الفصل الرابع

المجتمعات

هل الطبيعة حمراء الناب والمخلب حقًّا؟

يعقد الشاعر الإنجليزي ألفريد لورد تينيسون، في قصيدة «للذكرى»، وهي مرثية لصديقه المُقرب آرثر هنري هالام، مقارنة بين إيمان البشرية بالمحبة وقسوة الطبيعة، ويقول فيها:
الإنسان …
ذلك الذي آمن بأن الله محبة حقًّا،
وأن المحبة هي القاعدة الأسمى للخلق،
أما الطبيعة، حمراء الناب والمخلب،
تثور على عقيدته بصرخة في الوهاد وتأبى.

يبدو أن الافتراس والمنافسة المتواصِلَين يُبرران شعور تينيسون بالاشمئزاز تجاه الطبيعة. إلا أن التعاون بين الأنواع في الطبيعة لا يزال سائدًا بالقدْر نفسه (بالطبع، «الإنسان» نفسه ليس ملاكًا).

يُطلق على الأنواع التي تتعاون من أجل المنفعة المتبادلة أنواعًا تقايضية، ويُطلق على التفاعلات التعاونية بينها تقايُض أو تبادُل المنفعة. أما «التكافل الحيوي» (الكلمة الإنجليزية Symbiosis أصلها يوناني وتعني «التعايش معًا») فهو في حدِّ ذاته تقايُض من خلاله تُكوِّن الأنواع المعنية شراكات مادية تبادلية عن قرب. فعلى سبيل المثال، تعتبر الأشنات تجسيدًا لعلاقات تكافُلية جمعَت بين فطر وبين طحالب البناء الضوئي أو البكتيريا الخضراء المُزرقة. وأغلب العلاقات التقايُضية بين الكائنات الحية أقل حميمية بكثير. فالنحل يحط بخفة على الزهور ليجمع اللقاح من أجل الحضنة الخاصة به، ومن خلال القيام بذلك تُخصَّب النباتات وتُنتج البذور. ورحيق الزهور ليس له وظيفة سوى جذب الملقحات إلى الزهور. وبالمثل، فالثمار ما هي إلا هبات تُمنح إلى الحيوانات لتتناولها، ومن ثم تنشر البذور التي تحتويها.

ولدراسة التقايض تاريخ طويل، ولكن نظرياته أقل تطورًا. استُخدم مصطلح «التقايُض» لأول مرَّة بوصفه مصطلحًا إيكولوجيًّا في كتاب بيير جوزيف فان بينيدن بعنوان «الطفيليات الحيوانية ورفاقها» الصادر عام ١٨٧٥. وبعد مرور بضع سنوات، وتحديدًا في عام ١٨٧٨، قدَّم هاينريش دي باري، المعروف لدى طلابه وزملائه على حدٍّ سواء بكل بساطة باسم «البروفيسور»، مفهوم «التكافل» بوصفه مفهومًا بيولوجيًّا في محاضرةٍ له بعنوان «ظاهرة التكافل» أمام جمعية الفيزيائيين والأطباء الألمان. عرَّف البروفيسور التكافُل بأنه «ظاهرة من خلالها تتعايش الكائنات الحية المختلفة معًا»، وشملت التعايش التطفلي. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، جرى التعرُّف على الكثير من العلاقات التقايضية بين الكائنات الحية. إلا أنه خلال القرن العشرين، لم يُبذل جهدٌ كبير لتطوير نظرية خاصة بالتقايض. وفيما يبدو كان لدى الكثير من العلماء الأوائل الذين كتبوا عن العلاقات التقايضية تعاطُفٌ يساري، وقد ألمحَ البعض إلى أن الارتباط بالسياسات اليسارية ربما قوَّض الاهتمام بنظرية التقايُض. وإذا كان هذا صحيحًا، فإن نشر كتاب المُنظِّر الأناركي بيتر كروبوتكين في عام ١٩٠٢ بعنوان: «المساعدة المتبادلة: عامل للتطور» لعب دورًا في ذلك على الأرجح. وحتى إشارة فان بينيدن الأولى إلى «التقايض» في عام ١٨٧٥ قد تكون تلميحًا للجمعيات «التعاونية» للعمال التي تأسَّسَت في فرنسا وبلجيكا في أوائل القرن التاسع عشر بهدف تقديم المساعدة المالية المتبادلة.

التعاون

تُعد الشعاب المرجانية، الممتدة على مساحة آلاف الكيلومترات المربَّعة من المحيطات الاستوائية، من أكثر الأنظمة البيئية تنوعًا على المستوى الحيوي على وجه الأرض (شكل ٤-١). وما كانت هذه الشعاب المرجانية ليُصبح لها وجود لو لم يكُن هناك شراكة بين المرجان (حيوان) ونوع مُعيَّن من السوطيات الدوَّارة ذات البناء الضوئي؛ وهي مجموعة من العوالق الحرة في معظمها. ويُئوي المرجان السوطيات الدوارة التكافلية، المعروفة باسم الحُيَيْوِينات الصفراء، وتحصل هذه السوطيات على المغذيات من الفريسة التي تصطادها المرجانيات، وفي المقابل تُسدد للمرجان الذي يئويها إيجارًا يتمثل في الكربوهيدرات المُستخلَصة من البناء الضوئي. وتوفِّر الحُيَيْوِينات الصفراء حتى ٩٥ في المائة من الكربون الخاص بالمرجان، والذي يُعزِّز تكلُّس المرجان ويسمح ببناء الشعاب المرجانية الضخمة. وتتمتع الحُيَيْوِينات الصفراء بقدراتٍ متفاوتة خاصة بالبناء الضوئي تحت ظروف الإضاءة المتفاوتة، وتستبدل المرجانيات حُيَيْوِينات صفراء أخرى ببعض الحُيَيْوِينات الصفراء مع تغير الظروف البيئية. وقد تتسبَّب الأحداث الأخيرة لارتفاع درجة حرارة سطح البحر، المرتبطة على الأرجح بالاحترار العالمي، في طرد جميع الحُيَيْوِينات الصفراء بالكامل من كثير من المرجانيات. ويؤدي هذا إلى ابيضاض المرجان، بل وموته إذا لم يتم استبدال الحُيَيْوِينات الصفراء بأخرى سريعًا. ومن خلال تعطيل التكافل الحيوي بين الحُيَيْوِينات الصفراء والمرجان، يهدد التغيير المناخي سلامة الشعاب المرجانية، والمجتمعات البيولوجية الثرية التي تدعمها.
fig9
شكل ٤-١: يعتمد النظام الإيكولوجي الصحي الخاص بالشعاب المرجانية على علاقة اعتمادية متبادلة بين حيوان، وهو المرجان، وسوطيات دوارة وحيدة الخلية.

ويعزِّز التكافل التبادلي بين المرجان والحُيَيْوِينات الصفراء نموَّ الشعاب المرجانية، إلا أن استمراره يعتمد على مزيدٍ من التقايض المنتشر بين المرجانيات والأسماك الآكلة للطحالب. تزيل أسماك الشعاب المرجانية نحو ٩٠ في المائة من إنتاج الطحالب، التي تحافظ على سطح الشعاب النظيف مُهيَّئًا لاستقرار يرقات المرجان وسلامة الشعاب المرجانية. وتستفيد أسماك الشعاب المرجانية بدَورها من الزوايا والشقوق الموجودة في الشعاب المرجانية، والتي تُوفر لها الغذاء والحماية من المُفترسات.

ثمَّة علاقة تكافلية أخرى تُشكِّل أساس مجتمعٍ بأكمله نجدها حول الفتحات المائية الحرارية في المناطق ذات النشاط البركاني من القشرة المُحيطية. تنبعِث من هذه الشقوق سوائل شديدة الحموضة والسخونة، تصِل درجة حرارتها إلى ٤٠٠ درجة مئوية، غنية بكبريتيد الهيدروجين، وسامَّة لمُعظم أشكال الحياة. غير أن الكتلة الحيوية للحيوانات الموجودة في المناطق المجاورة مباشرة لمِثل هذه البيئات التي تبدو عدائية، أكبر بنحو ألف مرة من الكتلة الحيوية للكائنات الموجودة في السهول المحيطية. وجزء كبير من هذه الكتلة الحيوية يخصُّ الرخويات العملاقة ذات الصدفتَين والديدان الأنبوبية التي، للغرابة، لا تملك فمًا أو أحشاءً. وتحصل على التغذية من البكتيريا المؤكسدة للكبريت، التي تعيش داخل أجسادها. توفر الحيوانات ثاني أكسيد الكربون والأكسجين وكبريتيد الهيدروجين للبكتيريا، التي تصنع المُركبات العضوية التي تمتصُّها الكائنات المُضيفة. وهذا التكافل الحيوي هو أساس شبكة غذائية، مدعومة بالكامل بالتركيب الكيميائي البكتيري في هذه الأعماق الحالكة، والتي تشمل مجموعةً متنوِّعة من القشريات وشقائق النعمان وأنواعًا كثيرة من الأسماك والأخطبوط.

تتمتَّع كثير من العلاقات التشارُكية الأقل حميمية بأهمية مُماثلة لبِنية النظام الإيكولوجي. تُشكل أشجار السنط الشوكية الصافرة (فاتشيليا دريبانولوبيوم) ٩٥ في المائة من الغطاء الشجري لغابات السافانا القطنية السوداء بشرق أفريقيا. وتتغذى الأفيال على لحاء الأشجار وأوراقها وأغصانها، وتُلحق أضرارًا كارثية بالأشجار بوجهٍ عام، غير أن أشجار السنط الشوكية الصافرة تبقى بلا أضرار. تتمتَّع أشجار السنط بحرَّاس شخصيين على هيئة أربعة أنواع من النمل. يُعشِّش هذا النمل داخل الأشواك المُنتفخة الجوفاء لأشجار السنط ويتغذَّى على الرحيق الذي تُفرزه قاعدة أوراقها (شكل ٤-٢). يلدغ النمل بعدوانية الجزء الداخلي الحسَّاس من خرطوم أي فيلٍ أحمق بالدرجة الكافية التي تجعله يتغذَّى على أغصان شجرة السنط. ولولا هؤلاء الحراس الشخصيين، لدمرت الأفيال أشجار السنط بغابات السافانا القطنية السوداء، وحلَّ محل السافانا الشجرية أراضٍ عشبية مفتوحة مُقاومة للحرائق، تدعم عددًا أقل بكثيرٍ من الأفيال.
fig10
شكل ٤-٢: تُئوي أشجار السنط الشوكية الصافرة النمل الذي يحرسها من الحيوانات الآكلة للعشب، وفي المقابل توفر هذه الأشجار للنمل عشًّا ورحيقًا سكريًّا.

علاقات مضطربة

رغم إعجاب كروبوتكين وفان بينيدن بفكرة التقايض في العالم الطبيعي، فإن الطبيعة أكثر تقلُّبًا في الواقع. فلا يُعد التقايض تقايضًا إذا كان أحد الطرفَين قادرًا على استغلال الطرف الآخَر، ونادرًا ما يقف طرفا العلاقة التشاركية على قدم المساواة. فغالبًا ما يستفيد أحد الأنواع من التفاعل أكثر من النوع الآخَر، وتتغير العلاقات وفقًا للظروف. ومن الممكن أن تتغير شراكة تعاونية لتتحول سريعًا إلى شراكة استغلالية.

لنفكر في مثال النمل الحارس لأشجار السنط الشوكية الصافرة. إن الطاقة التي تستثمرها الشجرة في الأزهار وإنتاج البذور، من منظور النمل، هي طاقة مُهدَرة في سبيل تكوين الأشواك المجوَّفة التي يعشِّش فيها النمل، وتكوين الرحيق السكري. ومن ثَم، يقتلع النمل كثيرًا من الأزهار من الشجرة أثناء محاولتها الإزهار. في المقابل، إذا كانت الحيوانات العاشبة نادرة، لا تكون أشجار السنط بحاجةٍ إلى هذه الحماية القوية، ومن ثَم تُنتج عددًا أقل من الأشواك وكميةً أقل من الرحيق، ما يؤدي إلى القضاء على النمل المُتوطِّن بداخلها. وينتقِم النمل من خلال تحضين الحشرات الماصة للعصارة، التي يحصل من خلالها النمل على عسل المن، ومن ثَم يحصل على احتياجاته من الكربوهيدرات. وغالبًا ما تتأرجح علاقات التقايض ما بين شراكات ذات منفعة متبادلة وتطفُّل انتهازي.

يحوي كثير من النباتات فطريات «جذرية» تشكِّل غلافًا حول الجذور، أو تخترق الجذور وخلايا الجذور. وتزيد هذه الفطريات الكفاءة التي تتمكَّن بها النباتات من الوصول إلى المواد الغذائية الشحيحة الموجودة في التربة، ولا سيَّما الفوسفور والنيتروجين. يمكن أن يمتد الغزل الفطري، الذي يتألف من بِنًى خيطية دقيقة تُسمَّى الخيط الفطري، ليصل طوله إلى ١٠٠ متر داخل سنتيمتر مكعب واحد من التربة، للوصول إلى مسام التربة التي لا تستطيع جذور النبات أن تصل إليها. وفي المقابل، تستقبل الفطريات الكربوهيدرات التي تنتجها النباتات من خلال عملية البناء الضوئي. وقد تُخصِّص النباتات نسبة تصل إلى ٢٠ في المائة من الكربون المُستخلَص من عملية البناء الضوئي للفطريات الشريكة لها. وهذه العلاقة التقايضية قائمة على أساس أن الفوائد المُكتسبة لكِلا الطرفَين تفوق التكاليف التي يتكبَّدها كلٌّ منهما. وتتمثَّل التكلفة التي يتكبَّدها النبات في تخصيص الكربوهيدرات للفطريات التي كان يُمكن أن تُستخدَم بدلًا من ذلك من أجل نمو النبات. وعادةً ما تكون هذه التكلفة مُستحَقة من أجل الوصول إلى المواد الغذائية الشحيحة، ولكن في التربة الخصبة قد تحتاج النباتات إلى القليل من الفطريات الجذرية، أو قد تستغني عنها تمامًا. ومع ذلك، تواصل الفطريات اعتمادها على الكربوهيدرات التي يُنتِجها النبات، التي تحدُّ من نموه. وهكذا تحوَّلت العلاقة إلى علاقة استغلالية، بل وطفيلية. وتتنوَّع التفاعلات النباتية والفطرية ما بين علاقة متبادلة ومترابطة بشدة، أو تقايُضية ضعيفة أو طفيلية ضعيفة، بل وحتى طفيلية بشدة، وذلك بناءً على «الموازنة التبادلية» ما بين التكاليف والفوائد المُتأثرة بعوامل مثل خصوبة التربة أو توافُر الضوء لعملية البناء الضوئي. ومثل هذه التغيرات في التكاليف والفوائد النسبية أمر شائع بين الأنواع التقايضية.

تمثِّل الشراكات بين نوعَين تحدِّيًا، أما الشراكة بين ثلاثة أنواع فهي أقرب إلى صراع معقَّد. تدعم النباتات كثيرًا من الشركاء التقايُضيين، بما في ذلك الفطريات الجذرية والحشرات المُلقحة والفقاريات التي تنشر البذور. ويتمثَّل الدور الذي تلعبه النباتات في صفقة المقايضة هذه في توفير الكربون، في الجذور من أجل الفطريات، أو الرحيق من أجل المُلقحات، أو الثمار من أجل الفقاريات الناشرة للبذور. فإذا كانت التربة عالية الخصوبة، تقلُّ حاجة النبات إلى الفطريات الجذرية، ويمكنه بدلًا من ذلك أن يُخصِّص مزيدًا من الكربوهيدرات للزهور والثمار لتعزيز عملية إنتاج البذور. غير أن إعادة توزيع الموارد على نحوٍ مثالي غالبًا ما تكون مُستحيلة بسبب القيود الفسيولوجية، وتستمر الفطريات في استخلاص بعض الكربوهيدرات على الأقل من النبات، مما قد يحد من كفاءته التناسلية. ويمكن أن يكون التمييز بين العلاقات التقايضية والطفيلية صعبًا عندما تنطوي العلاقة على مقايضات على الموارد بين شركاء مُتعدِّدين.

الولاء والخيانة

يتأثر النوعان اللذان يعتمدان بعضهما على بعض اعتمادًا كليًّا، بالتدهور الذي يصيب أيًّا منهما. لذا فإن أغلب العلاقات التقايضية منتشرة إلى حدٍّ ما؛ نظرًا لأن كل نوع يرتبط بعدة شركاء. ويؤدي هذا إلى توزيع خطر فقدان نوع أو أكثر من الشركاء عَبْر شبكة الشركاء. فالنباتات، على سبيل المثال، لديها مجموعة واسعة من الشركاء من الفطريات الجذرية، ويرتبط كل فطرٍ من هذه الفطريات بأنواعٍ كثيرة من النباتات. بالمِثل، تستقبل أغلب النباتات كثيرًا من الحشرات المُلقحة المختلفة، مثلما تقف هذه الأنواع المُلقحة ذاتها على كثيرٍ من النباتات المُزهرة المختلفة.

ومع ذلك، تُوجَد علاقات تقايُضية شديدة التخصُّص. وبوصفها حالات شاذة، ينصبُّ قدرٌ كبير من الاهتمام الإيكولوجي عليها بسبب قُدرتها على كشف النقاب عن الصراع الكامن الذي تتَّسِم به العلاقات التقايضية. يُلقَّح كل نوع من أشجار التين، التي يبلغ عددها نحو ٧٥٠ نوعًا، بواسطة نوع واحد، أو أنواع قليلة جدًّا، من دبور ثمار التين الصغير جدًّا. تضع إناث الدبابير، التي لا يزيد طولها على ملليمتر واحد، بيضها في الزهور الدقيقة الموجودة داخل طيات ثمرة التين. تتطفل يرقات الدبور على ثمرة التين عن طريق التغذية على الأنسجة النباتية التي ربما كانت ستكوِّن بذورًا لولا ذلك. وبعد أن تستكمل نموها، يتزاوج جيل جديد من الدبابير البالغة ويترك ثمرة التين، ولكن بعد أن تكون قد تشبَّعت بحبوب اللقاح. وتبحث عن ثِمار تينٍ جديدة تضع فيها بيضها. وفي أثناء قيامها بذلك، تُلقِّح كثيرًا من الزهور، وتتطوَّر تلك الزهور التي تُفلت من التعايش التطفلي إلى بذور. وتوجد تنويعات كثيرة لهذه الفكرة الأساسية. وبعض دبابير ثمرة التين تُعد طفيليات حقيقية؛ إذ لا تساهم بأي شيءٍ في عملية التلقيح.

طورت أشجار التين أشكالًا زهرية مختلفة لتحتفظ بقدرٍ من السيطرة على العلاقة. فبعض ثمار التين تحوي أزهارًا قصيرة وطويلة على حدٍّ سواء. ودبابير ثمار التين قادرة على وضع بيضها على أزهار قصيرة، لكنها لا تستطيع وضعه على الأزهار الطويلة. تفصل أنواع أخرى من التين بين الأزهار الذكرية والأنثوية على أشجار مختلفة. وتحتوي ثمار التين الخاصة بالأشجار الذكرية على أزهار ذكرية وأنثوية، إلا أن الأزهار الأنثوية تلعب دورًا في نشأة المُلقِّحات فقط ولا تُنتج بذورًا. أما على الأشجار الأنثوية، فتتمتع الأزهار ببنية تُمكِّن الدبابير من التلقيح ولكن لا تستطيع أن تضع بيضًا. ونظرًا لأن الدبابير لا يمكنها التمييز بين جنسَي ثمار التين، فإن الدبابير المُحمَّلة بحبوب اللقاح التي تهبط على ثمار التين الأنثوية تلقح الأزهار؛ ولكنها تعجز عن جعلها تتكاثر.

ثمَّة صراعات مماثلة بين نباتات اليُكَّة بأمريكا الشمالية وعثثها المُلقِّحة التي تتغذى على جزءٍ من بذور اليُكَّة، أو ذباب «كياستوشيتا» الذي يُلقحها ولكن يتغذى أيضًا على بُويْضات الزهور الكروية الأوروبية. ولا تُوجَد فوارق كثيرة تُمكننا من التمييز بين التقايض والتطفُّل في هذه العلاقات. فكِلا الشريكَين يعتمد كلٌّ منهما على الآخَر اعتمادًا كليًّا، ولكن وراء هذا التعاون الإيكولوجي يكمُن صراع تطوري. فكل طرف في هذه العلاقة يسعى إلى تقليل التكاليف التي يتكبَّدها، وتعظيم الفوائد التي يحصدها. ويتجلى هذا في جميع أشكال التقايُض، إلا أنه في علاقات التقايض المُتخصص تتكشف الصراعات الكامنة في التعاون.

الشلالات الغذائية

في حين أن هناك بعض الأنواع التي لا تجمعها علاقة تقايض مباشر، إلا أن أنواعًا أخرى تستفيد على نحو غير مباشر من خلال أنشطتها. وقد تعتمد مجتمعات بأكملها على هذه الأنواع «الأساسية»، التي يُخلِّف فقدان أيٍّ منها آثارًا تتوالى عبر النظام البيولوجي.

fig11
شكل ٤-٣: مجتمع غابة من الأعشاب البحرية الغنية تحافظ عليه القضاعات البحرية (أ)، التي بدونها تخرج أعداد قنافذ البحر العاشبة عن نطاق السيطرة (ب).
ففي البحار الشديدة البرودة بالنسبة إلى الشعاب المرجانية، توفر الأعشاب البحرية البِنية المعمارية الطبيعية للنظام البيئي. فتنمو أعشاب السِّفْلِيج البحرية الخاصة بالشواطئ الصخرية المعتدلة بالقرب من الساحل الغربي لأمريكا الشمالية والجنوبية ليصل طولها إلى ٦٠ مترًا، لتكوِّن بذلك غاباتٍ مهيبة من الأعشاب البحرية تحت سطح الماء تدعم مجتمعات الأسماك والثدييات الثرية (شكل ٤-٣ (أ)). وتحافظ القضاعات البحرية على هذا النظام عن طريق التغذية على القنافذ البحرية العاشبة، لتسمح بذلك بازدهار الأعشاب البحرية. قام صائدو الفراء باصطياد القضاعات حتى قاربت على الانقراض في القرنَين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبحلول عشرينيات القرن العشرين لم يتبقَّ سوى مجموعات صغيرة فقط في سيبيريا وألاسكا وكاليفورنيا. ونتيجة لذلك، الْتَهمت الأعداد الغفيرة من القنافذ غابات الأعشاب البحرية ودمَّرَتها، مما أسفر عن «أراضٍ قاحلة من القنافذ» خالية من أي حيوانات أخرى أو طحالب (شكل ٤-٣ (ب)). منعت القنافذ البحرية، التي يمكنها أن تعيش عدة سنوات على القليل من الغذاء، الأعشابَ البحرية الجديدة من النمو والتعافي. واستلزم الأمر إعادة إدخال القضاعات البحرية في سبعينيات القرن العشرين للحدِّ من أعداد القنافذ البحرية بالقدْر الكافي الذي يسمح بتعافي غابة الأعشاب البحرية. ومنذ عام ٢٠١٣، تكشَّفَت أزمة جديدة بالقرب من ساحل كاليفورنيا. فقد كاد أن يؤدي تفشِّي القنافذ البحرية بأعداد مهولة إلى القضاء على الكثير من أنواع نجم البحر. يُعد نجم البحر بطبيعة الحال مفترسًا نهمًا لقنافذ البحر، وأدَّى فقدانه إلى تفشِّي القنافذ بأعدادٍ كبيرة في عامي ٢٠١٤ و٢٠١٥، وحدوث انهيار آخَر في النظام الإيكولوجي لغابة الأعشاب البحرية. وهذا يعني أيضًا فقدان مصائد الأسماك التجارية، بما فيها أذن البحر الأحمر، وهو أحد الرخويات اللذيذة الذي كان يتوافر بأعداد غفيرة في أنظمة غابات الأعشاب البحرية حتى وقت قريب.

تُعاني المجتمعات أيضًا من التغيرات التي تطرأ على الشلالات الغذائية عندما تُجزَّأ الموائل البيئية، مما يسفر عن رُقع صغيرة ومعزولة من الموائل. تدعم الرُّقع الصغيرة الجماعات الأصغر حجمًا التي تحظى باحتماليات انقراض أعلى. والمحصلة النهائية هي أن الرُّقع الأصغر مساحةً تدعم الأنواع الأقل عددًا. ولهذا السبب يسعى دُعاة حماية البيئة إلى الحفاظ على وحدات الموائل الكبيرة. واستغلَّ جون تربورج فيضانات الغابات المطيرة أثناء ملء خزان جوري الكهرومائي بفنزويلا لتوثيق تأثير الشلالات الغذائية على تجزئة الموائل. فعند ارتفاع مستوى الماء، صارت قمم التلال الشجرية جزرًا منعزلة عن قِمم التلال المجاورة وغابة البر الرئيسي. درس تربورج التغيرات التي طرأت على الجماعات الحيوانية على اثنتي عشرة جزيرة، بعضها صغير والبعض الآخَر كبير. وفي غضون عقد من الزمن، انجرفت جماعات حيوانية بعيدًا عن غابات البر الرئيسي على نحوٍ ملحوظ. اختفت قرود الكبوشي (ويُعرف أيضًا باسم السعدان المُقَلنَس) من على الجزر، إلا أنها ظلَّت موجودة على الجزر الكبيرة. أما على الجزر الصغيرة، فكانت كثافات الطيور ضعف كثافات الجماعات الموجودة على البر الرئيسي، ولكن انخفضت الكثافات على الجزر الأكبر إلى خُمس كثافة جماعات البر الرئيسي. هاجمت القردة أعشاش الطيور الموجودة على الجزر الأكبر مساحة، إلا أن الطيور ظلَّت في مأمن من افتراس قرود الكبوشي على الجزر الصغيرة. كان هناك تغيرات ملحوظة أكثر. فقد كانت أعداد القوارض وسحالي الإجوانا أعلى بمقدار ٣٥ مرة و١٠ مرات، على التوالي، من أعداد الجماعات الموجودة على البر الرئيسي. ووصلت كثافات قرود السعدان العوَّاء إلى ألف قرد لكل كيلومتر مربع، وهي نسبة أعلى بكثيرٍ من كثافات البر الرئيسي التي وصلت إلى ٤٠ قردًا لكل كيلومترٍ مربع. وكان أكثر ما لفت الانتباه هو تفشِّي النمل قاطع الأوراق، الذي كان أكثر توافرًا بنحو ١٠٠ مرة على الجزر عنها في مناطق البر الرئيسي. وفسر غياب المفترسات العُليا، مثل النمر الأمريكي، الزيادة المهولة في أعداد هذه الحيوانات العاشبة. وكان للزيادة الناتجة في أعداد الحيوانات العاشبة آثار مُتعلِّقة بالشلالات الغذائية على المجتمع النباتي من خلال زيادة معدلات موت الأشجار والحيلولة دون تجدُّدها عن طريق البذور. وكانت النباتات الباقية على قيد الحياة هي تلك النباتات المحمية من الحيوانات العاشبة بحُكم كونها غير صالحة للأكل أو سامة، وهو ما قد يكون له تداعيات أخرى على الجماعات الحيوانية وكذلك عمليات أخرى مثل تدوير المُغذيات على هذه الجزر.

التعاقب البيئي

أحد المفاهيم الراسخة في علم البيئة، منذ عشرينيات القرن العشرين على الأقل، هو مفهوم التعاقب؛ أي التطور التعاقبي للمجتمعات الإيكولوجية المتزايدة التعقيد، ليستقر أخيرًا عند نقطة نهاية مستقرة تُسمى الذروة. يحدث التعاقب الأوَّلي على التضاريس المكشوفة حديثًا، مثل التدفقات البركانية الحديثة التكوين أو الجزر الناشئة، أو الأراضي المكشوفة بسبب انحسار ثلوج الأنهار الجليدية. فانحسار الأنهار الجليدية في منطقة جبال الألب يكشف الأسطح الصخرية الجرداء التي تستعمرها أولًا الحشائش والأعشاب القصيرة الأجل، يعقبها الأعشاب المعمرة والشجيرات الخشبية، وبعد ذلك الأشجار. ويمكن متابعة هذه المراحل الخاصة بالتعاقب البيئي من خلال السير من خطم نهر جليدي وصولًا إلى الوادي الذي كان يشغله فيما مضى (شكل ٤-٤).
fig12
شكل ٤-٤: صور توضح التعاقُب البيئي في وادي مورتيراتش، بسويسرا؛ حيث يكشف انحسار النهر الجليدي عن أرض جديدة تستعمرها النباتات وتتطوَّر بمرور الوقت إلى مجتمعٍ أكثر تعقيدًا وثراءً. جرى التقاط الصور الثلاث جميعها من الموقع ذاته؛ حيث كانت مقدمة النهر الجليدي موجودة في عام ١٩٧٠ ومُطلة على الوادي باتجاه النهر الجليدي المنحسِر. الْتُقطت الصورة العلوية في عام ١٩٨٥، والصورة الوسطى في عام ٢٠٠٢، والصورة السُّفلى في عام ٢٠١٨.
fig13
شكل ٤-٥: غابة مكتملة النمو ولكنها ثانوية (داخل غابة هارفارد) تُغطي الآن ما كان في السابق نظم حقول واسعة النطاق موجودة في المناطق الريفية بولاية ماساتشوستس، وهُجرت في منتصف القرن التاسع عشر. أسوار الحقول القديمة التي تتقاطع مع الغابة هي مخلفات خاصة باستخدامات الأرض في الماضي.
أما في التعاقب الثانوي، فقد يُزال الغطاء النباتي جزئيًّا أو حتى كليًّا عن طريق اندلاع الحرائق، أو التعرُّض لهجوم العوامل المُمرضة، أو بسبب النشاط البشري، أو أي اضطرابات أخرى، إلا أن التربة، وربما بعض البذور والنباتات المُتبقية، تظلُّ كما هي. وقد أسفر التعاقُب الثانوي من الحقول المهجورة عن خلق غابات مكتملة النمو بشرق أمريكا (شكل ٤-٥). كذلك كانت التلال في منطقة نيو إنجلاند مشغولة فيما مضى بالمجتمعات الزراعية التي أزالت معظم الغابات الصنوبرية وغابات الخشب الصلد. وفي القرن التاسع عشر، اقتفى مزارعو منطقة نيو إنجلاند أثر الأراضي الجديدة على الحدود الغربية لأمريكا. وسرعان ما أعاد المستأجرون الجدد استعمار مزارعهم بمنطقة نيو إنجلاند، والتي لم تعُد صالحة اقتصاديًّا وصارت مهجورةً في ذلك الوقت، مبتدئين بزراعة الأعشاب الحولية والأعشاب المُعمِّرة، تبعها بعد ذلك الشجيرات الأطول عمرًا والأشجار السريعة النمو، وأشجار حور راجفياني وأشجار البتولا الورقية، وأخيرًا الأشجار الكبيرة والقيقب السكري والزان والشوكران والبلوط الأحمر التي تشغل الآن هذه المزارع السابقة. وتُعد غابات شرق الولايات المتحدة بالكامل تقريبًا غابات ثانوية عادت للنمو مرَّة أخرى وليست غاباتٍ بِكرًا.

هل انتهى التعاقُب البيئي عند هذا الحد؟ ربما يتَّجه مجتمع ما، إذا تُرك بكرًا بلا أي تدخل، نحو حالةٍ تهيمن عليها الأشجار الكبيرة التي تُلقي بظلالٍ كثيفة لا يستطيع أن يستمر في العيش فيها إلا الأنواع التي تنمو بذات البطء وتتحمَّل الظلال. وهذه الحالة هي حالة الذروة، وهو مفهوم نظري ذو تاريخ طويل ومُعقَّد. ففي عام ١٩١٦، ذهب فريدريك كليمنتس إلى أنه حال توافُر الوقت الكافي، تُهيمن حالة ذروة واحدة على أي منطقة مناخية مُعيَّنة بغض النظر عن نقطة البداية البيئية الخاصة بها. أدَّت هذه الرؤية، التي انتقدها آرثر تانسلي وهنري جليسون، إلى جدلٍ طويل، ومرير أحيانًا، حول العمليات التنظيمية الكامنة وراء التعاقُب البيئي. اعتبر كليمنتس المُجتمعات كائنات حية خارقة تمرُّ بسلسلة من المراحل التطورية، لكلٍّ منها تنظيمها الداخلي الخاص. أما جليسون، فذهب إلى أن التفاعُلات بين الأنواع الفردية تُحدِّد التسلسُلات التعاقُبية، وأن النتائج ليست مُحدَّدة في الغالب؛ نظرًا لتأثُّرها بأحداثٍ عرضية خاصة بالانتشار وقدرة الأفراد على الاستعمار وتأسيس الوجود والتنافُس بنجاح على الموارد. وعلى عكس تفسير كليمنتس للمجتمع بوصفه «كيانًا عضويًّا» منفردًا، يقول جليسون إن المجتمع «ليس كائنًا حيًّا، ونادرًا ما يكون حتى وحدة نباتية، وإنما مجرَّد حالة «توافُق»» (جاء التأكيد على الكلمة الأخيرة في النص الأصلي للاقتباس). وزعم تانسلي أن الذروة المحلية تُحدِّدها عدة عوامل. وما المناخ إلا عامل واحد من هذه العوامل؛ وتشمل العوامل الأخرى التربة والجيولوجيا وواجهة المنحدرات والتضاريس. ومن الصعب عمليًّا تحديد مجتمعات الذروة المنعزلة والمستقرَّة؛ نظرًا لأن بِنية المجتمعات وتركيبها تتنوَّع باستمرار عبر تدرُّجات بيئية عديدة. والاضطرابات، على أي حال، موجودة دومًا بشكلٍ أو آخَر.

غير أن معدَّل التغيُّر في مجتمعٍ ما عادةً ما يكون غير محسوس، وهذا كافٍ لإعلان الوصول إلى مجتمع الذروة. وربما يستغرق التعاقُب في حقلٍ مهجور مائة أو مائتَي عامٍ من أجل الوصول إلى حالة من الذروة، كما حدث على الأرجح في أغلب المناطق الواقعة شرق الولايات المتحدة. ففي أثناء تلك الفترة، أعاد تساقط الثمار بفعل الريح وتفشِّي الأمراض واندلاع الحرائق عمليات التعاقُب إلى وضعها الأصلي. وابتدأ انحسار الغطاء الجليدي في نصف الكرة الشمالي قبل نحو ١٠ آلاف عام عمليات التعاقب التي يُقال إنها مستمرة حتى يومِنا هذا؛ ولذا ثمَّة شكوك حول ما إذا كان هناك وجود فعلي لحالة نظرية على أرض الواقع.

مقايضات التنافُس والاستعمار

لماذا يحدُث التعاقب البيئي، ولماذا يحدث بالطريقة التي ينتهجها؟ طُرحت تفسيرات نظرية كثيرة للانقلاب التعاقُبي للأنواع، بداية من الأعشاب والنباتات العشبية السريعة النمو وصولًا إلى الشجيرات والأشجار الخشبية الأبطأ نموًّا والأطول عمرًا، وهو ما يوازيه تطور مجتمعات متزايدة التنوع والتعقيد. وتدور الكثير من هذه التفسيرات حول المقايضات الشائعة في علم البيئة. لا يستطيع نوع واحد أن يتفوَّق في كل شيء. فعندما يتكيَّف نوعٌ ما مع ظرف معيَّن، تتراجع قُدرته على التجاوب مع الظروف الأخرى. ومن هذا المنطلق، يبدو علم البيئة أشبَه بلعبةٍ لا ربح فيها ولا خسارة، وتلوح المقايضات في أفق عمليات التعاقب البيئي، بما في ذلك عمليات المنافسة في مقابل عمليات الاستعمار.

ينتمي الأفراد الذين يؤدُّون أداءً جيدًا في المراحل المبكرة من التسلسلات التعاقبية إلى الأنواع التي تنمو بسرعة، بشرط وفرة الموارد. وهذه هي الأنواع قصيرة العمر التي تستعمر الأرض الجرداء، أو الأعشاب والشجيرات السريعة النمو التي تستفيد من وفرة الموارد. والواقع أن الموارد تكون وفيرةً بالفعل في البدايات؛ نظرًا لانخفاض الطلب على المساحة والضوء والمُغذيات، بالوضع في الاعتبار الكتلة الحيوية المبدئية للمجتمع الصغير. ويتغير هذا الوضع مع دخول مزيدٍ من البذور وظهور النباتات. فتزايد أعداد النباتات — التي تتنافس جميعًا من أجل المساحة — يُحفِّز المنافسة على الموارد المتناقصة. ولا يستطيع الوافدون الأوائل، ذوو الطلب المرتفع على الموارد، الحفاظَ على النمو السريع عند التنافس مع الوافدين في وقتٍ لاحق، الذين يستغلون الموارد الشحيحة بكفاءة أكبر. وعاجلًا أو آجلًا، تفرض النباتات الأبطأ نموًّا، ولكنها أكثر كفاءة، سيطرتَها وتحلُّ محل الأنواع الأسرع نموًّا التي تتطلَّب موارد كثيرة.

ويستلزِم بقاء جماعات الأنواع السريعة النمو أن تواصل استعمار المواقع المضطربة؛ حيث تُوجَد نُدرة نسبية في المنافسين ووفرة في الموارد. تخلق الاضطرابات البيئية مثل هذه المواقع، إلا أن تحديد مكانها عن طريق نشر البذور هي مسألة تعتمِد على الحظ إلى حدٍّ كبير. ومن أجل تعظيم فرصة نجاح الاستعمار، تُسرف النباتات الأولية التعاقُب في استخدام الموارد لإنتاج كمياتٍ كبيرة من البذور الصغيرة. وتنتشر هذه البذور المُنبتة على نطاق واسع، غالبًا عبر تيارات الرياح، ويُحالف الحظ عددًا قليلًا منها ليهبط على مناطق مناسبة وفيرة الموارد. ولا تحمل البذور الصغيرة بداخلها سوى مخزوناتٍ ضئيلة من الموارد لدعم الأجنة النباتية التي تحتويها، ومن ثم ليس من المرجَّح أن تصمد في المنافسة مع النباتات البذرية الأكبر حجمًا ما لم يُصادف هبوطها في بيئات غنية بالموارد. وعلى النقيض من ذلك، تميل الأنواع المتنافسة إلى إنتاج بذور كبيرة زاخرة بالموارد. وهذا يمنح النباتات الصغيرة الأسبقية في بيئة تنافسية.

قد يبدو الجمع بين نزعةٍ تنافسية شديدة والإسراف في التكاثر استراتيجية لا تُقهر، ولكن المقايضات تحُول دون ذلك. فإنتاج أعداد كبيرة من البذور هو أمر مُكلِّف من حيث الموارد؛ إذ يُقلِّل الموارد المخصَّصة للنمو، أو المُخصصة للجذور لتمكينها من الوصول إلى المُغذِّيات، أو المُخصصة للأوراق لالتقاط الضوء، أو للسيقان الخشبية القوية لمقاومة الأضرار الميكانيكية، أو للسموم الكيميائية للحماية من الآفات وآكِلات الأعشاب. فالمُقايضات تحُول دون نموِّ نباتات فائقة.

ماذا عن الحيوانات؟

عندما نُفكر في التعاقُب البيئي، نفكِّر في النباتات بالأساس، وذلك لسببٍ واضح مفاده أن تطور المجتمع البيئي على اليابسة يعتمد إلى حدٍّ كبير على تكوُّن الأعشاب والشجيرات والأشجار ونموها وتحولها، وهو ما يُعطي للبيئة شكلها المُميز ويخلق الموئل الذي تعيش فيه الحيوانات. وبالرغم من ذلك، يمكن أن تؤثِّر الحيوانات فعليًّا على مسارات ونتائج التعاقُب. وتلعب الفقاريات أدوارًا محورية في تغيُّر الوفرة النسبية للبذور من خلال افتراس البذور، وفي عمليات الاستعمار من خلال البذور التي تنشرها. فتنشر الفقاريات نحو ٦٠ في المائة من أنواع النباتات الخشبية في الغابات النفضية شرق الولايات المتحدة، في حين تنشر الطيور والثدييات ما بين ٦٠ في المائة إلى ٩٥ في المائة من الأنواع الخشبية في الغابات الاستوائية وشِبه الاستوائية حول العالم. وتنشر الحيوانات ذات الأجسام الأكبر حجمًا نباتات ذات بذورٍ كبيرة، والتي عادةً ما تكون أنواعًا تعاقُبية فيما بعد. وعادةً ما تكون مثل هذه الحيوانات أكثر عُرضةً للصيد والتدهور البيئي، والأرجح أن فقدانها من شأنه أن يؤثر على المسارات التعاقبية لترميم الموائل البيئية. تمثل البذور الكبيرة للكثير من النباتات التعاقبية اللاحِقة حِصصًا غذائية جذابة للقوارض الجائعة. وتشكِّل آكلات الحبوب العمليات التعاقُبية من خلال تقليل كثافات بذور النباتات ذات البذور الكبيرة، كلٌّ على حسب تفضيلاته.

وتستطيع الفقاريات أن تعرقل التعاقب برمته. فتمنع أعدادًا كبيرة من الغزال الأحمر في مرتفعات اسكتلندا تجدُّد الغابات الشجرية في مناطق شاسعة من أراضي الخلنج المُستنقعية العديمة الأشجار. بالمثل، تقتات أعداد كبيرة من الأفيال في السهول العشبية الأفريقية على الأشجار وتكسرها وتسحقها، مُفضِّلة بقاء الحشائش التي تحافظ عليها حرائق الغابات بدورها.

الأنظمة البيئية

يتجلَّى الجدال الذي دار، في أوائل القرن العشرين، بين علماء البيئة المُهتمِّين بتعاقُب المجتمعات النباتية وطبيعة الذروة حتى يومِنا هذا في الخلاف القائم بين المقاربات الشمولية والاختزالية لدراسة الأنظمة البيئية. عرف تانسلي الأنظمة البيئية بأنها أنظمة «لا تشمل مجموعة الكائنات الحية وحسب؛ وإنما تشمل أيضًا المجموعة الكاملة من العوامل المادية التي تشكِّل ما نُطلِق عليه بيئة المناطق الأحيائية.» وأكَّد اقتران العمليات البيولوجية والكيميائية والفيزيائية داخل نظام بيئي واحد. وتستوحي بعض التعريفات الحديثة تفسير تانسلي؛ إذ عُرِّفت الأنظمة البيئية باعتبارها «وحدة تضم مجتمعًا (أو مجتمعات) من الكائنات الحية وبيئتها الطبيعية والكيميائية، على أي نطاقٍ مُحدَّد بصورة مستساغة؛ حيث تُوجَد تدفُّقات متواصِلة من المادة والطاقة في نظامٍ تفاعلي مفتوح.» قد تكون وحدات النظام الإيكولوجي «المُحدَّدة على نحوٍ مستساغ» صغيرة صِغَر مجتمع الكائنات الحية التي تعيش في تجويفٍ مملوء بالماء في نبات الإبريق. وفي أغلب الأحيان، تتحدَّد الأنظمة البيئية على نطاقاتٍ مكانية أكبر داخل بيئاتٍ مُتباينة نسبيًّا، مثل مجرى مائي، أو بحيرة، أو غابة شجرية. وقد ازدادت تعريفات الأنظمة البيئية غموضًا وصعوبةً بفضل دخول تفسيرات أكثر ميوعةً تشمل قطاعاتٍ واسعة من العلوم البيئية والاجتماعية. وهذه التفسيرات الأخيرة أكثر شمولية في تضمين الأشخاص وتصرفاتهم بوصفها عناصر أصيلة في الأنظمة البيئية.

فسَّر ريموند ليندمان الأنظمة البيئية من خلال علاقات المكونات الأحيائية واللاأحيائية التي تتدفَّق من خلالها الطاقة والمادة. وكفاءة هذه المكونات في الحصول على الطاقة والاحتفاظ بها تعتمِد على البِنية الطبيعية والهيكل الغذائي للأنظمة البيئية. وتشمل البنية الطبيعية للأنظمة البيئية حجم وتوزيع الخصائص الطبيعية للنظام. ربما لا تكون هذه الخصائص بيولوجية بالمقام الأول في الأنظمة المائية أو الصحاري أو التندرا. ففي هذه الأنظمة، تُقيد الصخور أو الرواسب أو المياه أو الجليد توزيع أحياء المنطقة البيئية ووفرتها ودرجة تعقيدها، ولا يكون لدَيها قدرة كبيرة على تعديل البيئة. أما في الأنظمة البيئية الأكثر إنتاجية، مثل الغابات، تكون بِنية النظام الإيكولوجي بيولوجية بالمقام الأول. فتحصل الأشجار على الطاقة الشمسية وتمتص المواد المُغذية ومن ثَم تعدِّل الظروف الأحيائية على نحوٍ ملحوظ، من خلال المشاركة مثلًا في تكوين التربة، وتكوين الحُتات للأنظمة النهرية، وإبطاء وتيرة التآكل، وتنظيم درجة الحرارة والترسيب، وتغيير أنظمة الاضطراب.

الهيكل الغذائي

يتميَّز الهيكل الغذائي للنظام البيئي بالشبكة الغذائية. ويمكن دراسة الأنظمة البيئية من حيث الحصول على الطاقة من الشمس وتخزينها على هيئة كربوهيدرات في الأنسجة النباتية، لتنتقل عَبْر مساراتٍ غذائية متنوِّعة من آكِلات الأعشاب إلى آكِلات اللحوم. ويؤدي التحلُّل إلى إطلاق المُغذيات في المكونات الأحيائية للنظام البيئي مرَّة أخرى، في حين تتبدَّد الطاقة على هيئة حرارة، ومن خلال عملية التنفُّس المُجمع للمجتمع.

تمدُّ أشعة الشمس أحياء الكرة الأرضية بالطاقة، مع وجود عددٍ قليل جدًّا من الاستثناءات. ويُشكِّل حصول النباتات على الطاقة أثناء عملية البناء الضوئي أساس السلسلة الغذائية، وهو المستوى الغذائي الأول في أي مجتمعٍ بيئي. وتشمل الاستثناءات البكتيريا المُخلَّقة كيميائيًّا في أعماق المحيطات الحالكة الظلمة، التي تنتج كتلةً حيوية من أكسدة كبريتيد الهيدروجين أو الأمونيا بدلًا من إنتاجها من البناء الضوئي. وقد وضع ريموند ليندمان إطارًا مفاهيميًّا للسلاسل الغذائية والشبكات الغذائية على أنها انتقال للطاقة من النباتات، أي المستوى الغذائي الأول، إلى المستويات الغذائية التالية التي تشمل آكِلات الأعشاب وآكِلات اللحوم والكائنات الحية المُحلِّلة أو المُحلِّلات. وتعتمد الطاقة المُتاحة عند أي مستوى غذائي على كتلته الحيوية؛ أي كتلة الكائنات الحية عند ذلك المستوى الغذائي. ومن خلال دراسة انتقال الطاقة عَبْر المستويات الغذائية لنظام بيئي ما، من الممكن تحديد مقدار الكتلة الحيوية التي يُمكن أن يدعمها نظام بيئي ما.

لا تستطيع الفطريات والحيوانات، وكذلك أغلب أنواع البكتيريا، تخليق كتلة حيوية جديدة من خلال البناء الضوئي؛ ولذا تحصل على احتياجاتها من المادة والطاقة من النباتات. وتقوم بذلك مباشرةً من خلال تناول النباتات، أو عن طريق غير مباشر من خلال أكل بعضها بعضًا. والإنتاج الأوَّلي هو معدَّل الكتلة الحيوية الناتج لكل وحدة مساحة تشغلها النباتات؛ أي المستوى الغذائي الأول. أما الإنتاج الثانوي فهو معدل الكتلة الحيوية الجديدة التي تُنتجها الكائنات الحية المُستهلكة. وتشكل الكائنات الآكِلة النباتات المستوى الغذائي الثاني، بينما تشغل آكِلات اللحوم، التي تتغذَّى على آكلات الأعشاب، المستوى الثالث. وربما يكون هناك حيوانات مفترسة تتغذَّى على الحيوانات في المستوى الغذائي الثالث. ونادرًا ما يكون هناك أكثر من أربع مستويات غذائية في أي مجتمعٍ بيئي. ويتعلَّق السبب جزئيًّا في ذلك بمسألة انتقال الطاقة.

يأتي الإنتاج الثانوي لآكِلات الأعشاب في مرتبةٍ أقل من الإنتاج الأوَّلي. بالمثل، يتحوَّل عُشر إنتاج آكِلات الأعشاب فقط إلى كتلة حيوية للحيوانات المُفترسة. لذا تمثِّل الكتلة الحيوية المتاحة للكائنات الحية التي تشغل مستوياتٍ غذائية أعلى جزءًا ضئيلًا من الكتلة الحيوية التي تُنتجها النباتات. فلا تُوجَد ببساطة طاقة كافية في المستويات الغذائية الأعلى لدعم الجماعات القابلة للاستمرار ولكنَّها في الوقت ذاته تشمل عددًا أكبر من المستويات الغذائية.

ماذا يحدث للكتلة الحيوية للنباتات والطاقة التي تُمثِّلها؟ لا يُستهلك أغلبها ببساطة، وعندما تموت النباتات تُستغَل كتلتها الحيوية (التي يُطلق عليها في هذه الحالة الكتلة الحيوية الميتة) من جانب مجتمع المحللات الموجودة في التربة — ويتشكل أغلبها من البكتيريا والفطريات والعديد من اللافقاريات — التي تُعيد المواد النباتية إلى التربة مرَّة أخرى. وجزء كبير من الكتلة الحيوية المأكولة لا يمكن أن يتحوَّل بسهولةٍ إلى أنسجة حيوانية، وبدلًا من ذلك تخرج على هيئة فضلات. فالحيوانات غير مؤهلة جيدًا لهضم الكربوهيدرات المُعقَّدة بنيويًّا (الليجنين والسليلوز) التي تُمثل نسبة عالية من الأنسجة النباتية. ومن ثَم فهي لا تمتص إلا نحو ٢٠ إلى ٥٠ في المائة من الكتلة الحيوية التي تستهلكها، على الرغم من أن آكِلات الحبوب أو الفواكه يمكن أن تمتصَّ نسبة كبيرة من الطاقة تصل إلى ٧٠ في المائة. على النقيض من ذلك، تمتص آكِلات اللحوم التي تتغذَّى على الأنسجة الحيوانية، نحو ٨٠ في المائة من الكتلة الحيوية المستهلكة. وتستخدِم الحيوانات أيضًا بعض الطاقة التي تأتي من الكتلة الحيوية المستهلكة للقيام بأنشطتها، سواء اصطياد الفريسة، أم الهروب من الحيوانات المُفترسة، أم ملاحقة شركاء التزاوج، أم الدفاع عن مناطق النفوذ، أم بناء الأعشاش، أم الهجرة. علاوةً على ذلك، يُسفر عدم الكفاءة في استغلال الطاقة وتحويلها من هيئتها ككتلةٍ حيوية عن فقدانها على هيئة حرارة. ومن ثَم، لا يستخدم سوى قدرٍ ضئيل فقط من الطاقة الشمسية التي تحصل عليها النباتات في تكوين الكتلة الحيوية الحيوانية (جدول ٤-١).

ولأسباب عدم الكفاءة في تحويل الطاقة، لا تُمثل الكتلة الحيوية وعدد المستويات الغذائية الأعلى إلا جزءًا صغيرًا جدًّا من الكتلة الحيوية للنباتات عند أدنى مستوى. وقد لاحظ تشارلز إلتون في البداية تراجُع الكتلة الحيوية بمقدار نحو عشرة أضعاف من كل مستوى غذائي إلى الذي يليه، إلا أن ريموند ليندمان استطاع تفسير هذا النمط بأنه ناشئ عن انتقال الطاقة وفقدانها. وفي هذا المقام، لا مفرَّ من القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن الطاقة تتبدَّد بينما تؤدي مهمتها في تحويل المادة من شكلٍ إلى آخَر عَبْر السلسلة الغذائية. والقانون الثاني للديناميكا الحرارية هو الذي يُفسِّر، على حد قول بول كولينفوكس، سبب ندرة الحيوانات الشرسة الكبيرة.

جدول ٤-١: الكتلة الحيوية للنباتات والحشرات والفقاريات مُجمعة من مجموعة من الأنظمة البيئية، تبين أن نسبة ضئيلة فقط من الكتلة الحيوية النباتية تتحول إلى كتلة حيوية حيوانية (جميع القيم مُقدَّرة بالجرامات لكل متر مربع)
النظام الإيكولوجي النباتات الحشرات الفقاريات
الغابات الاستوائية المنخفضة في بيرو ٣٩٠٠٠ ٥٫٤ ٠٫١٥
الغابات الصنوبرية المعتدلة ٣٠٠٠٠ ٢٫٤ ٠٫٠٨
الغابات النفضية المعتدلة ٢٠٠٠٠ ٥٫٠ ٠٫١١
المراعي الاستوائية، سيرينجيتي ٣٠٠٠ ٠٫٧٦ ٢٫٣
المراعي المعتدلة، كولورادو، الولايات المتحدة الأمريكية ٢٣٠٠ ٠٫٦٢ ١٫١
كروبلاند، بولندا ١٢٦٠ ٥٫٨ ٠٫٢
مجرى مائي، أريزونا، الولايات المتحدة الأمريكية ٣٥٠ ٣٫٠ ٥٠

الدورات البيوجيوكيميائية

يربط تركيز ليندمان على تدفُّقات الطاقة والمواد عَبْر الأنظمة البيئية، بين العمليات الإيكولوجية والبيوجيوكيميائية. ينشأ التدوير البيوجيوكيميائي من تدفُّقات المواد بين مكونات النظام الإيكولوجي الأحيائي واللاأحيائي. فالنباتات، مثلًا، تمتصُّ المُغذيات من التربة، وهو ما يتيسَّر بفعل نشاط الكائنات الحية في التربة، والتعايش بين النباتات والفطريات الجذرية أو الكائنات الحية الدقيقة. تنتقِل المُغذيات إلى أعلى عَبْر الشبكة الغذائية عندما تستهلك الحيوانات العاشبة الأنسجة النباتية، ويُعاد تدويرها في النهاية مرَّة أخرى داخل التربة من خلال عملية التحلُّل. تقوم الحيوانات المُستهلكة، سواء أكانت عاشبة أم مفترسة، بتسريع إعادة تدوير المُغذيات عن طريق الإخراج، وإعادة توجيه تدفُّقات المُغذيات عن طريق نقلها عبر المشهد الطبيعي أو بين الأنظمة البيئية. ويساهم ظهور مجموعات النمل أو حشرات السيكادا المُتكاثرة بصفةٍ دورية، أو بعبارة أدق موتها وتحللها فيما بعد، في الدفع بالمُغذيات إلى الأنظمة البيئية المائية بما يكفي لتحفيز الإنتاجية المائية. وتحدُث تدفُّقات عكسية عندما يخرج الهاموش البالِغ من موئله اليرقي المائي، مما يزيد من مُدخلات النيتروجين والفوسفور حتى خمسة أضعاف إلى الأنظمة البيئية الأرضية في نطاق ٥٠ مترًا من المجاري المائية.

تؤثر التغيُّرات في تكوين الأنواع في المُجتمعات البيئية بعد وقوع اضطرابٍ ما أو في أثناء التعاقُب البيئي على معدلات المُغذِّيات ومسارات تدفُّقها. فالمُجتمعات النباتية الأولية التعاقُب، التي تنشأ بعد وقوع اضطرابٍ ما بفترةٍ وجيزة عندما تكون الموارد وفيرة، مهدرة للمُغذيات عمومًا؛ نظرًا لضعف المنافسة أو غيابها عن المشهد تمامًا. ويُفقد المزيد من المغذيات من النظام خلال هذه المراحل مقارنة بمراحل التعاقب اللاحق عندما تقتضي المنافسة الاحتفاظ بقدر أكبر من المغذيات وإعادة تدويرها. وتصبح المغذيات المفقودة من أحد الأنظمة البيئية مدخلاتٍ في نظامٍ آخَر. ويُعد الحتات المنجرف إلى المجاري المائية في أثناء هبوب العواصف المصدر الأساسي للمُغذيات لكثيرٍ من الأنظمة البيئية للمجاري المائية، وتُعد المادة العضوية التي تنتقل مع التيار مصدرًا رئيسًا للمغذيات بالنسبة إلى الأنظمة البيئية لمصبَّات الأنهار والأنظمة البيئية الساحلية.

تفتقر الأنظمة الزراعية المُكثفة ونظم زراعة الغابات نسبيًّا إلى الكفاءة في الاحتفاظ بالمُغذيات؛ لأن الأنواع القليلة التي تحتوي عليها لا يُمكنها الحصول على المادة بمختلِف أشكالها وكذلك المُجتمعات النباتية الأكثر تنوُّعًا. وتشتمل مزائج الأنواع المتنوِّعة على مجموعة أكبر من الاستراتيجيات للحصول على المُغذيات، وتتمتَّع بمجموعةٍ أكبر من التفاعُلات التقايضية مع الكائنات الحية في التربة، مما يزيد من المسارات التي تمتصُّ النباتات من خلالها المُغذيات مثل النيتروجين. وانخفاض نسبة المُغذيات التي يتم الحفاظ عليها في الزراعة المُكثفة يُجبِر المزارِعين على استخدام الأسمدة الصناعية لتعويض المغذيات المفقودة. والآن يتفوَّق النيتروجين المُثبَّت صناعيًّا من الغلاف الجوي والمُستخدَم في تصنيع الأسمدة على التثبيت البيولوجي للنيتروجين من جانب جميع الأنظمة البيئية الأرضية. ويشكل الاستخدام المستمر للأسمدة النيتروجينية في زراعة المحاصيل تهديدًا للتربة والمياه وجودة الهواء بسبب تسرُّب النيتروجين وانبعاثات أكسيد النيتروز (N2O)، وهو أحد الغازات الدفيئة القوية التي تؤدي أيضًا إلى تدهور طبقة الأوزون. ومن خلال تطبيق المعرفة الإيكولوجية، عن طريق الاعتراف بقيمة توليفات الأنواع الموجودة في الأنظمة الزراعية، يُمكننا تحسين دورة المُغذيات وكفاءة الاحتفاظ بها، وتقليل استخدام الأسمدة المُصنعة وتأثيراتها البيئية السلبية.

دورة النيتروجين

تتحكم مجموعات الكائنات الحية، والتفاعُلات بينها، في التدفُّقات البيوجيوكيميائية، بما فيها تلك الخاصة بدورة النيتروجين. يدور النيتروجين، الذي يُعَد عنصرًا غذائيًّا أساسيًّا لنمو النباتات، عَبْر الأنظمة البيئية الجوية والأرضية والبحرية في أشكال جزيئية مختلفة (شكل ٤-٦). ففي التربة، تبدأ العملية بتثبيت النيتروجين الجوي (N2) عن طريق البكتيريا، أو تحويل النيتروجين العضوي من الروث وجُثث الحيوانات والنباتات إلى أمونيوم (NH4+)، ونيتريت (NO2) ونترات (NO3). تمتص النباتات الأمونيا والنترات وتنتقِل إلى الحيوانات التي تتغذَّى عليها. ويُعاد النيتروجين إلى التربة على هيئة روث أو جثث. ويعود بعض النيتروجين إلى الغلاف الجوي من التربة من خلال نزع النيتروجين من البكتيريا؛ من خلال عملية اختزال النترات إلى غاز النيتروجين (N2)، الذي يكمل دورة النيتروجين.
fig14
شكل ٤-٦: تلعب إيكولوجيا التفاعلات التقايضية والتنافسية والاستهلاكية بين الحيوانات والنباتات والفطريات والبكتيريا دورًا مهمًّا في دورة النيتروجين.

تُعد النباتات أطرافًا نشِطة في هذه العملية. فمن خلال الاستعانة بفطريات التربة بوصفها فطريات جذرية شريكة، ومن خلال تكوين علاقات تكافُلية جذرية أخرى مع بكتيريا التربة، تسرِّع النباتات امتصاص المركبات النيتروجينية وتحويلها إلى كتلةٍ حيوية نباتية. وتُشكل معظم أنواع النباتات البقولية، البالِغ عددها نحو ١٨ ألف نوع، ومن بينها الأنواع المألوفة مثل الفاصوليا والبازلاء والبرسيم، علاقات تكافُلية مع بكتيريا «الريزوبيا» المثبتة للنيتروجين والموجودة داخل العقد الجذرية. تمد النباتات بكتيريا الريزوبيا بالكربوهيدرات، وفي المقابل تحصل على النترات التي تستمدها البكتيريا من النيتروجين الجوي. ويستطيع أن يثبت البرسيم الحجازي أكثر من ٢٠٠ كيلوجرام من النيتروجين لكل هكتار سنويًّا، بينما تثبت أنواع البرسيم الأخرى نحو ١٥٠ كيلوجرامًا للهكتار سنويًّا.

تُطلق جذور النباتات إفرازات غنية بالكربون تُحفز التحول البكتيري للمادة العضوية الموجودة في التربة إلى أشكالٍ من النيتروجين جاهزة للاستعمال، ممَّا يُفيد كلًّا من الميكروبات والنباتات على حدٍّ سواء. وتوفر بعض فطريات «ميثاريزيوم» الحرة غير التكافُلية للنباتات ما يصِل إلى ٤٨ في المائة من احتياجاتها من النيتروجين من أنسجة الحشرات عن طريق إصابة حشرات التربة واستهلاكها، وفي المقابل تُطلق النباتات الكربون من الجذور.

تحدث عمليات فقد النيتروجين من الأنظمة البيئية من خلال تسرُّب النترات إلى المياه الجوفية، أو تحويلها إلى غاز النيتروجين من خلال نزع النيتروجين الميكروبي. يتأثر الاحتفاظ بالنيتروجين أو فقده باستراتيجيات نمو النبات وسِماته والتفاعلات بين النباتات وميكروبات تدوير النيتروجين. تُقلل النباتات السريعة النمو من فقد النيتروجين من خلال التنافُس مع البكتيريا على النترات، مما يُقلل فرصة فَقْد مركبات النيتروجين من النظام الإيكولوجي من خلال التسرُّب أو الانبعاثات الميكروبية. بعض مروج البراكياريا العشبية الاستوائية، واثنان على الأقل من محاصيل الأعلاف النباتية في المناطق المعتدلة، ألَا وهما البرسيم الحجازي (ميديكاجو ساتيفا) والنجيل الإصبعي (داكتيلاس جلومراتا)، تقلِّل من تسرُّب النيتروجين من التربة عن طريق إطلاق مواد كيميائية تُثبط نشاط كائنات النترتة الدقيقة، مما يُقلِّل من معدلات توليد الأمونيا والنترتة بنسبة ٩٠ بالمائة. وفي حين أن هذا قد يبدو ذا نتائج عكسية للنباتات التي تعتمِد على النترات التي تُنتجها هذه البكتيريا، إلا أن هذه المُثبطات لا تُطلق إلا عندما تكون تركيزات الأمونيا في جذور النباتات عالية. وتسخير هذا المثبط المشروط للنشاط الجرثومي يمكنه زيادة كفاءة استخدام النيتروجين في النظم الزراعية. وهذا من شأنه أن يُقلِّل الحاجة إلى مدخلات الأسمدة، ومن ثم تجنُّب التسرُّب المُفرط للنيتروجين في المجاري المائية الذي قد يتسبب في تكاثر الطحالب، على حساب الحشرات المائية والأسماك.

بينما تباين أنواع النباتات المختلفة في قُدرتها على التأثير في عمليات تدوير النيتروجين، المرهونة باستراتيجياتها للحصول على الموارد والسمات المُرتبطة بها، فإن إيكولوجيا التفاعلات بين النباتات والفطريات والبكتيريا لها آثار كبيرة على تدفُّقات النظام الإيكولوجي من النيتروجين والمواد المغذية الأخرى، وتُحدد طبيعة دورة النيتروجين على نطاقات أكبر.

العودة إلى التاريخ الطبيعي

كانت رؤية ريموند ليندمان العظيمة هي تفسير الأنظمة البيئية المُعقدة على أنها تدفُّقات للطاقة والمادة بين مكونات الأنظمة البيئية الأحيائية واللاأحيائية. ويشتهر بدراسته المبتكرة الكَمِّيَّة والمفاهيمية لنظام بيئي كامل، بما في ذلك الكائنات الحية الدقيقة والنباتات والحيوانات والمكونات غير الحية. ولكن ما لا يُعرف عن ريموند الشاب أنه قضى سنوات طفولته مُنغمسًا تمامًا في حُبه التاريخَ الطبيعي. ويعود الفضل في فَهْمه الأنظمة البيئية، بما في ذلك مفهوم الشبكات الغذائية وانتقال الطاقة، إلى نزهاته إلى الأطراف الوعرة لمزرعة العائلة سيرًا على الأقدام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤