تقديم

يتضمَّن هذا الكتاب مجموعةً من النصوص الحكائية-السردية، تنتمي إلى الفضاء الأدبي الآسيوي، وتمتلك مقومات في فن القص والتخيُّل تختص بها دون غيرها.

وتنقسم النصوص التي نضعها بين يدي القارئ قسمَين، سواء من حيث انتماؤها أم زمنيَّتها وما تحوزه من خصائص. القسم الأول يتضمَّن قصصًا صينيَّة ترجع إلى بدايات ما يُسمَّى بعهدِ مينغ، بين القرنَين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديَّين، وقد عرفت انتشارًا واسعًا في كوريا واليابان حيث نقَّحت وقلَّدت وأصبحت لها صيغٌ متعدِّدة بلغت أوروبا أيضًا. ورغم هذا، فلا أحد يعرف اسمي «كويو» و«لي زن» اللذين ألَّفا هذه القصص المعروفة ﺑ «حكايات في ضوء الشمعدان» ومنذ عقودٍ محدودة فقط أُعيد ﻟ «الحكايات» اعتبارها في الأدب الصيني، بما تشهد به من إتقان واكتمال في النوع، وتحصيل لعناصر المحكي العجائبي. والواقع أنَّها مرَّت بفتراتٍ طويلة لا تقلُّ في البُعد عن القرن الخامس، إلى أن بلغَت الحذق والكمال في العهد المشار إليه.

وفي اللغات الأوروبية، يعود الفضل الأول في الكشف عن «الحكايات» سنة ١٩٥٨م إلى الباحث الألماني هربرت فرانك، المختص باللغة الصينية، وإبراز قيمتها بتخصيص دراسة عن المؤلف «كويو»، في وقت لم تكُن هناك أيُّ طبعة صالحةً من النصوص الأصلية. وفي سنة ١٩٥٩م، ظهرتْ في زيوريخ طبعةٌ أُولى لها … بمثابة أنطولوجية تضمُّ اثنتي عشرة قصة موزَّعة بين «كويو» و«لي زن». وتأخَّر العهد بعد ذلك؛ لتظهر لها ترجمةٌ بالإنجليزية. وفي فرنسا، صدرتْ مُترجَمةً عن دار غاليمار، باريس، في آب ١٩٨٦م. وقام بالترجمة جاك دارس، وراجعها تشانغ فوجوي، وعنها ننقل نحن عملنا هذا إلى قرَّاء العربية.

لقد زكَّت اختيارَنا هذه النصوصَ عدَّةُ أسباب نجعلها في الآتي:

  • التميز الذي تنفرد به، من حيث إنها تُطلعنا على نموذج من الأدب المحكيِّ العريق لشعبٍ ذي تقاليد حضارية باذخة؛ فتُبرز لنا أنماطًا من سلوكه وتقلُّبات حياته، ونماذج مكثَّفة من أوضاعه، وصورًا فذَّة لأشكال التخييل لديه؛ فيتأتَّى لنا، من هذا، ضربان من التصوُّر: الأول تاريخيٌّ-اجتماعي، والثاني وجدانيٌّ-جمالي.

  • أن العراقة الحضارية للنصِّ تسندها بل ترفع من شأنها عراقةٌ أخرى في ابتداع أصول المحكي والسيطرة على مساره وتشخيص عوالمه، وهذا بصيغة جنسٍ أدبي يلزمنا لدى قراءة نماذجه إدراك زمنيَّته، والنظر إليه بمطلق الاستقلالية عن الأجناس السردية الحديثة، والقصة القصيرة منها بخاصَّة، بل إنه محكيٌّ يفرض علينا أن نُعيد تقويم كثير من الأحكام والتصنيفات بشأن نشأة الأجناس الأدبية وتطوُّرها. إن النثر والشعر هنا، على سبيل المثال، صنوان أو يتبادلان الأدوار بانسجامٍ بديع، كما أن حِيازة خصائص فريدة في السرد تُلغي مركزية الأجناس أو خضوعها لأنساق متماثلة.

  • مع هذه النصوص، وأخرى مماثلة لها في الأدب الصيني القديم، تستطيع الحكاية تبعًا لمَا سبق، أن تستقلَّ بنفسها وأدواتها وفضائها وتخيُّلها، ويكون من المهمِّ جدًّا الاطِّلاع على النوع، كيف تجنس؟ وحتمًا كيف نفذ تأثيره في وقتٍ لاحق؟ ممَّا نستطيع أن نعثر عليه حين نطَّلع على النصوص القصصية الحديثة في الآداب الآسيوية، لقد كان للحكاية إذن زمنها الذي أنتجها، ونضَّدها في سلك الإبداع الإنساني.

  • يُضاف إلى ما سبق أن هناك وازعًا آخَر للاختيار قرين بالمزاج الفنِّي الشخصي، ونعني تحديدًا القدرة التي تمتلكها … الحكايات في التوليف العجيب بين ما هو واقعي، حذافيري وخام، وما هو مثيولوجي، تخيُّلي وعجائبي، حتى إن كلَّ واحد من العنصرَين يكتسب خصائص الثاني ويتفاعل بها أخذًا وعطاء، فلا نحسُّ بأيِّ نقلةٍ تعسُّفية أو تطابُقٍ مفتعَل، وهذا إلى الحدِّ الذي نُدرك فيه أنَّ البنية التكوينية ﻟ «الحكاية» لا تتمُّ ويحصل فيها الاتساق والتناغم إلا إذا تضافر فيها ما هو واقعي وما هو ميثولوجي تخييلي. وإذا كانت القراءة السوسيولوجية لهذا الضرب من الكتابة قابلةً لأنْ تجنح بسرعة نحو تأويلِ تركيب هذه البنية بالمعطيات الثقافية والاجتماعية لمجتمعٍ بعينه؛ فإننا نحسُّ بأنَّ تأويلًا مماثلًا، يظلُّ قاصدًا ويتغافل عن الكشف الفني الخاص بالنصوص وحنكة واضعيها، أي عن قدرة تجميع المعطيات نفسها وإعادة تكوينها على النسق الفني الذي هي عليه، والذي يُبهرنا، ويخصب بتخييله مخيِّلتنا، وينبِّهنا إلى أن «الحكايات» سبَّاقةٌ بأزمنةٍ طويلة إلى الإبداع الحديث، في الغرب والشرق معًا، الذي ارتاد آفاق الغرابة، وكسر قاعدة فجاجة الواقع وثباته الظاهري.

القسم الثاني من هذه المجموعة يرتبط، خلافًا لسابقه، بقِصصٍ من الحاضر، تنضوي في جنس القصة القصيرة، وتنتمي إلى الأدب الياباني الحديث والمعاصر، ونحن نعني ونعي جيدًا هذا الاختيار الذي نقدِّر أنه سيساعدنا في تعرُّف مستويَين من الإبداع الحكائي. أجل، يباعد بينهما الزمن، وإن تقاربت مسافة الجغرافيا، ويتمايزان تمايزًا ملحوظًا في طُرق التناول ولكن على الرغم من هذا يحافظان، أو قُل إن الثاني منهما يتمسك بقرابته إلى الأول، وإذ يحتفل بإرهافاته الفنيَّة المتميزة، تصله أكثر من آصِرةٍ بتراث الماضي الحكائي، ويستمدُّ بها بعض نسغه وخيوطًا كثيرة من نسيج تكوينه. ومع هذا الاقتراب تظلُّ مسافة البُعد قائمة، وهي من طبيعة الجنس الأدبي نفسه حين يتبلور ويثبت، هذه المرة، بلا لبْسٍ قصةً قصيرة تمتصُّ عناصر التطور الحضري وتشخِّصها، وتحتفل بمعطيات أوضاعٍ مدينيَّة؛ لتجعلها ناطقة، جهارًا أو إضمارًا، بأكثر ما في العصر — ضمن فضاءٍ وزمنيَّة محدَّدة — من وجوه الصراع والمفارقة والانفلاتات الرامزة والعابرة، ولكن أيضًا بما هو جوهري في الإنسان من حسٍّ مأساوي يخترق القناعات العادية ومكونات البداهة الزائفة أو القشرية.

بهذه الأجواء وبغيرها تنتج القصة القصيرة في الأدب الياباني الحديث نَصَّها مستفيدةً من كلِّ التقنيات والجماليات التي ادَّخرها النوع الأدبي على امتداد مراحل تطوُّره في الآداب الغربية والأنغلوسكسونية، بمعنى أن القصة القصيرة اليابانية نِتاج من كلِّ إبداعي، وكثير من سِيَر القصَّاصين اليابانيين تُشير إمَّا إلى دراستهم الأدبَين الفرنسي والإنجليزي وإمَّا إلى تأثُّرهم بذخيرة الأدب العالمي. وهو أمر طبيعي ومحمود، على نحو أهَّل المحكي الياباني للمقومات المطلوبة للنوع، ودون وجود تباعُدٍ سحيق، كما هو الشأن بالنسبة إلى أدبنا العربي الحديث.

بَيدَ أنَّ الإبداع السردي الياباني، والقصة القصيرة هنا تخصيصًا، يكمن في التفرُّد ضمنَ الشمول، والتميُّز وسطَ العموم. خاصيتان ليس مرجعهما ما يحمله كلُّ نصٍّ أصيل من إنطاقٍ لعناصر البيئة المحلية وجملة المشاعر والأزمات المعبِّرة عن شرائح بشرية بعينها حَسْب، بل إلى هذا، وبهذا أيضًا، نسقٌ من التناول يدمج ما هو فني صِرف — أي ما يتَّصل بتقنية الكتابة، وأسلوبها، وصناعة النص وصياغته المعمارية — فيما هو من جنس التخييل الخاص لأدب أمَّة بعينها، وقد تفاعلتْ فيه روافد الماضي (التراث) الحكائية والانبجاسات التي لا تتوقف مخيِّلة الفنَّان القاصِّ عن إنجابها، وهو ما يُولِّد، في النهاية رؤيةً لواقع مُعطًى، ورؤيةً فنية ودلالية تمنح المحكي الياباني، قصته القصيرة، هويتها ونكهتها المتفرِّدة؛ فتكون عطاء يعاضد العطاء العالمي ويُثريه.

إنَّ علاقة الواقعي بالمتخيَّل وآفاق الغرابة، لتكون في الكتابة السردية اليابانية إحدى أبرز الخصائص التي حفزتْنا إلى اختيار عدد من النصوص؛ إذ برز لنا بكامل الوضوح كيف أن الكاتب الياباني قادرٌ على صوغ التركيب وإنتاج البنية الخاصة لأدبه وعلى تمثُّل روافد الماضي والروحية العميقة لأمَّته ضمن استيعاب مكوِّنات الحاضر وشخوص الزمن المتغيِّر، ولكنَّ المندرج في سلكٍ زمنيَّةٌ إنسانية ذات جذور ولكن بلا نهايات؛ لإصدارها على البقاء منفتحةً في مجرى النصِّ والهموم التي يعالج، والمصائر التي يتداول، والأزمات المتوزعة بين ما هو ذاتي، واجتماعي، وميتافيزيقي، أو بين هذه كلِّها في توليفٍ واحدٍ ومبتكَر.

إن الابتكار في لغةِ هذه الكتابة السردية وأسلوبيتها، لا يسع المهتمُّ إلَّا أنْ يتوقَّف عنده بعينٍ متبصرة. أجل، إن الترجمة قاصرة دائمًا عن نقل الغنى الأصلي للنص في لغته الأم. ولكنها تظلُّ مسبوكة، إنْ حالَفَها التوفيق، في قوالبه الصقيلة والماهرة الصُّنع، وعلى الرغم من هذا القصور. ولغة النصِّ السردي الياباني، وقبله الصيني، منتقاةٌ بنفسها في مفرداتها وعباراتها وجُمَلها وترتيبها وتدفُّق ظِلالها بما يخدم أدبيتها وأدبية القصِّ القصير وقصديَّته في الوقت عينه. لا تكون اللغة تنميقًا فائضًا يضحِّي بتعيين المعنى أو القصد المادي الأول للنص، ولكنَّها إثباتٌ لهذا المعنى وألقٌ له، وعندئذٍ يُصبح من الصعب فصْلُ جمالها عن جماليات هذا النَّص بالمعنى الاصطلاحي للكلمة. إننا نعني أيضًا أنَّ القاصَّ ليس مهمومًا حَسْب، بسرد حكايته أو نحت شخوصها واستبطانهم وتوصيف الفضاء العام والخاص حسب؛ إذ إنَّ هذا من جبلَّته، ولكنه يفعل ذلك بحسِّ فنَّان يعي أنَّه مسئُولٌ عن إعادة صياغة العالم وفقَ إبداعيةٍ متجدِّدة وليس بآليةٍ نثرية مبذولة. إنَّ شاغل الأدب هو جزء أساس من الدورة الحيوية للكتابة، والواقع وحده، حالاته وشجونه، لا يكفي بتاتًا لاكتمال هذه الدورة، وهو وعيٌ ثابت عند الكاتب الياباني. ولا أريد أن أجزم إذا ما كان حقًّا قد أخذ له موقعه المطلوب عند الكاتب أو المبدع العربي.

ترجمة هذه النصوص، من هذه الناحية، بدتْ لنا ملحَّة لكسر طوق هيمنة مركزية الآداب الغربية والانشداد إلى جاذبيةٍ إبداعية، يحاور فيها الحسُّ الشرقي مشرقَ العروبة ومغربها. وإذا كنَّا قد أبطأنا حقًّا في هذا الانشداد، فلتكُن هذه الترجمة التي أنجزناها عن الفرنسية خطوةً بين خطوات، في انتظار أن تتمَّ الترجمة المباشرة، والخير في تقديرنا أن يوجد الاقتراب من ألَّا يوجد بتاتًا. وما هذا بالاعتذار من جانبنا، فلقَدْ حرصنا على تقديم هذه النصوص بأكثر ما يكون من الوفاء والإشراق، وكثيرًا ما استعنَّا بمختصِّين في الأدب الآسيوي، إلى أن توافرت لنا هذه النصوص التي نأمُل أن تفِيَ بحاجةٍ نحسُّ أنها موجودةٌ بإلحاح.

أحمد المديني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤