الفصل الثاني

نظرية المحفظة الاستثمارية الحديثة

هل يمكنك التغلُّب على السوق؟

بإمكان قردٍ معصوب العينين يُصوِّب أسهمًا على صفحات المال بإحدى الصحف أن يختار محفظةً استثماريةً بنفس فعالية محفظةٍ مختارةٍ بعنايةٍ من قِبل الخبراء.

بيرتون مالكيل
«جولة عشوائية في وول ستريت» (١٩٧٣)

سوف تُطلعك الفصول الثلاثة القادمة كيف يمكن أن تساعدك المبادئ الاقتصادية السليمة في تحسين مهاراتك الاستثمارية. وكما سترى، كانتِ الشكوك تُخامر الاقتصاديين الأكاديميين بشأن وعود سماسرة البورصة، ومديري المحافظ الاستثمارية، والصناديق الاستثمارية المشتركة، وكُتَّاب النشرات المالية بأن بوسعك تحقيقَ الثراء السريع في سوق الأسهم. ولكنهم أيضًا يقدمون بعض الحلول الممتازة.

ونبدأ بمناقشة ما يُطلِق عليه الاقتصاديون «نظرية السوق الكفء» للاستثمار.

في فترةٍ ما أضمر محللو ومديرو المحافظ الاستثمارية الكراهيةَ للاقتصاديين؛ ففي ستينيات القرن العشرين، راودت الأساتذةَ الأكاديميين القادمين من البرج العاجي الجرأةُ للقدوم إلى وول ستريت وإنكار قيمة تحليل سوق الأسهم؛ فقد تجاسر هؤلاء الاقتصاديون الأكاديميون، المعروفون باسم «منظرو السوق الكفء» و«السائرون العشوائيون»، وأعلنوا أن تحليل الأوراق المالية الباهظ والدقيق والإدارة الفعالة للمَحافظ الاستثمارية كانا «عديمَيِ الفائدة»، وقد يكون الأمر أسوأ من انعدام النفع؛ إذ من المحتمل أن يقوم القائمون على اختيار الأسهم الفردية بخفض أداء مَحفظةٍ واسعةِ النطاق من الأسهم التي تُشترى ويُحتفظ بها للمدى البعيد. بل إن بعض الاقتصاديين ادَّعَوْا أن بوسع قردٍ أن يُبليَ بلاءً أفضل في مهمة اختيار الأسهم.

كان الاقتصادي الأكاديمي الذي بدأ مسألة القرد هذه هو يوجين فاما، وهو اقتصادي أمريكي حصل على درجة الماجستير في إدارة الأعمال ودرجة الدكتوراه في الاقتصاد والماليات من مدرسة الدراسات العليا في إدارة الأعمال بجامعة شيكاجو، ولا يزال يُدرِّس بشيكاجو. وقد نُشرتْ رسالته للدكتوراه التي خلصت إلى أن أسعار الأسهم لا يمكن التكهن بها وأنها عشوائية، تحت عنوان «سلوك أسعار سوق الأسهم» في عدد يناير ١٩٦٥ من مجلة «جورنال أوف بيزنس»، وشغلت هذا العدد «بأكمله».

وقد صارت رسالة فاما معروفةً باسم «فرضية السوق الكفء» ولا تختلف عن «نموذج المنافسة الكاملة» في علم الاقتصاد الجزئي. إن المنافسة غير المقيدة وريادة الأعمال تجعلان من الصعب التغلُّب على السوق، على حد قوله. وقد روَّج بيرتون جي مالكيل، أستاذ علم الاقتصاد بجامعة برينستون، لنظرية السوق الكفء في عمله الصادر عام ١٩٧٣ تحت عنوان «جولة عشوائية في وول ستريت»، الذي صدرتْ منه حتى الآن تسع طبعات. ويُوجِز مالكيل نظرية السوق الكفء، أو المسار العشوائي، على النحو التالي:

«لا يمكن التنبؤ بالتغيرات القصيرة المدى في أسعار الأسهم. وخدمات الاستشارات الاستثمارية، وتوقعات المكاسب، ونماذج المخططات المعقدة كلها عديمة النفع … وإذا ما أُخذ هذا إلى أقصى مدًى منطقيٍّ له، فإنه يعني أنه بإمكان قردٍ معصوب العينين يُصوِّب أسهمًا على صفحات المال بإحدى الصحف أن يختار محفظةً استثماريةً بنفس فعالية محفظةٍ مختارةٍ بعنايةٍ من قِبل الخبراء.»1

كان أنصار نظرية السوق الكفء يُسمَّون «السائرون العشوائيون»؛ نظرًا لاعتقادهم بأن التحرُّكات القصيرة المدى في سوق البورصة بَدَتْ غير متوقعةٍ وعشوائية، مثل بحَّارٍ ثَمِلٍ يتسكع في وول ستريت، وأن محللي الأوراق المالية ومديري الصناديق الاستثمارية لا يُرجَّح أنهم سيتغلبون على السوق.

ومن وحي كتاب مالكيل، اشترك محررو «وول ستريت جورنال» في مسابقةٍ تُقام كل ستة أشهرٍ بين محررين كانوا يختارون أسهمًا عن طريق إلقاء أسهمٍ على قوائم «ناسداك» للأسهم، ومحللين محترفين كانوا يختارون أسهمهم المفضلة بعنايةٍ بِناءً على تحليلٍ جَوهريٍّ أو فني. استمرت المسابقة لمدة ١٤ عامًا، من عام ١٩٨٨ حتى عام ٢٠٠٢. والمثير في الأمر أن المحترفين فازوا بمعظم المسابقات، بمتوسط عائدٍ قدره ١٠٫٢ بالمائة للخبراء مقابل ٣٫٥ بالمائة لرماة الأسهم.

غير أن مالكيل دفع بزيف المسابقة؛ إذ قال: «هناك تأثير للدعاية.» موضحًا أنه من خلال الإعلان عن الأسهم التي اختارها الخبراء، أثَّرت الجريدة على السوق. وقال مالكيل: «نظرًا لحديث الصحيفة عن اختيارات الخبراء من الأسهم وتوضيح الخبراء لأسباب اختيارهم أسهمًا معينة، تستمد الأسهم تعزيزًا دعائيًّا.» وأضاف أنه عندما أعاد حساب عوائد أسهم الخبراء مستعينًا بقيمتها من اليوم السابق لنشر المقال بدلًا من يوم نشره، لا يحصل الخبراء على نتائج أفضل من رماة الأسهم بأي حال.

اقتصاديون يبتكرون نظريةً حديثةً للمحفظة الاستثمارية

ثَمَّةَ عدد من الأسباب وراء التلاعب ببورصة وول ستريت التقليدية في مواجهة المستثمر العادي. يشير مالكيل وآخرون إلى تكاليف معاملات المحافظ الاستثمارية التي تُدار بكفاءة، مثل العمولات، وأتعاب الأداء، وهوامش الشراء والبيع، والضرائب. كذلك من الصعب للغاية التفوق على جميع محللي الأوراق المالية الآخرين المقدَّرين بالآلاف، الذين يحاولون العثور على استثماراتٍ ذات قيمةٍ منخفضة.

إذا لم يكن من المحتمل أن تتغلب على السوق، فماذا يقترح فاما، ومالكيل، ومنظِّرو السوق الكفء الآخرون في تلك الحالة؟ هل ينبغي عليك أن تتجنَّب الأسهمَ تمامًا وتُركِّز فقط على حسابات الادخار المصرفية وشهادات الإيداع؟ على العكس، لقد توصلوا إلى حلٍّ عبقريٍّ وبسيط: كن مستثمرًا سلبيًّا في السوق؛ اشترِ محفظةً كبيرةً من الأسهم الفردية، أو صندوقَ مؤشر أسهم، واحتفظ به للمدى الطويل، متخطيًا الانخفاضات وفترات تدهور السوق. وبقدر ما قد تبدو عليه هذه الاستراتيجية من بساطة، كانت مربحةً إلى حدٍّ كبيرٍ خلال الخمسين عامًا الماضية، بالنظر إلى وصول معدل العائد السنوي المركَّب لمؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠ إلى نحو ١٢ بالمائة (وفيها حصص الأرباح).

fig2
شكل ٢-١: صناديق المؤشرات تميل إلى التفوق على المديرين الاستثماريين. (المصدر: ذي إيكونوميست (٢٩ مايو ١٩٩٩)، أُعيد طبعها بتصريحٍ من الجريدة.)
في البداية في وول ستريت، أثارت نظريات السوق الكفء ذات الطابع الأكاديمي حالةً من الغضب؛ فقد استشعر محللو الأوراق المالية ومديرو الصناديق الاستثمارية الذين يتقاضَون أجورًا مرتفعةً تهديدًا يواجه حياتهم المهنية بوجود أدلةٍ على أنهم يُخفِّضون قيمة متوسطات السوق. ومع ذلك، من الصعب دحض الأدلة؛ فقد أجرى الاقتصاديون دراساتٍ عديدةً تؤكد ادِّعاء مالكيل (انظر الشكل ٢-١ لدراسةٍ أجرتها «إيكونوميست» في تسعينيات القرن الماضي)؛ فقد استطاع عدد قليل جدًّا من المستثمرين المحترفين أو الصناديق المشتركة تحقيقَ عوائدَ مقاربةٍ لمؤشر ستاندرد آند بورز ٥٠٠.
غير أن وول ستريت انضمَّتْ في النهاية إلى واضعي نظريات السوق الكفء من خلال إنشاء صناديق مؤشرات سوق الأسهم؛ فأنشأ جون سي بويل أول صندوق مؤشرٍ في مجموعة فانجارد للصناديق الاستثمارية في فالي فورج بولاية بنسلفانيا في عام ١٩٧٦، ويعتبر صندوق مؤشر فانجارد ٥٠٠ (ورمزه VFINX) الآن أكبر صناديق مؤشرات سوق الأسهم في العالم، بأصولٍ قيمتُها ٧٢ مليار دولار. ويوجد اليوم آلاف من صناديق المؤشرات من كل لونٍ يمكن تخيُّله.

مَن يستطيع التغلب على السوق؟

على الرغم من التحذيرات السابقة، لا يزال المديرون الاستثماريون الأكفَاء والصناديق المشتركة يحاولون التغلب على المؤشرات، ونجح بعضهم في ذلك، من ضمنهم وارين بافيت، وبيتر لينش، ومايكل برايس، وفاليو لاين. إن الشركة الاستثمارية ذات رأس المال المغلق، بيركشاير هاثاواي، المملوكة لبافيت، تُعَدُّ بلا منازعٍ أنجح الصناديق في التفوُّق على مؤشرات السوق على المدى الطويل. كانت بيركشاير هاثاواي (ورمزها BRK.A) تُداول السهم الواحد مقابل ٢٠ دولارًا في بداية سبعينيات القرن العشرين، واليوم تبيع السهم الواحد مقابل ما يزيد على ١٠٠ ألف دولار (لا يوجد تقسيم للأسهم ولا حصص أرباح). وقد كان الملياردير القادم من أوماها ناقدًا حادًّا لنظرية السوق الكفء؛ فقبل إنشاء بيركشاير هاثاواي، دخل بافيت مع مدربه بينجامين جراهام، رائد التحليل الأساسي، في شراكةٍ تخصصتْ في أساليب المراجحة. يقول:
إن الخبرة المتواصلة في مجال المراجحة الممتدة إلى ٦٣ عامًا لشركة جراهام نيومان، وبافيت بارتنرشيب، وبيركشاير توضح مدى حمق نظرية السوق الكفء؛ فحين كنتُ بشركة جراهام-نيومان، أجريت دراسة على أرباحها من المراجحة، خلال الفترة من عام ١٩٢٦–١٩٥٦ من عمر الشركة. كان متوسط العائدات الممولة من رأس المال ٢٠٪ في السنة. وبدءًا من عام ١٩٥٦، قمتُ بتطبيق مبادئ بِن جراهام للمراجحة، في بافيت بارتنرشيب أولًا ثم في بيركشاير. وعلى الرغم من أنني لم أُجرِ عمليةً حسابيةً دقيقة، فقد بذلت جهدًا كافيًا لمعرفة أن عائدات الفترة من عام ١٩٥٦–١٩٨٨ قد بلغ متوسطُها أكثرَ من ٢٠٪. وعلى مدى اﻟ ٦٣ عامًا، كان العائد السنوي للسوق العامة أقل من ١٠٪، من ذلك حصص الأرباح؛ وهذا يعني أن ١٠٠٠ دولارٍ كانت ستزداد إلى ٤٠٥ آلاف دولارٍ لو أُعيد استثمار الدخل بأكمله. غير أن معدل عائدٍ يبلغ ٢٠٪ كان سَيُدِرُّ ٩٧ مليون دولار. ويبدو لنا ذلك فارقًا ذا دلالةٍ إحصائيةٍ قد يثير فضول المرء.2

ويخلص بافيت إلى أنه «بملاحظة أن السوق كثيرًا ما كانت تتسم بالكفاءة، وهي ملاحظة صحيحة، مَضَوا [أي واضعو نظريات السوق الكفء] إلى استنتاج أنها ذات كفاءةٍ دومًا، وهو استنتاج غير صحيح.»

ثَمَّةَ أمثلة تاريخية أخرى لأفرادٍ أو استراتيجياتٍ تغلَّبت على السوق؛ فكان بعض تجار المقصورة في بورصة أسهم نيويورك يتفوقون على نظرائهم بشكلٍ مستديم. وتغلبَتِ الشركات المدرجة ضمن قائمة «فورتشن لأفضل ١٠٠ شركة» على متوسطات السوق. وقد هزم بعض تجار عقود الخيارات والعقود المستقبلية منافسيهم هزيمةً ساحقة. في كتابه «سحرة السوق»، يروي جاك شواجر قصة تاجرِ سلعٍ حوَّل ٣٠ ألف دولارٍ إلى ٨٠ مليون دولار؛ ومحلل أوراق مالية سابق حصل خلال سبعة أعوامٍ على متوسط عائدٍ سنويٍّ شهريٍّ متحققٍ قدرُه ٢٥ بالمائة (أي أكثر من ١٣٥٠ بالمائة بالحساب السنوي) من المتاجرة في عقود الأسهم المستقبلية المرتبطة بمؤشرات؛ وخريج قسم الهندسة الكهربائية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ربح عائدًا قدره ٢٥٠ ألف بالمائة على مدار فترة ١٦ عامًا.3 ويروي شواجر قصصًا مدهشة مشابهة لمستثمرين متفوقين في البورصة.4

ونتيجةً لذلك، يذهب الاقتصاديون التقليديون إلى أن: (أ) أقلية من المستثمرين فقط هم من كانوا يتغلبون على السوق بشكلٍ مستديم. (ب) الاستراتيجيات التي تتفوق على السوق لا يمكن أن تدوم أبدًا؛ لأنه مع ازدياد شيوعها، سوف تكف الاستراتيجية عن الإتيان بثمارها. وكمثال، كانت استراتيجية أوراق داو جونز المالية آليةً شائعةً للتغلب على السوق في تسعينيات القرن العشرين. وفي عام ١٩٩١، كتب مايكل أُو هيجينز وجون داونز «التغلب على الداو»، ووصفا فيه استراتيجية أوراق داو المالية: اشترِ ١٠ أسهم من أسهم داو جونز بأعلى عائدٍ ربحي. وقد أثبت هذا الأسلوب التلقائي نجاحه لعدة سنوات، ولكنه أصبح شائعًا لدرجة أنه فشل في أواخر تسعينيات القرن العشرين في ترجيح كفة متوسطات داو جونز في العقد الأول من الألفية الجديدة.

هل هناك استراتيجية للتغلب على السوق يوصي بها الجيل الجديد من الاقتصاديين؟ هذا هو موضوع الفصل القادم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤