الفصل التاسع والعشرون

مخطط بياني مدهش

الاقتصاديون يدخلون الأرض المقدسة

تزداد الجماعات الليبرالية والجماعات الدينية المتشددة على حدٍّ سواءٍ نشاطًا وحركةً حين يُضطرون إلى التنافس على أعضاءٍ على أرضٍ محايدة.

جاري بيكر1
ثَمَّةَ مجال آخر تركت فيه الأبحاث الاقتصادية بصمتها وهو الدِّين. ويُعَدُّ لورانس آر إيناكون (بجامعة جورج ماسون) واحدًا من عددٍ محدودٍ من الاقتصاديين المتخصصين في الدِّين والاقتصاد.2 بل إنهم قد أَنشَئُوا مؤسستهم الخاصة، وهي «جمعية دراسة الدِّين والاقتصاد والثقافة»، التي تعقد اجتماعًا سنويًّا لمناقشة مستجدات العلم والمعرفة.
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين اختبر إيناكون فرضية آدم سميث بأن حرية الدِّين من شأنها أن تؤديَ إلى مستوًى أعلى من الحضور في الطقوس الكنسية؛ فقد كان سميث يعتقد أن المنافسة تفيد الجماعات الدينية؛ لأن لديها الحافز لإشباع احتياجات أعضائها.3 وفي اختبار هذه النظرية، قارن إيناكون بين الحضور في الكنيسة ودرجة الاحتكار الديني في دولٍ بروتستانتيةٍ وكاثوليكيةٍ عديدةٍ بين عامَي ١٩٦٨ و١٩٧٦. وأسفر اختباره عن نتيجةٍ مذهلة، وهي أن الحضور بالكنيسة اختلف عكسيًّا مع التركز الكنسي في الدول البروتستانتية؛ فقد كان معدل التردد على الكنائس بين البروتستانت مرتفعًا في الدول ذات المنافسة الحرة، مثل الولايات المتحدة، ومنخفضًا في الدول المحتكرة من طائفةٍ بروتستانتيةٍ واحدة، مثل فنلندا. بإيجاز، كلما كانت الدولة تتمتع بحريةٍ دينية، كان الناس أكثر تديُّنًا (حسبما يقاس بمعدل التردد على الكنيسة).4

بعد فترةٍ وجيزةٍ من انتهاء دراسة إيناكون، قام اثنان من علماء الاجتماع بتطبيق مبادئ السوق على التاريخ الديني الأمريكي وتوصَّلا إلى نفس الاستنتاج: يزدهر الدين في بيئة السوق الحرة؛ فقد وجد روجر فينكي (بجامعة بوردو) ورودني ستارك (بجامعة واشنطن) أن الولايات المتحدة بمنزلة تجربةٍ شبه مثاليةٍ فيما سمَّياه الاقتصاد الديني غير المنظم القائم على السوق الحرة. فمع بداية الثورة الأمريكية، كان الاضطهاد الديني قد انتهى إلى حدٍّ كبير، ومهَّد التسامح تدريجيًّا للحرية الدينية. وسَعَتِ الطوائف الدينية الكبرى إلى أن تصبح ديانة معترفًا بها رسميًّا ومدعومة بالضرائب، بل وقامت بتشكيل اتحادات منتجين بهدف منع المنافسة، ولكن خابت كل محاولاتهم. وحَذَت معظم الولايات حذو فيرجينيا في معارضة قيام أي كنيسةٍ معترفٍ بها رسميًّا.

وقد توصَّل فينكي وستارك إلى النتائج المهمة التالية باستخدام نموذجهم الصريح للسوق في دراسة الدِّين في أمريكا.

أولًا: أسفرت المنافسة الشرسة والتطور المستمر لدياناتٍ جديدةٍ في أمريكا عن ارتفاعٍ مطردٍ في المشاركة الكنسية على مدار القرنين الماضيين. والمذهل أن أمريكا قد تحوَّلت من دولةٍ لا يشارك معظم مواطنيها في دينٍ منظَّمٍ إلى دولةٍ يشارك نحو ثلثي الراشدين فيها في دينٍ منظم.5 (انظر الشكل ٢٩-١ أدناه.)
fig13
شكل ٢٩-١: معدلات الالتزام الديني: ١٧٧٦–١٩٨٠. (المصدر: فينكي وستارك، «فرض نظام الكنائس في أمريكا».)

حلم العقيدة الواحدة المستحيل

ثانيًا: وجد علماء الاجتماع الاقتصادي أنه من المستحيل لعقيدةٍ واحدةٍ أن تسود الدولة في بيئةٍ من المنافسة الشرسة. في فترات الاستعمار، كان الأبرشيون والأسقفيون مهيمنين، ولكنهم لم يستطيعوا التغلب على المنافسة القادمة من المنهجيين، والكاثوليك، والمعمدانيين خلال فترات النهضة المتعددة في التاريخ الأمريكي. ومثلما لا يستمر احتكار الشركات للأبد، يبدو شبه مستحيل أيضًا بالنسبة إلى دِينٍ سائدٍ أن يبقى على القمة طويلًا. ويخلص فينكي وستارك إلى أنه لا يوجد دِين، مهما كان ما يحققه من نجاحٍ على المدى القصير، يمكن أن يغير العالم بأسره؛ فالمسيحيون لا يبدون راضين بكنيسةٍ واحدة، مثلما لا يمكن أن يتفق المستهلكون على طراز سيارةٍ واحدٍ أو نوعٍ واحدٍ من أحذية التنس. وعلى مرِّ الزمن، تميل جميع الأسواق — سواءٌ الخاصة بالسيارات، أو الأحذية، أو الديانات — إلى إظهار زيادةٍ في الكم، والجودة، والتنوع. وكما يوضح فينكي وستارك، على الرغم من المطالبة المستمرة بأن تتحد جميع الجماعات والطوائف المسيحية في كيانٍ واحد، فقد باءت محاولات التوحيد مرارًا بالفشل. إن الحكمة السائدة القائلة بأن «جميع الكنائس متشابهة» غير دقيقة. فالتنوع هو روح الحياة الدينية في أمريكا.

ثالثًا: اكتشف فينكي وستارك أن الكنائس السائدة التي ساومت على مبادئها وتخلصت من «عقائدها الصارمة» دائمًا ما كانت تواجه ردةً واسعة النطاق وفشلًا في النهاية، بينما الكنائس التي حافظت على معاييرَ عقائديةٍ عاليةٍ مثل الكنيسة الكاثوليكية، عمَّها الازدهار والرخاء. بعبارةٍ أخرى، تكافئ السوقُ نوعيةَ العبادة الدينية. «نحن نذهب مرارًا إلى أن المؤسسات الدينية يمكنها أن تزدهر فقط إلى الحد الذي تمتلك عنده لاهوتًا يمكنه أن يُسرِّيَ عن الأرواح ويشجع على التضحية.»6
رابعًا: دحض الباحثون الاعتقاد الشائع بأن المجتمعات الحضرية أقل تديُّنًا من نظيرتها في الحياة الريفية. وفي تفنيدهما لأكذوبة الوعَّاظ بأن حياة المدينة «شريرة وعلمانية»، يقدِّم فينكي وستارك أدلةً على أن معدلات التردد على الكنيسة أعلى في المدن منها في المناطق الريفية.7

بإيجاز، يمكننا أن نرى أن مبادئ علم الاقتصاد عامة وشاملة؛ فالحوافز والمنافسة والجودة والاختيار لا تنطبق فقط على العالم المادي، ولكن أيضًا على المجال الروحاني. وربما يمكن إرساء السلام والرخاء في الشرق الأوسط بتطبيق مبادئ المنافسة والاختيار والأسواق الحرة في مجال الأعمال وفي الدِّين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤