الفصل السادس

علم البيئة التطبيقي

إن أكبر التحديات التي تُواجهنا هي في الأساس تحديات بيئية. فتغيُّر المناخ، وفقدان التنوُّع الحيوي، وتدهور الأراضي، والتلوث والمواد البلاستيكية، وترسُّب النيتروجين، والأنواع الغازية، كلها أمور تشكِّل سلسلة مطوَّلة من القضايا التي يتعيَّن علينا بوصفنا مجتمعًا عالميًّا أن نتعامل معها في الوقت الحاضر وعلى مدار عقودٍ قادمة. ويتفاقم حجم هذه المشكلات بسبب تزايُد حجم التعداد السكاني البشري وثروته. لقد جرى تحذيرنا منذ فترةٍ طويلة من هذه القضايا. ونصَحَنا ألدو ليوبولد وراشيل كارسون، وكثيرون غيرهما، بتطبيق المبادئ الإيكولوجية في إدارة الأراضي وإدارة أنظمتنا الاجتماعية والسياسية. وبوجهٍ عام، فإننا لم نفعل ذلك. ثمة أسباب عديدة وراء عدم قيامنا بذلك، إلا أن جزءًا صغيرًا من التفسير يعود إلى أن معرفتنا الإيكولوجية لم تتطوَّر جيدًا بما يكفي لتوفير الأدوات المفاهيمية والمنهجية اللازمة لتوفير التوجيه الإداري المناسب. بينما يعود جزء أكبر بكثير من سبب الفشل البيئي الذريع إلى عمليات الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية العالَمية السائدة، وهو موضوع يستحقُّ أن نُفرد له كتابًا آخَر.

تطبيق منهج علم البيئة

يشكِّل علم البيئة أساسًا لكثير من المبادئ والمفاهيم والنظريات والنماذج والأساليب المُتَّبعة لمعالجة المشكلات البيئية. ويسعى علم البيئة التطبيقي جاهدًا إلى إيجاد حلول بيئية عملية من خلال تطوير خيارات الإدارة القائمة على النظرية الإيكولوجية، ومن خلال توقُّع مسارات مقبولة ومنطقية للتغيير، وتقييم النتائج. نحن نطبِّق المعرفة الإيكولوجية لوضع نماذج للموارد المُتجددة، مثل الأسماك أو الأخشاب، وتقديم إرشادات حول كيفية استغلالها دون تقليص الإنتاجية على المدى الطويل. كذلك يتعامل عِلم البيئة التطبيقي مع الأنواع التي نرغب في السيطرة عليها، بما في ذلك الآفات الزراعية والأعشاب الضارة، والأنواع الغازية، والأمراض التي تُصيب الحيوان والنبات. بالمِثل، نستخدِم النظريات والأساليب الإيكولوجية لحماية الأنواع التي نُثمنها، إما من خلال اتخاذ إجراءات الحماية أو إدارة الموائل.

يوفِّر العالَم الطبيعي مجموعةً متنوِّعة من الخدمات التي تفيد البشرية، بما في ذلك تلقيح النباتات، وتنظيم العمليات الهيدرولوجية، وتدوير المواد المُغذية، وإزالة الكربون. إن إدارة البيئة للحفاظ على خدمات النظام الإيكولوجي تتعدى حدود علم البيئة التطبيقي ليشمل نطاقاتٍ أوسَع من المشهد الطبيعي. ويشمل هذا إدارة الغابات، والأنظمة البيئية الزراعية، والمراعي، والأراضي الخُثِّية، والجبال، والسواحل، والمناظر البحرية، وغيرها الكثير. في بيئات المناظر الطبيعية، نحن مُجبَرون على العمل وَفْق عمليات لا تشمل نطاقاتٍ مكانية فحسب، بل تمتدُّ أيضًا لتشمل نطاقاتٍ زمنية، بدءًا من التقلبات القصيرة المدى التي تؤثر على الجماعة والاضطرابات الحادة، وصولًا إلى التغيُّرات الطويلة المدى في درجة خصوبة التربة، أو تكوين الموائل، أو المناخ.

يعمل المُتخصِّصون في علم البيئة التطبيقي في نقطة التقاطُع ما بين الأنشطة البشرية والنواتج البيئية، وعلم البيئة التطبيقي بطبيعته يحوي تخصُّصات متداخِلة. وتقترح النظرية والمبادئ الإيكولوجية إدارةً سليمة إيكولوجيًّا، ولكن في النهاية، تُنفذ قرارات الإدارة على يد المُزارعين وعُمال الغابات والشركات وصناع السياسات، وجميعهم لدَيهم منظومتهم الخاصة من الاعتبارات والاحتياجات والأولويات. ومن أجل فهم عملية اتخاذ القرار والتخطيط البيئي، لا بدَّ أن يتفاعل علم البيئة التطبيقي مع تخصُّصات أخرى، غالبًا ما تكون مختلفة إلى حدٍّ كبير، مثل الاقتصاد والسياسة وعلم الأخلاق وعلم النفس السلوكي والرياضيات والقانون البيئي. ولذلك فإن الاستعانة بعلم البيئة وتطبيقه في الإدارة هو أمر أكثر فوضوية مما قد يُوحي به علم البيئة بوصفِه تخصُّصًا علميًّا. فالنهج الإيكولوجي للإدارة يأخذ بعين الاعتبار التفاعُلات بين الكائنات الحية وبيئتها، ويبحث في الاستجابات عَبْر المكان والزمان في المشاهد الطبيعية المُعقَّدة، ولكن الأهم من ذلك كله أنه يجب أن يقوم بذلك أيضًا في سياق المعايير والاحتياجات الموجَّهة نحو مصلحة البشرية. وهذا على الأرجح يجعل علم البيئة التطبيقي، في السياق الأوسع لصنع القرارات، من أكثر التخصُّصات البيئية تعقيدًا وتحدِّيًا، فضلًا عن الحاجة الماسَّة إليه بالطبع.

الحد الأقصى للعائد المستدام

تُستخدم النظرية الإيكولوجية لوضع نموذج لديناميات الجماعة، يمكن من خلاله تقدير عوائد الحصاد المستدام. فيستعين علماء مصائد الأسماك بنماذج لتقديم توصيات بشأن حصص الصيد وجهوده لضمان مصائد أسماك مُستقرة وقابلة للاستمرار. توضِّح النظرية الإيكولوجية أن جماعات الأنواع البرية تنمو حتى تصِل إلى أقصى قُدراتها الاستيعابية، والتي تُعرَّف بأنها الحد الأقصى لحجم الجماعة الذي يُمكن أن تدعمه البيئة، وهذا عندما يتساوى عدد المواليد مع عدد الوفيات. ويؤدِّي تقليل عدد الجماعة إلى تخفيف حِدة المنافسة على الموارد المعتمدة على الكثافة، مما يؤدي إلى تعافي الجماعة واستعادة القُدرة الاستيعابية. والانخفاض الطفيف في عدد الجماعة يؤدي إلى انخفاض طفيف في الكثافة وحسب، وتكون الزيادة الناتجة في عدد المواليد عن الوفيات زيادة هامشية. أما الانخفاض الكبير في عدد الجماعة، فيؤدي إلى تخفيف حِدَّة المنافسة إلى حدٍّ كبير، ولكن نظرًا لصغر حجم الجماعة الناتجة، فإن عدد المواليد يكون منخفضًا بالتبعية. وفي موضعٍ ما بين هذَين النقيضَين، يُوجَد حجم الجماعة الكبير بما يكفي لإنتاج الكثير من المواليد الجُدد، ولكنه مُنخفض بما يكفي لتخفيف حِدَّة المنافسة، مما يعني انخفاض معدل الوفيات. وبافتراض أن حجم الجماعة يُنظَّم وفقًا للكثافة فقط، يحدث الفارق الأكبر بين عدد المواليد والوفيات عندما يكون حجم الجماعة يُعادل نصف القدرة الاستيعابية بالضبط. وعند وصول الجماعة إلى هذا الحجم، حيث يكون معدل النمو في أعلى مستوياته، ينبغي أن يكون حصاد أقصى حدٍّ من هذا العدد الفائض، الذي يساوي عدد المواليد ناقص عدد الوفيات، مُمكنًا، مع توقُّع عدَم حدوث تغيير شامل داخل الجماعة، التي ستستمر في توليد هذا الفائض «إلى ما لا نهاية».

يُعتبر مستوى الحصاد هذا هو «الحد الأقصى للعائد المستدام». ومن المُغري إدارة الموارد المتجددة على هذا الأساس، وكثيرًا ما قامت مصائد الأسماك بذلك. يفترِض حصاد الحد الأقصى للعائد المُستدام أننا مُتيقنون من حجم الجماعة ومعدلات النمو المعتمدة على الكثافة. وإذا افترضنا أن مستوى الحصاد المُوصى به أعلى قليلًا من الحد الأقصى للعائد المستدام، فإن عدد الأفراد الذين يتم حصادهم، عامًا تلو الآخَر، سيتجاوز الفائض الناتج. ومن ثَم سوف يتناقص عدد الجماعة، ببطءٍ في البداية، ولكنها ستتَّجِه نحو الانقراض بسرعة متزايدة. أما إذا كان الحصاد أقل إلى حدٍّ ما من الحد الأقصى للعائد المستدام، فستُحقِّق الجماعة مستوًى أعلى من التوازن المستقر، ولكنها ستُولد عائدًا أقل.

كل هذا يؤسِّس لفرضية أن الجماعة الخاضعة للحصاد هي نظام مُغلَق على نفسه، لا يتأثر بأي شيءٍ باستثناء قاعدة التنظيم الداخلي للأعداد اعتمادًا على الكثافة. غير أن الأنظمة الإيكولوجية، عند أي مستوًى من مستويات التحليل، تعتمد على عملياتٍ تقع خارج نطاق الاعتبار وتتأثر بها. إحدى هذه الظواهر الخارجية هي ظاهرة النينيو أو التذبذبات الجنوبية، وهو حدث مناخي مُتكرِّر يؤدي إلى ارتفاع درجات حرارة سطح البحر ويُغيِّر أنماط التيار المائي الصاعد في المحيطات، مما يتسبَّب في استنفاد المُغذيات إلى حدٍّ كبير في المياه بالقُرب من سواحل أمريكا الجنوبية. وتسبَّبت ظاهرة النينيو في عام ١٩٧٢ في انهيار مصائد أسماك البَلَم، التي ظلَّت عند مستوًى مُتدنٍّ حتى تسعينيات القرن العشرين. وأدَّى استمرار الصيد عند الحد الأقصى للعائد المستدام، استنادًا إلى نموذجٍ لم يأخذ هذا التذبذب في الاعتبار، إلى تفاقم مشكلة الانتعاش البطيء لمخزون أسماك البَلَم.

أسماك القد

غالبًا ما تكون فرضية القدرة الاستيعابية المتوازنة الخاضعة لمبدأ الاعتماد على الكثافة غير صحيحة. فمثل هذا النهج لا يأخذ في الاعتبار سوى نوعٍ واحد في المرَّة الواحدة، دون تضمين التفاعلات بين الأنواع المختلفة في المجتمع البيئي.

لنتأمَّل أسماك القد. في عام ١٤٩٧، أعاقت الأسماكُ — التي كانت «بكثافة شديدة بالقرب من الشاطئ لدرجة أننا لم نتمكن من التجديف بقارب عبرها» — تقدُّمَ جون كابوت عَبْر ساحل نيوفاوندلاند بشدة. كان بالإمكان سحب السِّلال التي يتم إنزالها في الماء بجوار السفينة بعد لحظاتٍ وهي مليئة بالأسماك. وبعد نحو ٤٠٠ عام، صرح توماس هنري هكسلي بكل ثقة، وهو يُلقي الخطاب الافتتاحي في معرض مصائد الأسماك في لندن عام ١٨٨٣، قائلًا: «أعتقد أن مصائد أسماك القد، والرنجة، والبلشار، والماكريل، وربما جميع مصائد الأسماك البحرية الكبرى، لا تنضب.» ولكن بعد مائة عام، تحديدًا في عام ١٩٩٢، انهارت مصائد أسماك القد الضخمة في منطقة جراند بانكس. ماذا حدث؟

تتغذَّى أسماك القد على الأسماك الصغيرة والحبَّار وسرطانات البحر، التي تتغذى بدورها على العوالق الحيوانية التي تتغذَّى على العوالق النباتية. تؤثر التغيرات في أعداد العوالق النباتية، التي تخضع إنتاجيتها للتيارات الصاعدة الغنية بالمغذيات الآتية من أعماق المحيطات، في النهاية، على أسماك القد الموجودة بالقُرب من قمة الشبكة الغذائية. تزيد الاستجابات المُفرطة الأمورَ تعقيدًا؛ إذ تُؤكَل أسماك القد الصغيرة من قِبل الأسماك التي تكون هي نفسها فريسة لأسماك القد البالغة. ويؤدي حصاد أسماك القد البالغة إلى تحرير هذه «المفترسات المُنتمية للمستوى الأوسط من الشبكة الغذائية» من ضغط الافتراس، مما يفرض مزيدًا من ضغوط الافتراس على أسماك القد الصغيرة. حينئذٍ تُصبح مفترسات المستوى الأوسط مفترساتٍ عُليا، ومن خلال الْتِهام أسماك القد الصغيرة فإنها تحُول دون تعافي مخزونات أسماك القد. ولا تزال أسماك القد موجودة شمال غرب المحيط الأطلنطي، ولكن ليس بالأعداد الكافية لدعم مصائد الأسماك الكبيرة، ولم تُظهر أعدادها أي علامات على التعافي منذ الانهيار الذي شهدته في عام ١٩٩٢. يمكن القول إن النظام الإيكولوجي البحري في شمال غرب المحيط الأطلنطي قد انقلب إلى حالةٍ بديلة، لتُهيمن عليه مفترسات المستوى الأوسط التي تقمع أعداد أسماك القد الصغيرة وتحُول دون تعافيها. إن الشبكة الغذائية، التي أُعيدت هيكلتها الآن لتصِل إلى حالةٍ جديدة من الاكتفاء الذاتي، تحُول دون إعادة تمركُز أسماك القد البالِغة على قمة السلسلة الغذائية.

من المؤكَّد أن تقدير حجم المخزونات السمكية أمر صعب، لكن علماء البيئة لديهم الآن أنظمة أكثر تطوُّرًا بكثيرٍ للمراقبة والنمذجة. والأهم أن علماء البيئة يُدركون أيضًا أن النموذج المُغلَق القائم على العمليات المُعتمدة على الكثافة فقط ليس كافيًا لتفسير التذبذبات في أعداد الجماعة. وتتضمَّن النماذج الجديدة تفاعلات الشبكة الغذائية، وتُقدِّر أعداد كلٍّ من أنواع الفرائس والمفترسات، بالإضافة إلى الأنواع المهمة لعملية الحصاد. وتأخذ في الاعتبار التغيرات المناخية وأنماط الطقس التي تؤثر على المُغذيات. ويقوم علماء مصائد الأسماك أيضًا بقياس الاستجابات التي قد تُجازف بالتغيرات وتحولها إلى حالات غير مرغوب فيها. وتيسر التحسينات، التي تطرأ على عمليات الحوسبة العالية السرعة، تحليلَ هذه البيانات.

تتطلَّب التطورات في تحليل الأنواع المُتعددة حتمًا مزيدًا من المعلومات الكمية لتغذية النماذج. إلا أن الإدارة الناجحة لمصائد الأسماك لا تهتم باحتمالية وجود أخطاء في النماذج الموضوعة وحسب، وإنما تهتم أيضًّا باستعداد الساسة والقائمين على صناعة صيد الأسماك لقبول توصيات علماء البيئة المُختصين بالمصائد السمكية والالتزام بها، وتسجيل أعداد الأسماك التي يجري صيدها بدقة. وتُحدد لوائح الصيد حصصًا لكمية الأسماك التي يمكن حصادها، أو تحدُّ من جهود الصيد عن طريق فرض قيودٍ على أعداد القوارب، أو أيام الصيد، أو نوعية المعدات المُستخدمة. ومثل هذه القيود مُثيرة للجدل على الصعيد السياسي؛ لأنها تُقلِّل من الأرباح المحتملة لصناعة صيد الأسماك، وتؤثر على سُبل كسب العيش في المجتمعات المحلية القائمة على الصيد. كما أنها صعبة التطبيق. فتُلقى كميات كبيرة من الأسماك التي جرى صيدها، بما في ذلك أسماك القد غير البالغة، مرَّةً أخرى في البحر؛ لانخفاض قيمتها السوقية، أو لكونها من الأنواع غير المُستهدفة التي لا تحمل القوارب ترخيصًا بصيدها. ويقلِّل هذا الصيد العرضي غير المقصود، بالإضافة إلى البلاغات المضللة عن أعداد الأسماك التي جرى صيدها، من موثوقية نماذج المصائد السمكية. ولذا لا يمكن للإدارة المستقبلية للمصائد السمكية الاعتماد فقط على النظريات والنماذج الإيكولوجية، بل يجب أن يقترن علم البيئة بفهم الأبعاد الاجتماعية للاستجابات السلوكية لصناع السياسات ومجتمعات الصيد.

الأنواع الغازية

تسبَّبَت الأنواع الدخيلة الغازية، التي أُدخلت — بطريقة مُضلِّلة أو عن غير قصد — إلى مناطق جغرافية خارج نطاقها الطبيعي في أضرارٍ بيئية واقتصادية هائلة، خاصة على الجزر. ونظرًا لعُزلتها، تُعد الجزر عمومًا فقيرة في الأنواع، ولكنها غنية نسبيًّا بالأنواع المستوطنة التي لا تُوجَد في أي مكانٍ آخَر. وهذه الأنواع المستوطنة، المحمية من الصعوبات التنافسية للمجتمعات الأحيائية الأكبر حجمًا على اليابسة، مُعرَّضة بصفةٍ خاصة للأنواع الغازية. وما يقرُب من ٦٠ في المائة من حوادث انقراض الأنواع الحديثة حدثت على الجزر، وجزء كبير من السبب في ذلك يرجع إلى تأثيرات الأنواع الغازية.

أدرك تشارلز إلتون مخاطر الأنواع الدخيلة في كتابه الصادر عام ١٩٥٨ بعنوان «إيكولوجيا الغزو لدى الحيوانات والنباتات»، الذي وصف فيه إلى أي مدًى شجَّع البشر عمليات الغزو الحيوانية والنباتية والأسلوب المُتبع في ذلك. سعى إلتون إلى فَهم العوامل الإيكولوجية التي تسهل أو تعيق هجمات الغزو البيولوجية في مراحل مختلفة من عملية الغزو. وربما يمكن التنبؤ بنجاح كثيرٍ من الأنواع الدخيلة من خلال ما نعرفه عن الضغوط التنظيمية التي تفرضها الحيوانات المفترسة، والأنواع المنافسة، والطفيليات، والأمراض التي تُصيب هذه الأنواع في نطاق موطنها الأصلي. وعندما تكون هناك أنواع مُتماثلة في المجتمع الأصلي تتغذى على الأنواع الدخيلة أو تتنافس معها، فمن المُحتمَل أن يكون انتشار الكائن الدخيل وتأثيره محدودَين. غير أنه غالبًا ما تحظى الأنواع الدخيلة بأفضلية في نطاق المنطقة التي جرى إدخالها عليها؛ لأنها لم تعُد معرَّضة للحيوانات المفترسة والمنافسة الموجودة في نطاقها الأصلي. فالتحرُّر من بطش هؤلاء الأعداء يسمح لها بالانتشار سريعًا، وغالبًا ما يكون ذلك على حساب الأنواع المحلية.

غالبًا ما تنتهي الجهود المبكِّرة للسيطرة على الأنواع الغازية على الجزر نهاية كارثية بسبب عدم الاهتمام الكافي بأساسيات علم البيئة. لقد تطوَّرت الأنواع الغازية جنبًا إلى جنبٍ مع مفترساتها؛ لذا فإن إدخال كائن مفترس إلى المشهد الطبيعي قد يُقلِّل من أعداد أحد الأنواع الغازية، ولكن من غير المُحتمَل أن يقضي عليه تمامًا. والأرجح أن يجد المفترس الدخيل في الأنواع المحلية — التي لم تحتك بهذا المفترس من قبل — صيدًا سهلًا. وهذا يجعل الأحياء الأصلية الغِرَّة في هذه المنطقة البيئية عُرضة للانقراض بقوة. ومن ثَم، كان لإطلاق القطط أو الكلاب أو النمس للسيطرة على الفئران الغازية تأثيرات متواضعة على مجموعات الفئران المستهدفة، إلا أنها دمَّرت كثيرًا من الأنواع المحلية. وقد خلفت الجهود التي بُذلت في القرن التاسع عشر للسيطرة على القوارض في حقول قصب السكر في جامايكا سلسلةً من الكوارث. أولًا، أُدخِل نمل الخشب الأحمر الأوروبي لمكافحة الفئران، ولم يفشل النمل في القيام بذلك فحسب، بل سرعان ما أضحى مشكلة في حدِّ ذاته. وأصبح أيضًا علجوم القصب، الذي جُلِب من البر الرئيسي لأمريكا بهدف التخلُّص من الفئران والنمل، من الآفات، بينما استمرَّ تواجُد النمل والفئران. وأخيرًا، لجأ المزارعون إلى النمس الهندي للسيطرة على الفئران والعلاجيم. وفي تلك الأثناء، اكتشف النمس الهندي أن الطيور المحلية فريسة أسهل للإيقاع بها، مما خلق سلسلةً جديدة من المشاكل.

بالرغم من أننا نمتلك الآن معرفةً إيكولوجية أفضل عن ديناميات المفترس والفريسة، فإننا لا نستخدِم هذه المعرفة دائمًا استخدامًا فعَّالًا. فغالبًا ما تفتقر برامج المكافحة إلى منظور الأنظمة الإيكولوجية الذي يأخُذ في الاعتبار التفاعلات الغذائية والتفاعلات التنافُسية بين الأنواع داخل المجتمعات البيئية، وما زلنا نتفاجأ بالنتائج. ففي عام ٢٠٠٠، كان للتخلُّص الناجح من الماعز والخنازير الدخيلة من غابة محلية مهدَّدة على جزيرة ساريجان في منطقة غرب المحيط الهادئ الاستوائية، نتيجة مؤسِفة ولكنها متوقَّعة فعلًا، تمثلت في تحرير شجرة كرمة غازية، تُدعى أوبركيولاينا فينتريكوزا، من ضغط الرعي، مما أدى إلى انتشارها عَبْر الغابة الأصلية. بالمثل، حدثت زيادات مَهولة في أعداد نوع من الفئران جرى إدخاله والتغافُل عنه فيما سبق عقب عملية إبادة للجرذان. وقد يؤدي التخلُّص من حيوان مفترس أو منافس أو حيوان عاشِب إلى زيادة أنواع دخيلة أخرى قُمعَت من قبل، وهو ما يُضاف إلى التكلفة المُستمرة التي تتكبَّدها الأنواع المحلية.

إن برامج الإبادة التي تعتمد على المعرفة الجيدة بتفاعلات الأنواع عَبْر المجتمع تُحقِّق نجاحًا أكبر. فالتخلُّص من الجرذان السوداء الغازية في عام ٢٠٠٦ من جزيرة سربرايز في منطقة أونتراكاستو رييف، بكاليدونيا الجديدة، سبقته دراسة استمرَّت أربع سنوات أُجريَت على النباتات والحيوانات الموجودة على الجزيرة لتحديد تأثير الجرذان على الأنواع المحلية، والكشف عن وجود أنواع دخيلة أخرى مثل الفئران والنمل والنباتات. تضمَّنت الدراسة مسوحًا للنباتات والفقاريات، وتحليلات للنظام الغذائي، وتوصيفًا للشبكة الغذائية، ووضع نماذج لديناميات الجماعة. وقد أشارت النماذج الخاصة بالعلاقات الغذائية داخل النظام الإيكولوجي الذي تمَّ غزوُه إلى أن التخلُّص من الجرذان وحدها من شأنه أن يؤدي إلى إطلاق جماعة صغيرة من الفئران الدخيلة. ولذلك تم التخلص من كلا النوعَين من القوارض، ومن ثَم تجنُّب أي مفاجآت مؤسفة على جزيرة سربرايز حتى الآن.

تُعَد السيطرة على الأنواع الغازية على جماعات البر الرئيسي أكثر صعوبة؛ إذ يكاد يكون من المُستحيل القضاء عليها بالكامل. يمكن أيضًا أن يؤدي الانتشار لمسافاتٍ طويلة من حينٍ لآخَر إلى ظهور مواقع تفشٍّ جديدة بعيدة عن النطاق الأصلي. بل إن الكائنات الحية الغازية عند حدود منطقة التوسع تُطور قدرات انتشار مُحسنة، مما يسمح لها بالتوسُّع بسرعة أكبر في مناطق جديدة. فقد طوَّر علجوم القصب (انظر مربع ٣) الذي ينتشر غربًا عَبْر شمال أستراليا، أرجلًا خلفية أطول ونزعة للتحرك المُستمر في خط مستقيم، مما أدى إلى زيادة معدل انتشاره من نحو خمسة كيلومترات سنويًّا عند إدخالها إلى أستراليا لأول مرة، إلى ٥٠ كيلومترًا سنويًّا في الوقت الحالي. وهذا يؤدي إلى تسريع معدلات الغزو، ويزيد من حجم المشكلة. وفي مثل هذه المواقف، علينا أن نتعلَّم ببساطةٍ كيف نتعايش مع الغزو.

مربع (٣): علجوم القصب

واجه مزارعو قصب السكر في ولاية كوينزلاند بأستراليا في ثلاثينيات القرن الماضي مشكلة. كانت خنافس القصب تُدمِّر محاصيلهم. أخبر أحدهم شخصًا آخَر عن علجومٍ لدَيه شهية شرِهة لهذه الخنافس المُدمِّرة. وفي عام ١٩٣٥، سافر أكثر من ١٠٠ علجوم داخل حقيبتَين من هاواي إلى أستراليا، لإدخالها إلى حقول قصب السكر الواقعة حول مدينتي كيرنز وجوردونفيل الأستراليتَين. تجاهلت العلاجيم الخنافس، وتجوَّلت وتكاثرَت. ويبلغ عددها الآن أكثر من ١٫٥ مليار، وتنتشر على مساحة مليون كيلومتر مربع من كوينزلاند والأقاليم الشمالية. والْتَهمت في طريقها كثيرًا من النباتات والحيوانات المحلية في أستراليا. ونظرًا لكونها سامة، فإنها تقتُل أي حيواناتٍ مفترسة محتملة. ولا يُوجَد ما يمنعها من التوسُّع المستمر عَبْر جميع المشاهد الطبيعية في أستراليا عدا المناطق الأكثر جفافًا.

إدارة الآفات الزراعية

تُقدَّر مبيعات المبيدات الحشرية لحماية المحاصيل الزراعية عالميًّا بنحو ٥٢ مليار دولار أمريكي لعام ٢٠١٩. وكل دولار يُنفَق على المبيدات الحشرية، إن صدقت هذه التقديرات، يزيد من إنتاجية المحاصيل المُخزنة بنحو أربعة دولارات. وتساعد هذه المحاصيل ذات الإنتاجية العالية، التي يُيسرها استخدام المبيدات الحشرية، على توفير الغذاء الذي يعتمد عليه سكان العالم، وبأسعارٍ مناسبة في متناول الجميع.

تُستخدَم المبيدات الحشرية أيضًا على نطاقٍ واسع في مكافحة الحشرات الحاملة للأمراض التي تُصيب الإنسان والماشية على حدٍّ سواء. ففي خمسينيات القرن العشرين، استُخدِم مركَّب ثنائي كلورو ثنائي الفينيل ثلاثي كلورو الإيثان — المعروف اختصارًا ﺑ «دي دي تي» (DDT) — على نطاقٍ واسع لمكافحة البعوض، وهو ما خفَّف من خطر الإصابة بالملاريا لملايين البشر. وفي سريلانكا، خفَّض مبيد الحشرات «دي دي تي» كثيرًا من عدد حالات الإصابة بالملاريا من مليون حالة إلى أقل من ثلاثين حالة بحلول عام ١٩٦٤. غير أن هذا المبيد فقد شعبيته بعد نشر كتاب «الربيع الصامت» لراشيل كارسون (١٩٦٢)، الذي شنَّ هجومًا شديدًا على الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية، لا سيَّما «دي دي تي». وتراجعت عمليات رش المبيدات، وعادت معدلات الإصابة بالملاريا في سريلانكا إلى الزيادة مرَّةً أخرى لتبلغ نحو نصف مليون حالة بحلول عام ١٩٦٩.

وعلى الرغم من الفوائد الواضحة للمبيدات الحشرية في إنتاج الغذاء ومكافحة الأمراض، فقد كشفت راشيل كارسون النقاب عن تكاليفها البيئية والصحية الخبيثة. واشتُهرت بسردها لمدى تركز اﻟ «دي دي تي» على نحوٍ متزايد في الأنسجة الحيوانية وصولًا إلى أعلى مستوى في السلسلة الغذائية. فتُعاني الطيور، لا سيَّما الطيور الجارحة، من ترقُّق قشر بيضها، وفشل التكاثر، وأخيرًا انخفاض أعدادها. ولا يُدمر اﻟ «دي دي تي» والمبيدات الحشرية الأخرى الحياة البرية فحسب، وإنما يُعرِّض صحة الإنسان إلى الخطر أيضًا. ويعود الفضل في تدشين الحركة العالمية للحفاظ على البيئة إلى كتاب كارسون.

يعود ولو جزء على الأقل من مشاكل الآفات في مجال زراعة الأراضي والغابات إلى الممارسات الهادفة إلى الإنتاجية المكثَّفة، حيث تُزرع مساحات كبيرة بمحصولٍ واحد أو نوع واحد من الأشجار. والزراعة الأحادية بمنزلة منجمٍ للآفات الزراعية. ولذا تُعد زيادة تنوُّع أنواع المحاصيل استجابةً واضحة لمشاكل الآفات. صحيح أن الآفات تُهاجم أيضًا الأنواع النباتية الموجودة في المجتمعات الطبيعية المتنوعة، ولكن عادةً ما تكون الأنواع الأكثر تضرُّرًا هي الأنواع الشائعة جدًّا. وقد كانت أشجار الكستناء، التي قضت عليها آفة الكستناء في جبال الأبالاش بالولايات المتحدة، تُشكِّل ربع إجمالي الأشجار الموجودة في هذه الغابات. وحتى أنواع أشجار الغابات الاستوائية المطيرة الموجودة ضمن مزيجٍ من الأنواع الشديدة التنوع تكون عُرضةً للآفات أحيانًا، ولكن في هذه الحالة أيضًا لا يُصاب إلَّا الأنواع الأكثر شيوعًا.

وعلى ذلك، فإن التنوُّع لا يُشكِّل ضمانًا ضد التأثيرات الجسيمة للآفات، ولكنه بالتأكيد يُساعد في إحداثها، كما أثبتت دراسات كثيرة. والسؤال الذي يجب طرحُه هنا هو كيف تساعد توليفات الأنواع في تخفيف ضغوط الآفات والعوامل المُمرضة. لدى علم البيئة عدة إجابات عن هذا السؤال. تنطوي زراعة الأنواع المُختلطة على تباعُد بين أفراد النوع نفسه بعضها عن بعض على نطاقٍ أوسَع مما إذا زُرعت بنظام الزراعة الأحادية. ومن ثَم يتباطأ التقدُّم الذي تُحرزه إحدى الآفات أو العوامل المُمرضة إذا اضطرت إلى قطع مسافاتٍ أكبر للتنقل بين العوائل المُعرَّضة للإصابة. وربما يتسبَّب أيضًا مزيج الأنواع في إرباك الآفات؛ لأن المظهر الخارجي للنباتات غير المُضيفة وبصمتها الكيميائية يتعارضان مع آليات هذه الآفات للبحث عن مضيف.

مكافحة الآفات بالطُّرق الطبيعية

توفِّر المجتمعات النباتية المتنوعة قدرًا أكبر من الوفرة على مستوى الموارد وبِنى الموائل التي تُحافظ على مجتمعاتٍ متنوعة ووفيرة من أشباه الطفيليات (الحشرات التي تتطفل على المفصليات الأخرى) وغيرها من الحيوانات المفترسة للآفات. ويُساهم هؤلاء الأعداء الطبيعيون للآفات في إبقاء الحشرات العاشبة تحت مستويات الإضرار بالاقتصاد. فخدمات مكافحة الآفات بالطُّرق الطبيعية التي تُوفِّرها الطفيليات الأصلية والحشرات المفترسة في الولايات المتحدة تُشكِّل وحدها وفرًا سنويًّا يصل إلى نحو ٤٫٥ مليار دولار بسبب زيادة إنتاجية المحاصيل وتقليل مستلزمات إنتاج المبيدات الحشرية. وتهدف استراتيجيات الإدارة المُتكاملة للآفات الزراعية إلى الحفاظ على الجماعات السليمة من هذه الحيوانات المفيدة في مكافحة الآفات. ويتم حث المزارعين على الاقتصاد في استخدام المبيدات الحشرية، والحفاظ على الحدود الغنية بالزهور الفاصلة بين الحقول (شكل ٦-١)، والأسيجة، ورُقَع الغابات الشجرية في المشهد الزراعي الطبيعي، وإدخال صناديق للتعشيش من أجل الطيور الآكلة للحشرات.
fig21
شكل ٦-١: يدعم شريط الأراضي الغنية بالزهور البرية على طول الحقول الزراعية بسويسرا، تنوُّعًا في الحشرات، بما فيها الكثير من الحشرات التي تُساعد في السيطرة على الآفات الزراعية.

إن تحديد ما إذا كانت زراعة الأنواع المختلطة استراتيجية قابلة للتطبيق في زراعة الأراضي والغابات يعتمِد على كثافة أعداد الكائنات المُضيفة بالنسبة إلى سلوك الانتشار لدى الآفة ومدى فاعلية الحيوانات المفترسة الطبيعية في ظِل هذه الظروف. وتمثِّل المزروعات المُختلطة تحدِّيًا أكبر من الناحية الاقتصادية؛ وذلك بسبب تراجُع مستوى كفاءات الإدارة واقتصاديات التوسع. وفي مختلف أنحاء العالم، لا تزال زراعة المحاصيل الأساسية بنظام الزراعة الأحادية قائمة، مع استمرار استخدام المبيدات الحشرية الكيميائية للسيطرة على مشاكل الآفات الزراعية المتواصِلة، ولكن بتكاليف كبيرة تتكبَّدها الحشرات المفيدة مثل المُلقحات وأشباه الطفيليات. غير أن مفهوم الإدارة المتكاملة للآفات، باستخدام مزيج من أساليب المكافحة، بعضها بيولوجي وإيكولوجي، والبعض الآخَر آلي أو كيميائي، قد حظِيَ باهتمامٍ واسع النطاق، وخاصة في النظم الزراعية الاستوائية. وقد ساعد هذا النهج في خفض أعداد أنواعٍ كثيرة من الآفات إلى مستوياتٍ مقبولة اقتصاديًّا، وفي الوقت نفسه الحد من الاعتماد على المبيدات الحشرية الكيميائية الضارة.

عدوُّ عدوِّي هو صديقي

تستعين المكافحة البيولوجية بكائنات حية (أو فيروسات) لقمع آفات معيَّنة بهدف الحد من أضرارها القائمة. ويمكن السيطرة على الأنواع الدخيلة الغازية عن طريق استقدام أعدائها الطبيعيين (أشباه الطفيليات، أو المفترسات، أو العوامل المُمرضة) من مواطنها الأصلية، لتكوين جماعاتٍ مكتفية ذاتيًّا تعمل على قمع الآفات الغازية، أو على الأقل الحد من انتشارها. وتتمتَّع هذه المناهج بميزة تجنُّب الاستخدام المُتكرِّر والمُكلف لمبيدات الآفات ذات الآثار البيئية الممتدة.

طُبِّقت المكافحة البيولوجية على مدار آلاف السنين. ويأتي أول وصفٍ موثَّق من جنوب الصين؛ حيث شُجِّع على بناء أعشاش النمل الحائك منذ ألفَي عام في بساتين المحاصيل الحمضية بهدف السيطرة على الآفات الزراعية. وحتى يومِنا هذا، يُنشئ المزارعون الصينيون جسورًا من الخيزران بين أشجار الحمضيات لتشجيع النمل على البحث عن الطعام عَبْر كل أنحاء البساتين. وأول إقحام مُتعمَّد لعدو طبيعي دخيل بهدف السيطرة على إحدى الآفات كان لطائر المَيْنة من الهند، الذي استُقدم إلى موريشيوس في عام ١٧٦٢ للسيطرة على الجراد الأحمر في مزارع قصب السكر. وبدلًا من أن تتغذَّى طيور المَيْنة على الجراد، فضلت أَكْل السحالي المحلية التي كانت أسهل في اصطيادها. في الواقع إن النجاحات المذهلة للمكافحة البيولوجية (انظر مربع ٤) يُضاهيها إخفاقات مُذهلة أيضًا (كما هو الحال في نموذج علجوم القصب في مربع ٣).

يرتبط علم المكافحة البيولوجية ارتباطًا وثيقًا ببيولوجيا الكائنات الغازية. وهذا هو ما صرَّح به تشارلز إلتون في كتابه المذكور آنِفًا. يهتم هذا العِلم بالتفاعلات بين الآفات والأعداء والتفاعُلات المباشرة وغير المباشرة بين جماعات الكائنات الحية المستهدفة، وعوامل المكافحة البيولوجية، والموارد التي يُقدِّرها البشر. وتُحقق العوامل البيولوجية هدفها في المكافحة بصورةٍ مباشرة من خلال افتراس أنواع الآفات المستهدفة، ولكنها قد تحدُّ أيضًا من أعداد الآفات من خلال ممارسة ضغوطٍ تنافُسية شديدة عليها. فقد نجحت خنافس الروث الدخيلة في القضاء على ذباب الأدغال في أستراليا نظرًا لكونها أسرع بكثيرٍ في استغلال أكوام الروث وتوزيعها، مما يَحْرم الذباب من هذا المورد الأساسي لها. ونجحت الثعالب الحمراء المُعقمة التي استُقدمت إلى جُزر ألوتيان في القضاء على الثعلب القطبي الشمالي المُستقدَم من خلال المنافسة، قبل أن يتم إقصاؤها هي نفسها من الجزر.

حققت الفيروسات نجاحًا كبيرًا في مكافحة الفقاريات الغازية، وأشهر مثال على ذلك هو فيروس الورم المُخاطي المستخدَم ضد الأرانب في أستراليا. فالمقاومة التي طوَّرَتها الأرانب وتراجُع القدرة على الإمراض (الفَوْعَة) من جانب الفيروس يُعتبر مثالًا نموذجيًّا لتطور الفَوْعَة المتوسطة التي تسمح للمرض والكائن المُضيف بالتعايش معًا بأعداد محدودة. ويمكن للاستجابات المتطورة أن تحد من فاعلية النتائج الطويلة المدى للمكافحة البيولوجية.

مربع (٤): أصحاب المعاطف الحمراء والتين الشوكي وعثة الصبار

يُلقى اللوم في غزو أستراليا على المعاطف الحمراء المُبهرجة لجنود بريطانيا الإمبراطوريين في القرن الثامن عشر، لا من قِبل الجنود أنفسهم، وإنما من قِبل نبات الصبار. استُقدِم صبار التين الشوكي، الذي يُعتقد أن الحاكم آرثر فيليب أدخله إلى ميناء جاكسون بولاية كوينزلاند الأسترالية في عام ١٧٨٨، لتأسيس صناعة الصبغات القرمزية في المستعمرة الجديدة. والدودة القرمزية هي حشرة قشرية تتغذَّى على نبات الصبار، واستُخرجت صبغة قرمزية استخدمت في صَبْغ المعاطف الحمراء المُميزة للجنود البريطانيين من شرنقة الدودة القرمزية.

وسرعان ما تَبِعَ ذلك إدخالات أخرى، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، كان النبات ينتشر عَبْر ولاية كوينزلاند، لتُوزِّعه الطيور والفيضانات هنا وهناك. وبحلول عام ١٩٠٠، انتشرت مجموعات كثيفة من أشجار التين الشوكي على مساحة أربعة ملايين هكتار، ازدادت إلى ٢٤ مليون هكتار بعد عشرين عامًا فقط. وأثبتت جميع الجهود الرامية للتخلُّص منها ميكانيكيًّا عدم جدواها. وفي محاولةٍ مُستميتة، قامت لجنة التين الشوكي المُتنقلة، ذات الاسم الرائع الدال على غرضها والتي تشكلت عام ١٩١٢، بزيارة النطاق الأصلي لنبات الصبار في أمريكا الاستوائية لتحديد الأعداء الطبيعيين الذين قد يعملون كعوامل مكافحة. وبحلول عام ١٩١٤، عُثر على الأنواع المرشحة الواعدة للقيام بهذا الدور، وكان من بينها عثة الصبار. حقَّقت عثة الصبار، التي أُطلِقت لأول مرة في عام ١٩٢٦، نجاحًا مذهلًا، وفي غضون بضع سنِين دمَّرت يرقاتها الثاقبة للسيقان أغلب المجموعات الكثيفة من أشجار التين الشوكي. وصارت عثة الصبار نجمة فيلمٍ وثائقي بعنوان، «غزو صبار التين الشوكي» (ذا كونكست أوف بريكلي بير)، في حين أهدَت منطقة بونارجا الريفية، الواقعة على بُعد نحو ٣٠٠ كيلومتر غرب مدينة بريزبان، «قاعة عثة الصبار التذكارية» عرفانًا بجميل هذا المنقذ الحشري.

من الصعوبات التي تُواجِه علماء البيئة المختصين بالمكافحة البيولوجية أن التفاعلات التي تبدو واعدةً في الظروف المُختبرية الخاضعة للرقابة غالبًا ما تكون غير فعَّالة في الحقول. فظهور مُعوِّقات بيئية غير متوقَّعة أو حدوث تفاعلات أخرى غير محسوبة يؤثر على النتائج. وبمجرد إطلاق نوعٍ جديد، يرهن نجاحه في مكافحة الآفات بالتفاعُلات مع الأنواع الأخرى في المجتمع البيئي، أو بالظروف البيئية. ومن الأمثلة على ذلك محاولات السيطرة على ياقوتية الماء (إيكورنيا كراسيبس)، وهي عشبة مائية غازية في مختلف أنحاء العالم تعود أصولها إلى أمريكا الجنوبية (شكل ٦-٢). نجحت خنافس السوس المُقحمة (من نوع نيوشتينا) في السيطرة على ياقوتية الماء في بحيرة فيكتوريا شرق أفريقيا، ولكن لم تحقق نجاحًا يُذكر في ذلك في فلوريدا أو جنوب أفريقيا. فالكثير منها يعتمد على مستويات المُغذيات الموجودة في الماء. وتعمل التركيزات العالية من المُغذيات على زيادة القيمة الغذائية للنبات فتدعم تكاثُر خنافس السوس، ولكنها تدعم أيضًا معدلات نمو النبات السريعة والانتشار الخضري. علاوةً على ذلك، عند انخفاض مستويات المُغذيات، تخصص الياقوتية المائية موارد أكثر للإزهار مقارنةً بما تُخصِّصه للنمو الخضري، مما يحدُّ من الغذاء المتاح لخنافس السوس. لذا فإن المكافحة البيولوجية للياقوتية المائية بواسطة خنافس السوس ليست فعَّالة عند التركيزات المُنخفضة جدًّا للمُغذيات، التي لا يمكنها سوى تغذية جماعاتٍ صغيرة من خنافس السوس وتشجع انتشار النباتات من خلال إنتاج البذور، وليست فعَّالة عند ارتفاع تركيزات المُغذيات، وهو ما يحدُث عندما يكون النمو الخضري غزيرًا. تبلغ فاعلية مكافحة خنافس السوس أقصى مستوياتها في ظِل التركيزات المُعتدلة من المغذيات، عندما تحظى خنافس السوس بالتأثير الأكبر فيما يتعلَّق بإجمالي عدد الحيوانات العاشبة مقارنةً بمعدل نمو النباتات التعويضية.
fig22
شكل ٦-٢: ياقوتية مائية تخنق المياه الراكدة في زامبيا.

المرونة

سعَت مناهج الإدارة التقليدية إلى تنظيم أعداد جماعات الكائنات الحية، إما بهدف تعظيم الموارد، سواء أكانت هذه الموارد الأشجار الخشبية، أم محاصيل الأسماك، أم غلات المحاصيل، أم حيوانات الصيد، أو بهدف الحدِّ من الأنواع المُسببة للمشاكل، بما في ذلك الحيوانات المفترسة الخطيرة، أو آفات المحاصيل الزراعية، أو ناقلات الأمراض، أو الأنواع الغازية الدخيلة. يميل مثل هذا الأسلوب في الإدارة، الذي يُشار إليه ﺑ «القيادة والسيطرة»، إلى التركيز على الأعراض بدلًا من التركيز على الأسباب. وأسفر هذا المنهج الإداري عن عواقب غير مقصودة، وغير مُتوقعة، وكارثية في كثيرٍ من الأحيان. وأقنعت هذه التجربة المُديرين بضعف أسلوب القيادة والسيطرة، وأن إدارة الموارد تكون أكثر فاعلية إذا أخذنا في الاعتبار النظام الإيكولوجي بأكمله. وقد أدرك ألدو ليوبولد هذه الحقيقة في النصف الأول من القرن العشرين، ولكن قُوبلت أفكاره بقدرٍ كبير من التجاهُل حتى قرب نهاية القرن. اقترح ليوبولد أنه من أجل إدارة الجماعات، فمن الضروري إدارة الأنظمة الإيكولوجية؛ إذ تعتمِد الجماعات على كثيرٍ من العناصر الموجودة في النظام الإيكولوجي التي تُشكل جزءًا منه. وربما أحبط تعقيد الأنظمة الطبيعية، وأوجه النقص في معرفتنا بها، محاولات إدارة الموارد باعتبارها أجزاءً من الأنظمة المُعقَّدة. وبدأ هذا يتغيَّر مع قيام علم البيئة بتطوير مفاهيم وأساليب لتفسير الجماعات والعمليات داخل منهج أكثر شمولية للأنظمة المعقَّدة.

يُعتبر مفهوم المرونة أحد عناصر هذا التفكير، وقد لاقى قدرًا ملحوظًا من الاستيعاب عَبْر شرائح المجتمع. وهو أيضًا أحد المُصطلحات (المزعِجة إلى حدٍّ ما) التي يفسرها علماء البيئة بعدة تفسيرات. والمرونة، بصفةٍ عامة، هي قدرة النظام الإيكولوجي على استيعاب الصدمات والاضطرابات والتعافي منها مع الحفاظ على بِنية النظام الإيكولوجي ووظيفته بصورة عامة. والمرونة، بصورةٍ أكثر تحديدًا، هي الوقت الذي يَستغرقه النظام للعودة إلى حالةٍ من الاتزان بعد وقوع اضطراب، أو مقدار الاضطراب الذي يُمكن استيعابه قبل أن يتحوَّل النظام الإيكولوجي إلى حالةٍ دائمة جديدة مختلفة على المستويَين البنيوي والسلوكي (شكل ٦-٣). وتفترض كل هذه التفسيرات أن الأنظمة الإيكولوجية تتمتَّع بحالاتٍ مُستقرة نسبيًّا وتنزع إلى العودة إليها. وهذا صحيح على الأرجح إذا ميَّزْنا فئات عامة، مثل الغابات العريضة الأوراق، أو الأراضي العشبية، أو البحيرات محدودة المُغذيات (الفقيرة بالمُغذيات)، مع تقبُّل إمكانية تغيُّر تكوين الأنواع في هذه الأنظمة الإيكولوجية.
fig23
شكل ٦-٣: صورة توضيحية لحالات الاستقرار البديلة. تُمثل القيعان حالات الاستقرار البديلة للنظام الإيكولوجي، لكلٍّ منها درجة المرونة الخاصة به، تنعكس من خلال عُمق القاع. يمكن تخيُّل الوضع الحالي على هيئة كرة مستقرة في الجزء السفلي من القاع. تزيح الاضطرابات الكرة في اتجاهٍ أو آخَر أعلى المنحدر. إذا لم يكن الاضطراب كبيرًا، تستقر الكرة مرة أخرى في الجزء السفلي من القاع، مما يعكس تعافي النظام الإيكولوجي وعودته إلى حالته المستقرة. تتسبَّب الاضطرابات الأكبر التي تفوق مرونة النظام الإيكولوجي، مُمثلةً بارتفاع القمم، في سقوط الكرة المُتخيَّلة في قاع مجاور، مما يُشير إلى حدوث تحوُّل النظام الإيكولوجي إلى حالة استقرار بديلة.

والنظام ذو الإدارة المستدامة هو نظام يتم فيه الحفاظ على بنيته وتكوينه وعملياته من أجل مواصلة توفير الموارد والوظائف والخدمات التي نُثمِّنها، حتى عندما يكون عُرضة لاضطراباتٍ طبيعية أو بشرية. لذا فإن تحقيق الاستدامة يتعلَّق إلى حدٍّ كبير بمرونة النظام الإيكولوجي؛ إذ توفر مجموعة العلاقات والوظائف الإيكولوجية القدرة على التكيُّف والتعافي من الاضطرابات على مستوى مجموعةٍ من النطاقات. ويفترض علم البيئة إمكانية تعزيز المرونة من خلال الحفاظ على تنوع الأنواع والمجموعات الوظيفية وتفاعلات الشبكة الغذائية. وتقرُّ الإدارة الهادفة إلى المرونة أيضًا بأن الاضطراب مكوِّن طبيعي، بل وضروري، في النظم الإيكولوجية، يُحافظ على التأثيرات التفاعُلية والتدفُّقات عَبْر النطاقات، ويساهم في تعزيز القدرة التكيفية للأنظمة الإيكولوجية. ويتطلَّب فَهْم ذلك تقدير الطبيعة الدينامية للأنظمة الإيكولوجية على مستوى الزمان والمكان، التي تتجلَّى في دورات التغيُّر وظهور الرُّقَع البيئية المتقطعة.

الاستقرار الدينامي

يجب التوفيق بين الطبيعة الدينامية للأنظمة الإيكولوجية واستقرارها المزعوم. إن التغيرات داخل الأنظمة الإيكولوجية، التي تتَّسِم بتقلباتٍ في أعداد الجماعة، أو تغيرات في تفاعلات الشبكة الغذائية، أو تفاوتات في تدفُّق الموارد، تُتيح للأنظمة الإيكولوجية التكيف مع الاضطرابات. قد تبدو مثل هذه التغييرات حادة، إلا أنها غالبًا ما تُشكل مراحل من دورات التكيُّف الطبيعية. وتُعد غابات التنوب والشوح في أمريكا الشمالية، وهي نظم إيكولوجية منتشرة على نطاقٍ واسع وتبدو مستقرة، موئلًا لدودة براعم التنوب بالمنطقة الشرقية (كوريستينورا فوميفيرانا)، وهي عثة تتغذَّى يرقاتها على شجرة التنوب والأشجار الصنوبرية الأخرى. تتغذَّى الطيور على دودة البراعم مما يُبقي أعدادها عند مستوياتٍ منخفضة وذلك عندما تكون شُجيرات الغابة صغيرة السن وتكون المظلَّة الغابية مفتوحة نسبيًّا. عندما تنضج الأشجار، تجد الطيور صعوبة مُتزايدة في العثور على ديدان البراعم بين الغطاء الورقي الأكثر كثافة. يُتيح تكوين شجيرة غابية ناضجة وما يُقابلها من خسارة في كفاءة الحيوانات المفترسة زيادة أعداد ديدان البراعم بسرعة، مما يتسبَّب في تفشِّي ديدان البراعم. وينتج عن ذلك تساقط الأوراق على نطاقٍ واسع وموت الأشجار، مع امتداد معدلات موت الأشجار عَبْر عدة كيلومترات مربَّعة. تطلق الأشجار الميتة مُغذياتها في التربة ببطء، مما يفيد الشتلات التي تستعمِر مجموعات الأشجار الميتة. وتعود الغابة إلى المرحلة الغَضَّة، وتُسيطر الطيور مرة أخرى على مجموعات ديدان البراعم (شكل ٦-٤).
fig24
شكل ٦-٤: ديناميات غابات التنُّوب والشوح في أمريكا الشمالية. تُشير الأسهم إلى تتابع الخطوات في الدورة بين مراحل النظام الإيكولوجي المختلفة. يُمثل عرض الأسهم سرعة التغيُّر، وتمثل الأسهم الأعرض تغيرًا أسرع.

تتَّسِم دورات الغابة ودودة البراعم بنشاط دينامي، إلا أنها مستقرة؛ إذ يظلُّ النظام الفعلي عبارة عن غابةٍ من أشجار التنوب والشوح. وثمَّة توازنات محلية طويلة الأمد، عندما تُبقي الطيور على أعداد ديدان البراعم منخفضة، إلى جانب وجود عتبات، وهي النقطة التي لا تعود الطيور عندها قادرة على التحكُّم في أعداد ديدان البراعم. ويتبع ذلك انهيارات حادة، تتجلَّى في موت الأشجار على نطاق واسع، يعقُبها تجدُّد يحدث من خلال تكوين الشتلات وحدوث تعاقُب بيئي. وفي جميع الأحوال، يظلُّ من المُمكن التعرُّف على الغابة باعتبارها غابة، وإن كان ذلك في مراحل مُختلفة من دورة التكيف.

والأنظمة الإيكولوجية عبارة عن رُقَع منفصلة. فدورة النضج، والاستمرار، والتغير الكارثي، والتجدُّد ليست متزامنة على مدى نطاقها الكامل. وتشغل مناطق مختلفة من النظام الإيكولوجي مراحل مُختلفة من دورة التكيُّف في أي فترة زمنية، مما يؤدي إلى ظهور مشهد فسيفسائي من رُقَع متقطعة. والرُّقَع المتقطعة الناتجة عن نظام الاضطراب المُعقد توفر المرونة. فتظلُّ النباتات والحيوانات في مراحل النضج في رُقع غير مضطربة، بينما تنتقل تلك الكائنات المُرتبطة بمراحل التجدُّد من رقعة متجددة قصيرة العمر إلى أخرى في مكانٍ آخَر من المشهد الطبيعي. وتعمل الرُّقَع الناضجة المُتبقية كمصادر للبذور لبدء مرحلة التعافي الرائدة. وتحد الرقع المُتقطعة أيضًا من تأثير ومدى الاضطرابات التي تؤثر إلى حدٍّ كبير على مراحل النضج في الدورة.

والاضطرابات نفسها مُتفاوتة في شِدتها ومداها. حتى الاضطرابات العرضية الكبيرة جدًّا لها تأثيرات غير مُتجانسة على المشهد الطبيعي. فقد تنجو بعض الرُّقع من أحد الاضطرابات بحُكم الظروف البيئية المحلية التي تجعلها أقلَّ عُرضة للخطر، أو قد تنجو بمحض الصدفة ببساطة. كان صيف عام ١٩٨٨ هو الأكثر جفافًا على الإطلاق في حديقة يلوستون الوطنية. ولم يتطلَّب الأمر كثيرًا حتى اشتعلت الحرائق في غابات الصنوبر، وكان حجم الحرائق وشدتها غير مَسبوقَين. فقد احترق نحو ٥٧٠ ألف هكتار من الغابات. في خضم أي حريق، يبدو المشهد الطبيعي خربًا حتمًا. غير أن الدراسات الاستقصائية في أعقاب هذه الحرائق كشفت عن لوحة فسيفسائية من رُقع محترقة وغير محترقة (شكل ٦-٥). تلا ذلك تعافٍ سريع في غابة الصنوبر، وتكوين شتلات، وتعافي جماعات الحيوانات. والآن، وبعد مرور نحو ثلاثة عقود على هذه الحرائق، تتجدَّد غابات يلوستون لتتحوَّل إلى مجموعة شجيرات كثيفة في المناطق التي احترقت.
fig25
شكل ٦-٥: مشهد طبيعي فسيفسائي من رقع الغابات المُحترقة وغير المحترقة بعد اندلاع الحرائق في حديقة يلوستون في أكتوبر عام ١٩٨٨.

حالات الاستقرار البديلة

تعايشت غابات يلوستون مع الحرائق على مدار آلاف السنين، وتمتَّعَت بمرونة طبيعية عالية تجاه الحرائق، حتى الحرائق الشديدة كحرائق عام ١٩٨٨. تقضي الحرائق الكبيرة، التي تتكرَّر على فتراتٍ تتراوح من مائة إلى مائتي عام، على المظلة الغابية وتقتل الأشجار الناضجة، ولكنها تُطلق المُغذِّيات وتسمح للضوء بالوصول إلى أرضية الغابة. وهذا يحفز إنبات البذور ونمو الشتلات. وهكذا، تتعافى الغابة. غير أنه ليس واضحًا أن مثل هذه المرونة سوف تستمر في المستقبل. فالتغيُّر المناخي قد يدفع النظام الإيكولوجي إلى تجاوز نطاق تجربته البيئية التاريخية ويدفعه نحو حالةٍ مستقرة بديلة. لم يعُد الطقس الحار والجاف الاستثنائي لعام ١٩٨٨ في يلوستون طقسًا استثنائيًّا. فالغابات التي تكيَّفَت مع الحرائق الشديدة التي تندلِع من حينٍ إلى آخَر أصبحت الآن عُرضةً للحرائق المُتكررة على فترات قصيرة. ومِن الممكن أن تؤدي تلك الحرائق إلى احتراق الغابات قبل أن تتمكَّن من التعافي. ويعتقد علماء البيئة الذين يدرسون أنظمة اندلاع الحرائق أنه من المنطقي ألا تعود طبيعة التفاعلات بين النيران والمناخ والغطاء النباتي المُتوقعة بحلول منتصف القرن الحادي والعشرين مناسبة لاستمرار غابات يلوستون الصنوبرية. ويمكن لأنظمة اندلاع الحرائق الجديدة أن تُغير العمليات النباتية والحيوانية والإيكولوجية في هذه الغابات والغابات المُماثلة في أمريكا الشمالية، مما يؤدي إلى إحلال مجتمع نباتي بعيد تمامًا عن الغابات محل الغابات الصنوبرية.

إن الأمثلة المُوثقة على التحوُّلات الجذرية للنظام الإيكولوجي (بما في ذلك انهيار مصائد أسماك القد شمال المحيط الأطلنطي) تُضفي مصداقية على التوقُّعات بشأن مستقبل حديقة يلوستون. وتدعم غابات السافانا الأفريقية مجموعة من الأعشاب المقاومة للحرائق التي تضع حدًّا لنطاق انتشار النباتات الخشبية. ويحدُث الانتقال إلى حالةٍ بديلة تعتمد أكثر على النباتات الخشبية إذا كان ضغط الرعي كافيًا لتقليل الأعشاب بصورة كبيرة. وهذا يزيد من تكوين النباتات الخشبية، ويحدُّ من تكرار حدوث الحرائق نظرًا لتراجُع كميات الوقود العشبي، مما يضمن استمرار مجتمع النباتات الخشبية لعقود. وفي نهاية المطاف، يمكن لحيوانات الرعي الضخمة، مثل الفيلة، أن تُعيد تكوين غابات السافانا العشبية عن طريق إنشاء فتحات في المظلَّة الغابية وكسر الأشجار (انظر أيضًا شكل ٦-٣).

الأنظمة الإيكولوجية الاجتماعية

قد يكون الفشل في التنبُّؤ بحالات الاستقرار البديلة، أو الفشل في توقُّع تغييرٍ جذري في النظام الإيكولوجي، مكلفًا للغاية، كما يُوضح انهيار مصائد الأسماك. ولا بد أن تبتعد إدارة النظام الإيكولوجي عن اتباع منهج القيادة والسيطرة في إدارة الموارد الفردية وتتَّجه نحو منهجٍ يأخذ في الاعتبار التفاعلات بين الأنواع، والمرونة، وديناميات النظام الإيكولوجي، ودورات التكيف. ويدرس مديرو الأنظمة الإيكولوجية كيفية تأثير التغييرات المُستحثة بفعل الإنسان على مرونة النظام الإيكولوجي ومدى هذا التأثير، وما إذا كانت المرونة قادرة على الحفاظ على الاستقرار ضمن حدود مقبولة للتغيير. ويُمكن أن تتنوَّع الاستراتيجيات الهادفة لتحقيق المرونة. فقد تُحافظ إحدى شركات المياه على جودة مياه الشرب في بحيرةٍ ما عن طريق إعادة إدخال أحد الحيوانات المفترسة العُليا، أو التخلُّص من الأسماك غير الأصلية التي تُحرك الرواسب، أو الضغط من أجل وضع سياسات للحد من جريان الأسمدة في المجاري المائية، أو تشجيع ملَّاك الأراضي على الحفاظ على الأشجار النامية على ضفاف الأنهار لتقليل تآكُلها ودعم مجتمعات سليمة صحيًّا من الحيوانات المائية اللافقارية. وإجمالًا، تعمل هذه الإجراءات على تعزيز درجة المرونة التي تتمتَّع بها البحيرة من خلال الحفاظ على شبكاتٍ غذائية مُتنوِّعة وتقليل التغيرات الفيزيائية الحيوية التي قد تتسبَّب في تحوُّل النظام الإيكولوجي للبحيرة إلى حالةٍ مستقرة بديلة غير مرغوب فيها. وتتطلَّب مثل هذه الإجراءات التعاون بين مختلف الجهات المعنية، بدءًا من شركة المياه وحتى ملَّاك الأراضي عند منابع الأنهار، وصنَّاع السياسات، وأصحاب المصالح الآخَرين مثل الصيادين وهيئات الحفاظ على البيئة.

تستلزم هذه التحدِّيات أن يكون مديرو الأنظمة الإيكولوجية خبراء في علم البيئة التطبيقي، وأن يكونوا أيضًا على دراية بالقضايا الاجتماعية والسياسية. إن المجالات البشرية والطبيعية في إدارة النظام الإيكولوجي مُتشابكة على نحوٍ وثيق. ويساهم المتخصِّصون في علم البيئة التطبيقي بمعارف مهمة حول آلية عمل الأنظمة الإيكولوجية، إلا أن إدارة الأنظمة الإيكولوجية تأخُذ هذا الأمر خطوةً إلى الأمام من خلال دمج هذه المعرفة ضمن إطار اجتماعي بيئي أكبر من الاستجابات المتبادلة بين الأنظمة الطبيعية والبشرية. والمتخصصون في علم البيئة التطبيقي بحاجة إلى التعاون بأريحية مع علماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد والمُتخصِّصين في علم النفس السلوكي وصُنَّاع السياسات وملَّاك الأراضي، وغيرهم الكثيرين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤