اغتيال الشعراء

إلى متى يتعب القلب، والطابور لا ينتهي، لا يريد أن ينتهي، حتى أصبحنا نتسابق للبحث عن مكاننا فيه وموعدنا معه فقد شقيت الأيدي من مصافحات الوداع، وجفت العيون من الدم والدمع، ولم يعُد الحزن على النفس وعلى الآخرين كافيًا لمنع الكابوس.

الطابور لا يبدأ بصلاح عبد الصبور ولا ينتهي بمعين بسيسو، مرورًا بأمل دنقل، لقد بدأ قبلهم جميعًا وسيبقى بعدهم جميعًا … ولكنه في الأزمنة السعيدة كان طابورًا عقلانيًّا بطيئًا ينطوي فيه الحزن على العزاء.

أما في وقتنا، في زماننا، في عمرنا، فهو طابور الاغتيال، بعد أن اكتسب الموت الجنسية العربية، عن جدارة واستحقاق.

مهما قيل عن صلاح عبد الصبور؛ فقد مات اغتيالًا، قتلوه في عز النهار، بالوظيفة والاستقرار والتعليمات والأمن المستعار، ربما، ولكنه مات — لهذه الأسباب نفسها — غيلة وغدرًا. بالعقل كان يتوهم أن الأمور يمكن أن تمر، ولكن القلب لم يسمح لها بالمرور. لأنه قلب شاعر، لأنه قصيدة. ولأن العصر الأسود لا عمل له سوى اغتيال الشعراء.

أزمة قلبية، لصلاح أو معين، سرطان لأمل، كلها تجليات الجسد المهزوم تحت سنابك الخيل المتعددة الجنسيات والرايات والمؤتمرات والمؤامرات.

ولا يختلف «اغتيال» معين بسيسو عن بقية الاغتيالات الماضية والراهنة والآتية. ولكن موته في غرفة بفندق لندني، وتمدده أربع عشرة ساعة دون أن يدري أحد بموته، يرتفع بالحدث وصاحبه إلى مستوى الرمز.

وهو الرمز الذي أراه في حياتي للمرة الثانية، كانت الأولى مع توفيق صايغ الشاعر الفلسطيني، منذ حوالي خمسة عشر عامًا، عندما مات في مصعد بإحدى جامعات الولايات المتحدة. هاجمته الأزمة القلبية فجأة وهو داخل المصعد معلقًا بين السماء والأرض، ومات في ثوانٍ.

كان توفيق يحيا ويموت أهوال هزيمة ١٩٦٧م، هو الفلسطيني حتى العظم والروح، كان يفقد أرضه وناسه شبرًا شبرًا وأتت الكارثة لتضمه إلى رفاتها. ولكنها اختطفته في مشهد رمزي يُطفئ شهوة التاريخ إلى … المأساة. يموت في مكان ما بين الأرض والسماء، أين؟ في أمريكا، منبع تصدير المأساة. وكأن المشهد يوجز بعضًا من روح توفيق صايغ وبعضًا من جسد الشعب الفلسطيني في «نهاية» تدفع بالأمر كله إلى مستوى النبوءة.

ولا أعتقد أنه كانت هناك أية علاقة شخصية أو عامة بين توفيق صايغ ومعين بسيسو، رغم أن ما يجمعهما هو أعظم الروابط على الإطلاق: فلسطين والشعر و… الاغتيال. كانت هزيمة ١٩٦٧م هي التي اغتالت صايغ، وكانت هزيمة ١٩٨٢م هي التي اغتالت بسيسو.

وليس المقصود بالهزيمة لونها العسكري أو السياسي، بل تفاصيلها الدقيقة في خلايا الجسم العربي والفلسطيني، مداخلاتها وتشعباتها وتجسيداتها في الحياة العامة والخاصة، وخاصة الخاصة.

ما أبعد توفيق صايغ عن معين بسيسو؛ فقد كان الأول شاعرًا أرستقراطيًّا بمعنى الانطواء على النفس والاعتكاف عن الآخرين. وكان ينظر إلى الغرب — الثقافي الحضاري — باعتباره ملجأ العجزة والأيتام وأبناء السبيل من المثقفين العرب، وخاصة الفلسطينيين. وكان معين بسيسو، على النقيض تمامًا، شاعرًا جماهيريًّا بكل معنى الكلمة، لا يستطيع الانفراد بنفسه ساعة واحدة. وكان ينظر إلى الشرق — الثقافي والحضاري — باعتباره قلعة الخلاص من الإثم الاستعماري والخطيئة الرأسمالية.

لذلك سوف يتوقف الأكاديميون طويلًا عند أشعار توفيق صايغ، بينما سيتذكر العرب جميعًا، وخاصة الفلسطينيين منهم، قصائد معين بسيسو رغم أن تاريخ الشعر قد لا ينحت التماثيل لهذه القصائد. ولكن تاريخ الشعوب أغنى وأغلى من أي تراث آخر. إن بيتًا واحدًا من شعر أبي القاسم الشابي هو أكثر شهرة على ألسنة العرب من مئات الشعراء.

إن آلاف المظاهرات العربية تهتف جيلًا بعد جيل:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة
فلا بُد أن يستجيب القدر

دون أن يعرفوا أحيانًا الشابي نفسه. وكذلك الأمر مع معين بسيسو الذي ردَّدت الجماهير له منذ ثلاثين عامًا وما زالت تردد: «أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح.»

ولعلنا في مصر، مثل اللبنانيين في لبنان والفلسطينيين في فلسطين، نحفظ قصائد كاملة لمعين بسيسو، وبعض أبياتها يتحول إلى شعارات ولافتات، دون أن تعرف الجماهير الهادرة في بعض الأحيان أن صاحب هذا الشعر هو معين بسيسو.

ولكن هذا لا ينفي أن عشرات الألوف في بلادنا وبلاد غيرنا يعرفون معين وسيعرفونه في المستقبل، أيًّا كانت تحفظات النقاد المعتادة على شعر هذا الرجل المقاتل.

وقد كان معين بسيسو على وعي حاد، أكثر من النقاد، بالثغرات الفنية في شعره وكإنسان كان على وعي أكثر من خصومه، بالثغرات الشخصية في سلوكه، ولكنه في الحالتين، كان شاعرًا مقاتلًا وإنسانًا مؤثرًا بمواقفه الثابتة على الآخرين.

وسوف يدرس الباحثون والنقاد أعمال معين الشعرية والمسرحية والنثرية، وسيختلفون كثيرًا فيها بينهم، ما دامت هذه الأعمال «مطبوعة» على الورق. وسيضيع من أحكامهم ومقاييسهم بالتأكيد أهم أعمال الشاعر والإنسان … فهذا «الشعر» و«المسرح» لم يكتبه معين على الورق. وإنما كتبه في أحضان الجماهير الغاضبة حين كان يقود المظاهرات مفتوح الصدر لرصاص الإنجليز في غزة. وكتبه في دفء الجماهير المقاتلة في السويس وبورسعيد. وكتبه في رفقة المناضلين عن الحرية بالسجون والمعتقلات. حذر أيامها الجبناء والمستسلمين «إياك أن يقع ظلك على مصنع». وكتب معين بسيسو شعره ومسرحه بين دماء تل الزعتر والفاكهاني في بيروت. وهو الذي كتب «البولدوزر» عن المسيرة الوحدوية الليبية في مصر. وهو الذي غنى كل آلامنا وأحلامنا، كأمة مقهورة وكوطن سليب وكجيل معذب يغتالونه في وضح النهار.

ولم يكُن معين يكتب «عن»، وإنما كان دومًا — وأيًّا كان رأيك في كتاباته — يكتب «في» المعركة. لم يهرب من قدره في أي وقت. قاتل مع الفدائيين المصريين منذ ثلاثين عامًا، ودخل المعتقل مع المناضلين المصريين منذ ربع قرن. وخرج — هو الفلسطيني — ليكتب «أعطي صوتي لجمال عبد الناصر».

وفي لبنان، يجب أن يرسخ في الذاكرة، أن القصائد اليومية لمعين بسيسو، كانت المن والسلوى للمقاتلين والمدنيين على السواء. قد لا يذكر «التاريخ الأدبي» قصيدة واحدة من هذا الشعر اليومي. ولكن التاريخ النضالي لشعبنا لن ينسى أن معين بسيسو كان جزءًا لا ينفصل من ملحمة تل الزعتر إلى حصار بيروت. كان يُلهب، كان يحرِّض، كان يعزِّي، كان يواسي، كان يشجِّع، كان يبلسم الجراح، ولكنه دومًا كان هناك، باستمرار، كان حاضرًا وبكثافة وجاذبية لا تُضاهى. وعندما يصبح الشاعر أغنية في قلوب الموجوعين وعلى ألسنة الصابرين لا بد أنه سيضيف بهذا النبع المتفجر علامات لن يخطئها الزمن.

ربما كانت العلامة الأولى هي أن معين بسيسو كان وبقي رغم زلزال المتغيرات، شاعرًا عربيًّا في الصميم. ظلَّ وطنه العربي الكبير هو الصائغ الحاسم لهويته القومية التي لم يتزعزع إيمانه بها رغم عنف الأعاصير.

والعلامة الثانية أنه كان عربيًّا من فلسطين … بكل ما تعنيه رقعة الأرض المغتصبة من تراث وحاضر ومستقبل. كان معين بسيسو مناضلًا فلسطينيًّا، ومن ثَم جاء شعره العربي شعرًا فلسطينيًّا أولًا وقبل كل شيء.

والعلامة الثالثة أنه كان مناضلًا أمميًّا اشتراكيًّا من البداية إلى النهاية، لم تختفِ البوصلة لحظة واحدة من الأفق المترامي أمامه، فكانت المأساة الاجتماعية للشعب في وجدانه هي الوجه الآخَر للمأساة الوطنية، وكلتاهما تأصيل وتعريق للكارثة القومية. وقد كان معين بسيسو من النادرين الذين استطاعوا استيعاب وتمثل الأبعاد الثلاثة في نضالهم اليومي وكفاحهم الاستراتيجي على السواء.

وقد تفاعلت هذه العلامات الثلاث في حياة معين بسيسو وفكره وفنه، بحيث استطاع خلال مرحلة تاريخية كاملة أن يكون أحد ألمع رموز الريادة في الشعر العربي الحديث، بالرغم من كل ما يمكن أن يُقال عن شعره من تقريرية وخطابية ومباشرة. وكان من الطبيعي أن يكون لزمن طويل الرافد الفلسطيني الحي والثابت في مجرى الشعر العربي المعاصر.

لقد بلور في هذا السياق شخصية «شاعر المقاومة»، من قبل أن تكون هناك منظمات فدائية للمقاومة. واستمر شاعرًا للمقاومة، بعد أن ولدت المقاومة شعراءها ومنظماتها.

وكان من أعظم النتائج الفنية لهذه السيرة الغنية بالدلالات، أن معين بسيسو كان رائدًا للمسرح الشعري الفلسطيني، ورافدًا خصبًا للمسرح الشعري العربي الحديث. وقد نندهش إذا لاحظنا أن أهم أعماله المسرحية ثلاثة: الأول عن جيفارا والآخر عن ثورة الزنج والثالث عن شمشون ودليلة. والحقيقة الفكرية لهذا الفن هي فلسطين أو «فلسطين في القلب»، كما سمى ديوانه الأول. والحقيقة الإنسانية لهذا الفن هي أن «الأشجار تموت واقفة» كما مات هو واقفًا … فقد اغتيل عمدًا ومع سبق الإصرار. وإلا فماذا ندعو الموت إذا جاء لشاعر وحيد بغرفته في لندن، ويبقى جثمانه ممددًا يبحث عن الكفن والأصدقاء أربع عشرة ساعة؟

أليس هذا الموت، أحد اغتيالات الهزيمة العربية المستمرة، وفي موضع القلب منها الهزيمة الفلسطينية؟

لم يعُد الموت، بعد أن اكتسب الجنسية العربية عن جدارة واستحقاق، موتًا طبيعيًّا، يجيء كما عهدناه بعقلانية وبطء. أصبح انتحارًا للذين يقتلون أنفسهم، وأصبح اغتيالًا للذين يقتلهم الآخرون.

ولم يكُن معين من المنتحرين، لأن مكانه كان شاغرًا في الطابور. طابور الذين يرتفع موتهم إلى مستوى الرمز والنبوءة.

وهو الطابور الذي أضحينا نتسابق بحثًا عن مكان فيه … لأن الموت قهرًا اليوم أكثر شرفًا من الموت ذلًّا في الغد.

ولا تدهشوا إذا أصبح معين بسيسو أكثر حياةً بعد موته، حين تزول الأشياء الصغيرة، التي كانت تحجب جوهره حتى عن أقرب المقربين.

لا تدهشوا، لأن الحب الذي يكوي، والفرح الذي يزغرد والحزن الذي يلد كل الأحزان كلها سوف تنصهر في سيرة الرجل والشعب أو سيرة الشاعر والأمة … ففي هاتين السيرتين ستتردد أنفاس معين بسيسو أكثر قوة مما كانت عليه في ماضي أيامنا الآتية.

١٢ / ٢ / ١٩٨٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤