تغريبة الزمن الفلسطيني

«أهدي هذا المقال إلى إميل حبيبي
ذكرى ليلة بعمق البحر وارتفاع السماء.»

١

قصيدة سميح القاسم الأخيرة «تغريبة» لا تكمن أهميتها في أنها تحكى — على السطح — قصة محبة فخصام فمحبة بين شاعرين كبيرين، وأنها «مسك الختام» في رحلة العذاب الشخصي بين القاسم ومحمود درويش، وإنما تكمن أهميتها في كونها تجسيدًا عميقًا للجرح الفلسطيني الغائر في وجه زماننا.

والفضل لحرب لبنان؟ لغزوة التتار الجدد؟ كلا؛ فهذه وتلك لها «أفضالها» على غير الفلسطينيين، لأن قاع الجرح وبدايته هناك، في حيفا والرامة والجليل. ومن ثَم تنتفى «المفاجأة-المناسبة» التي ينفتح فيها الجرح على الجرح.

من دماء واحدة إذن، تخلقت عذابات درويش والقاسم وزياد وجبران وحسين. ومسيرة الدم المشتركة أكبر من أن تجعل حرب لبنان «مناسبة» للقاء الوريد بالوريد. ولكن هذه الحرب وحدها، هي التي أقامت بغتة من جثة البيروق الفقير والمقاتل الفلسطيني جسرًا أسطوريًّا ألغى الزمان والمكان من الذاكرة الدموية للشعر والوطن. هكذا، لم يعد «الداخل» هو فلسطين المحتلة وحدها، لأن الأراضي المحتلة لم تعد فلسطين وحدها، وأضحت بيروت تأكيدًا يوميًّا لكَفر قاسم ودير ياسين، وامتدادًا وتعميقًا لقاع الجرح.

في تلك اللحظة التي جسدت الزمن الفلسطيني، كان محمود درويش — مع البيروتي الفقير والمقاتل والقلة النادرة من المثقفين — رمزًا جسورًا لبطولة هذا الزمن. لم يخرج. بكل المعاني وظلالها لم يخرج. بقي في مكانه حتى «أخرجه» العدو من الجغرافيا.

ولكن التاريخ يقول شيئًا آخر.

يجيب على سؤالٍ عمره اثنا عشر عامًا، حين «خرج» محمود درويش من فلسطين المحتلة إلى مصر. يومها اختلف الناس في تقويم هذا «الخروج». وبين المزايدة والمناقصة كانت المرارة تكوي قلوب مجموعة صغيرة العدد في مكان ما من هذا العالم، يرمز إليها سميح القاسم. هذه المجموعة لم تكره درويش يومًا ولا شمتت به لحظة، لأنه من دمها، كانت تشعر في عمق الحنايا أنها «نقصت» واحدًا في وقت يحتاج كل منهم للآخر أكثر من احتياج العاشق للمعشوقة.

لذلك كان أكثرهم محبة لدرويش هو نفسه أكثرهم هجومًا على «خروجه».

عن هذه المجموعة الصغيرة فقط أتكلم، فالذين هاجموا محمود من الخارج، كانوا خائفين من قدوم هذا الإعصار إلى عقر دارهم. وأثناء حرب بيروت لم يفكر أحدهم في «نجاة» محمود درويش من براثن جهنم.

ولكن سميح القاسم فعل.

لأن التاريخ أجاب على سؤالٍ عمره اثنا عشر عامًا. قال إن محمود درويش رحل إلى مصر حين كانت في معركة الحياة والموت، ولإيمانه العميق الذي لا يتزعزع بأن مصر هي العمود الفقري للوطن. ثم رحل إلى بيروت عندما تحولت إلى «كومونة العرب» واحتجبت مصر.

وفى بيروت ٨٢ كان الجواب التاريخي على سؤال سميح القاسم وبقية الرفقة النادرة من جواهر القلب الإنساني.

ولأن سميح القاسم مناضل أصيل وشاعر حقيقي ورؤياه القومية الصافية لا تفارق عينيه ولا خفق الحشا؛ فقد كان أسرع الجميع في سماع جواب التاريخ.

كان الصهاينة «يُخرجون» توأم القلب من الجغرافيا، ولكن التاريخ كان يقول إن الوطن المحتل هو الوطن العربي لا فلسطين وحدها أو لبنان وحده. ولم يكن «العجز» العربي إلا عجز المغزوين من داخل الداخل. فلسطين، مصر، لبنان، تلك مسيرة درويش التي لن تنقطع، مسيرة عربية في الصميم، حتى ولو عاش صاحبها في باريس. أجاب التاريخ، كالعلم، بأن المكان نوع من الزمان، وأنشد سميح القاسم بأجمل قيثارة تغريبة الزمن الفلسطيني.

ليس من «داخل» الوطن ولا من «خارج» لأن الوطن في الزمن الممتد أضحى بحجم الدم المسفوح. وماتت المرارة القديمة لتتأجج نيران الحقد المشترك. على عدو الزمان والمكان والإنسان. ومن هنا لا تكمن أهمية «تغريبة» سميح القاسم في كونها تحكى قصة الخصام والمحبة بين صديقين، بل لأنها تتسلم جواب التاريخ وتعود فتطرحه سؤالًا وجوديًّا على الجيل والأمة والبشرية بأسرها، إنها قصيدة رغم بساطتها الظاهرية غاية في التركيب، ورغم عفويتها الطازجة غنية التكوين، ورغم براءتها الفطرية تستدرجنا إلى دهاليز سرية من ثراء القلب والروح.

٢

«تغريبة» سميح القاسم دائرة مكتملة، ليست قصته مع محمود درويش أكثر من ثغرة للدخول في عالم الدائرة، تقابلها ثغرة للخروج. ولا بد من التنبيه أن هذه التغريبة؛ الدائرة، لا علاقة لها بما سمي زمنًا في نقد الشعر العربي الحديث بقصيدة «التدوير» … فالدائرة القاسمية هنا ليست حلزونًا من التفاعيل التي تنهل من بحر وزني منساب بين القوافي وأحرف الروي، بل هي البنية الشعرية ذاتها، القائمة على الرحلة، والتزامن، والتقاطع الجدلي.

ثلاثة عناصر لا محطات، من أفعال التماثل، لا تؤدي إلى متوازيات أو خطوط مستقيمة (بداية ووسط ونهاية)، وإنما إلى ردود أفعال في الماضي والمستقبل. ويتحول «الحاضر» إلى نقطة انطلاق ملحمية. هكذا يتألق «الكشف» وتنجلي الرؤية؛ لتتجاوز اللحظة الشخصية في حياة الشاعر وصديقه، بالاختراق لا بالقفز.

«لبيروت وجهان» و«لباريس وجهان» و«للندن وجهان»، ولكل عواصم الدنيا وجهان أحدهما «وجه لحيفا»:

«يفرقنا العالم اليعربي،
ويجمعنا العالم الأجنبي،
ونبقى أجانب في العالمين،
ويبقى الرحيل،
مع الريح، من منزل في الجليل،
إلى الريح،
في فندق غامض،
يعانق فيه القتيل القتيل.»

من هنا يبدأ «الكشف» رحلته الدائرية نحو الرؤية، فوجه حيفا في كل مكان وفي اللامكان، ما دامت «الأنا» و«الهو» قتيلًا في كل آن، وأين؟ على هذا «السؤال» ينسج الشاعر بنيته الشعرية المتماثلة والمتقاطعة مع الزمان … فالوطن-السجن، هل يتغير إذا أمسى الوطن-المنفى؟ يتحول الجواب إلى سؤال جديد.

بدون سلام،
بدون كلام،
تقبل في عنقي قلب أمك،
(ورب أخ لك …)
ألقي بهمي فوق همك،
ونبكي ونضحك،
… في غربتين.

•••

أتسألني كيف حالي
وأنت جواب السؤال؟»

الوطن غربتان، غربة السجن وغربة المنفى، حتى لتصبح لندن أو باريس وجهًا لحيفا، فكم وكم تكون بيروت؟

وأين الوطن، أين حيفا، أين الرامة، أين البروة؟ الصهاينة طردوا الفلسطيني (محمود درويش؟) من الجغرافيا، ولكن التاريخ يهمس في قلب الفلسطيني (سميح القاسم) بالنبوءة الحزينة: الوطن هنا وهناك، الوطن ليس هنا وليس هناك. والفلسطيني، أين هو؟ بل من هو؟ شهادة الميلاد لا تعترف بالمكان (اللامكان، السجن والمنفى غربتان)، ولكن العالم كله يعترف بالزمان.

وتغريبة سميح القاسم هي تغريبة الزمن الفلسطيني، حين يصبح محمود درويش جوابًا عن السؤال … أي حين يصبح «الخروج» الفلسطيني من بيروت جوابًا على السؤال. والتغريبة إذن هي «سفر الخروج» الذي لم يتم إنجازه في سبتمبر ۱۹۸۲م بل وقع وما يزال يقع منذ زمن طويل، لا من فلسطين عام ١٩٤٨م ولا من لبنان هذا العام، بل من كل الوطن «اليعربي» ولكل العاربة والمستعربة.

يتقاطع الزمن الفلسطيني إذن مع المكان العربي في السجن والمنفى. السجن العربي-الصهيوني يحاصر زماننا بين «القباب» و«القناطر». والمنفى لم يعد منفى، أضحى امتدادًا للسجن، بتنويعاته التي لا تحصى، من الألوان البهيجة والدموية أحيانًا.

يؤرخنا الحب والموت
في دفتر الأرض.
تغريبة للمهاجر،
وتغريبة للوطن.
ونفضي بأسرارنا للقباب،
وننقش أحزاننا في القناطر،
ونطلق من جرحنا عندليبًا
يزلزل صمت الزمن،
ونعجن بالدمع
خبز المجازر.»

بعد «الكشف» تبدأ الرحلة صلاتها الضارعة في خشوع الأنبياء. يواجه الشاعر بين التاريخ والجغرافيا مواجهة «قدسية» إن جاز التعبير عن ذلك الدفق المتوتر بالتهدجات الخشنة، فالحب والموت هما «المؤرخ» لا في كتاب الزمن بل في «دفتر الأرض». لذلك تصبح التغريبة اثنتين، وهي واحدة: للمهاجر؛ جمع مهجر، وللوطن؛ مفرد أوطان.

ولا بد هنا من المقارنة بين تواترات اللوحة الأولى «لبيروت وجهان» وتمازجات اللوحة الثانية «للندن وجهان» قبل مباشرة الارتحال من خاصية التزامن إلى خاصية التقاطع الجدلي، من محطة الكشف إلى الصلاة في اتجاه الرؤية عبر الصياغة الملحمية. في اللوحة الأولى كان معجم الشاعر هو: السجن، المنفى، الدوار، المطار، الفرار، الليل، الرحيل، القتل، الغربة، الأم، السؤال، الجواب، الريح، البعاد، الوحدة. يتكون الخط الأولى في اللوحة من «اللقاء». لقاء في رحلة مستمرة بين طرفين على الصعيد الشخصي: فلسطين والعالم، ولكنه في المستوى الجمالي بين فلسطين وفلسطين، بين نصفَي فلسطين. واللقاء لا بد أن يتم في «مكان»، ولكنه في الواقع الشعري لا بد أن يتم في كل مكان أو اللامكان ما دام أنه ليس «المكان»، أي فلسطين. هكذا يتحول «اللقاء» إلى تفريعات وزنية ولونية تحدد منذ البداية قطر الدائرة ومسيرة الرحلة:

«ويا ليل يا عين،
لا الليل ليل،
ولا العين عين.

•••

يتمتم في عجوز حقود،
متى؟ كيف؟ أين؟
متى؟
كيف؟
أين؟»

أسئلة الريح والفندق الغامض وعناق القتيل للقتيل. باحتجاب المكان يسطو الزمن على سطح الأشياء. وينكسر الفعل الماضي أمام المضارع بين صيغة الاعتراف والخبر الذي لا يجيء.

وبيروت ليست لندن، حيث الانسياب إلى اللوحة الثانية يشكل تقاطعًا متزامنًا مع الأولى، فالمعجم الشعري هنا يغادر «اللقاء في اللامكان» إلى سطوة الزمن القابع بين «القباب والقناطر». وتغدو مفردات المعجم الجذرية هي: الحب والموت والأرض والمهجر والوطن والزيتون والغناء والرمل والوحل والدنيا والبحر والصحراء.

هنا الوطن-الزمن، حيث «الحلول» في الأشياء، ثمرة الضراعة والابتهال اللذين يجسدهما «اللقاء-الوداع»، فإذا كان الحلول القديم هو أنسنة الطبيعة، فإن الحلول كأداة شعرية عند سميح القاسم، هو تزمين الوطن حتى لا يتسرب من البوابتين العملاقتين: الجغرافيا والتاريخ. هكذا تتسربل «الأسرار» بالقباب والأحزان، بالقناطر، فيخرج العندليب الفلسطيني «يزلزل صمت الزمن» فتعجن دموعه الخبز البشري الفلسطيني.

وتتوالى انفجارات الزمن بأسئلة الصمت، لتنقش في قعر الذاكرة رسوم «الضرع الشهي الذي رضعناه دون شهية (لماذا؟) والزيتونة التي غادرتهما (إلى أين؟) والعاشقة التي ما رحما هواها (من تكون؟) وأيام الجوع والشبع والعشق ثم ضعنا.»

«سلام عليك،
سلام عليَّا،
على الحب
يولد ثم يموت
— سلام عليه —
ويُبعث حيَّا.»

•••

«لكل المغنِّين
أم حزينة،
وكل مغنٍّ
مدينة،
تنام
وفي قلبها نجمة،
وتصحو
وفى جرحها … غنغرينة،
ونحن
شروق الأغاريد كنا،
فهل سنكون
غروب الضغينة؟»

الذاكرة والنبوءة هما «الفيض الصوفي» لتقاطعات الزمن الفلسطيني، حيث يتراكم الحلول في الأشياء حتى لتنطق بماضي الأيام الآتية، حيث تنبجس «الرؤيا» من مخاض الصوم الانقطاعي والصلاة المتبتلة في معبد الحلم بالرامة والبروة، وإذا بالكابوس يطل من عينَي زرقاء اليمامة، من أوحال «الدنيا» التي قامت على الرمل، ولعنة الأعداء التي «بحجم الموت». تنبجس الرؤيا على شاشة التليفزيون «في ضوء قنبلة مشمسة» لحظة أن مات الصوت والمنادي و«جميع البشر» حتى «مات القمر». وكانت أبشع الجثث التي لم تكفنها الريح في «القلب» ثاوية في عمق أعماق القبر. وكما أن العدو بحجم الموت، كذلك كان القبر بحجم الوطن. ويصبح القبر هو العين التي ترى والأذن التي تسمع والقلب الذي يخفق، لأن الجثة لا تموت في الزمان، ولأن حلول الوطن في الأشياء، لم يوفرها، فهي ما زالت تتكلم وتعشق وتصرخ. وتحلم وتبكي وتلمع مقلتاها بين الدموع بأن الرحلة توشك على الانتهاء وتكتمل الدائرة و…

«وتبصر بيتك في وهج صوتي،
وأسمع صوتك،
في صمت بيتي.»

ويكرر الشاعر «دع الشعر» ثلاث مرات عرضية، لأن «البلاد» لا تفكر بالنازحين ولا بالرازحين، أما نحن:

«نحن حطام الأغاني،
ومجزرة القمح والياسمين،
وأعداء أطفالنا يضربون،
وأصحابنا يكذبون،
ولم يبقَ في الأرض
غير الذين
يحبوننا ميِّتين،
وإن قدر الله حُسن النوايا،
فقد يقبلون بنا لاجئين
ومستضعفين.»

و«لباريس وجهان» كما لتونس، أحدهما لحيفا، ولكن بيروت البداية والخاتمة، لأن التغريبة كلها دائرة من البنى الشعرية المرتحلة من الكشف إلى الصلاة إلى الرؤيا، وكما كان في البدء السؤال، ففي النهاية يبقى السؤال:

«نحن غريبان،
نحن غريبان،
ما من زمان،
وما من مكان.»

•••

«لماذا؟ لماذا؟
وأين؟ وكيف؟
وأين؟ وكيف؟
ووجه لحيفا.»

۳

وتنتهى تغريبة الزمن الفلسطيني الملحمية للشاعر سميح القاسم، وقد نفذنا لحظة اكتمال الدائرة من ثغرة «السؤال» الذي يبقى بعد انتهاء القصيدة كالمكواة الممغنطة تكوي الجلد والدم والعظم.

ولا بد لي من التنويه بأن سميح القاسم الذي كان يكابد في السنوات الأخيرة معاناة صامتة انعكست أحيانًا كثيرة سلبيًّا على أدوات بنائه الشعري، قد حقق انتصارًا مؤكدًا على النفس، وعلى كافة المستويات، وفي مقدمتها المستوى الجمالي لشعره.

وكما أن سميح القاسم المناضل يرفض التفاؤل الساذج ويفضل أن يبثنا زفرات ألمه العظيم، فإن سميح القاسم كشاعر أصيل ورائد قد استطاع في هذه القصيدة المفردة أن يحقق التوازن المنسجم بين معطيات الشعور وتجليات الشعر، فلم يكبت ما أصاب غيره بالجنون أو الانتحار أو الموت كمدًا، بل تفجر ينبوعه الداخلي بسخاء وغنى، تآزرت مواهبه المتميزة ونضاليته في نسج هذه القصيدة الملحمية التي تضيف، لا إلى الشعر العربي، بل إلى الحياة العربية كلها سؤالًا ما أوجعه: متى وكيف وأين يلتقي الزمان بالمكان في الوجود العربي المعاصر؟ متى وكيف وأين نصبح «نحن»، «هنا»، «الآن» معًا؟

والجواب ليس في «الشعر».

إنه في «نثر» حياتنا.

يكفي الشاعر أنه «جرؤ» على طرح السؤال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤