الفصل الثامن

كيف حلَّ القطاع الخاص أزمته مع المعاشات

من بين جميع المؤسسات الاجتماعية، تُعتبر الشركة هي المؤسسة الوحيدة التي أُنشئت من أجل الهدف الصريح الخاص بإحداث التغيير وإدارته … فالحكومة مدير سيئ.

بيتر إف دراكر1

في خِضم النقاش الدائر حول خصخصة الضمان الاجتماعي، أغفلت قصة، وهي أن قطاع الأعمال الخاص في الولايات المتحدة قد واجه بالفعل مشكلة تمويل المعاشات ونجح في حلها.

إليك ما حدث. بعد الحرب العالمية الثانية، أضافت الشركات الأمريكية الكبرى خطط معاشاتٍ سخية لبرامج استحقاقات موظفيها لتوفير الضرائب. كانت هذه الخطط «محددة الاستحقاقات» تُحاكي إلى حدٍّ كبيرٍ خطة الضمان الاجتماعي للحكومة الفيدرالية؛ فكانت الشركات تدفع قدر ما يدفعه الموظفون من اشتراكات، وكانت الأموال تُجمَّع في صندوقٍ استثماريٍّ كبيرٍ يديره مسئولو الشركة، ويخصَّص دخل تقاعدي شهري لجميع الموظفين حين يتقاعدون عند بلوغ سن ٦٥ عامًا.

كان خبير الإدارة بيتر إف دراكر واحدًا من أوائل الحالمين الذين أدركوا تأثير هذه الثورة غير المنظورة، التي أطلق عليها «اشتراكية صندوق المعاشات»؛ نظرًا لأن هذا النظام الشبيه بالضمان الاجتماعي الخاص بالشركات كان يستولي على حصةٍ متناميةٍ من رأس المال الاستثماري في الولايات المتحدة.2 وقدَّر دراكر أنه بحلول مطلع تسعينيات القرن العشرين، سوف يكون ٥٠ بالمائة من إجمالي الأسهم والسندات تحت إدارة مديري صناديق المعاشات.

ولكن دراكر (الذي لا يَغفل الكثير) عجز عن التنبؤ بوقوع ثورةٍ جديدةٍ في معاشات الشركات؛ أي ذلك التحوُّل السريع نحو خطط الاشتراكات الفردية المحددة؛ خاصةً خطط التقاعد؛ فقد أدرك المديرون التنفيذيون للشركات وجودَ صعوباتٍ خطيرةٍ تتعلق بخططهم التقليدية المحددة الاستحقاقات، وهي نفس المشكلة التي يواجهها الضمان الاجتماعي اليوم. وواجهت الشركات ديونًا عائمةً ضخمةً مع امتداد أعمار المتقاعدين واستثمار المديرين بشكلٍ بالغ التحفظ في السندات الحكومية وأسهم الاقتصاد القديم أو أسهم الشركات الممتازة. كذلك كان الكثير من الموظفين الجدد يغضبون حين ينتقلون لوظائفَ أخرى أو يتم تسريحهم ولا يكون لديهم عدد السنوات المطلوب للحصول على استحقاقاتٍ من خطة التقاعد الخاصة بالشركة. فعلى عكس الضمان الاجتماعي، لم تكن معظم خطط الشركات قابلة للتحويل. وقد فرض قانون ضمان دخل التقاعد للموظف لوائح على هذا القطاع في محاولةٍ لحماية حقوق التقاعد، ولكن المشكلات، والبيروقراطية، والدعاوى القضائية ازدادت خلال عصرٍ ساد فيه خفض أعداد الموظفين، والتنقُّل بين الوظائف، وزيادة متوسط العمر.

الحل الجديد: خطط التقاعد الفردية

كان الحل الجديد للشركات ناتجًا فرعيًّا عن ابتكارٍ تشريعيٍّ آخر؛ حساب التقاعد الفردي. فسرعان ما أصبحت خطط ٤٠١ (كيه) هي الاختيارَ المفضَّلَ لدى الشركات فيما يتعلَّق بخطط التقاعد، دون وجود إمكانيةٍ للتراجع. وهذه الخطط المحددة الاشتراكات من شأنها حلُّ جميع المشكلات والأزمات التي تواجهها خطط الشركات التقليدية المحددة الاستحقاقات؛ فَتَحْتَ مظلة خطط ٤٠١ (كيه)، يتحكم الموظفون، وليس مسئولو الشركات، في استثماراتهم عن طريق اختيار مجموعةٍ من الصناديق المشتركة التي لا تتقاضى رسومَ مبيعات. ولم تَعُدِ الشركات تواجه ديونًا عائمةً لعدم وجود استحقاقٍ متوقَّعٍ مضمون. وصار لدى العاملين والمسئولين التنفيذيين الحريةُ الكاملةُ للتنقُّل بين الوظائف؛ إذ يمكنهم نقلُ مدخراتهم في خطة ٤٠١ (كيه) إلى عملٍ جديدٍ أو ترحيلها إلى حساب تقاعدٍ فردي.

fig5
شكل ٨-١: الانخفاض في الخطط المحددة الاستحقاقات؛ الزيادة في الخطط المحددة الاشتراكات. (http://www.epinet.org/Issueguides/retire/charts/dbdc–600.gif.)
وفقًا لإحصائياتٍ حديثةٍ لوزارة العمل الأمريكية، فإن أحدث نظم التقاعد الخاصة بالشركات جميعها تقريبًا خطط محددة الاشتراكات، وليست خططًا محددة الاستحقاقات (انظر الشكل ٨-١). وجميع الشركات الكبرى المدرجة على قائمة فورتشن ٥٠٠ تقريبًا تحوَّلتْ إلى الخطط المحددة الاشتراكات أو خطط «الرصيد النقدي» المهجنة. وتضم الشركات التي لا تزال تعتمد الخطط القديمة جنرال موتورز، وبروكتر آند جامبل، ودلتا إيرلاينز، وشركة نيويورك تايمز. أما شركة آي بي إم، التي كانت في وقتٍ ما شركةً تضمن التوظيف الدائم مدى الحياة، فقد تحوَّلت إلى خطةٍ للرصيد النقدي في أواخر تسعينيات القرن الماضي، مانحةً موظفيها البالغ عددهم ١٠٠ ألف موظفٍ حساباتِ تقاعدٍ فرديةً يمكنهم أخذها معهم كمبلغٍ إجماليٍّ إذا غادروا الشركة قبل التقاعد. في الوقت ذاته، لا يزال العاملون الذين مرَّت عليهم فترة طويلة في الشركة مستحقين لخطة آي بي إم المحددة الاستحقاقات القديمة. ولكن جميع شركات «الاقتصاد الجديد» تقريبًا، مثل مايكروسوفت، وإيه أو إل، وهوم ديبوت، لا تقدم سوى خطط ٤٠١ (كيه) فقط.

لماذا يحتاج الضمان الاجتماعي إلى إصلاح

بإمكان الكونجرس معرفة الكثير من خلال دراسة التغييرات التي قامت بها الشركات في أمريكا من أجل إصلاح صناديق المعاشات. في الواقع، الضمان الاجتماعي في موقفٍ أسوأَ مما كانت عليه معظم خطط الشركات. وبما أن أقل من ربع إجمالي الاشتراكات يذهب إلى صندوق ائتمان الضمان الاجتماعي، فإن البرنامج الحكومي أقرب لأن يكون نظامًا لدفع الاستحقاقات أولًا بأول من أن يكون خطةً محددة الاستحقاقات. ونتيجةً لذلك، سوف تتجاوز الديون العائمة، أو عجز ضريبة الرواتب، ٢٠ تريليون دولارٍ على مدى اﻟ ٧٥ عامًا القادمة. ومن أجل سداد مستحقات هذا العدد الكبير من المستحقين الحاليين، كان على الكونجرس رفع الضرائب مرارًا إلى أن وصلت نسبتها إلى ١٢٫٤ بالمائة من الأجور، وهي نسبة مرهقة، وسوف تكون هناك حاجة إلى رفع ضرائب الرواتب بنسبة ٥٠ بالمائة أخرى بحلول عام ٢٠١٥ لسد العجز المتزايد.3 قليل من خطط الشركات يتطلب مثل هذه المستويات العالية من الاشتراكات.
يُضاف إلى ذلك سوء إدارة الصندوق الائتماني للضمان الاجتماعي، حتى إن الخبراء يشيرون إلى أن العائد السنوي على الضمان الاجتماعي يبلغ ٣٫٥ بالمائة بالنسبة إلى الأزواج ذوي الدخل الواحد، و١٫٨ بالمائة فقط للأزواج مزدوجي الدخل ودافعي الضرائب غير المتزوجين.4
لا شك أن تحويل الضمان الاجتماعي إلى حساباتِ استثمارٍ فرديةٍ لن يكون خطوةً في الاتجاه الصحيح فحسب، بل سيتوافق مع ما تفعله تشيلي و٣٠ دولة أخرى بخطط التقاعد الحكومية لديها. ولسوء الحظ، لا تميل الحكومة — على عكس الشركات الخاصة — إلى التجديد والابتكار. وكما يشير دراكر: «بإمكان الحكومة أن تكتسب حجمًا أكبر وثقلًا أعظم، ولكن لا يمكنها أن تكتسب قوةً أو ذكاءً.»5

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤