وهناك خمسة عشرة في المائة من القراء بين الأربعين والخمسين من العمر، وهم لا يتحملون مسئوليات مادية باهظة وغالبيتهم تملك المسكن الملائم، والدخل الجيد. ويبقى عشرون في المائة من الذين تجاوزوا الخمسين موزعين بين مختلف الطبقات والمهن، ولكن ليس من بينهم «تاجر» أو «مزارع» أو صاحب مصنع.

وتصل الإحصائية إلى المسرح فتقول إن هناك ظاهرة ماتت وكانت قد ولدت في الستينيات، وهي ظاهرة المسرح الذي كتب نصوصه كبار الكتاب. وهناك ظاهرة جديدة هي المسرحية التي تجذب مئات الألوف سنويًّا وتستمر لعدة أعوام لفرقة واحدة.

وتلفت الإحصائية نظرنا إلى أنها لم تذكر كتب التراث، والتراث الديني على وجه الخصوص، لأنها باتت من الثوابت التي لا يختلف بشأنها عام عن آخر، والتي لا يدل شراؤها على عدد قرائها.

ثم يجب أن أشير إلى أن البحث الإحصائي المذكور خلا من الإشارة إلى كتب ومعارض الأطفال، لأن «العينة» ذاتها — وقد بلغت ألف إجابة — خلت من الأطفال. وخلت أيضًا من أسئلة جوهرية حول مشاهدة التليفزيون أو سماع الإذاعة أو قراءة الصحف وزيارة المتاحف وأفلام السينما والفيديو.

ورغم هذا التقصير، فإننا بإزاء مجموعة من الاحتمالات — ولا نقول الوقائع أو الحقائق تحاشيًا لمبالغات التعميم — التي يجدر بنا أن نتابعها ونحاول فهمها … فليس من الصواب على سبيل المثال أن نستخلص من «السائد» صورة تقريبية للواقع، فما قد «نظن» أنه الأكثر رواجًا لمجرد أن هناك ضجيجًا إعلاميًّا حول اسمه وصورته قد لا يكون الأكثر نفوذًا أو تأثيرًا على القارئ أو المشاهد أو المستمع. والحكاية الشائعة تروى عن كاتب كثير الجلبة ولفت الأنظار أن ناشرًا جذبته «الهيصة» لشراء حقوق طبع وتوزيع كتاب جديد لهذا الكاتب. وإذا به بعد ثلاث سنوات من نشره لا يوزع أكثر من خمس وعشرين نسخة. النجومية شيء، والتأثير الحقيقي شيء آخر.

وأول «احتمال» يواجهنا في هذه الإحصائية أن الموتى ما زالوا أكثر «حضورًا» في العصر الجديد من بعض الأحياء. ولا ريب أن أحمد شوقي مثلًا يستحق القراءة في كل وقت، وخصوصًا لطلاب المدارس، كجزء من التراث الأدبي. ولكن ما معنى أن يكون شوقي هو شاعر ١٩٨٦م معناه أن أذواق العصر السعيد قد عادت القهقرى إلى ما قبل عبد الرحمن الشرقاوي وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل. ومعناه أن «شعراء العصر السعيد» لم يستطيعوا التسلل من دائرة الضوء الإعلامي الصاخب إلى دائرة الذوق العام الصامت. ومعناه أن المواهب الجديدة الحقيقية أسيرة الظل المفروض والنشر المرفوض، ومعناه أن الجماهير لم تجد نفسها عند الذين لم تقرأ لهم أصلًا، ولا عند الذين «راجوا» دون موهبة، فراحت تبحث عن أحمد شوقي … لعله يروي العطش. وهو لن يفعل. إذن هو العقم. ليس عقم الأرض ولا بوارها من الشعر، بل عقم اللحظة التاريخية غير المبدعة.

لماذا يظل صوت عبد الحليم حافظ أكثر حضورًا ونفاذًا من أصوات هاني شاكر وماهر العطار وعماد عبد الحليم ومحمد ثروت ومحمد منير وعلي الحجار؟ طبعًا، الصوت موهبة. ولكن الصوت وحده قد يولد ويموت ولا يسمع به أحد إذا لم يجد البيئة والمناخ الذي يرعاه ويستجيب له. يستحيل لعبد الحليم أن يتكرر لا لأنه معجزة، بل لأنه ترعرع في حركة نهوض وطني التحم بها وعبر عنها. والأربعة ملايين ونصف المليون كاسيت التي بيعت في مصر العام الماضي تقول شيئًا هامًّا وأساسيًّا. تقول ببساطة إنها تفتقد النهوض وتنشده وتسعى إليه، حتى في صوت أحد الموتى. وهي تعذر الأحياء من أصحاب الأصوات الجميلة الذين «يطربون» العشاق بلغة الأربعينيات، وبلهجة الكباريهات. وفي هذه الحال، فالناس من حقها أن تعود إلى أصوات الأربعينيات مباشرة، إلى عبد الوهاب وأسمهان. ولكنهم لا يعودون إلا إلى عبد الحليم أولًا وأولًا. لأن عبد الحليم والموجي والأبنودي قلبوا الأغنية من فوق لتحت، غيروا المعنى والمبنى والكلمة واللحن والمستمع. أصبح السد العالي وجمال عبد الناصر والمصانع والمزارع وحرب التحرير من الكلمات والعواطف والأفكار التي يمكن أن تغنى. كانت بنت الأكابر ليلى مراد والعاشق الولهان فريد الأطرش والبلبل الحيران محمد فوزي والعصفورة الحالمة نور الهدى، كلهم يصبغون الحب بألوان الليل من الأرق والسهاد إلى العتاب والخصام مرورًا بالدلال والهيام. وهي أشواق جميلة وأشجان أجمل، وستستمر في دنيانا ما دام للإنسان قلب. عبد الرحمن الأبنودي لم يخاصم الحب ولكن جعل منه قصيدة. صلاح جاهين لم يمنع العواطف ولكنه صاغها شعرًا. الموجي والطويل وعبد الحليم لم يشيعوا الغرام إلى مثواه الأخير، ولكنهم جعلوه أغنية وطنية-إنسانية شاملة.

هل عبد الحليم حافظ هو ابن العهد الناصري؟ نعم وألف نعم. ولكن الناس وهي تسمعه الآن تريد في الحقيقة أن تسد آذانها عن ساع أحمد عدوية، نجم العصر الجديد. ولا يعني ذلك مطلقًا أنهم «يكرهون» عدوية، وهم الذين أقبلوا عليه وأجزاء منهم شاركت في صنعه. ولكن عدوية يذكرهم أكثر فأكثر بأنهم في العصر النقيض لعبد الحليم حافظ. وهم يسمعون عدوية لأنه الحاضر، ثم يشترون ملايين الكاسيتات لعبد الحليم الغائب. وليس هذا من قبيل تحضير الأرواح، ولكنه الحنين إلى النهوض الوطني.

وإلا فما معنى اختيارهم لمحمود مختار وتمثاله «نهضة مصر»؟ والأرجح أن أصحاب هذا الجواب هم طلاب جامعة القاهرة، هذا التمثال المشبع بمظاهر الفتوة والنظر إلى المستقبل. والأجيال الجديدة لا تعرف مختار، ولكنها ترى التمثال، وربما تحاوره، وأحيانًا دون قصد أو وعي. وهناك فعلًا لغة سرية بين البشر والحجر، فالنحت نص متعدد مستويات المعنى، ومن ثَم مستويات القراءة. وفي الماضي لم يكن أحد «يتذكر» مختار وتمثاله، لأنه لم يرحل من العين إلى الذاكرة. أما الآن، فهم يرونه وكأنهم يكتشفونه للمرة الأولى. إنه هنا، رمز النهضة، إنه هنا، أمام الجامعة، إنه هنا رمز القلب والعقل لحظة استشراق الغد.

نهضة الوطن إذن، ما تزال هي «الحلم» بالرغم من كل التلوث الفكري والروحي. وأيًّا كانت ملاحظاتنا بل وتحفظاتنا على أسلوب البحث الإحصائي، حتى ولو اعتمد على ألف عينة، فإن الحلم بالنهضة يظل أحد الأحلام، ولست أقول الحلم الوحيد. وهو حلم وطني، لأن العينات مختلفة الانتماءات الطبقية. ومن الخطأ، على الأقل، تصور أن الحلم قد مات.

لم يمت الحلم، والدليل أن صلاح الدين لم يزل يتجسد في مخيلة البعض منا بطلًا. أين؟ في «حطين» حتى بيت المقدس حيث طهر الأرض من آخر معاقل الغزاة. صلاح الدين يطفو على سطح الوعي في هذا الوقت بالذات، علامَ يدل ذلك؟ من بقية الأجوبة يصلنا الرد بأن عرابي والنحاس وعبد الناصر هم نجوم الحلم المصري، تجمعهم «وقفة عز» ضد الاحتلال، هو الاحتلال البريطاني عند عرابي والنحاس، وهو الاحتلال الصليبي عند صلاح الدين، ولكنه البريطاني فالصهيوني عند عبد الناصر. هؤلاء هم نجوم التحرير الوطني والقومي، سواء من نجح منهم ومن لم ينجح، إنهم فرسان الحلم المحبط المقهور المعذب. ولا ريب أنه ليس الحلم الوحيد؛ فهناك أحلام مضادة لهذه المعاني، غير أن مجرد بقاء الحلم إلى يومنا يؤكد أن مشروع النهضة الجديدة لم يمت بعد. والغريب أن الفرسان الأربعة من الموتى أيضًا، فهم ذكريات غير مسلحة بالأضواء، غير أنهم أكثر حضورًا من بعض الأحياء. أي أنهم ينهضون من أعماق اللاوعي في لحظات المأزق لحماية الضمير الوطني العام. إنهم «رواسب» القراءة واستجابات الحلم المكبوت، حلم العذاب القومي اليومي.

وهو العذاب الذي يمثله الصوت الغائب أيضًا، لأم كلثوم. آهاتها ليست توجعات القلب المجروح فقط، بل هي كرجع الصدى، مرآة الروح التي كانت: مصر التي في خاطري وفي دمي، والله زمان يا سلاحي. وطبعًا، فأم كلثوم هي صيحة الألم «يا ظالمني». ولكن الناس لا تستعيد فيها معاني الكلمات ولا أسلوب الأداء الذي انتهى أوانه وهي على قيد الحياة. الناس تستقطر من الحنجرة العبقرية «مرثية للعمر الجميل». وهو عنوان لإحدى أجمل قصائد أحمد حجازي، وأروع ما قيل في عصر عبد الناصر. والأرجح أن أم كلثوم لم تقرأ هذه القصيدة، ولو قرأتها لما غنتها، كان الوقت قد فات. غير أن ما تبقى من هذه الحنجرة الاستثنائية على صعيد العالم على مر التاريخ، هو في مغزاه الأخير، مرثية للعمر الجميل. وماذا ينفع الحلم المعذب أكثر من هذه المرثية العظيمة الجلال.

هناك شباب كانوا أطفالًا في الرابعة من أعمارهم حين غاب عبد الناصر وفي التاسعة حين غابت أم كلثوم، ومع ذلك فهم ناصريون وكلثوميون. ما معنى هذه الظاهرة، إذا لم تكن تعني الحلم واللاشعور؟

ولأنه حلم النهضة، فإن القراء المصريين ما زالوا يتهافتون على الطهطاوي والأفغاني وطه حسين. ويستغني التيار السلفي، فيما يبدو، عن الإمام محمد عبده ويفضلون عليه سيد قطب. وربما كان قراء سيد قطب في هذه العينة ليسوا من السلفيين. ولكنهم مثقفون يهمهم الاطلاع على أصول كل اتجاه، أو فضوليون أثارتهم الموجة السلفية فأرادوا التعرف على أحد روادها.

على أية حال، فإن الجمع بين الطهطاوي والأفغاني وطه حسين (وليس العقاد من ناحية ولا سلامة موسى من ناحية أخرى) يجيز لنا القول بأن فكر عصر النهضة العربية الحديثة ما يزال يشكل محورًا لاجتهاد ثقافي ثبت بطلانه على أرض الواقع، وهو محاولة التوفيق بين التراث الإسلامي والتكنولوجيا الغربية. هذه المعادلة نجحت جزئيًّا في عصر روادها، ولكنها سقطت بعدئذ مرات ومرات. العودة إليها مباشرة دون وسيط من النهضويين اللاحقين يرسخ الإحساس بالأزمة الفكرية الضارية أكثر مما يفتح مدخلًا لحلها. واختيار سيد قطب هو حل مريح، لأنه يلغي أحد طرفي المعادلة (الغرب) وينتهي الأمر. حل مريح، ولكنه حل وهمي، فهو لا «يفعل» شيئًا في الواقع.

ومن زاوية أخرى، فإن البحث عن النهضة في نصوص النهضة التي كانت دون «رؤية نقدية» من نصوص جديدة تدلنا على: اتساع الفجوة بين القارئ المعاصر والمفكر المعاصر في مصر. وهكذا يكتسب القديم مصداقية لمجرد كونه قديمًا وصاحبه في ذمة التراث. ويفقد الجديد هذه المصداقية لأنه طرف ولأنه موقف ولأنه مصلحة ولأنه عريان تمامًا أمام القارئ من الأكفان التي تحقق للموت جلاله. الموتى غالبًا في مأمن من نبش القبور. ولأنهم يتخلون عن الجسد ثم يتخلى الجسد عن نفسه، فهم ليسوا أكثر من ظلال المثل العليا. أما الأحياء، فبحكم أنهم أحياء، يتلوثون حتى بأنقى ما في الحياة. يتلوثون بالحركة، والفعل والتفكير، واتخاذ المواقف.

غير أن بقاء رموز النهضة — ولو كانت قديمة، ولو كانوا موتى — في ضمير القارئ المعاصر يعني كذلك أن حلم النهضة ليس مشروعًا ميتًا.

•••

وتبقى ملاحظة أخيرة، هي أنه أيًّا كانت السلبيات والإيجابيات في هذا الإحصاء، فإنه مؤشر هام على أن «الشائعات» في حياتنا أكثر من الاحتمالات فضلًا عن الحقائق … فالشائع هو أن الفكر السلفي يهيمن على حياتنا العقلية والوجدانية. وليس هذا مؤكدًا ولا مرجحًا.

وسأضع تحفظًا أنه ربما رفض السلفيون الاشتراك في مثل هذا البحث الميداني، لأنهم يرفضون أصلًا الغناء والمؤلفات والنماذج السياسية المغايرة لأفكارهم. وبالتالي فقد خسرنا آراءهم، ربما. ولكن الذين اشتركوا في البحث — وهم فئات وشرائح ومهن وأعمار وأفراد لا يعرفون بعضهم — لم يذكروا ما يفيد بتأثير الفكر السلفي عليهم. إنه بالقطع موجود ولكنه ليس بالحجم الذي يبالغ البعض في تصوره وتصويره. وهناك أبحاث أخرى تشير إلى ازدواجية السلفي بين الوجه والقناع، فهو يقول (أو لا يقول) شيئًا، ويمارس الحياة على نحو آخر، وهو في جميع الأحوال ليس من نجوم الحلم المصري.

٣

لنجم العصر الجديد مواصفات عامة، ولكل نجم مواصفات خاصة.

تبدأ المواصفات العامة بوضع الثقافة على الطرف النقيض من «الشعب» تارة، ومن «الحياة» تارة أخرى. وهي تبدأ كما لو أنها غيرة على الثقافة وعلى الشعب تحت شعار ذهبي يقول بأن المثقفين معزولون عن الناس. كيف؟ إنهم يسكنون أبراجًا عالية أو صحاري بعيدة، فهم لا يهتمون بالمشكلات الحقيقية الملموسة، ولا يتكلمون بلغة مفهومة من المواطنين، ولأنهم معزولون فالناس لا يعرفونهم ولا يتعرفون عليهم، إنهم لا يستطيعون أن يكونوا نجومًا طالما اختاروا التعالي على الآخرين أسلوبًا ومنهجًا.

طبعًا، لا يردد هذا الكلام نجوم العصر الجديد وحدهم، فقد رددته قبلهم وستردده غالبًا كل سلطة في كل عصر. الشرطي أكثر التصاقًا بالجماهير من المثقف. هذا طبيعي. الشرطي يقف حاجزًا بين المثقف والجماهير. هذا طبيعي أيضًا. دولة الشرطة هي التي تعلم الناس وتفكر لهم وتشعر بهم، هذا أيضًا طبيعي. ولكن غير الطبيعي ألا نقول ذلك، ونصنع تمثالًا ضخمًا للمثقف المجهول تحيط رأسه مشنقة من الزهور، ثم نضع التمثال فوق قمة جبل حتى يراه كبار الضيوف فور وصولهم المطار، ونكتب بأحرف بارزة على قاعدة التمثال «الشرطة في خدمة الثقافة».

ليس نجوم العصر الجديد وحدهم هم الذين «يتهمون» الثقافة والمثقفين؛ فقد شاع الاتهام في الهواء العربي والمياه العربية حتى إننا لم نعد نعرف بالضبط من هو المدعي الحقيقي في هذه القضية. المثقفون مسئولون عن الهزيمة، ومسئولون عن الدكتاتورية. ومسئولون عن الحرب الأهلية ومسئولون عن هبوط أسعار النفط ونزول قيمة الليرة ومسئولون عن طفح المجاري وانقطاع الكهرباء. عن كل شيء، هم مسئولون، وثقافتهم مسئولة. هذه هي الأطروحة الشائعة، المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكأنها «رأي عام» لا يقبل الشك، وليس على نجم العصر الجديد إلا أن يلتقط هذا المعنى الطائر في الهواء ليجسده ويزيده شيوعًا وإقناعًا.

مجتمع الانفتاح، بطبيعته، ضد الثقافة كمجموعة من القيم والضوابط والمعايير. والمقصود هو الانفتاح الذي نعرفه في بلادنا، أي الفوضى الاقتصادية الطاحنة، والتي لا علاقة لها بالمجتمعات الرأسمالية المستقرة والمتطورة والمستقلة والخاضعة لقوانين ودساتير وقيم وتقاليد مقدسة. انفتاح المتخلفين هو السلب والنهب والتبعية. ولكن التبعية كلمة ثقافية معزولة عن الشعب وغير مفهومة، إذن فلنقل إنها تحويل الوطن إلى شقق مفروشة للإيجار بالليلة. ولنقل أيضًا إن «الثقافة» نفسها كلمة معقدة، رغم أن أي أسلوب في التفكير والتبعية والسلوك هو ثقافة على نحو مًا. ولكن المكروه والمرفوض هو «الثقافة إياها» التي تجعلك ترى أبعد من أنفك، وتجعل لك همومًا عامة تتجاوز مشاكلك الخاصة، ومن ثَم يصبح مصيرك الشخصي جزءًا من كل. هذه الثقافة اللعينة الجادة المتجهمة حتى وهي تضحك هي ابنة مجتمع آخر، لا يملك فيه المرء ما يشاء ولا يتصرف كما يشاء، وإنما هو مرتبط بالآخرين في «الوطن» أو «الإنسانية» أو غير ذلك من كلمات صعبة وشديدة التعقيد. لذلك، فالمجتمع الجديد يعادي الثقافة من حيث المبدأ، لأن أي تفكير هو «وجع رأس» يقود حتمًا إلى ما يسمى حينًا بالترشيد وحينًا آخر بالتطوير وحينًا ثالثًا بسيادة القانون، وغير ذلك من ألفاظ غريبة مستغربة يقصد أصحابها العودة إلى عصور الانغلاق، ولكنهم يستخدمون الرموز بدلًا من الصراحة.

الصراحة لا تحتاج إلى وجع دماغ، فهي ضد الفكر كفكر، رغم أن هذه المعاني كلها أفكار. ولكنها أفكار غير مستقلة، إنها قشور أفكار ملتصقة بمسام المصلحة الفردية المباشرة العابرة، فهي أقرب إلى انطباعات الغرائز وردود فعل سريعة للجهاز العصبي. وقد تحمل هذه الانطباعات شعارات «فكرية» أو «إصلاحية» أو «سياسية» أو «دينية»، ولكنها مجرد ديكور لصياغة الكاريكاتير المضاد للفكر والثقافة الحقيقية، أي الرسوم الساخرة من أية جدية أيًّا كان اتجاه تفكيرها رأسماليًّا أو اشتراكيًّا أو دينيًّا. احتقار الثقافة وتشويه المثقف جزء عضوي من الماكينة الأيديولوجية-الإعلامية الضخمة لعصر الانفتاح. وهو الاحتقار أو التشويه الذي تجسده حركة النجم في غنائه وتمثيله وخطبه. وليس هناك في الحقيقة ضحك من أجل الضحك أو ما يسمى بالتسلية البريئة، فأي ضحك هو على قيم أي سخرية منها وتجريح لها. وليست هناك قيم بريئة من الانحياز إلى طبقات المجتمع ومشكلات الوطن. لذلك اقترنت نجومية عصر الانفتاح دومًا بأسلوب التفكير وطريقة التعبير، فهي نجومية أيديولوجية من الطراز الأول، وإن تسترت تحت أقنعة الغناء أو التمثيل أو الوعظ والإرشاد. ولكنها في الوقت نفسه هي النجومية التي تهتف ضد «عصر الأيديولوجيات» و«الكلامولوجيا». ويسميه أحد الظرفاء «الحنجوري»، أي الكلام المعقد غير المفهوم، وكان هذا الظريف وما يزال يطلق التسمية على خصومه السياسيين. ولكن نجوم الانفتاح لا يعترفون أصلًا بكل خصومهم، لأن المجتمع كله والوطن بأكمله هو الخصم. لذلك يتجاهلون حكاية الخصومة هذه، ويتجهون مباشرة إلى «العدوى» أي نقل المصل المضاد للمثقف والثقافة إلى الجسد الاجتماعي، وتتكون المناعة تدريجيًّا عند الجميع، فلا يعود الاختراق الثقافي للجسم العليل ممكنًا.

بل وفي أية انتخابات حرة يفوز نجم الانفتاح في حربه غير المعلنة على الثقافة والمثقفين، لأنه يضمن «الشعبية» الكاسحة، وهي ثاني المواصفات المشتركة بين نجوم العصر السعيد. يحصل على هذه الشعبية، لأن المجتمع مهيأ أصلًا لاستقباله واحتضانه، بل وصنعه. وسائل الإعلام، وأساسًا التليفزيون والفيديو والكاسيت، تلعب في هذا الشأن دورًا حاسمًا. إنه القمع الإعلامي الملون. بالرغم من أن الانفتاح يعني القطاع الخاص إلا أنه من حقائق بلادنا أن الدولة تملك التليفزيون على الأقل، وهو يستكمل رسالة الفيديو والكاسيت، وهي الرسالة التي تقوم بها شركات القطاع الخاص مباشرة. ولكن دولة التليفزيون حين تكون هي ذاتها دولة الانفتاح، يصبح تليفزيون الانفتاح هو المصدر الأول «لشعبية» النجم: أغنياته ومسرحياته ومسلسلاته. ولا شك في أن الكاسيت المسموع هو أكثر الوسائط ديمقراطية بسبب سعره الرخيص نسبيًّا، بينما الفيديو أقلها ديمقراطية بسبب ثمنه المرتفع، ولكن التليفزيون ينفرد من بينها جميعًا بسلطة القمع، فلا مجال للاختيار أمام هذه الوسيلة الشعبية الكاسحة.

ثاني الوسائل لتكوين الشعبية، بعد القمع، هي التخدير، أو القدرة على التخدير. والنجم مطالب هنا بتربية جمهوره على نوع من اليوجا، أي بتدريب الأعصاب على قوالب من المجاهدة النفسية التي تتدرج بالانتشاء إلى ذروة «لذة الغياب». وهي نوع من النيرفانا المقلوبة، أي التي تفضي إلى عكس التصوف. وبالطبع، فإننا نستخدم تعبير اليوجا والنيرفانا من باب الاستعارة. ولكننا نقصد أن أدوات نجم الانفتاح في كسب الشعبية، هي أدوات التخدير العصبي والنفسي عن طريق «الحركة». وسواء كانت حركة الغناء أو حركة التمثيل أو حركة الخطابة، فإنها كلها حركات عضلية تعتمد الإيحاء التمثيلي. وهو الإيحاء الذي لا تكتمل شحنته الانفعالية إلا باللفظ أي التلفظ: حركة النطق. ومعروف عن «السحرة والمنجمين» أنهم يجيدون استخدام الحنجرة واللسان والشفاه في التمتمة والغمغمة. والهمهمة وارتفاع الصوت فجأة ثم انخفاضه التدريجي أو العكس، فهذه كلها تستكمل اليوجا العصبية بنشوة تدغدغ الحواس عن طريق الإيقاع.

الإيقاع والحركة يستلزمان التداعي من الوعي إلى أدنى درجات الوعي إلى أعماق اللاوعي، وهو التداعي بالصور، أي تداعيات الذاكرة والمخيلة كأننا في غرفة تحليل نفسي. ويتكاتف هذا الثالوث التمثيلي — الإيقاع والحركة والصورة — في عملية «التخدير» التي يقوم بها نجم الانفتاح، لجمهوره العريض. بل إنها وسيلته الثانية في تكوين هذا الجمهور، ومنه تنبثق الشعبية إلى ارتباط الجمهور الواسع بحركات وألفاظ (أو تلفظ) النجم. ولا بأس في هذه الحال من الجمع بين التخدير العقلي والروحي، والتخدير العصبي المباشر … ولا تفسير لانتشار المخدرات بكافة أنواعها بين الجمهور وبين نجومه إلا في ضوء الارتباط بين النجومية ذاتها وعملية التخدير كطريق إلى اكتساب «الشعبية».

الشعبية هنا لا تهم نوعيتها، بل كتلتها. ولا معنى لأي دور أو رسالة يستطيع النجم أن يقوم بها عبر هذه الشعبية فهي مطلوبة لذاتها. لا مناقشة لمستوى ونوع التخصص الذي يمارسه النجم، فإن كان مغنيًا لا أهمية لفن الغناء، وإذا كان ممثلًا لا أهمية لفن التمثيل، وإذا كان خطيبًا لا أهمية للخطابة في حد ذاتها. وإنما الأهم هو شعبية النجم. هي القيمة والمعيار والهدف، ولا بأس في الخروج عن النص ودخول السجن إذا ضبط النجم متلبسًا بالخروج أو المخدرات، لأن قيمة القيم هي «الشعبية».

وسيقول لك النجم إنه ليس زعيمًا سياسيًّا، ولا علاقة له بالسياسة من قريب أو من بعيد، إنه يريدك فقط أن «تنسى» همومك التي لا تُنسى إذا كان نجمًا للفكاهة، ويريدك أن «تبكي» إذا كان نجمًا للعزاء. وفي جميع الأحوال، هو يريدك على صورته ومثاله، أن يحل فيك و«تنام» حتى وأنت سائر في الطريق، وتسرع في الجري هربًا من الأشباح التي تطاردك. ولا تلتفت لغير نفسك، ولا لغير هذه اللحظة. إنه يتوحد معك، ويتقمصك، ويتناسخ بك. حركته وإيقاعه وصوره هي حركتك وإيقاعك وصورك، فهو لك «أنت» و«أنت» و«أنت» وحدك، أي للجميع ولكن كأفراد، وجزر معزولة عن بعضها البعض.

هذه «الشعبية» القائمة على الفصل بين الجزر، أو هذه «الكتلة» التي يبدو فيها الفرد كأنه الشعب، هي التي يتمتع بها النجم الانفتاحي بمواجهة الثقافة. إنه، بهذه الشعبية الكاسحة يثبت أنه «لم ينفصل» عن الجماهير، وأنه ملتحم بها يتكلم لغتها ويحك جروحها ويناوش قضاياها … إذن فهذا النجم الذي لا علاقة له بالسياسة والشديد الاحترام للمخدر هو الأكثر التصاقًا بالناس وتعبيرًا عنهم. أما المثقف، فهو — كما عرفنا من قبل — نقيض هذا «الشعبي». والشعبية إذن عكس الثقافة، والاثنان لا يجتمعان.

مجتمع الانفتاح القائم على «الجميع» و«لا أحد»، أو هو «الفرد» بلا ناس، يمنح نجومه هذه الشعبية. ولكنه ضنين بها، فالنجوم يجب أن يكونوا قليلين. ولا تأثير للنجم إذا تعددت النجوم. إنه مجتمع انفراد النجم لا تفرده، بل استفراده حتى آخر لمعة في نجوميته ثم الشروع في صنع آخر جديد. آخر لا آخرين. هكذا يمارس الانفتاح دكتاتوريته في قمع النجومية ذاتها، كما مارسها التليفزيون في قمع الجمهور. النجوم القليلة هي التي تربح كثيرًا، ويربح من قلتها الانفتاح، فليس من مجالٍ لقمم عديدة، لأنه لا مجال لمواهب قد تتجاوز الضوء الأحمر.

ولذلك يحرص الانفتاح على توريط النجم في بنيته الاجتماعية. هذا النجم يجب أن يكون مليونيرًا، لا ليستمتع بالحياة، بل ليصبح من عناصر التكوين الداخلي للنظام الانفتاحي. «لا بد من أن يشعر كما لو أنه واحد منا» هكذا يقولون لأنفسهم وهم يشركونه في آلية الاقتصاد الانفتاحي. وليس غريبًا أن تجد شابًّا صغيرًا نجح في عمل أو أكثر، وبدأ يفكر في «الإنتاج». أي في تكوين الشركات وعقد الصفقات. وليس غريبًا أن تجد الخطيب يتبرع بمليون جنيه ولا تدري من أين جاء ببقية الملايين التي يخطب ضدها أو ودها. ليس غريبًا ذلك كله، فلا بد للنجم من أن يدخل اللعبة الاقتصادية للعصر الجديد كاملة غير منقوصة، بدءًا من «العصامية» وانتهاء بتهريب العملة والمخدرات وبناء ناطحات السحاب. إنه «النموذج» النقيض، للنجم الموظف الذي كان يتقاضى مرتبًا شهريًّا في الماضي. هو الآن رجل أعمال وليس مغنيًا أو ممثلًا أو خطيبًا فقط. الغناء كالتمثيل كالخطابة من السلع التي يتاجر فيها، كأي كيلو مخدرات. ولكنه أساسي، فهو الذي يجلب النجومية المضادة للثقافة، وذات «الشعبية»، وصاحبة الملايين.

هذا هو ثلاثي نجم الانفتاح، وليس من الممكن لصفةٍ واحدة أن تصنع نجمًا، فلا سبيل لغير اجتماعها كلها دفعة واحدة، لأنها تتفاعل مع بعضها البعض وفق آليات عصر الانفتاح نفسه. وهي الآليات التي تسرب «الوعي الزائف» إلى البناء الاجتماعي، بأكمله حتى إن ضحايا العصر الجديد يصبحون عشاق نجومه، وقودهم بتعبير أدق. غير أنه الوقود السعيد بأن يشتعل ليضيء هؤلاء النجوم ويزيدهم لمعانًا.

فالخدعة تبدأ من الضحية، تحت وطأة القمع والتخدير، تجد نفسها في ارتباط سحري مع الجلاد، خاصة حين يتخذ قناعًا من الفن الجميل أو الإرشاد الأكثر جمالًا. الضحية تبتلع أقراص السعادة وترحل إلى حيث ترى الثقافة هي العدو، وإلى حيث تفرح بالزحام السحري، وإلى حيث تتحول إلى «مستفيد» من البترودولارات.

هذه الضحية ترى نفسها في مرآة مصقولة بالغناء الدافئ الذي يداعب الجراح المشوية في لظى الأسعار المجنونة، وترى نفسها فوق خشبة المسرح الذي يضج بالشكوى والمرارة والضحكات، وترى نفسها في حضرة الخطيب تنشد الانفلات من الضلال.

حين تجد نفسها في المرآة أو فوق خشبة المسرح أو أمام المرشد، فإنها تتوحد بالمرآة تحت وطأة القمع والتخدير، لا ترى الفاصل بين الحقيقة والحلم.

حينئذ تبيع كل مالها، وجسدها وروحها، وتتبع النجم.

يناير وفبراير ۱۹۸۷م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤