يا نصري العالم يرقص يمينًا!

كان لقاؤنا الأول في بغداد، هل تذكر تلك الأيام التي كنا نقضيها في النظر إلى السماء، لعل شجرة الأرز الطائرة في الجو تحمل إلينا النبأ، بأن مطار بيروت قد فتح، كنت سعيدًا كالأطفال بأن الناس يعرفونك خارج لبنان. كنت تسجل أغانيك كما لو كانت الأولى في حياتك؛ لذلك لم تتوقف عند أبواب البيروقراطية الكئيبة التي تسأل عن المجد الضائع في بيروت. كان الوطن يسكنك، يتلبسك، يتوطن في دمك. وحين كان الوطن يضيق بين البسطة والأشرفية، كان يتسع فيك من المحيط إلى الخليج.

كان لقاؤنا الأخير في طرابلس الغرب، هل تذكر تلك الليالي التي كنا نمضيها في النظر إلى البحر، لعل خشبة الأرض العائمة تحمل إلينا النبأ، بأن ميناء بيروت قد فتح؟ كنت سعيدًا كالشيوخ بأن الناس يحبونك خارج لبنان، وكنت تسجل أغانيك كما لو كانت الأخيرة في عمرك؛ لذلك لم تتوقف عند أبواب البيروقراطية الأسيفة على المجد الضائع في بيروت لتسأل عن المجد الضائع في بيروت.

كان الوطن يتنفسك بين الشهيق والزفير، يملؤك بهوى هويتك، وحين كان الساحل يطول بين جونية وطرابلس الشمال وصور والدامور، وحين كان الجبل عاثر القدمين بين الشوف والمتن، كان الوطن يذوب داخلك، بين المحيط والخليج.

لم يتم لقاؤنا في دمشق، لأننا في نقطة التقاطع افترقنا، وصلت حين رحلت. بين الوصول والرحيل، كانت هناك النقطة السحرية التي التقينا فيها مرارًا دون أن نلتقي. دمشق، كنت تقول، صدري المثقل بأحلام الشمس وزفرات القمر، فهي المرفأ الأول والميناء الأخير لمن شاء الأمان في قلب العواصف. حرفيًّا، كنت تضيف: عشت في لبنان، فإذا مت في دمشق، أكون قد أوفيت حق الله والناس، أكون قد أكملت ديني ودنياي.

لم تعرف يا نصري شمس الدين، أو كنت تعرف أنك ستنشد بأنفاسك الحرى لحن الوداع الأخير في دمشق، وعلى النحو الذي كان يتوق إليه صديقنا المشترك فريد، فكأنك حققت له الحلم بعد ثماني سنوات من رحيله المر.

فريد؟ هل تذكر، تلك السنوات الثلاث الفريدة عشية الجحيم على أرض لبنان، وقد عشناها معًا دون أن نكون قد تعرفنا على بعضنا في القاهرة؟

لم يكن يتصور أن هناك «مثقفًا» اسمه بالحب والتقدير. وكنا في مبنى «لاكي بلدنج» المطل على الروشة الصامدة، مجموعة من الكتاب المصريين احتجزتهم حرب أكتوبر قسرًا في بيروت، وبعضهم الآخر كان قد اختار بيروت فلجأ من بطش السادات. كان معنا كامل زهيري وإبراهيم عامر والفنان محمود شكوكو الذي كان همزة الوصل بيننا وبين فريد. يومها سألته في حضورك: هل تسمع بمحمد مندور؟ قال: طبعًا رحمه الله، ناقد عظيم، كيف لا أسمع به؟ ولكن أنتم معشر المثقفين لا تسمعون بغير السيد درويش. قلت له: بالعكس بعضنا يحبك لدرجة تثير المعارك. وذات مرة كانت هناك معركة طريفة بين لويس عوض في «الأهرام» ومحمد مندور في «الأخبار» محورها أنت وعبد الحليم حافظ؛ فقد كان مندور يفضلك أنت، أما لويس فكان يفضل عبد الحليم.

وتدخلت أنت يا نصري ضاحكًا ومتسائلًا: وماذا كان موقفك أنت؟ ورحت تروي لفريد كيف أحفظ أغانيه من عهد الصبا أو عهد الهوى لا فرق، وكيف أني أتهم بعض زملائي بالنفاق حين يسبون فريد الأطرش في النهار ويسمعونه في الليل. يسمونه علنًا بمطرب الأرامل والأيتام وأبناء السبيل، ويبكون معه سرًّا دموعًا مدرارة.

وكان النقاش يصل بنا إلى الثالثة صباحًا وفجر بيروت على بحرها الذي لا مثيل له يستدرجنا إلى مزيد من الانتشاء. حينذاك أقول لفريد، ونصري يسجل: لا شك أنني أحببت سيد درويش وما أزال، كما أحب الكثير من أعمال عبد الوهاب وأم كلثوم والشيخ زكريا والسنباطي والطويل والموجي وعبد الحليم.

ولكنني أحب في نفس الوقت، بشغف، أسمهان وفريد وفيروز والصافي وشمس الدين والغزالي. فريد أحبه لأسباب أشمل من العواطف والرومانسية؛ هي أنه مطرب عربي منذ البداية إلى النهاية، بدءًا من «بساط الريح» و«أخي العربي» وانتهاءً ﺑ «المارد العربي». عروبة فريد الأطرش تمس شغاف القلب وأعماق الحشايا. والنقطة الثانية: هي أنه رغم التحديث في الآلات والأنغام، فإنه أخلص للَّحن الشرقي الأصيل إخلاصًا بلا نظير.

نظر إليك فريد، وهو يتهدج: أتعرف يا نصري، أريد أن أودع الحياة وبين أحضاني العود فوق خشبة المسرح في لبنان أو سوريا أو مصر.

ها أنت ذا بموتك المبكر والمفاجئ تضع نقطة في نهاية سطر فريد الأطرش، تبعث الحلم مرة واحدة وتموت إجلالًا لذكرى المعاني، التي لا تموت.

معاني الجبل العربي الشامخ في دنيا الركوع لغير الله.

تلك هي المعاني التي أردت عن قصد وسابق تصميم أن تكون محور حياتك وموتك؛ فالعروبة هي دقات القلب بين أضلاعك، وهي ذاتها لبنانك الموحد في التجربة الفيروزية الثمينة.

فيروز؟ آه، بل آهات من الحنايا الممزقة الكاوية. ولكن لا وقت للحزن، تقول لي، فنحن في زيارة قصيرة لهذه الدنيا، أقول لك، لتكن إذن إقامة طيبة على أي نحو وفي أية حال، تردد وقد تبدلت ملامحك. وتسألني فجأة ودون سابق إنذار وأنت الذي لم تهتم يومًا بالسياسة: لماذا ينتهي العالم في عينيك بغياب عبد الناصر ومذبحة أيلول وكأن خريف ١٩٧٠م هو خريف الدنيا! في لبنان، كنا نظن مثلك أن الدنيا انتهت في نيسان ١٩٧٥م فقط كنا نظن. أما الإيمان فشيء آخر. لن نيأس قط من أن لبنان عائد، عائد حتمًا.

تقولها وتغيب. تغيب حتى لا أكاد أعرفك، لا أعرف كيف أستعيدك أنت، فما بالك باستعادة لبنان. وكأنما لم تغب عني قط تهمس وظل ابتسامتك الغامضة يوحي بالسخرية من شعاع القمر: فيروز تغني ليالي الشتاء الحزينة، وما أبهج ليالي الشمال. العالم نفسه يرقص شمالًا، أما الجنوب فيبكي. جنوب لبنان ليس جنوب العرب وحدهم، إنه جنوب العالم. الفقراء في كل مكان هم جنوب العالم، ولكل إنسان، أيًّا كان، جنوبه الخاص.

أسأله على الفور: ترى، هل فيروز هي جنوبك؟ يربت على كتفي، وجهه الطيب ينغمس في النحيب الصامد قائلًا بتهدج: يا رجل، مالك وثرثرة الجرذان في ليالي الحصاد، هل يغضب أحد في مصر من عروس النيل؟ وبالمناسبة قل لي، على قلة ما أقرأ، لاحظت أن هذه العروس الخالدة خلود الحزن والفرح لم تحظَ قط بأغنية أو قصيدة أو قصة قصيرة أو لوحة، بالرغم من أن الفنان المصري في العادة يستوحي تراثه في تفاصيل التفاصيل، قل لي يا صاحب لماذا لم تكتب أنت عن عروس النيل، هل تخافها؟

لأجيب فاجأته من جديد: تقصد أن فيروز هي عروس الجبل؟ ظننتها عروس البحر والجبل والوادي والساحل و…

وكل لبنان، بل وكل العرب. أما أنت، فماذا تقول؟ ماذا تقول يا نصري شمس الدين، ماذا تقول؟ في صمته الغارق تحت عمق أعماق اللجة العالية، رحت أصرخ بنفسٍ مقطوع يتحول به الصوت إلى صدى متكسر، لأنني لامست عامدًا، تلك الصدفة الثاوية في الرمال النائمة بهدوء داخل القلب. كأنما عاصفة هوجاء هبت من مرقدها الدفين، لتحرك الصدفة المستقرة من مكمنها العتيق، فهب مذعورًا كساحر ملدوغ في سره العاري: يا رجل، فيروز كلبنان، فيروز هي لبنان. ما جرى لها، جرى لنا فيها. لا تنكأ جراحًا مبتلة بدموع الشمس وعرق القمر. فيروز لنا. فيروز أنا. العالم كله يرقص بالقدم اليسرى، يتجه شمالًا.

أقول لك ضاحكًا محتدًّا هادئًا وجادًّا غاضبًا وحزينًا: تخطئ يا نصري خطأ العمر إذا قلت ذلك، فالعالم كله يتجه يمينًا، ألا ترى؟ ما كنا نعتقده من المسلمات والمقدسات نحن العرب منذ ثلاثين عامًا «أضحى» من المخلفات الماضية التي يجب إلقاؤها في سلة المهملات. أنت الآن وطني وقومي وتقدمي، إذن لم تطالب بكامل التراب الفلسطيني، وإذن لم تطالب بحق التنفس للجميع. هكذا يا نصري، فأنت رجعي لأنك ما زلت تؤمن بلبنان الموحد ضد الطائفية، وما زلت تؤمن بفلسطين العربية الموحدة ضد الصهيونية، وما زلت تؤمن بالوحدة القومية من المحيط إلى الخليج ضد التجزئة والإقليمية والفاشية والطغيان.

أنت رجعي يا صديقي لأنك ما زلت تؤمن بأن العالم يرقص بالقدم اليسرى. بينما العالم — يا نصري — يرقص يمينًا.

أنت تغني آهات الشعب بصوت الجبل العربي الشامخ فتتردد أصداؤك من ساحل طنجة إلى ساحل البصرة ومن شاطئ بنغازي إلى مضيق هرمز، ومن قناة السويس إلى باب المندب، تغني الآه والعتابا وتشرق الدموع في وجه النيل والمتوسط والفرات ودجلة، لأنك تنهل من تراث شعبك الموحد في أغوار الطين وأعالي السماء. ولكن تنسى أن عبارة «من الماء إلى الماء» أو «من المحيط إلى الخليج» التي كانت دمًا يسري في شرايين الفؤاد أمست مثارًا للسخرية من «الواقعيين» فرسان العصر والأوان … فالعصر كله يرقص يمينًا يمينًا، وتصبح أنت وأمثالك، كأشباح الماضي، ترقصون وحيدين بالقدم اليسرى فوق حلبة خالية.

إننا يا صديقي في زمن «الجنرال» محمد عبد الوهاب، ونعيش في عصر أحمد عدوية، فأين أنت أو فيروز أو شوشو أو فريد من هذا العصر السعيد؟ دعني إذن أختلف معك وأقول: «صدقت فيروز حين غنت ليالي الشمال الحزينة»؛ فقد كانت زرقاءَ اليمامة. حتى موت فريد الأطرش في الأسبوع الأخير من عام ١٩٧٤م كان كالنبوءة التي تبحث بعد ثلاث سنوات من رحيله عن وادي النيل. كانت الحرب التي انتظرها قد انتهت إلى الخيمة الشهيرة، وكان لبنان يتلظَّى احتراقًا عشية الحرب التي لم ينتظرها والتي انتهت إلى الخيمة الجديدة.

بين الخيمتين يا صديقي لم يعد ثمة مكان ﻟ «والله زمان يا سلاحي»، و«أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا»، و«خلي السلاح صاحي»، فماتت أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وعزف عبد الوهاب النشيد الصهيوني، وأصبح أحمد عدوية علامة العصر الجديد.

ولم يكن لبنان الشامخ في الكواليس يتفرج على الأسرار ويضحك كما تخيله الذين لم يطرقوا سوى «الباب الخلفي» بين الحمراء وشارع السادات، وهو الباب الخلفي في كل عواصم العالم. ولا يعرف شيئًا عن لبنان من توقف عند عتبات هذا الباب. كان شوشو العظيم يصرخ «آخ يا بلدنا» وظل يصرخ ويصرخ حتى بح صوته لدرجة الاختناق فمات وسط هدير المدافع ودوي القنابل.

وسِرنا في جنازته حقًّا.

كان الحوار الفاجع بين العيون يمد خيوطًا لا ترى … بين محمد شامل وبينك. كان محمد يقول بهدير النواح الداخلي الممزق: الدنيا هيك. وكنت تقول: لا. وكنت أقول لك: بلى، فهكذا الدنيا بمعنًى آخر غير الذي قصده محمد شامل. وهو المعنى الذي دفعه إلى الرحيل قبلك.

قبلك؟ بعدك؟

ها أنت ذا تصبح العلامة الفارقة، بين الحرب التي كان موت فريد عشيتها كدقات المسرح الثلاث السابقة على فتح الستار، والتي كان موت شوشو إيذانًا ببداية الفصل الأول، وجاء موتك إيذانًا ببداية الفصل الأخير.

أنت علامتنا غير القابلة للمحو؛ لذلك كان رحيلك قدومًا إلينا في زمن الغياب المستمر.

أنت تأتي إلينا في ظل أحوج لحظاتنا إليك، هكذا كنت وستظل دومًا تلبي نداء الذين لا صوت لهم.

أولئك الذين يرقصون مثلك بالقدم اليسرى ويغنون مع فيروز «ليالي الشمال الحزينة»، ويستغربون لدرجة الهلع أن يرقص العالم في زماننا يمينًا … يمينًا!

أسمعك الآن بوضوح أكثر من أي وقت مضى: لا. لا تصدق. أنت ترى التكنولوجيا ترقص يمينًا، والقنبلة العنقودية تتراقص يمينًا، والمجاعة ترقص يمينًا، والنفط يرقص يمينًا، والبطالة ترقص يمينًا، والحب يرقص يمينًا، و«هذا» اليسار يرقص يمينًا؛ حتى إن اليمين طلب التقاعد عن الرقص يمينًا.

لا. لا تصدق، أسمعك بوضوح أكثر من أي وقت مضى: لا تصدق ما تراه، فالجائعون لا يرقصون يمينًا، والعاطلون عن العمل لا يرقصون يمينًا، والأسرى في أقبية التعذيب لا يرقصون يمينًا، وضحايا المذابح وبراثن الحقد النازي لا يرقصون يمينًا. هؤلاء يا صديقي — أسمعك بوضوح — الذين لا يظهرون في الإذاعة والتليفزيون، هم الجماهير.

الجماهير؟ تسألني: هل تتذكرون أيها المثقفون هذه الكلمة، أم أن المعاجم الجديدة خلت منها. معاجم الرقص يمينًا. إن أخطر ما يمكن أن يحدث على الإطلاق هو نسيان هذه الكلمة.

فمعنى ذلك هو احتراق التاريخ: الماضي والحاضر والمستقبل.

وكم رقصت تلك الرموز يمينًا في الماضي والحاضر والمستقبل، ولكن الجماهير التي تبدو أحيانًا نائمةً، وأحيانًا شِبه ميتة، وأحيانًا مريضة، تفاجئ الراقصين في كافة العصور والأجيال، بأن الرقص يمينًا ليس نهاية التاريخ.

وأن الجماهير الصامتة المغلوبة على أمرها فوق سطح الأرض، هي في شغل شاغل برقصها الآخر تحت الأرض. وفي لحظة لا يحسبها الكمبيوتر، تغير كالانفجار المباغت كل المعادلات وتحرق كل الأوراق.

اقرءوا التاريخ جيدًا، واقرءوا الحاضر من حواليكم ولا تتعجلوا الحكم بأن «العالم» يرقص يمينًا. فالقيامة لم تقم بعد.

وتستمر يا نصري في الكلام بتلك البحة المحببة في صوتك العربي الشامخ كالجبل الأشم، وقد ارتوت قلوبنا بدموع أغنياتك التي تصل ما بين الوريد والوريد، أو ما بين المحيط والخليج. هذه العبارة التي كادت تلفظها معاجم العصر الجديد.

ولكننا، بتراثك الباقي في أرض فيروز، في تراب العرب، نراك حاضرًا فينا مع كل «قيامة» لم تقم بعد.

١٨ / ٤ / ١٩٨٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤