الفصل الثاني

بداية علم البيئة

لطالما انجذب الناس — على مَرِّ التاريخ — إلى آليات عمل الطبيعة، واعتمدوا على ثقافةٍ ثَرية من التاريخ الطبيعي الوصفي للارتباط بالبيئة من حولهم. ووصفَ تشارلز إلتون، أحد أبرز علماء البيئة في العصر الحديث، علمَ البيئة بأنه «اسم جديد لموضوعٍ قديم جدًّا. إنه يعني ببساطةٍ التاريخَ الطبيعي العلمي.» ويُمكن تمييز بعض المفاهيم الإيكولوجية الأساسية في الكتابات التي تتناول التاريخ الطبيعي، والتي تعود إلى العصر الكلاسيكي. وقد كان تطوُّر العلوم البيئية من هذه البدايات في الغالب نتاجًا للتطورات المفاهيمية التي خَلقت على مدار القرن الماضي تخصُّصًا معرفيًّا ثَريًّا بالتعقيدات التقنية والرياضية. ولكن تظلُّ العمليات والنتائج التي يُعنى بها علم البيئة متاحةً ومفهومة لأي راصد فطِن، يدعمها إطار من التاريخ الطبيعي يمزج بين الرؤى الثاقبة والانبهار.

علم البيئة الكلاسيكي

يُقال إن هيرودوت، الذي توفي نحو عام ٤٢٥ قبل الميلاد، هو أبو التاريخ، ولكنه كان مؤرِّخًا طبيعيًّا شَغوفًا أيضًا. فقد لاحظ هيرودوت كيف تَسمح تماسيح النيل للطيور بأن تقتات العوالق الطُّفَيلية من داخل فُكُوكها المفتوحة دون تضرُّر، في تفاعلٍ نافع لكِلا النوعَين نُطلق عليه الآن التكافل التبادلي. وفيما بعد، نحو عام ٣٨٠ قبل الميلاد، انتقد أفلاطون فقدان الغابات وما ترتَّب عليه من تآكُل التربة في منطقة أتيكا، مما أضفى جانبًا بيئيًّا على العمليات البيئية. لم يذهب هيرودوت أو أفلاطون بعيدًا إلى حدِّ تطوير فلسفة بيئية، وإنما ضربت مشاهداتهما بجذورها في التاريخ الطبيعي بقوة.

تعود أصول أولى الانتفاضات الحقيقية للفكر الإيكولوجي، في أوروبا على الأقل، إلى ثيوفراستوس، أحد تلاميذ أرسطو. بل إن أرسطو نَفْسه أدلى بتصريحاتٍ كانت بمنزلة تمهيد لظهور علم البيئة، يعترف فيها بالعلاقة بين الحيوانات وبيئاتها، على نَفْس نهج المشاهدات الأولى لهيرودوت وأفلاطون. من ناحية أخرى، طوَّر ثيوفراستوس تفسيرًا إيكولوجيًّا أكثر استيفاءً وشمولًا للنباتات في كتابَيه «تاريخ النبات» و«أحوال النبات». شمل تناول ثيوفراستوس لطبيعة النباتات ثلاثة جوانب. تمثل الجانب الأول في الطبيعة الجوهرية للنباتات، التي ربما نُشير إليها اليومَ بسِماتها التي تتحدَّد وفقًا لجيناتها. والجانب الثاني هو طبيعة البيئة التي يُوجَد النبات داخلها، والتي ربما تكون مواتية أو غير مواتية بالنسبة إلى النبات بالنظر إلى سِماته. أما الجانب الثالث فهو العامل الإنساني، الذي ربما يُشكِّل النباتات بمعزلٍ عن سِماتها الجوهرية أو بيئتها. وعلى عكس الفلاسفة الأوائل، زعم ثيوفراستوس أن الهدف من هذه الكائنات الحية هو إنتاج بذور تؤدي إلى استمرار بقائها، وليس هدفها توفير الغذاء أو الوقود أو أي منافع أخرى للبشر.

لاحظ ثيوفراستوس أن النباتات لا تزدهر إلا في الأماكن المناسبة لسماتها الجوهرية. وهذا يوافق المفهوم الإيكولوجي الحديث الخاص ﺑ «المكمن البيئي». وتعرَّف على النباتات التي تكيَّفَت مع مختلف الظروف كالجفاف والرطوبة والملوحة ونوع التربة. ويخضع ازدهار أنواع النباتات المختلفة إلى التفاعلات بين البيئة والخصائص المُتأصِّلة في النباتات. ولاحظ أن بعض النباتات تنمو في نطاقٍ ضيِّق من الظروف المواتية، وتحظى بتوزيعات ضيِّقة. وبعض الأشجار فقط قادرة على النموِّ في الجبال، ولكن ثيوفراستوس أدرك أيضًا أنه حتى داخل الجبال يكون هناك تبايُن في تصنيف الأنواع وتكوينها، حسب الظروف المكانية.

تُنسَب إحدى المقاربات الأولى لمفهوم التنافُس بين الأنواع إلى ثيوفراستوس أيضًا. فقد أشار إلى أن الأشجار التي ينمو بعضها بالقُرب من بعض تتنافس على الماء والضوء ومن ثَم تصير طويلةً وهزيلة، بينما الأشجار الموجودة في ظروفٍ أكثر انفتاحًا ليست كذلك. فبعض الأشجار، مثل شجر اللوز، تكون مثل «جار السوء»، بقَمعها نمو الأشجار الأخرى. وعلى خُطى هيرودوت، أدرك ثيوفراستوس التفاعُلات ذات النفع المتبادل، واصفًا كيف يقوم طائر أبو زريق بدفن ثمَر الجوز التي تنبت فيما بعد، وكيف تنشر الطيور بذور الدبق. وعلى غِرار أفلاطون، استنكر ثيوفراستوس التدهور البيئي بسبب الإفراط في استغلال الأراضي والغابات. وذهب إلى أن الصرف الصحي وإزالة الغابات تسبَّبَا في تبريد المناخات المحلية وبوار التربة، ودعا إلى إدارة الأراضي من خلال الحد من قطع الأشجار الخشبية.

يختلف علم البيئة الذي تحدَّث عنه ثيوفراستوس، عن علم البيئة الحديث، في افتقاره إلى أي مفهوم لشبكة التفاعلات بين الكائنات الحية داخل مجتمع معقَّد. كما أنه لم يضع في الاعتبار نمو الجماعة وتراجُع أعدادها، وهو ما يُثير الدهشة، لا سيَّما أن أرسطو قد وصف في وقتٍ سابق النمو السريع لجماعات القوارض ثم اضمحلالها. ولعلَّ السبب في ذلك يرجع إلى أن ثيوفراستوس كان مهتمًّا بالأساس بالنباتات. غير أنه لم يكُن لديه ما يقوله عن التطور التعاقُبي للمجتمعات النباتية (أو التعاقُب الطبيعي باستخدام اللغة الاصطلاحية الحديثة لعلم البيئة). إلا أن الإسهاب في الحديث عن سهواته من شأنه أن يكون قاسيًا، لا سيَّما أنه لم يطرأ أي تقدُّم على أفكاره لمدة ألفَي عام أخرى.

كان الإرث الأهم لثيوفراستوس هو ما نسبَه إلى النباتات من «غاية» مستقلة عن البشر. وكان ثابتًا على مبدئه في وصف الطبيعة باعتبارها علاقةً بين الكائنات الحية وبيئتها. وبصرف النظر عن إعطائنا أول نصٍّ إيكولوجي نُعوِّل عليه، يمكننا على نحوٍ مشروع أن ننسب إلى ثيوفراستوس كلمة ecology باللغة الإنجليزية. فاستخدامه للكلمة اليونانية oikeios، وهي صيغة الصفة من كلمة oikos (وتعني منزلًا)، قدم لنا الجذر للكلمة الإنجليزية التي صاغها إرنست هيكل في القرن التاسع عشر، الذي كان على دراية بأعمال ثيوفراستوس بالتأكيد؛ نظرًا لشغفه بالاطلاع على الأدبيات الكلاسيكية.

عِلم البيئة المنهجي

في القرون التي تَلَت عصر ثيوفراستوس، يصعب استخلاص قَدْر كبير من المعلومات عن الطريقة التي استُنبط بها مجال علم البيئة من الرصد والملاحظة. بل إن التاريخ الطبيعي، حسب معلوماتنا، قد أضحى متشابكًا مع الخُرافات. وأخيرًا، في القرن السابع عشر، نحَّى جون راي الخُرافات والأساطير جانبًا ليستغلَّ قُدرته القوية على الملاحظة لشرح آلية عمل الطبيعة. وذكر كتاب راي بعنوان «دليل النباتات النامية حول كمبريدج»، المنشور عام ١٦٦٠، الموائل (الأماكن الطبيعية التي تعيش فيها الأنواع) الخاصة ﺑ ٥٥٨ نوعًا من أنواع النباتات، بما فيها المستنقعات والغابات والمروج وضفاف الأنهار، وشمل ملاحظات عن خصائصها البيولوجية. وأوضح كيف أنَّ حلقات النمو في شجر المُرَّان (فراكسينوس إكسلسيور) ذات صلةٍ بعمر الشجرة، وكيف يتأثر نمو شجر الدردار (أولموس بروسيرا) بالرياح السائدة. وتوصل على نحوٍ صحيح إلى وجود صلةٍ بين نبات كرنب رابا (براسيكا رابا) ونبات اللفت البري (براسيكا نابوس)، ويعزو هذا إلى وجود نوع من اليرقات لا يفرِّق بين هذين النوعَين من النبات اللذَين تتغذَّى عليهما في حين أنها «ترفض» الكثير غيرها. وشملت أعمال راي اللاحقة دراساتٍ عن الطيور والأسماك والحشرات. وعلى الرغم من أن كتاباته ليست إيكولوجية بحتة بالمعنى الحديث للكلمة؛ أي إنها ليست جزءًا من إطارٍ نظري شامل، فقد قدمت بالفعل أساسًا متينًا للتاريخ الطبيعي يستنِد إلى الملاحظة المباشرة والاستدلال.

أثرت أعمال جون راي مباشرةً على كارل لينيوس، الذي قدَّم كتابه بعنوان «نظام الطبيعة» (عام ١٧٣٥) نظام التسمية المُكون من جزأَين لجميع الكائنات الحية الذي نَستخدمه حتى اليوم. يقوم هذا النظام على تصنيف الأنواع إلى جنس ونوع، ويُسمِّيها وفقًا لذلك. على سبيل المثال، يوجَد ثلاثة عشر نوعًا من الدبابير الانعزالية قدَّر علماء التصنيف أنها متشابهة بالدرجة الكافية لتُصنَّف ضمن جنس «ميلينوس». وأحد هذه الأنواع، والذي أطلق عليه لينيوس «ميلينوس أرفينسيس»، موجود في المملكة المتحدة على نطاقٍ واسع ولكنه معروف ومُثبت تواجُده في أماكن بعيدة تصل إلى نيبال؛ حيث يُوجَد هناك أيضًا. يُسمِّي نظام التصنيف العالمي الخاص بلينيوس الأنواع تسميةً واضحة لا لَبْس فيها، مما يسمح بإجراء دراسة دقيقة على الأنواع وتفاعُلاتها وتوزيعاتها.

ثمَّة إنجاز بارز خلال رحلة ظهور علم البيئة تركَه «عالِم الطبيعة — الكاهن» جيلبرت وايت، وكتابه «التاريخ الطبيعي وآثار سيلبورن» (١٧٨٩). والكتاب عبارة عن مجموعة من الخطابات، يزعم أنها موجهة إلى علماء طبيعة آخَرين ولكنها لم تُرسل إليهم مطلقًا، تشمل ملاحظات عن التاريخ الطبيعي للنباتات والحيوانات في مقر كهنة سيلبورن بجنوب إنجلترا. كانت مشاهدات جيلبرت وايت دقيقة وتفصيلية، والأهم من ذلك، أنها أُجرِيَت داخل الطبيعة نَفْسها. استطاع وايت تمييز ثلاثة طيور شِبه مُتماثلة، وهي الشفشافة وهازجة الصفصاف ونقشارة الشجر، وتحدَّدت بوصفها ثلاثة أنواع بناءً على تغريداتها المختلفة. ويشمل كتابه «التاريخ الطبيعي» مئات الملاحظات عن تواريخ الظهور المَوسمي للطيور المهاجرة، التي تُقدِّم خطَّ أساس قيِّمًا للمقارنة بينه وبين تزايُد حالات الظهور المُبكِّر للطيور المهاجرة في ظِل الاحتباس الحراري الحالي. ولاحظ وايت وجود اعتمادٍ متبادل بين الكائنات الحية كان يدعم بقاء العالَم الطبيعي، ورصده في بلدة سلبورن. ووصف العمليات البيئية مثل التلقيح ونثر البذور، وأشار إلى أهمية ديدان الأرض باعتبارها «حلقة صغيرة وتافهة في سلسلة الطبيعة، ولكنها، إذا فُقدت، ستُخلِّف فجوة مؤسِفة.»

الصورة الطبيعية عند هومبولت

لم يكُن الكُتيِّب الجامع الذي ألَّفَه راي، أو نظام التصنيف الذي وضعه لينيوس، أو «الخطابات» المُجمعة التي كتبها وايت أعمالًا حقيقية لعلم البيئة بالمعنى الحديث للكلمة. لا شك أن مشاهداتهم وملاحظاتهم فسَّرت العالم الطبيعي بوضوح مُجدِّد، ولكنها ظلَّت بعيدة كلَّ البُعد عن السعي وراء تفسيرٍ سببي للعمليات والأنماط، يسترشد بالمبادئ النظرية. كان ظهور الرحلات الاستكشافية العلمية العالمية في أواخر القرن الثامن عشر هو ما أَذِن بميلاد علم البيئة. فقد تقدمت العلوم الغربية من خلال الرحلات الكثيرة — التي خصتها الدولة برعايتها — إلى مناطق نائية حول العالم (وهي عادةً غزو استعماري مُتستِّر وراء قناع الرحلات الاستكشافية)، بالإضافة إلى رحلات المُستكشفين الفرديين المُغامرين حدَّ الإبهار، وذلك من خلال جمع العَيِّنات والملاحظات والأفكار. وفي أوروبا، بدأت أُسُس علم البيئة، بوصفه علمًا منفصلًا عن التاريخ الطبيعي، تتشكَّل عندما اختلط المغامرون العائدون من رحلاتهم بأصحاب النظريات الجالسين في مكاتبهم، أو صاروا هم أنفسهم أصحاب نظريات.

كان ألكسندر فون هومبولت من أوائل مَن قيَّموا العلاقة بين الكائنات الحية وبيئتها في علم جغرافيا النباتات الذي تخصَّص فيه. ووصف كتابه «مقال عن جغرافيا النباتات»، المنشور عام ١٨٠٧، توزيع الحيوانات والنباتات حسب الظروف الطبيعية الخاصة بدرجات الحرارة والارتفاع والرطوبة والضغط الجوي. وفي نهاية هذا الكتاب تُوجَد مطوية كبيرة ﻟ «صورة طبيعية لجبال الأنديز والدول المجاورة» تُجسد توزيعات الأنواع عَبْر قطاعٍ من أمريكا الجنوبية يمتدُّ من سهول ساحل المحيط الهادئ، مرورًا بسلسلة جبال الأنديز (وخاصة بركان تشيمبورازو)، وصولًا إلى حافة حوض الأمازون (شكل ٢-١). وبهذه «الصورة الطبيعية»، رسَّخ هومبولت لفكرة أن أنواع النباتات المختلفة تحتلُّ مناطق مناخية متميزة. وحينئذٍ صار بالإمكان دراسة أنماط توزيعات النباتات وفهمها في ضوء الظروف الجيوفيزيائية الحيوية.
fig2
شكل ٢-١: كانت الصورة الطبيعية، التي وضعها هومبولت لجبال الأنديز والدول المجاورة (نعرض هنا النسخة الألمانية) والمنشورة في كتاب «مقال عن جغرافيا النباتات»، ١٨٠٧، أول وصف واقعي لأنماط توزيعات الأنواع حسب السمات البيوفيزيائية لجغرافيا المكان.

استلهم تشارلز داروين علم هومبولت وحسَّ المغامرة لدَيه، إلا أن الجيولوجي تشارلز لايل عرَّف داروين الشاب على الصراع الذي يكمُن في صميم فكر داروين التطوري. قدَّم تشارلز لايل الجسر الفكري العابر من هومبولت إلى داروين من خلال تقديم رؤية للطبيعة مثَّلت تناقضًا ملحوظًا لبلدة سلبورن المألوفة لجيلبرت وايت، أو «الصورة الطبيعية» الثابتة لهومبولت. ففي المجلد الثاني من كتاب «مبادئ الجيولوجيا» (١٨٣٢)، أكَّد لايل انتشار الافتراس والمنافسة، و«الصراع من أجل البقاء»، بين الكائنات الحية؛ حتى «أحقر وأصغر الأنواع، سواء في المملكة الحيوانية أم المملكة النباتية، فتَكَ كلٌّ منها بالآلاف من بَنِي جنسه.» واستلهم لايل نفسه أعمال أوجستان دي كاندول الذي كتب في عام ١٨٢٠ يقول: «جميع النباتات في أي بلد، وفي مكانٍ بعينه، في حالة حرب». ووصف الشاعر الإنجليزي ألفريد تينيسون هذه الرؤية الخاصة بالطبيعة في بيت شعري (من قصيدة بعنوان «للذكرى»، عام ١٨٥٠) يقول فيه: «حمراء الناب والمخلب». تنبأت نظريات ورؤى لايل الثاقبة في مجال علم البيئة، التي غفل عنها علماء البيئة المُعاصرون إلى حدٍّ كبير، بعددٍ من القضايا التي تحظى بالاهتمام حاليًّا في أبحاث علم البيئة، بما في ذلك الشلالات الغذائية الإيكولوجية المُتشعبة عَبْر المجتمعات البيولوجية.

كذلك تأثَّرَ داروين كثيرًا بكتابات مالتوس (١٧٩٨) عن النمو السكاني لدى البشر. فقد افترض مالتوس أن النمو المُتسارع للسكان من شأنه أن يستنفد الموارد سريعًا، الأمر الذي من شأنه أن يُثير المنافسة بين الأفراد وهي الفكرة الكامنة في صميم نظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي.

المجتمعات الإيكولوجية

بدأ التعرُّف على النباتات والحيوانات بوصفها تنتمي إلى مجتمعاتٍ متمايزة. ففي عام ١٨٢٥، أشار عالِم الطبيعة أودولف دورو دي لا مال (١٧٧٧-١٨٥٧) إلى مجتمعات أنواع النباتات المُتزامنة بكلمة societé؛ أي «المجتمع» باللغة الفرنسية. وعلى نطاقات جغرافية واسعة، أدرك أوجستان دي كاندول في كتابه الضخم وغير المكتمِل «التاريخ الطبيعي للمملكة النباتية» أن النباتات لها مناطق جغرافية مُعيَّنة، أرجعها إلى درجة الحرارة. واستغلَّ فلاديمير كوبن هذه الفكرة في تصنيفه المناخي، الذي ربط بوضوحٍ بين سقوط الأمطار الموسمية وأنماط درجات الحرارة وبين التكوينات النباتية مثل الغابات الاستوائية المطيرة.

وفي عام ١٨٧٧، وصف كارل موبيوس التفاعُلات التفصيلية بين مختلف الكائنات الحية في مَربَى للمَحار بخليج كيل، فيما أطلق عليه مصطلح «الجماعة الحيوية»، وتعني تجمُّع النباتات والحيوانات وتفاعلاتها في مكانٍ وتوقيت مُعيَّن. وأدرك إرنست هِيكِل، بعدما استوعب رسالة داروين الأساسية، ضرورة دراسة الشبكة المُتداخلة من الروابط بين الكائنات الحية والبيئات الطبيعية والأحيائية إذا أردْنا تقييم السِّمات التي تقف وراء نجاح هذه الكائنات. وفي عام ١٨٦٦، افترض هِيكِل تخصُّصَين فرعيَّين لعلم التطور — وهما علم البيئة وعلم الجغرافيا الحيوية — الذي أَطلق عليه «علم توزيع الكائنات الحية» (كورولوجي). ففي محاضرته الافتتاحية بجامعة يينَّا في عام ١٨٦٩، قدَّم هِيكِل تعريفًا بليغًا لعلم البيئة مدمجًا داخل الفكر التطوري يقول فيه: «نقصد بعلم البيئة مجموعة المعارف المُتعلِّقة باقتصاد الطبيعة؛ أي التحقيق في العلاقات الكلية للحيوانات بكلٍّ من بيئتها غير العضوية والعضوية … باختصار: علم البيئة هو دراسة كل هذه العلاقات المتداخِلة المعقَّدة التي أشار إليها داروين باعتبارها ظروفًا وعوامل مؤثرة على الصراع من أجل البقاء.» مرَّ عقدان آخَران من الزمن قبل أن يصير مصطلح «علم البيئة» (الإيكولوجيا) قَيْد الاستخدام. وجاء الظهور الأول للمصطلح كعنوان كتاب في عام ١٨٨٥، وذلك في كتاب هانس رايتر الذي نُشر تحت عنوان: «دراسة لتركيبة فسيولوجية لفَهْم إيكولوجيا النباتات».

ظلَّ عِلم البيئة وصفيًّا إلى حدٍّ كبير إلى أن بدأ يُوجين وارمنج يدرس كيفية تأثير العوامل اللاأحيائية، مثل الجفاف والفيضانات والنار والملح والبرد، وكذلك الحيوانات العاشبة، على تركيب المُجتمعات الأحيائية. ومن خلال دراسة مورفولوجيا النبات، بدأ وارمنج يُفسِّر كيف تكيَّفَت الأنواع مع الظروف البيئية التي وُجِدت فيها، والسبب وراء أن الأنواع التي لا تربط بينها أي صلة وشغلت موائل ذات ظروف لا أحيائية مشابهة تتَّسِم عادةً بالسمات نفسها. واستمدَّ ملاحظاته على نطاقٍ واسع، من موطنه بالدنمارك وصولًا إلى شمال النرويج وجرينلاند، ومن منطقة سيرادو البرازيلية. كان لكتاب وارمنج المنشور عام ١٨٩٥ باللغة الدنماركية بعنوان «المجتمعات النباتية: السمات الأساسية لجغرافيا النباتات الإيكولوجية» (والذي تُرجِم إلى اللغة الإنجليزية عام ١٩٠٩ تحت عنوان «إيكولوجيا النباتات») تأثيرٌ عميق على علماء بيئة لاحِقِين من بريطانيا وأمريكا الشمالية، من بينهم آرثر تانسلي وهنري كاولز وفريدريك كليمنتس. تأثر العالِم الأمريكي هنري كاولز بمحاضرات مستندة إلى كتاب وارمنج، لدرجة أنه علَّم نَفْسه اللغة الدنماركية ليقرأ الكتاب بنصِّه الأصلي قبل أن تُتاح ترجمته. واشتُهر كاولز فيما بعد ببحثه (المنشور عام ١٩١١) عن التطور التعاقُبي للمجتمعات الإيكولوجية (التعاقب البيئي) في أنظمة الكثبان الرملية بشمال إنديانا. واعترف كاولز بالأبحاث السابقة لأودولف دورو دي لا مال ذات الصلة، وكذلك أبحاث عالِم النباتات الفنلندي راجنار هولت الذي نشر أول دراسةٍ شاملة لمفهوم التعاقُب البيئي عام ١٨٨١، مُعترفًا بأن الأنواع النباتية البدائية المستوطنة تُكوِّن مجتمعًا نباتيًّا «أصليًّا»، يحلُّ محلَّه تدريجيًّا عدد أصغر من الأنواع في مُجتمعات أكثر استقرارًا.

وفي النصف الأول من القرن العشرين، هيمنت نظرية الذروة التي وضعها كليمنتس، عن تطور المجتمع النباتي، على الفكر الإيكولوجي. واستنادًا إلى ملاحظاته عن نباتات البراري في نبراسكا وغرب الولايات المتحدة، قدَّم كليمنتس فكرة «التعاقب»، التي تتطوَّر فيها المجتمعات النباتية في سلسلةٍ من المراحل الاتجاهية القابلة للتنبؤ، وصولًا إلى «حالة الذروة» المستقرة الأنسب للظروف المحلية. وفي كتابه «تعاقُب النبات» (عام ١٩١٦)، ذهب كليمنتس إلى أن ثمَّة مجموعاتٍ مُعيَّنة من الأنواع النباتية ارتبطت دومًا بعضها ببعض. فقد اعتمدت الأنواع على المجموعة، واعتمدت المجموعة على الأنواع المكوِّنة لها، بنفس الطريقة التي يعتمد بها الحيوان على أعضائه اعتمادًا متبادلًا. تعرض منهج كليمنتس القائم على اعتبار المجتمع وحدة مستقلة لانتقادٍ من جانب هنري جليسون الذي اعتبر النباتات مجموعةً متصلة، وليست وحدةً منفردة، ذات تجمُّعات تصادفية لا أكثر. وبذا، أعطى «مفهومه الفرداني لعلم البيئة» وزنًا أكبر بكثيرٍ لسمات الأنواع الفردية كونها المُحدِّدات الرئيسة لبِنية المجتمع؛ إذ إن التجمُّعات النباتية أقل تحديدًا وتنظيمًا مما تفرضه نظرية كليمنتس.

بينما أصبحت الآراء والنظريات الفردانية تُهيمن على علم البيئة الحديث، تظلُّ التصنيفات الوصفية للتجمُّعات النباتية ذات فائدة. وأصبح وضع خريطة لأنواع النباتات عَبْر بريطانيا العُظمى، وهي الفكرة التي أيَّدَها آرثر تانسلي بين علماء آخَرين، غاية مهمة للدراسات الإيكولوجية في النصف الأول من القرن العشرين. وهو ما قاد في النهاية إلى التصنيف الحالي البريطاني الوطني للنباتات، وهو وصف وتصنيف شامل ﻟ ٢٨٦ مجتمعًا نباتيًّا عَبْر ١٢ نوعًا نباتيًّا رئيسًا، يتنوَّع ما بين الغابات، وصولًا إلى الأراضي العُشبية والأراضي الرطبة والمجتمعات الساحلية والمروج. ويُقدِّم التصنيف البريطاني الوطني للنباتات معيارًا مقبولًا على نطاقٍ واسع لفهم التجمُّعات النباتية عَبْر بريطانيا العظمى، ويحظى باعتراف الوكالات المعنية بإدارة الغابات والحفاظ على البيئة والوكالات الزراعية، وكذلك المنظمات الحكومية والشركات. وقد طُوِّرت الآن أنظمة لتصنيف النباتات الوطنية من جانب دولٍ كثيرة لتوفِّر أساسًا للدراسات البيئية ودراسات التنوُّع الحيوي، وتقييمات الحفاظ على البيئة، والتخطيط لإدارة النظام الإيكولوجي، وأعمال الترميم البيئي. وعلى الرغم من التعقيد المتأصِّل وعامل الصدفة اللذَين يُشكِّلان أساسًا للمجتمعات البيئية، فإن هذه التصنيفات العملية تقدِّم لغةً مشتركة لتفسير وجود المجتمعات المختلفة في منطقة ما.

فكر الأنظمة

اقتداءً بكليمنتس وجليسون، ساهم آرثر تانسلي، كما يُزعَم، في عام ١٩٣٥ في التقدُّم المفاهيمي الجوهري التالي من أجل تطوير علم البيئة. فعلى أثر تحمُّسه لكتاب وارمينج، ترأَّس تانسلي اللجنة المركزية المَعنية بفحص الغطاء النباتي البريطاني ودراسته لتنسيق الدراسات الإيكولوجية عَبْر البلاد. وبدأت تعامُلات تانسلي مع علماء البيئة الأوروبيين والأمريكيين، وكان من ضمنهم كارل شرورتر من سويسرا، وهنري كاولز وفريدريك كليمنتس من أمريكا، في إرساء قواعد علم البيئة بوصفه فرعًا معرفيًّا دوليًّا. وكان الإسهام العظيم لتانسلي هو وضع مفهوم النظام الإيكولوجي. ففي بحثٍ شهير نُشر عام ١٩٣٥ عن المفاهيم النباتية، ذهب تانسلي إلى أنه لا ينبغي التعامُل مع الكائنات الحية بمعزل عن والبيئة، وإنما باعتبارهما «نظامًا طبيعيًّا واحدًا» أو «نظامًا بيئيًّا». أدمجت الأنظمة البيئية المجتمع الأحيائي بالبيئة الطبيعية لتشكيل «كيانات قائمة بذاتها يسهل التعرف عليها»، تُمثل الوحدات الأساسية للطبيعة، وفقًا لتانسلي. كان مفهوم كليمنتس عن المجتمع المُستقل للكائنات الحية — وفقًا لحسابات تانسلي — منقوصًا؛ نظرًا لعدم تضمين وسائل نقل الطاقة والمواد بين الكائنات الحية وبعضها وبين الكائنات الحية وبيئتها. تخطَّى تأثير تانسلي النطاق الإيكولوجي البريطاني إلى حدٍّ كبير جدًّا، ولكنه يحظى أيضًا بتقديرٍ كبير للغاية في المملكة المتحدة من خلال دوره في تأسيس الجمعية البيئية البريطانية في عام ١٩١٣ باعتبارها أول جمعيةٍ مهنية لعلماء البيئة. وكان تانسلي أول رئيس لها.

في البداية، اجتذب مفهوم النظام البيئي أو الإيكولوجي رواجًا ضئيلًا. فطوَّر ريموند ليندمان المفهوم من خلال تركيز الانتباه على تدفُّقات الطاقة عَبْر المستويات الغذائية أو أقسام الأنظمة الإيكولوجية. ولاحظ أن جزءًا صغيرًا فقط من الطاقة العضوية ينتقل من مستوًى غذائي إلى آخَر، مع فقدان نحو ٩٠ في المائة من الطاقة المُستهلَكة من خلال التنفُّس أو الهضم غير المُكتمل. ويفسر «قانون العشرة في المائة» هذا ملاحظة تشارلز إلتون الخاصة بانخفاض أعداد الكائنات الحية أو كُتلتها الحيوية عند المستويات الغذائية الأعلى. ومما لا شك فيه أن ليندمان كان سيُبلوِر هذه الأفكار بصورة أكبر لولا وفاته المبكرة عن عمر يُناهز ٢٧ عامًا فقط.

بدأ مفهوم النظام الإيكولوجي يجتذِب رواجًا وقبولًا أوسَع عندما ذهب بول ريتشاردز في عام ١٩٥٢ إلى أنه «من الأفضل اعتبار التربة والغطاء النباتي والحياة الحيوانية والمناخ والصخور الأم مُكوِّناتٍ لنظام واحد، ألَا وهو النظام الإيكولوجي.» كما اعترف علماء بيئة آخَرون مثل يوجين أودوم وروبرت ويتيكر بأن الأنظمة الإيكولوجية بمنزلة وحدات تنظيمية أساسية تشمل علاقات ترابُطية متبادلة وسلاسل غذائية وعمليات طبيعية ومسارات تنظيمية. وبدءوا يُفسِّرون الأنظمة الإيكولوجية من خلال سمات، مثل تدفُّقات الطاقة، والإنتاجية، والديناميات، وتغيُّر الأعداد، والاضطرابات التي تتجاوز مستوى الأفراد أو الأنواع. وبدأت الاستعانة بالنمذجة الرياضية لمُحاكاة الأنظمة الإيكولوجية، بينما تزايدت المعالجة التجريبية للأنظمة الإيكولوجية من أجل فَهْم العلاقات السببية الكامنة وراء عمليات النظام الإيكولوجي ونتائجها. وساعدت هذه المناهج في تحويل دفَّة علم البيئة من علمٍ وصفي بدرجة كبيرة إلى علمٍ تنبُّئِي أكثر.

علم البيئة الحيواني والمكمن البيئي عند إلتون

في حين أنَّ قدرًا كبيرًا من علم البيئة المُبكِّر قد نشأ من دراسة توزيعات الأنواع والمجتمعات النباتية وتجمعاتها، كان علم البيئة الحيواني يسلك مسارًا مختلفًا وموازيًا بعض الشيء. يدين علم البيئة الحيواني بتطوُّره المُبكِّر إلى تشارلز إلتون. غمر إلتون نفسه في التاريخ الطبيعي، مُستلهمًا ذلك من أخيه الأكبر جيفري. وعلى الأرجح لم تُتَح له دراسة قدرٍ كبير من التاريخ الطبيعي في مدينة مانشستر الصناعية، مسقط رأسه، في مطلع القرن العشرين؛ إلا أن جيفري وتشارلز كانا محظوظَين بالاستمتاع بالإجازات العائلية بمنطقة مالفيرن هيلز الريفية بمقاطعة ويستشير. حوَّل إلتون اهتماماته في مرحلة الطفولة إلى مسارٍ مِهني مُثمِر في مجال علم البيئة، مبتدئًا إيَّاه بمسحٍ لحيوانات جزيرة سبيتسبرجن في عام ١٩٢١. وأثناء رحلة العودة من بعثة استكشافية إلى القطب الشمالي في عام ١٩٢٣، قرأ إلتون كتاب عالِم الأحياء النرويجي روبرت كوليت «ثدييات النرويج»، الذي جاء فيه وصف للزيادات المهولة لجماعات حيوان اللاموس وعمليات هجرته وحالات الغرق الجماعي. ولاحظ إلتون أن التقلُّبات الحادة في أعداد الجماعات هي سِمة مُميزة للحيوانات في القطب الشمالي. وقد تعارَضَت هذه الفكرة مع الافتراض السائد بأن الجماعات تظلُّ في حالة توازن. علاوةً على ذلك، استطاع فَهْم السبب وراء تذبذُب أعداد الجماعات في الكشف عن الآليات التي تُنظم الجماعات. وفي عام ١٩٢٥، قامت شركة «هدسون باي» بتعيين إلتون للعمل على دراسة التذبذبات في أعداد أرانب حذاء الثلج البرية وحيوان الوشق الكندي؛ نظرًا لارتباط هذه الحيوانات بنشاط الشركة في جمع الفراء. وظلَّت دراساته عن تذبذُب أعداد جماعات الوشق الكندي والأرانب البرية منذ ذلك الحين عنصرًا أساسيًّا في المقرَّرات الجامعية الخاصة بعلم البيئة.

وضع كتاب إلتون بعنوان «علم البيئة الحيوانية» (١٩٢٧) أُسس هذا الفرع العلمي. وأوضح كيف أن عددًا قليلًا من المبادئ يتحكَّم في بِنية الجماعات والمجتمعات الحيوانية ووظيفتها. وشمل هذا ترتيبها في السلاسل الغذائية التي تتَّخِذ شكل «هرم الأعداد»؛ حيث تدعم الكتلة الحيوية الكبيرة من النباتات كتلةً حيوية أصغر من الحيوانات العاشبة، التي بدورها تدعم كتلًا أصغر من الحيوانات المفترسة (شكل ٢-٢).
fig3
شكل ٢-٢: الهرم الغذائي، مُمثلًا بانتقال الطاقة من النباتات، باعتبارها مُنتِجات أساسية، إلى الحيوانات العاشبة والحيوانات المفترسة. ينتقل نحو ١٠ في المائة من الطاقة المتاحة عند مستوًى ما إلى المستوى التالي، مما يُسفر عن تراجُع الأعداد الوفيرة أو الكتلة الحيوية عند المستويات الغذائية الأعلى.

قدَّم كتاب «علم البيئة الحيواني» مفهوم «المكمن البيئي»، واصفًا كيفية تكيُّف الحيوانات مع مُجتمعها والتقيُّد به، لا سيَّما فيما يتعلَّق بتوافُر الغذاء وتواجُد الحيوانات المفترسة. والمكمن في اللغة الدارجة أشبَه بمأوًى، مساحة صغيرة مُنزوية في مَبنًى أو في زاوية غرفة. والاستقرار في مكمن يوحي بشعور من الأمان والراحة. وقد استعان إلتون بهذا المُصطلح في علم البيئة، من خلال تطبيقه على الظروف والموارد الخاصة التي يتكيَّف وفقًا لها نوعٌ ما، وحيث يُمكن لهذا النوع أن ينمو ويتكاثر. ووصف تشارلز إلتون المكمن البيئي باعتباره نمط حياة لكائن حي «بالطريقة نفسها التي نتحدث بها عن الحِرف أو الوظائف أو المِهن في المجتمع البشري.»

أصرَّ إلتون على اعتبار علم البيئة علمًا ميدانيًّا، أو كما سمَّاه «تاريخ طبيعي علمي»؛ حيث تكشف المراقبة الدقيقة للحيوانات في موائِلها الطبيعية النقاب عن قوانين الطبيعة. فيمكن للملاحظات المدوَّنة عن تغذية أفراد الحيوانات أن تُفشي رؤًى بخصوص حجم الجماعة وبِنية المجتمع الحيواني داخل إطار مفاهيم مثل هرم الأعداد والمكمن البيئي. وقد قدم كتاب «علم البيئة الحيواني» هيكلًا تنظيميًّا لدراسة المجتمعات الحيوانية قُدِّر له أن يكون ذا تأثير مُستمر.

المنافسة والتعايش المشترك

في عام ١٨٨٩، أسَّسَت إيميلي ويليامسون الجمعية الملكية لحماية الطيور، بهدف التصدي لذبح الطيور من أجل تصنيع قُبعات الزينة ذات الريش، كما كانت الموضة في تلك الأيام. وبهذا أذِنَت الجمعية الملكية لحماية الطيور بعصرٍ جديد لمراقبة الطيور، يُضاهيها في أمريكا الشمالية خطوة تأسيس جمعية أودوبون الوطنية. كان روبرت ماك آرثر واحدًا من مُراقبي الطيور الكثيرين جدًّا. وإلى جانب مراقبة الطيور، كان ماك آرثر عالِمًا بيئيًّا رائعًا. ووصفت أطروحته لنيل الدكتوراه في عام ١٩٥٧ كيف تختلف خمسة أنواع من الطيور الهازجة الآكلة للحشرات في سلوكها للبحث عن الطعام في غابات التنوب بأمريكا الشمالية. ولكي نفهم السبب وراء قيامها بهذا، ولماذا يُمثِّل هذا أهمية من الناحية الإيكولوجية، علينا أن نتطرَّق أولًا إلى تجربة كلاسيكية في عِلم البيئة أجراها عالِم الأحياء الروسي جورجي جاوزي قبل عقدَين من الزمن.

في عام ١٩٣٢، نشر جورج جاوزي بحثًا بعنوان «دراسات تجريبية عن الصراع من أجل البقاء». وصف هذا البحث ذو العنوان الرائع مجموعة من التجارب البسيطة والدقيقة في آنٍ واحد، والتي راقبَ فيها جاوزي مجموعات من نوعَين على صلةٍ وثيقة بعضهما ببعض من «البراميسيوم»، وهي كائنات حية هدبية وحيدة الخلية تتغذى على البكتيريا والخميرة. انتعش كلا النوعَين عندما نموَا في ظروف مُتماثلة في حاويات منفصلة. ولكن عندما نما كِلا النوعَين معًا، نما أحدهما بسرعة على حساب النوع الآخَر، الذي أُزيل من الحاوية في نهاية المطاف. وبيَّن جاوزي أنه لا يمكن للنوعَين التعايُش معًا؛ إذ إنهما يحتاجان إلى الموارد المحدودة نفسها، ومن ثَم يستبعد المنافس الأكفأ النوع الآخَر. وصِيغ هذا المفهوم لاحقًا تحت اسم «مبدأ الإقصاء التنافسي». كان لهذا المبدأ شواهد سابقة. ففي عام ١٩٠٤، وصف جوزيف جرينيل كيف يختلف نوعان حتمًا في بعض السمات المتعلِّقة بخصوبتهما لكي يتعايشا معًا، غير أن الأمر استلزم تأكيد جاوزي عن طريق التجارب لغرس المفهوم داخل علم البيئة السائد.

إن التعايش المُشترك يستلزم تجنُّب المنافسة. كرَّر جاوزي تجربته مع مزيجٍ مختلف من زوج «البراميسيوم». وفي هذه التجربة، بقِي كِلا النوعَين على قيد الحياة. وكشف الفحص عن كثب أن أحد نوعَي «البراميسيوم» كان يتغذَّى عادةً على البكتيريا العالقة في وسط المزرعة، بينما تغذَّى النوع الآخَر على الخميرة الموجودة في قاع أنبوب المزرعة. ومن خلال التخصُّص في موارد مختلفة، أو من خلال تطوير استراتيجيات مختلفة للظفر بالموارد، استطاع كِلا نوعَي «البراميسيوم» تجنُّب المنافسة، ومن ثَم التعايش معًا في الموئل نفسه.

وقد بدا أن أنواع طيور الهازجة الخمسة الخاصة بروبرت ماك آرثر تتعارض مع مبدأ الإقصاء التنافسي. ففي موسم التزاوج، تتواجَد هذه الطيور الشديدة التشابُه معًا في غابات التنوب؛ حيث تتغذَّى على الفرائس الحشرية ذاتها. ومن خلال المُراقبة الدءوبة، اكتشف ماك آرثر أن كل نوعٍ من هذه الطيور يتغذَّى في موضعٍ مختلف من الشجرة، ويتبنَّى سلوكًا مختلفًا للبحث عن الطعام، مما يُسفِر عن اختيار فريسةٍ مختلفة (شكل ٢-٣). ومن خلال فصل المواضع وسلوكيات التغذية، تُميز هذه الأنواع الخمسة المختلفة بين موارد التغذية، وهو ما يُمكِّنها من تقليل المنافسة إلى أدنى حد، مما يسمح لها بالتعايش معًا.
fig4
شكل ٢-٣: تقسيم الموارد بين الطيور الهازجة بأنواعها الخمسة في غابات التنُّوب الأبيض الموجودة في ولاية ماين بأمريكا الشمالية. تُبيِّن الصور الإيضاحية المواضع على أشجار التنوب؛ حيث تقوم الطيور بمُعظم عمليات البحث عن الغذاء.

وتكشف مراقبة الطيور الساحلية على أحد الشواطئ عن مثال آخَر لتبايُن المكمن البيئي؛ حيث تستعين أنواع الطيور باستراتيجيات تغذية مختلفة لاستهداف فرائس مختلفة في أجزاء مختلفة من الشاطئ. فعند الجزء العلوي من الشاطئ تجوب طيور الزقزاق المناطق الرملية ذهابًا وإيابًا لتتغذَّى على المِفصليات الصغيرة، في حين أن طيور قُبَّرة الماء تقلب المحار وتُنقب في الأعشاب البحرية بحثًا عن القشريات. وعلى الجزء السُّفلي من الشاطئ، تبحث طيور الكراون الطويلة المنقار عن السلطعون والروبيان المُقيمة في الجحور، في حين تنتزع طيورُ صائد المحار ذي المنقار الغليظ المحارَ المفتوح وبلح البحر عند انحسار المد. وعند الجزء الأوسط من الشاطئ بين هاتَين المجموعتَين، تلتقِط طيور الطيطوي الديدان الصغيرة ومِفصليات الأرجل التي يقذفها المد المُنحسِر. ومع تجنُّب المنافسة بهذه الطريقة، يُصبح التعايش المشترك مُمكنًا.

قدَّم إيفلين هاتشينسون، في بحثه بعنوان «ملاحظات ختامية» (١٩٥٧)، وهو العنوان الأكثر غموضًا لبحثٍ في تاريخ العلوم البيئية على الأرجح، المكمن البيئي الخاص بالأنواع في إطار مفاهيمي بوصفه «مساحة مُحيطية» ذات أبعاد متعدِّدة؛ حيث يُمثِّل كل بُعد من هذه الأبعاد موردًا. ومن هذا المنطلَق، يمثل توافُر المياه، أو درجة الحرارة، أو الضوء بضعة أمثلة فقط على الأبعاد الكثيرة المُختلفة للمَكمَن البيئي، والتي تُحدِّد مجتمعةً المكان الذي يمكن أن يعيش فيه نوعٌ ما وينمو ويتكاثر. تمنع الحيوانات المفترسة والمنافسون الأنواع الأخرى من شغل النطاق الكامل لمساحة مَكمنها البيئي. وقد يُخفق نوعٌ ما في شَغل مُجمل مساحة مَكمَنه الجغرافي المحتمَل؛ لعجزه عن الانتشار في جميع المناطق الصالحة للعيش واستعمارها. وعلى هذا الأساس، يُفرِّق هاتشينسون بين المَكمَن «الأساسي»، الذي يصف الاحتمالات الكاملة لظهور نوع مُعيَّن، ومَكمَنه «الفعلي»، أي مجموعة الظروف الأكثر محدودية التي يبقى هذا النوع على قيد الحياة في ظِلها بالفعل، مع الوضع المنافسين في الاعتبار، وكذلك الحيوانات المفترسة، والعوامل العارضة والطارئة التي قد تطول الانتشار.

ويُطالب علماء البيئة بتأكيد قائم على التجارب على أن السلوكيات المرصودة تتوافق مع النظريات المُفسِّرة. ونحن مَدينون بواحدةٍ من أفضل دراسات المَكمَن البيئي إلى «السيدة بلانت الاسكتلندية صاحبة الفندق التي كانت سخية بتوفير إقامةٍ ومبيت بشروط متساهلة» لعالِم البيئة الأمريكي الشاب جوزيف كونيل في الخمسينيات من القرن العشرين؛ لكي يتسنَّى له تمديد فترة إقامته في جزيرة كامبري بمنطقة فيرث أوف كلايد (من الواضح أن حساءها الرائع ساعَدَ في التصدي لتقلُّبات الطقس الاسكتلندي). وبعد مرور عامَين بلا جدوى في محاولة الإمساك بالأرانب في تلال بيركلي بكاليفورنيا، أقسمَ كونيل على ألَّا يعمل مطلقًا على أي كائنٍ يتعدَّى حجمه طول إصبع إبهامه، ومن ثَم صرف انتباهه إلى محار البرنقيل. وعلى جزيرة كامبري، لاحظ أن نوعَين من البرنقيل يتواجدان عادةً على طول الساحل، وهما: «سيميبالانوس» الكبير الحجم الموجود عند الجزء السُّفلي من الشاطئ، بينما «شتامالوس» الأصغر حجمًا يقتصر وجوده على مناطق المد والجزر المُعرَّضة دومًا لانحسار الماء عنها بفعل انحسار تيارات المد. ومن خلال استبعاد «سيميبالانوس» من التجربة، اكتشف كونيل أن يرقات محار «شتامالوس» تنمو وتترعرع في المناطق الساحلية السُّفلية. غير أن محار برنقيل «سيميبالانوس» بطبيعة الحال يستبعد البرنقيل الأصغر من خلال خنقه أو قطع الجزء السُّفلي منه. ويعيش محار «شتامالوس» في الجزء العلوي من الشاطئ لأن محار «سيميبالانوس» يعجز عن تحمُّل فترات مُمتدة من الجفاف عندما يتعرَّض الشاطئ إلى انحسار المد. وبحث جوزيف كونيل غاية في الأهمية؛ لأنه أوضح من خلال الاستعانة بالتجارب الميدانية كيف أن المَكمَن البيئي لنوعٍ ما مُقيد بمزيج من العوامل الأحيائية واللاأحيائية.

هل توازن الطبيعة حقيقة قائمة؟

إن الاستقرار أو النظام الظاهري فيما يتعلَّق بتنظيم العالم البيولوجي هي فكرة تعود أصولها إلى المؤرِّخ هيرودوت، وإلى فترةٍ سابقة على ذلك من تاريخ الفلسفة الشرقية. تبدو الطبيعة على السطح في حالة اتزانٍ بشكل أو آخَر. غير أن أعداد الجماعات تتذبذب رغم أنها تبقى على قيد الحياة فتراتٍ زمنية طويلة. ويبدو أن الأنظمة الإيكولوجية تستمر حتى عندما تتعرَّض إلى اضطرابات دورية، وتُظهر نزعة مُتأصِّلة، أو مرونة، للتعافي بعد وقوع الاضطراب. وفي حين أن توازن الطبيعة مُحمَّل بالدلالات الأسطورية والثقافية، وفي حين أن الأنظمة الإيكولوجية تبدو مستقرةً بالقدْر الكافي من منظور المُراقب الهاوي، فإن علم البيئة بوصفه علمًا حديثًا يتطلَّب أدلةً تجريبية تخضع لإطار نظري إيكولوجي، وتساهم في تطوير هذا الإطار.

ذهب كتاب إلتون الصادر عام ١٩٥٨ بعنوان «إيكولوجيا الغزوات لدى الحيوانات والنباتات» إلى أن المجتمعات البسيطة أقل استقرارًا من المجتمعات المُعقَّدة. ومن أجل دعم هذه الفكرة، أشار إلتون إلى أن عمليات تفشِّي الآفات تحدُث على نحوٍ أكثر تواتُرًا في الأنظمة الزراعية البسيطة مقارنةً بالأنظمة الطبيعية الأكثر تعقيدًا، أو في الغابات المعتدلة البسيطة أكثر من الغابات الاستوائية المُعقَّدة والغنية بالأنواع. وعلى الرغم من أن الاستقرار الإيكولوجي وارتباطه بمدى تعقيد النظام الإيكولوجي خضع لكثيرٍ من النقاشات منذ ذلك الحين، فقد كان الإسهام الخالد لإلتون في علم البيئة، من بين إسهاماتٍ أخرى كثيرة، هو فكرَه الموجَّه نحو المجتمعات، وما تشمله من تفاعلات بين كثيرٍ من الأنواع على مدى نطاقات زمنية ومكانية كبيرة.

فسَّر روبرت ماك آرثر، الذي كتبَ في خمسينيات القرن الماضي في الفترة نَفْسها التي كتب فيها إلتون، الاستقرارَ من منظور تذبذبات أعداد الجماعات الخاصة بالأنواع بعضها بالنسبة إلى بعض. وذهب إلى أن الاستقرار يحدث عندما يحافظ نوع داخل المجتمع على أعداد ثابتة، برغم التقلُّبات في أعداد الأنواع الأخرى. والأرجح أن هذا يحدُث عندما يتفاعل نوع مع أنواع أخرى كثيرة، كما يحدث عندما يتغذَّى حيوان مفترس على أنواعٍ كثيرة من الفرائس، بحيث يكون تأثير هذا التراجُع الكبير في نوعٍ واحد محدودًا على الأنواع الأخرى. ويبدو أن عددًا كبيرًا من التفاعُلات الضعيفة تعمل على استقرار التقلُّبات في الشبكات الغذائية الافتراضية، لكن الشبكات الغذائية الحقيقية تتَّصف بسِمات كثيرة أخرى يبدو أنها تتعارَض مع ظهور علاقات واضحة بين الاستقرار والتعقيد.

وبحلولِ منتصف القرن العشرين، بدأ الفكر الإيكولوجي يتضافر حول ثلاثة محاور رئيسة، كلٌّ منها مرتبط بالاستقرار الظاهري واستمرار الأنواع والمجتمعات والأنظمة الإيكولوجية. سعى المحور الأول إلى فَهْم كيفية تنظيم الأعداد في الطبيعة. وسعى المحور الثاني إلى فَهْم كيفية تنظيم المجتمعات، لا سيَّما من حيث العمليات التعاقُبية والشبكات الغذائية والتفاعُلات ما بين الأنواع. ويستكشف المحور الثالث كيف تنتقل الطاقة عَبْر المستويات الغذائية أو عَبْر حدود النظام الإيكولوجي. وقد قدَّمت هذه الموضوعات العامة إطارًا معرفيًّا فضفاضًا؛ ولكن سرعان ما نجح علم البيئة وتشعَّب إلى عدة مجالات ذات أهمية، بعضها يُركِّز على الفهم الأساسي للعمليات الإيكولوجية وطبيعة الاستقرار، والبعض الآخَر يؤكِّد كيفية وقوف هذه العمليات وراء الحفاظ على البيئة والمستقبل المُستدام ورفاهية الإنسان.

وفي سبعينيات القرن العشرين طبَّق روبرت ماي نماذج رياضية لا خطية ومبدأ الفوضى الحتمية على عِلم البيئة، من أجل تناول جوهر التعقيد والاستقرار الإيكولوجي. وأوضح أن الأنظمة الإيكولوجية المُعقَّدة أقل عُرضةً للاستقرار من الأنظمة الإيكولوجية البسيطة، على عكس الاعتقاد السائد. وعلى الرغم من أن النقاشات الخاصة بارتباط الاستقرار بالتعقيد لا تزال غير محسومة، فإن المفاهيم والنماذج اللاخطية تُمثل أهمية محورية بالِغة للفكر الإيكولوجي الآن، وتربط الأبحاث الخاصة بطبيعة الاستقرار بتلك الأبحاث المتعلِّقة بمستقبلنا المستدام. ويحذِّر علماء البيئة من عتبات التغيُّر ونقاط التحول عند تعرُّض الأنظمة الطبيعية إلى تغيرات مفاجئة وجذرية في الشكل والوظيفة، عادةً ما تكون مدفوعة بالتغيرات البيئية أو فقدان التنوُّع الحيوي الذي تتسبَّب فيه الأنشطة البشرية. وفهم المُحفِّزات والمُسبِّبات الضمنية لنقاط التحول، على الأقل بما يكفي للتنبؤ بها، هو أحد أهم التحديات الحالية التي تواجِهُ علم البيئة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤