حُلم جنديٍّ ما

أبي كوبو

وُلد أبي كوبو في طوكيو سنة ١٩٢٤م. درس الطبَّ في البدء، وبعد تخرُّجه سنة ١٩٤٨م ترك الطبَّ؛ لينضمَّ إلى جمعية رجال الآداب في اليابان، ثم إلى جمعية الأدب الياباني الجديد. وقد نالت أعماله أهمَّ الجوائز الأدبية المُعادِلة للغونكور الفرنسي في سنتي ١٩٥٠ و١٩٥١م. وجائزة اليونسكو سنة ١٩٦٧م لأهمِّ مؤلِّف أجنبي.

يميل كوبو إلى حصر شخصياته في مجالٍ مغلَق؛ من أجل مُساءلتهم عن معنى وجودهم وحقيقته. والقصة التي نترجمها هنا «حُلم جنديٍّ ما» نُشرت سنة ١٩٥٧م، وهي تبدأ وتنتهي بمقطعٍ شِعري مُلغِز. زمنها ليلةٌ، وهي حكاية وهميةٌ أكثر منها واقعية. إنَّه شرطيٌّ عجوز، مُتوحِّد، في حالةِ انتظارٍ داخلَ عالمٍ مغلَق على نحوٍ مأساوي، بمتاريسَ حقيقية هي القرية وجدار بيت العمدة، وبأخرى رمزية أيضًا هي انعدام الحوار مع الثلاثي الجهنمي ممثَّلًا بالعمدة ومساعده وبضميره هو.

مدَّة هذا الانتظار ليلةٌ واحدة. من أجل أيِّ فعلٍ أو حدَثٍ؟ لا شيء. بل إن غياب الحدث هو المِلح.

نُشرتْ «حُلم جنديٍّ ما» بالفرنسية في المجموعة آنفة الذِّكر.

في يومٍ جِد بارد يكاد يُجمِّد الحُلمَ
جاءني حُلمٌ مُرعِب.
خرَجَ الحُلم مُرتديًا قبَّعة
في بدايةِ ظهيرة،
فاعتزلتُ بنفسي.

حُلم جنديٍّ ما

مضَت الآن خمس عشرة سنة. أجل، ليس للحقيقة من تاريخ، ومع ذلك فإنَّ هذه الحكاية تتطلَّب تاريخًا. ربما لأنه لا شيء حقيقي فيها.

منذ البارحة، بدأت عاصفةٌ عنيفة تجوس خَلَل القرية الصغيرة التي تُحاصرها الثنايا الجبليَّة عند حدود الضاحية. وتجعلها، وهي مأخوذةٌ في الدوَّامة، تُنَهنِه بألمٍ. وفي وقت باكرٍ من الصباح، كانت فرقةٌ من الجنود قد وصلتْ من المدينة مخترقةً المرتفعات للقيام بتدريباتٍ خاصَّة بمقاومة البرد، وهم يَجرُّون أحذيتهم الثقيلة فوق الثلج الكثيف. وبإيقاع المعزوفات العسكرية، كانوا يعبُرون القرية بخطوٍ متعثِّر ليختفوا بعد ذلك مثل ظلال في العاصفة الثلجية.

كان الليل قد حلَّ حين هدأت الريح. في مركز الشُّرطة عند مدخل القرية، جلس شُرطي وهو أعزب عجوزٌ يتسلَّى بتقشير البطاطس، مُدفئًا قدمَيه في آنٍ واحد أمام الموقد المتأجِّج. في الداخل، كان جهاز الإرسال يعمل، ولكنَّه لم يكُن ليستمع إليه وهو الضائع في حُلمٍ عذْبٍ ولا نهائي.

«لقد حقَّقتُ أنا عدَّة اكتشافات؛ فأنا أعرف أنَّ العمدة ومساعده يُتاجران في السوق السوداء، وبالاشتراك مع المسئُول الأعلى يُخفون غنائمهم تحت بلاط المعبد. أعرف هذا، وأبقى مزموم الفم. الجميع في القرية يعرفون أنني أصمتُ، وإذا كانوا يُغدقون عليَّ الهدايا، فليس من أجل شراء صمتي، ولكن من أجل التعبير عن تعاطُفهم معي. ولن أكون مضطرًا إلى مغادرة القرية شأن شُرطة آخَرين، حتى إذا بلغتُ مرحلة التقاعد، بل سأبقى هنا بكامل الارتياح. وربما قضيتُ شيخوخةً ممتعة إذا ما عثرتُ على أرملةٍ تملك قطعةَ أرض. حين لا يملك المرء طموحًا بلا حدود، فمن الأفضل له أن يكون فلَّاحًا، ثم لا بد لي من بيت لاستقبال ابني عند عودته من الجيش.

بفضل الحرب لديَّ الخيار بين ثلاث أرامل ذوات نصيب. ومن الطبيعي أن يوجد في الوقت الحاضر أبناءٌ في هذه العائلات، ولكن مَن يدري فهُمْ، أيضًا، قد يموتون يومًا في ساحة الشرف. وعلى كلٍّ، فإنِّي واجدٌ لا محالة حلًّا. ولا أعتقد أنني أسأتُ إلى أحدٍ أو اتَّخذني عدوًّا له، ثم ينبغي ألَّا ننسى أنَّ عدد الأرامل في تزايُد. المهم، لا داعيَ للعَجَلة، وعندي الوقت كلُّه لأُعيد التفكير مليًّا في المسألة. فهناك مساحةُ الحقول، والروابط العائلية؛ لا بد من ضبط المعدل.»

وجاء رنينُ الهاتف ليتردَّد فجأةً من المكان؛ فما كان منه إلا أن ترك البطاطس التي كان يقشرها تسقط من بين يدَيه، فتسقط في الرَّماد.

حملها ومسحها في كُم قميصه وهو ينهض بصعوبة، ثم ينزل الدرجاتِ القليلة نحو الأرض الوطيئة. تناوَلَ السمَّاعة بأطراف أصابعه، وبنوعٍ من اللامبالاة التي تُرافق هذه المهنة، أجاب بصوتٍ خائر؛ غيرَ أنَّ تعبيره ما لبث أن اخشوشن وانقبضتْ أصابعه التي كانت تُمسك بحبَّة البطاطس، وأخذت في الارتعاش.

بعد أن عبَرَ الجنود القرية، واصلوا سَيْرهم صُعدًا في الجبال. ثم وهُمْ يقومون في الطريق بتدريبات القتال؛ قفزوا فوق الكثير من المرتفعات، وعبروا الغابات. وفي الوقت الذي وصلوا فيه إلى المرحلة الأخيرة من عملهم؛ كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة.

كانت الريح في أشدِّ هُبوبها وكانوا يتنفَّسون بصعوبةٍ محرومين من التغذية، إضافةً إلى أنَّ عليهم أن يعودوا بخطواتٍ سراعًا. وعلى الرغم ممَّا توقَّعه، فإنَّ ستةً من الجنود محكومين بأحكامٍ ثقيلة؛ تخلَّفوا عن الرَّكب. لقد كان تدريبًا خاصًّا يُراد به دراسة العلاقات بين البرد والتعب والجوع. وإذن، فمنذ البداية كان متوقَّعًا أن يوجد بعض المتخلِّفين، وإن تتبَّع الجميع فرقةً طبيَّة. ولكنَّ الذي حدَثَ هو أن خمسة من الجنود أُعيدوا، في حين بقي الجنديُّ السادس مختفيًا في مكانٍ ما.

– إنَّه جائع، وما من شكٍّ في أنَّه يتوقَّف في القرية، وإن لم يحذر منه فسيحاول سرقة الملابس.

وأعاد الشرطي العجوز السمَّاعة. وبكتفَين محنيَّتَين وخطوٍ بطيء، رجَعَ قُرب الموقد. تمخَّطَ وحكَّ لحظةً قُنَّة رأسه العاري ثم رفع عينَيه إلى الساعة! إنَّها السابعة والنصف.

ليست لديَّ أيُّ رغبة في الحركة؛ البرد شديدٌ جدًّا في الخارج، ثم إنَّه لا يوجد ما يُثبت أنَّ في الأمر هروبًا. ولعلَّه في هذه العاصفة الثلجية المسعورة، قد أضاع رِفاقه، وتاه في الطريق. أجل، إنَّه لمِنَ الحُمق أن يفرَّ الإنسان أمام هذا الثلج؛ إن آثار خطواته ستخونه وسيُقبض عليه، إنه شيءٌ بديهي، من المؤكَّد أنَّه تاه. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون قد مات في هذه الساعة من البرد. اللهم إلا أن يكون مُراهنًا على فعلته بما يُشبه «جُرمًا مع سبق الإصرار». وأخذت الريح تهدأ، ولا شكَّ في أنه وقَعَ في الشرَك. أمَّا الجرائم التي تنجح فلا وجود لها. أمَّا أنا فإنَّ ما تلقيتُه هو معلومة وليس أمرًا، ليقُل الآخرون ما شاءُوا.

فحالة هذا الجندي من اختصاص الشُّرطة العسكرية، وإذا قُورن بسجينٍ في حالة فرار؛ فإنه لا يَعدُو أن يكون هَلُوعًا بائسًا … أوف، هذا لا يَعنيني، ولا أحدَ يجني فائدةً من التدخُّل في شئُون الآخرين! وعلى كلِّ حالٍ، فمَن سمِعَ من قبل عن هاربٍ محظوظ؟

وخُيِّل إليه أنَّه يسمع ضجَّة من جهة باب المدخل؛ فالْتفت بحركةٍ مباغتة، استَرَق السمع لحظةً: لا ضجَّة هنا، وهذا وهمٌ ليس غير. ولكنْ، لِمَ يعصره دفعةً واحدة قلقٌ عنيف؟ لقد كان قلَقًا غيرَ عاديٍّ لم يستطع هو نفسه فَهْمه، بل إنه ضَربٌ من الذُّعر. لم يكُن خائفًا من الفارِّ. لكنْ، الكراهية. هذه الكراهية التي تُلازمه تجاهَ المُجرِمين العاديِّين يحسُّ فجأةً أنَّها لا تحضُر، ويعي توًّا وجودَ كائناتٍ لا تستدعي الكراهية، وهو ما لم يلاحظه من قبل ما دام قد بقي دائمًا في الوضع المريح للشخص المُلاحِق. ولعلَّه يتبيَّن الآن الهوة التي تفصل بين المطارِد والمطارَد؛ فاستجمع جسده واقفًا وهو مأخوذٌ بهذه المشاعر: لن أتسَامَح!

على الرغم من صرخته هذه، لم يكُن القلق ليفارقه. إنه قلقٌ يضاعفه إحساسٌ آخر بهلعٍ شديد. وفي كلِّ الأحوال، فإنَّ ما به هو قلقٌ المُتواطِئ، ولا شكَّ في أنه شعورُ كلِّ أهلِ القرية. بَيدَ أنَّه ما لم يتخلَّص من هذا الشعور؛ فإنَّه هو نفسه سيتسبب حقًّا في شدَّة هلَعِه. «الحقُّ أنني شِختُ.» قال لنفسه، وصعد الدمُ فجأةً إلى رأسه. «إذا كان الوقت قد حان لأُحاكَم؛ فليكن. سأُحاكم، ولن أكون المتورِّط الوحيد.» أحسَّ بحنجرته متيبِّسةً تمامًا ومنقبضة؛ أدار جهاز تهوية الموقد. رفع ياقته لتغطِّي عنقه، ووضع سيفه في حزامه وخرج.

كان الثلج يسقط ناعمًا ويتفتَّت بنعومةٍ مع كلِّ قبضة. ويلاحظ أن خطواتٍ مرَّت من هنا، لكن ليس ثمَّة قُدرةٌ على تمييز الأحذية. بعد الزاوية مباشرة، حيث يوجد متجر الأسماك، يقع بيت العمدة، الوحيد بين بيوت القرية الذي له نوافذ تطلُّ على الجهة الغربية. وكانت الأضواء تغمره، ومن الخارج يُسمع ضحكٌ صاخب، لعلَّ مصدره بدون شكٍّ هذا المسئُول الأعلى التافه؛ كالمعتاد لم يدخُل من الخلف كدأبه، ولكنه فتَحَ باب المدخل دفعةً واحدة دون أيِّ استئذان. وفي الغرفة بدا الجوُّ رائقًا، وسمع صوتَ أوانٍ فخَّارية تُجمع بسرعة، يغطِّي عليها الصوتُ البطيء للعمدة.

– مَن الزائر في هذه الساعة؟

– «أمهلوني قليلًا لتعرفوا المفاجأة التي أحضرها لكم.»

ورفَعَ مساعدُ العمدة رأسه وهو يقول مستفسرًا: أوَليس هذا صاحبنا الشرطي؟

– هيَّا ادخُل، ادخُل. استدعاه المسئُول الأعلى بدوره.

– لقد حدَثَ شيءٌ مزعِج.

– ماذا هناك؟

– ستحكي لنا هذا فيما بعد، ادخُل واشربْ كأسًا.

– إنه جنديٌّ فارٌّ، لقد فرَّ في «الكتياما».

– فارٌّ؟ وبلَعَ المسئُول الأعلى ريقه مُلقيًا بنظراته من تحت نظَّارته.

– إذا كان نازلًا من الكتياما، فلا بدَّ له أنْ يمرَّ من هنا، أيًّا كانت وِجهته.

– هذه هي المعلومة التي تلقيتُها، ويبدو أنَّه يقصد القرية.

– يقصد؟ وارتعش العمدة مُدخِلًا سبَّابته في منخر أنفه الطويل.

– يبدو أنَّه مُنهَكٌ من الجوع.

– يا لها من قضيةٍ مزعِجة!

– لا!

وواصَلَ المساعِد كلامَه بمرحٍ مقاطِعًا العمدة: إنَّ الفارِّين كلَّهم غير وطنيِّين. من المؤكَّد أنه نذل، وبالتفتيش في الجبل سينتهي الأمر بالقبض عليه.

– ولكنْ يبدو أنه يحمل بندقية، ولأنَّه جائع فقد يُصبح خطرًا.

وباغتَهم صوتُ صرير سلسلة؛ فالْتفتوا بحركةٍ واحدة. كان عقربُ الساعة يدنو من الثامنة تمامًا، وعاد المسئُول الأعلى إلى وضعه نافد الصبر: وإذن، ماذا سنفعل؟

– سنقبض عليه ونضربه حتى الموت!

كان مساعد العمدة وحده مُهتاجًا. والحقُّ لم تكُن ثمَّة غرابةٌ في هذا؛ فهو الرَّجُل الوحيد في القرية كلِّها، دون سنِّ الأربعين، الذي لم يُستدعَ إلى الخدمة العسكرية. وعلى الرغم من كلِّ شيء تحدَّث هذه المرةَ بنبرةٍ أكثرَ اعتدالًا وشجَّعه الشرطيُّ بهزَّةٍ من رأسه: إنَّك على حقٍّ. وفي الحقيقة، فإنَّ كلَّ مُعادٍ للوطن ليس إلا كلبًا … ولكنْ …

وخفض صوته، وبدا في حالةٍ من التفكير: ثم إنه مسلَّح … مُعادٍ للوطن، جائعٌ، مطارَدٌ ويحمل بندقية، ماذا يمكن أن يحدُث؟

وأشار المسئُول الأعلى إلى المساعد، وأمعن النظر في الشرطي: ماذا ترانا سنفعل؟

– بحقِّ الشيطان كيف العمل؟

وجرَّه العمدة إلى الكلام؛ أفلتتْ منه هذه الكلمات: آمل ألَّا يكون هذا الفارُّ من قريتنا.

ودفَعَ المساعدُ ذقنه إلى أمام: هذا لا يُعقل.

ثم أضاف بحماس: لا شكَّ في أنَّه قادمٌ من الجنوب!

– ولكن لماذا لَاذَ بالفرار؟ وفي هذا البرد!

– حقًّا لماذا؟ ولا يوجد ما يساعده على الخلاص. ما أشقى آباءه!

– ولكنْ، أتعلم أنَّ أرملةً في إحدى القُرى خبَّأتْ عندها جنديًّا فارًّا أكثر من شهرَين.

– إنها حكاية قديمة! أمَّا اليوم فإنَّ مِثل هؤلاء المُعادين للوطن، لا وجود لهم!

– إمم، لا شكَّ أنَّك محقٌّ.

«يا لهؤلاء! كيف يرتعدون؟ لشدَّ ما يخافون من أن يتورَّطوا! وما داموا يعرفون؛ فليس بمُستطاعهم عدم المبالاة. لا يمكن؛ إذ حتى اليد التي ستمتدُّ لغلق الأذنَين، ستسمع صرخات مَن يطلب النجدة … ومجرَّد غلْقِ الأذنَين، هو علامة على التواطؤ … وباختصارٍ، فإنَّهم غارقون أيضًا حتى العُنُق.»

– إذا سمحتُم — قال الشرطي بصوتٍ بطيء — ينبغي إعلام الناس وتوجيه التعليمات … هناك فارٌّ، وعليهم أن يلزموا مساكنهم … تمامًا مثلما يحدُث إبَّان الغارات الجويَّة: إطفاء الأضواء، وألَّا يُجيبوا الفارَّ، حتى إذا ما توجَّه إليهم. لأنَّه إنْ وجَدَ جوابًا؛ فسيستغلُّ هذه الطِّيبة، فعلى سبيل المثال: سيطلُب الماءَ أولًا، وإذا قدَّمتموه له قائلين الماء فقط. فسيُطالب بالأكل، ثم بالثياب، وبعد ذلك بالمال، وماذا بعدُ؟ وفي النهاية بان، بان، سيُطلق الرصاص.

ظلَّ الثلاثة الآخرون يحبسون أنفاسهم في انتظار بقيَّة الكلام، ولكنَّ الشرطي توقَّف عن الكلام؛ فغامر العمدة سائلًا: أهذا كلُّ شيء؟

– البقيَّة من شأن الشُّرطة العسكرية.

نهض المسئُول الأعلى واقفًا باديَ الانزعاج.

– الأمر عندي أبعدُ من هذا.

وتوجَّه العمدة لإبلاغ مركزِ الحرَّاس، واستغلَّ مساعِدُه الفرصة لينسحبَ بدَوره.

وفي أقلَّ من ساعةٍ، أشعَرَ جميعَ سكَّانِ القرية بالقضية. وكما يحدُث في حالة الإخطار بهجومِ الإعصار، تَمَترَسَ الجميعُ وراءَ النوافذ، ودعموا بالألواح الخشبية الأماكن والزوايا ذات الخطر المُحتمَل، بل إنَّ بعضهم وضَعَ قُرب سرير النوم مُدًى وعِصيًّا.

بعد انصرام العاشرة ليلًا، كانت القرية كلُّها، ما عدا مركز الشُّرطة، تغرق في ظلامٍ صامت، ويستولي عليها رعبُ فريسةٍ مُطارَدة. وعلى الرغم من هلَعِها، فقد تمكَّنتْ أغلبُ العائلات من الاستسلام إلى النوم.

بقي الشرطي العجوز، الذي يبدو كأنَّه مُختبئًا وحده، مستيقظًا وهو يستمع إلى أقلِّ حركة في الخارج. ومن الطبيعي، لم يشكَّ سكَّان القرية، المنزوين في بيوتهم، في شيء.

في الغداة، مع مطلعِ النهار، وفي الجانب الآخر من هضبةٍ في الجنوب، انطلقتْ صفَّارة إنذارِ قطارٍ برنينٍ حادٍّ، ولم تتوقَّف. بدَت السماء منخفضةً، وانتقلت هذه الإشارة المشئُومة لتنتشر من بيتٍ إلى بيت. حتى إنَّها أيقظَت السكَّان جميعهم، والذين فهموا الأمر أزاحوا الحواجز فورًا، وفتحوا الشبابيك.

أمَّا الشرطي العجوز، بعينَيه المحمرَّتَين جرَّاءَ السَّهر، فقد اقترب من النافذة القائمة جهةَ الجنوب وبصره مثبَّتٌ على الهضبة، حيث تتبين له بوضوحٍ علامةٌ رمادية خفيفة تخترقها مباشرة. ثم توقَّف صفير القطار، وبعد قليلٍ وصَلَ المساعد واضعًا تحت ذراعه حِذاءَين للتزلُّج، وبرفقته اثنان من سكَّان القرية.

– يبدو أن أحدًا قد رمى نفسه فوق سكَّة القطار، وربما كان هو الشخص المُعادي للوطن الذي تحدَّثنا عنه أمس … سأذهب لأرى الأمر، هل تأتي معنا؟

– أوه، لا، سأبقى هنا؛ فقَدْ أتلقَّى مكالمةً من المدينة.

انتعل الرجال الثلاثة أحذية التزلُّج، وشاهدوا الأثر الرَّمادي الذي يخترق الهضبة. وبإشارةِ تفاهُمٍ خفيَّة، انطلقوا يقتفون الأثر على الطريق. وابتعد الشرطي العجوز أخيرًا عن النافذة، ثم جلس القُرفصاء أمامَ الموقد.

ظلَّ على حاله تلك إلى أن عاد المساعد الذي بقي صامتًا في انتظار أن يصحو الرَّجل العجوز. غير أنَّ هذا الأخير لم تبدر منه أيُّ حركة. وحين همَّ المساعد بالانصراف، سمِعَ فجأةً مَن يقول: وإذن … لعلَّك رأيتَ؟ همَسَ الشرطيُّ وهو يفتح عينَيه.

– أجل، لقد رأيتُ.

– ها، حسنٌ.

– وأنت، هل كنتَ تعرف؟

– نعم، كنتُ أعرِف.

– وعليه؛ فأنت مَن أرسله، إلى هناك؟

– إمم … لا، أنا … سيدي المساعِد … هل ترى أنني خجِلٌ … كان بوُسعه أن يفعل هذا بعيدًا عن بيتي … فهل هو تحدٍّ لي؟

ثم إنَّ حقيرًا كهذا لا يمكن أن أعدَّه ابنًا لي … لكنْ، قُل لي هل لك أن تكتم الأمر عن سكَّان القرية؟

– الحقيقة إن الرجلَين اللَّذَين رافقاني، على علمٍ بالموضوع.

– أجل، أجل. وعلى كلٍّ، فأنا بدوري سأتحمَّل مسئُوليتي.

– بالنظر إلى أن اللَّذين كانا معي يعرفان.

– إمم … بلا شكٍّ.

– لم يكُن هناك ما يعيب في طريقة موته؛ لقد كانت البندقية متروكةً جانبًا، معلَّقةً على غُصن شجرة.

– هكذا.

– هناك شيءٌ آخر، ربما كان من الأفضل محوُ الآثار التي تحت النافذة.

– إمم، نعم.

بعد حوالي عشرة أيام، غادَرَ الشرطيُّ العجوز القرية.

في يومٍ جِد حارٌّ يكاد يُذيب الحُلم
جاءني حلمٌ غريب،
والقبَّعة وحدها عادت
في بداية الظهيرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤