الشاعر يستكمل الدائرة

… فأنت إن سكتَّ مت
وإن نطقتَ مت
قُلها ومت
معين بسيسو

كم من مبدعين يموتون قبل انتهاء حياتهم الحقيقية، أي قبل انتهاء قدرتهم على العطاء أو قبل انتهاء بلاغ رسالتهم! وكم من آخَرين يظلون على «قيد» الحياة، بالرغم من أن حياتهم الحقيقية انتهت من قبل أن تنتهي حياتهم الفيزيائية بأمد طويل أو قصير. كل ما يريدون قوله قالوه وكل طاقتهم على الإبداع تم استنفادها.

معين بسيسو ليس واحدًا من هؤلاء ولا واحدًا من أولئك. ليس واحدًا من الذين غابوا قبل إنجاز «معنى» حياتهم في الدنيا، ولا واحدًا من الذين أثقلوا على «الوجود» بمجرد وجودهم.

وإنما هو في حياته وموته كان من الذين صاغوا دلالة حياتهم وحققوا معنى وجودهم، وقد استكملوا برحيلهم الفاجع دائرة زمانهم الخاص والعام على السواء. أي إنهم بالوداع المفاجئ لنا — وأحيانًا بالصورة التي تم بها هذا الوداع — كانوا يضعون نقطة الختام في رحلة عطائهم ورحلة التجربة أو الرؤية التي تتسع لتشمل غيرهم من علامات ورموز وأحداث.

إنهم «نوع» من الكتاب والفنانين لا يبقون على خشبة المسرح لحظة واحدة بعد إسدال الستار، مهما كانت مغريات التصفيق الحار من المشاهدين.

١

يولد الفتى الفلسطيني عام ۱۹۲۷م بعد عشر سنوات من «الوعد» المكتوب بتحويل الوطن إلى ذكرى لأبنائه، وإلى وكر لغاصبيه. يولد الفتى الفلسطيني في غزة القريبة غاية القرب من سيناء، حيث الوعد غير المكتوب بالوطن البديل؟ ربما كان «الوعد والمكتوب» يكبران مع خطوات الصبي الذي لم يتجاوز الثماني السنوات حين انفجرت الأرض بغتة. قالوا له إنها الثورة. سمع الرصاصة تزغرد باللون الأحمر والقصيدة تغني. وتشابكت الأسماء في طبلة الأذن: عز الدين القسام، إبراهيم طوقان، عبد الرحيم محمود، أبو سلمى، تشابكت في حدقة العين صورة البريطاني وشبح الصهيوني الذي كان يدق أوتار الخيمة ويحدِّد معالم الجريمة. كانت الجريمة عتيقة كالظلم، كالظلمة، ولكنها بدَت له في ذلك الوقت في ذروة شبابها وعنفوان بدنها المستعار. كان الغرب قد تسلَّل من ثقوب الجلد الرخو ﻟ «رجل أوروبا المريض». وكانت مندوبة الغرب العظمى قد وعدت التوراة بصلاة دموية متعددة الجنسية، غمزت بريطانيا ليهوه: أنت إله الوعد القديم فماذا فعلت؟ أنا سيدة البحار ولا تغيب عن أملاكي الشمس، سأحقق وعدي وأمضي ليحل الغرب كله مكاني، من أراضي الشتات والجيتو يأتون إلى أراضٍ تفيض لبنًا وعسلًا.

اشتعلت الثورة فأطفأتها نيران الحرب الجديدة. كان البريطاني، كان الغرب، يتسول الصبر والصمت، ليكتمل له النصر وللفتى الفلسطيني الخديعة. كان معين بسيسو في الخامسة عشرة من عمره حين عرف أصدقاء أبيه، كلهم من الصيادين. أعطاه أبوه البندقية وعلَّمه كيف يضغط على الزناد … في المرة الأولى اصطاد حجرًا وهرب الطائر. لعله ضحك حينذاك وهو يقول «ولماذا يقتل الشعراء الطيور؟ على الشعراء أن يقتلوا الأسمنت». وكان قد تجاوز العشرين حين تلألأ في الأفق انتصار الحلفاء. كان ذلك يعني له أن شبح الجريمة قد ابتعد، وأن ظلال السلام والمحبة والعدل والحرية وكل الورود الممنوعة والزهور المحرَّمة سوف تورق وترسل أريجها إلى أرجاء الكون المكمم برائحة الموت، وتبعث بعطرها إلى أعالي قمم الأشجار السامقة المخنوقة بالغازات السامة. كان فلسطينيًّا صغيرًا يحلم، كان شاعرًا صغيرًا يحلم، كان عربيًّا جريحًا يحلم، كان اشتراكيًّا فتيًّا يحلم. واصطدمت الأحلام فجأةً — وقد تجاوز العشرين — بصخرة عاتية، بالوطن يرحل، بهزة أرضية طويلة، أطول هزة أرضية عرفها التاريخ، لأنها بلغت من العمر خمسة وثلاثين عامًا وما تزال براكينها تتقيَّأ الجحيم، ما برحت زلزالًا ينقل الجبال من مكان إلى مكان … واحتلَّت العناوين الجديدة جدران الأسماء القديمة: كفر قاسم، دير ياسين … والآتي أعظم. كان «الوعد» البريطاني و«المكتوب» الغربي على جبين فلسطين قد أخذ طريقه المعاكس للتاريخ والجغرافيا. وكان معين بسيسو في طريقه إلى القاهرة عام ١٩٤٨م وقصيدته البكر في الدهاليز السرية تسبق خطواته إلى الجامعة:

«طردوا من الأرض التي
وُلِدوا عليها يعرقون،
وسيعرقون وهم بأرضك
يقتلون ويقتلون،
أو حينما يتساءلون،
متى تراهم يرجعون؟
عصبوا عيونهم فما لمحوا
القنال ولا الوحش!
كم دنشواي على مخالبهم
ممزقة تعيش!
قد باع غزة قبل أسدود
الأجير إلى الأجير
إن عشت تبصرهم وقد حملوا
الرءوس على الظهور،
وأنا وأنت وكيف أجرؤ
أن أقول
لولاهم لفرشت بيتك
بالزنابق يا نهيل،
ولشبَّ توفيق الصغير
مع ريموندا ومع راحيل.»

من الطبيعي ألا نلاحظ «الشعر» في هذه القصيدة الباكرة، ولكن من الأفضل ملاحظة بعض السمات التي ستقترن بحياة معين بسيسو وفنه، مهما كانت التغيرات المتلاحقة على تلك الحياة وهذا الفن. كما أنه من الأفضل ملاحظة أن هذه القصيدة الأولى (سبقتها قصائد عديدة، ولكنها الأولى بالمعنى التالي) قد بلورت النقطة المركزية لدائرة الشعر والوجود. هذه النقطة هي ارتباط الإبداع في حياة معين بالإبداع الفلسطيني في حياة الثورة. الشعر هنا هو وسيلة معين الوحيدة لتحقيق الوجود، أي للكفاح من أجل تحرير فلسطين. والفكر الذي يجسد هذه الوسيلة هو الماركسية من ناحية، وهو القومية العربية من ناحية أخرى.

تلك هي نقطة الارتكاز أو المحور أو مركز الدائرة التي بدأها معين بسيسو منذ خمس وثلاثين سنة حين جاء إلى مصر.

٢

خمس سنوات (١٩٤٨–١٩٥٣م) ارتبط خلالها معين بمصر ارتباطًا عضويًّا مصيريًّا لا تنفصم عراه إلى أن يموت ويدفن في ترابها. في الوقت نفسه هي سنوات حاسمة في تاريخ مصر ذاتها، وبالتالي المنطقة العربية كلها. سنوات تبدأ بانتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس الكيان الصهيوني والصراع الوطني المسلَّح في القنال ضد القوات البريطانية وحريق القاهرة والسقوط النهائي للنظام، ثم هي سنوات الثورة الناصرية والإصلاح الزراعي وإعلان الجمهورية. وكان الشيوعيون المصريون طيلة هذه السنوات (وأيضًا قبلها وبعدها، ولكننا نركز على هذه المرحلة تحديدًا) فريقًا وطنيًّا يتقدم صفوف العمل السياسي والعمل الفدائي من أجل الاستقلال. وفي أحضان الحركة الشيوعية المصرية عاش معين بسيسو أخطر سنوات عمره على الإطلاق، مرحلة التكوين الأساسية في تاريخه النضالي والشعري معًا. وفي كتابه «دفاتر فلسطينية» (بيروت، الفارابي، ۱۹۷۸م) اعتراف تفصيلي بهذه المعاني، سواء بالنسبة لهذه المرحلة أو غيرها.

لم يكُن المثقفون الشيوعيون في مصر حلقة سياسية ضيقة، وإنما كانوا يشكلون مناخًا فكريًّا نادرًا منفتحًا على الثقافات المختلفة، وحارًّا بالصراعات الأدبية والموجات الفنية الجديدة، ومحتفلًا على الدوام بالنضال العربي من أجل تحرير فلسطين. لذلك كان من الطبيعي لمعين بسيسو أن يجد نفسه في هذا الجو، كشيوعي وكمثقف وكشاعر، وأولًا وأخيرًا كعربي من فلسطين.

ومن الواضح الجلي في سيرة معين أنه اتخذ قرارًا حاسمًا في ذلك الوقت، هو ألا يعامل مصر أو المصريين كضيف، ما دامت مصر والمصريون لم يعاملوه قطُّ بهذا المعنى. وربما كان هذا هو المعنى نفسه الذي تكرر مع شعراء آخرين كالبياتي ومحمد الفيتوري وجيلي عبد الرحمن وكاظم جواد وتاج السر الحسن، وغيرهم من الأدباء العرب في مختلف مجالات الخلق والنقد والفكر. دع عنك السياسيين وقد كانوا بالآلاف. لم يشعر أحدهم أنه ضيف أو «لاجئ». ولكن معين بسيسو تميز بأنه لم يتعامل مع هذه المسألة على الصعيد المعنوي أو النظري، وإنما هو الْتَحم بجوهر الحياة المصرية على كافة الأصعدة الثقافية والسياسية واليومية، بحيث تصعب التفرقة بين الخيط الفلسطيني والخيط المصري في نسيج حياته التي انطلقت من هذه النقطة.

وهي النقطة التي كانت تغلي فيها مصر على كافة الجبهات، ومن بينها الجبهة الأدبية. كانت الحركة الرومانسية في الشعر قد بدأ يخبو بريقها، حتى إن فرسانها الكبار بدءوا يرحلون الواحد بعد الآخر كعلي طه وإبراهيم ناجي ومحمود الهمشري. ولم يبقَ من جماعة أبولو ومجلتها سوى الذكرى، وحتى «رسالة» الزيات أوصدت أبوابها، وغادر أحمد زكي أبو شادي إلى الولايات المتحدة حيث توفي هناك. ولم يعُد أمام القلة القليلة الباقية سوى الحائط المسدود بوجه الرومانسية، ومفترق الطرق أمام الشعر.

ولم يكُن ذلك وضعًا خاصًّا بمصر، ولم يكُن أيضًا وضعًا خاصًّا بالشعر. كان وضعًا عربيًّا شاملًا في الثقافة والحياة على السواء. ولعلها كانت «أزمة الحياة» قبل أن تصبح أزمة الشعر. كانت أصوات جبران ومطران ونعيمة وبشارة الخوري والرصافي والزهاوي والشابي وعمر أبو ريشة قد واجهت «نهايات» مختلفة اختلاف الأشخاص والرؤى والانتماءات. ولكن القاسم المشترك الأكبر بينهم جميعًا هو «النهاية» ذاتها التي تلفَّعت أحيانًا بثيات رومانسية زاعقة لا تحتاج إلى تأويل. ولم تكُن هذه النهاية لدى كبار الموهوبين نهاية القدرة على العطاء، وإنما نهاية «الإلهام» و«الرؤيا». نهاية المرحلة التاريخية التي كانوا مراياها المصقولة وشهودها الأوفياء للتراث والعصر، والأغنياء بالبصائر لحد النبوءة.

ولكن أحدًا لا يتجاوز مقتضيات التاريخ؛ فقد كانت الأزمة القديمة تحتضر لتفسح حيزًا جديدًا للمشهد الوافد على المسرح الاجتماعي-الثقافي. كانت أزمة التناقض بين القيم القديمة والعلاقات الاجتماعية الجديدة هي الشرارة الرومانسية التي اندلعت في كنف الثورات العربية المتلاحقة (١٩١٩م في مصر – ۱۹۲۰م في العراق – ١٩٢٥م في سوريا … إلخ). وفي أحضان تلك الأزمة التاريخية تفجرت الثورة الرومانسية العربية وأساسًا في مصر؛ حيث أحمد شوقي وعبد الرحمن شكري وهيكل والعقاد والحكيم ومختار ومحمود سعيد وسيد درويش حتى وصلت إلى نهاياتها في أعمال محمود كامل وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي وجماعة أبولو.

ولا بد أن معين بسيسو الذي بدأ يكتب الشعر في النصف الثاني من الأربعينيات قد تكون فنيًّا في لهيب «المأزق» التاريخي الذي عانت ويلاته الرومانسيات العربية كلها، ذلك أن الْتِحامه المبكر بحركة الشارع الشعبي قد وضع أذنَيه وصوب عينيه إلى مشهد مغاير تمامًا. صحيح أن «الاستقلال» كان عصب الموقف الشعبي، ولكن المضمون الاجتماعي لهذا الاستقلال بدأ يبرز مع تعاظم القوى الاجتماعية الجديدة المنظمة وغير المنظمة من فئات الشعب المنتجة والمثقفة ثقافة جديدة كالعمال والفلاحين والطلاب والضباط والتجار والقطاعات الواسعة من المهنيين والتكنوقراطيين والقطاعات الأخرى الصاعدة من الحرفيين والصغار والتجار وأصحاب الورشات. كان المشهد الاجتماعي قد تغير ببطء من أسفل، ومن القاع إلى السطح كانت الانتفاضات الشعبية تتجاوز الرؤى الرومانسية الفاجعة، تلك التي توهجت مع صعود البرجوازيات العربية المختلفة آنذاك في إطار التبعية والتخلف.

لذلك كان قدر الرومانسيين القليلين الباقين هو الاختيار الاجتماعي-السياسي الحاسم بين الاتجاه يسارًا مع الطبقات الشعبية وقواها الحية البازغة، أو الاتجاه يمينًا بتصفية الرومانسية من ديناميتها القديمة والإبقاء على «شكلها» الخاوي من نبض الواقع الجديد. وهو الاختيار الذي دفع شاعرًا كعبد الرحمن الخميسي الذي تتلمذ لخليل مطران أن يرتبط نهائيًّا بحركة اليسار المصري، بينما اتجه شاعر آخَر كصالح جودت وكان من المواهب الرومانسية بغير شك إلى الارتباط نهائيًّا بحركة اليمين المصري إلى أن مات.

كان ارتباط معين بسيسو بالحركة الشيوعية سابقًا على مجيئه إلى مصر. ولكن شذا الرومانسية الأصيلة في شعر إبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود كان واضحًا في قصائده الأولى. ورغم ذلك فقد كانت الرومانسية الثورية في شعر أبي سلمى، هي الوقود الذي يحرك معين بسيسو في ذلك الوقت الباكر. وسواء كان «الشاب» الفلسطيني القادم إلى القاهرة أواخر الأربعينيات «يعي» المناخ الثقافي المصري أو لا يعيه؛ فقد اكتوى بجمرته المتقدة حينذاك. نزل معين بسيسو إلى الشارع المصري، لا إلى الشارع الثقافي وحده. وعندما كان هذا الشارع يمتد إلى «ميدان» القتال في الإسماعيلية والسويس، لم يكُن للمناضل الفلسطيني إلا أن «يجد نفسه» في قلب المعركة:

«أنا إن سقطتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح
واحمل سلاحي لا يُخِفك دمي يسيل على السلاح
وانظر إلى شفتيَّ أطبقتا على هوج الرياح
وانظر إلى عينيَّ أُغمِضَتا على نور الصباح
أنا لم أمُت! أنا لم أزَل أدعوك من خلف الجراح.»

وتتحول بعض أبيات القصيدة إلى شعارات للمظاهرات الطلابية والشعبية، أكثر شهرة من اسم صاحبها. وتتحول قصائد المعركة إلى «الديوان الأول» لمعين بسيسو.

إنه الديوان الذي تصارعت فيه الرومانسية الثورية والواقعية الجديدة صراعًا حادًّا عنيفًا مباشرًا. لقد استبدلت مطلقات الشعب والحرب والنصر بمطلقات الحب والموت وديكورات الطبيعة الحية والميتة. ولكن الأثر الرومانسي ظلَّ باقيًا، وهو المطلق الأبيض والأسود وبينها «الألم» أو العذاب. حتى القافية كانت تربض هناك بجرسها الهائل وحرف الروي البارز، والبحور الصاخبة البعيدة غالبًا عن «الرجز» الراقص. هنا «الطويل» و«المتدارك» وأحيانًا «الخفيف» وأحيانًا أخرى يزحف البحر أو يعتل، ولكنه في جميع الأحوال يصارع الموروث مجتمعًا وفكرًا وشعرًا.

كانت البوادر العراقية في التجديد قد هبت مع أعمال السياب والبياتي والملائكة والحيدري. ولم يكُن التمرد الوزني مجردًا من التمرد الاجتماعي، إنما كانت «وحدة التفعيلة» مصطلحًا موسيقيًّا منسجمًا مع العذابات الجديدة. وقد لاحظ السلفيون على الفور ذلك الارتباط الغريب في الشعر خاصة بين التجديد الوزن والتحرر الفكري والاجتماعي. وكانوا على حق. ولكنهم من جهة أخرى كانوا في غفلة من الزمن، لأن اثنين على الأقل من كبار المجددين هما محمد فريد أبو حديد في مسرحياته المؤلفة وترجمته لماكبث، وعلي أحمد باكثير في «إخناتون ونفرتيتي»، ليسا من المحسوبين على اليسار، بل العكس كان أحدهما — باكثير — من أنشط المقاتلين في الخمسينيات والستينيات ضد اليسار. ولكن لويس عوض في «بلوتلاند» وبالذات في المقدمة، وضع كل النقاط على كل الحروف. وكان أكبر الأحزاب المصرية — الوفد — قد أثمر جناحًا يساريًّا بقيادة عزيز فهمي ومحمد مندور هو «الطليعة الوفدية». ولأن مندور ناقد كبير إلى جانب كونه مناضلًا سياسيًّا، فقد واكب حركة الشعر الجديد مواكبة حية. وكان ديوان «إصرار» لكمال عبد الحليم مدرسة كاملة لجيل معين بسيسو، فلما جاء عبد الرحمن الشرقاوي في «من أب مصري إلى الرئيس ترومان» كانت المعركة بين القديم والجديد قد حسمت في مصر على صعيد الإبداع الذي صاحبه النقد الماركسي بمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس.

ولأن المعركة مستمرة، فإن ديوانها الفلسطيني يستمر هو الآخَر في عمل معين بسيسو، يعود إلى غزة حيث تتضح مؤامرة التوطين في سيناء، ويقود شاعرنا المظاهرات صارخًا:

«لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان.»

وكان صوتًا غريبًا في ذلك الزمن، صوتًا فريدًا، هو صوت الشيوعي العربي، أن يحذر حينذاك من «العدو الأمريكي» الذي رأته الطلائع البرجوازية دائمًا «نصير الحرية». وسجن معين بسيسو في غزة وهي تحت الحكم المصري الذي سرعان ما بوغت في ۲۸ فبراير ١٩٥٥م بالغارة الوحشية الصهيونية على غزة. وهو الحدث الذي سيشكل فيما بعد نقطة تحول في الفكر الناصري. وفي ذلك الوقت صدر ديوان «قصائد مصرية» لمجموعة من ألمَع شعراء مصر الثورة: زكي مراد، خليل قاسم، كمال عبد الحليم و… معين بسيسو. في تلك المرحلة التي تلمع عيون أبنائها بذكرياتها الحلوة والمرة كتب صلاح جاهين محيِّيًا مظاهرات مارس ١٩٥٥م:

«يا معين يا صوت الضحايا
ارعد بصوتك معايا،
أرهب عدوي وعدوك
حننتصر في النهاية.»

وطلبت الرقابة من صلاح أن يحذف القصيدة من ديوانه البكر «كلمة سلام» فرفض الشاعر وخرج الديوان يحمل القصيدة. يعلق معين على هذه الواقعة: «صلاح جاهين القديم يطلق الرصاص على صلاح جاهين الجديد» (دفاتر فلسطينية ص٨٤). ولم يكَد العام ينقضي حتى أصدر معين ديوانه «مارد من السنابل» (دار الفكر، ١٩٥٦م). إنها المعركة المستمرة. معركة مصر؟ هي معركة فلسطين. وهي أيضًا معركة العمال والفلاحين. السويس عنوان عربي. «مارد من السنابل» خطوة شعرية إلى الأمام، تبذر في وقت مبكر من حياة الشعر الجديد والشاعر الجديد بذور «الملحمة» أو «القصيدة الدرامية الطويلة» التي ستزهر وتثمر فيما بعد «مسرحًا شعريًّا» لا غش فيه. ويكتب عبد العظيم أنيس مقدمة «المارد» فيؤرخ دون أن يقصد لمرحلة جديدة من النقد الواقعي الذي تطور في الممارسة الحية تطورًا مشهودًا. كان الجو الملحمي نبوءة سخية بالعطاء:

«قد أقبلوا فلا مساومة،
المجد للمقاومة.»

لم تكُن «المقاومة» التي نعرفها الآن. كانت «الرؤية» التي تدعمها نضالات الشيوعيين الفلسطينيين والأردنيين. ثم أقبل ديوان «الأردن على الصليب» نشيدًا للحرية يستنشق عبير إلوار وأراجون ونيرودا ولوركا والجواهري. كانت «المظاهرة» قد تحولت في شعر معين إلى إيقاع وزني ترسخ قصيدة بعد أخرى. وكانت الحرب أو السجن أو المقاومة قد تكرَّست ألفاظًا وصورًا وحكايات في ديوان معين، مجموعة بعد أخرى … بحيث إننا نستطيع بدءًا من «فلسطين في القلب» (١٩٦٠م) أن نرصد معالم «المعجم الشعري» لمعين بسيسو: المصطلح الوزني (البحور واستخدامات القوافي وضرورات الزحاف والعلل) والمصطلح الفنطازي (الصورة الشعرية والبناء القصصي والدرامي) والمصطلح اللغوي (جذور الكلمات أو المفردات الجذرية وتركيب الفقرات) والمصطلح السوسيولوجي (البنية الذهنية والغائية الأيديولوجية والمسح الثقافي للمضامين المتكررة).

مهنة التعليم والعمل السري والمظاهرات العلنية تقود الشاعر تلقائيًّا إلى اختيار المفردات وانتقاء الفقرات وفق بناء تعبيري يتسق تمامًا مع هذا «الصوت» المزيج من الرومانسية الثورية والواقعية الاشتراكية، حسب المدلولات التي عنَتها هذه المصطلحات لجيل الشاعر. ولم يطرأ أي تغيير على هذا المعجم إلا خلال مرحلتين حاسمتين: الأولى هي الصحافة، وأساسًا مرحلة «الأهرام» في النصف الثاني من الستينيات. والثانية هي المقاومة المسلحة في لبنان من تل الزعتر إلى حصار بيروت.

عندما صدر ديوان «فلسطين في القلب» كان الشاعر في معتقلات مصر، فلأن غزة تقع تحت الحكم المصري، ولأن القطاع الفلسطيني أنجب شيوعيين كأية قطعة أرض أخرى في العالم، ولأن الشيوعيين العرب دفعوا ضريبة التعقيد الفاجع في المسيرة العربية (من الوحدة إلى الانفصال) فقد دفع الشيوعيون المصريون ومعهم الغزاويون الثمن مضاعفًا، وكتاب «دفاتر فلسطينية» لمعين بسيسو هو مذكرات هذا «الثمن المضاعف». ولأن الشعر والسياسة في حياة معين هما قصيدة واحدة، فقد جاءت قصيدته الثانية الشهيرة — بعد قصيدته الفدائية الأشهر من اسمه — لتحذر الضعاف من أهوال الضعف:

«وقِّع وقِّع،
اسمك في ذيل الورقة وقِّع،
وقِّع وتسلَّل
كاللص إلى بيتك واحذر
ظلك أن يقع على مصنع،
فامضغ ظلك منديلًا من سم واهرع،
اطرق اطرق
بابك حتى تتمزَّق
يدك فلن تسمع
خطوة من كانت تهواك ويخفق
ساعدها في يدك كسيف من ماس وكبيرق،
فالآن كعود رماد وكخيط دخان أسود
ساعدك تبدد،
اقرع اقرع
لن تسمع خطواتها لن تسمع
قد نزعت طوقًا من شوك
خاتمك من الإصبع.»

كانت هذه القصيدة وما تزال «وثيقة» ضد الضعف أمام تغرير قوى القهر والطغيان وضغطها المروع على ضمائر المناضلين بنسف رصيدهم وتزوير إرادتهم والانقلاب على النفس والوطن والرفاق وعقيدة القلب والعقل والمستقبل.

وبقي معين بسيسو في المعتقل المصري من أبريل ١٩٥٩م إلى مارس ١٩٦٣م ليصدر ديوانه «الأشجار تموت واقفة» ولتنتصف تمامًا دائرة حياته وفنه ونضاله. بعدها بعامين كانت الرصاصة الأولى ﻟ «المقاومة»، وبقي معين في مصر المهزومة عام ١٩٦٧م والمقاتلة في حرب الاستنزاف حتى عام الوداع حيث غادر الشاعر إلى لبنان الذي اكتملت فيه الدائرة.

كان معين قد أنجز في مصر أهم وأنضج أعماله على الإطلاق: من الشعر «جئت لأدعوك باسمك» (١٩٦٨م) و«قصائد على زجاج النوافذ» (١٩٧٠م) وأغلب ما تضمنه «آخر القراصنة من العصافير» الذي نشر عام ١٩٧٣م. وقد كتب مسرحه الشعري كله في مصر، بدءًا من «مأساة جيفارا» (١٩٦٨م) و«ثورة الزنج» (١٩٦٩م) و«شمشون ودليلة» (١٩٧٠م) وقد مثلت المسرحيات الثلاث على خشبة المسرح المصري. ثم كتب «المنجم» التي نشرت عام ١٩٧١م و«العصافير تبني أعشاشها بين الأصابع» عام ١٩٧٣م.

في لبنان اكتملت الدائرة، وكان «المعنى» الذي حقق للشاعر وجوده قد شارف منتهى نهاية النهايات. ولأن الشاعر والسياسي في حياة معين وجهان لعملة واحدة؛ فقد انتهيا في وقت واحد إلى جواب مشترك على سؤال الوحش. من حصار إلى «الحصار» ومن سجن إلى «السجن» وما من أحد ولا من ظاهرة ولا من حدث يتجاوز مقتضيات التاريخ. لذلك قال «لها» معين بصوت التسليم إن الرحلة أوشكت على النهاية:

«آه، أعطيني قطرة حبر واتركيني
للسكاكين التي تعرف عنوان عيوني،
وأنا الشاعر ديواني التراب،
آه لو كنتم معي
كانت الزهرة شقت أضلعي،
وكبرنا في المتاريس وصرنا شمعدان السنبلة
وغدونا المرحلة،
إنني أعرف جدران العواصم
أيها العصفور في الإصبع، يا آخر الخواتم
الخنازير تهاجم
والعصافير تقاوم.»

واكتملت الدائرة على معين بسيسو، أو هو الذي أكمل الدائرة، فمات في لندن (تأملوا) في الثالث والعشرين من يناير ١٩٨٤م، ولم يكتشف أحد وفاته إلا بعد وقوعها بأربع عشرة ساعة في غرفة الفندق (تأملوا أيضًا). وبعد استراحة في تونس ووُري معين بسيسو تراب مصر في اليوم الثلاثين من أول شهور عامنا السعيد (فتأملوا وتأملوا). ولكن أحدًا لم يتذكر أن يكتب على قبره شاهدًا من كلماته:

«ولساني كان السيف
وأنا الآن أموت
وشهودي هذي الجدران الأربعة الخرساء.»

من يصدق أن رؤية الشاعر تصل إلى هذا الحد من الشفافية، من يصدق أن معين بسيسو هو صاحب هذه الأبيات من قبل أن يكمل الدائرة؟

أبريل (نيسان) ١٩٨٤م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤