الفصل السابع

علم البيئة من منظور ثقافي

في المنظور العام، كثيرًا ما تُدمَج العلوم البيئية مع طيف واسع ومتنوع من علماء الطبيعة والشعراء ومزارعي المحاصيل العضوية وهواة مراقبة الطيور والنشطاء وكل مَن لديهم اهتمام عميق بالطبيعة والبيئة، وهو ما يُزعِج الأكاديميين كثيرًا. لقد اعتُمد «علم البيئة»، بوصفه مفهومًا ومصطلحًا، واقتُبس من قِبَل مجموعةٍ متنوِّعة من السياقات الثقافية ولأغراضٍ ثقافية أيضًا. ونظرًا لكونه كذلك، فقد صار مُسيَّسًا ومُحمَّلًا بالقِيَم. لقد كانت، وستظلُّ، وجهات النظر الإيكولوجية الاجتماعية — الكامنة وراء تزايد الوعي الحديث بقضايا البيئة — مُستوحاةً من الأفكار المنبثقة من العلوم البيئية، لا سيَّما تلك الأفكار الخاصة بالاعتمادية المُتبادلة والتفكير الشمولي والمرونة والأنظمة التكيفية. وعلاوة على ذلك، فإن بعض التخصُّصات الإيكولوجية الأساسية، وأبرزها على الإطلاق علم الحفاظ على الأحياء، هي بطبيعتها تخصُّصات مُحمَّلة بالقِيَم، ومن ثَم تأثرت بتطور القيم الثقافية الحديثة المُتعلقة بالعلاقة التي تجمع (أو التي ينبغي لها أن تجمع) بين المجتمع البشري والبيئة. ولذا، فليس من السهل دومًا التفريق بين العلوم البيئية وتفسيراتها الاجتماعية الأوسع نطاقًا، لا سيَّما عندما تُحاط بإطارٍ من التحدِّيات البيئية الحالية.

كثيرًا ما تستند ثقافات الفكر الإيكولوجي إلى حدٍّ كبير إلى سوابق تاريخية، وغالبًا ما تستوحي الإلهام من أخلاقيات ومُمارسات متأصِّلة، سواء أكانت واقعية أم مُتخيَّلة. ولعلَّ المثال على ذلك خطبة سياتل زعيم هنود الدواميش الحمر التي يزعم أنه قد ندَّد فيها باغتراب الرجل الأبيض عن الطبيعة قائلًا: «هذا ما نعرفه: الأرض لا تنتمي إلى الإنسان، وإنما ينتمي الإنسان إلى الأرض. هذا ما نعرفه. كل الأشياء مُترابطة، مثل صِلة الدم التي تربط بين عائلة واحدة … الإنسان لم ينسج شبكة الحياة، وإنما هو مجرد خيط فيها. وأيًّا ما كان يقترفه في حقِّ هذه الشبكة، فهو يقترفه في حق نفسه.» لا يُهمنا في هذا المقام الدقة التاريخية والأدبية المُتنازَع عليها في خطبة شيخ سياتل. وإنما الأهم من ذلك أن الأفكار الإيكولوجية الخاصة بالاعتمادية المتبادلة والشمولية تسبق العلوم الإيكولوجية نفسها. لقد أضفَتِ العلوم الإيكولوجية طابعًا رسميًّا على فهم خلاصة ما عرفته الثقافات حول العالَم على مدار قرون. لكن العلوم الإيكولوجية أيضًا شكلت وألهمت ضميرًا إيكولوجيًّا حديثًا يستجيب للتحدِّيات البيئية الحديثة التي تختلف كمًّا وكيفًا عن أي شيءٍ شهده البشر من قبلُ. وفي الواقع، ربما كانت أهم ثورة ثقافية شهدها القرن العشرين هي ثورة نقل الأفكار الإيكولوجية الخاصة بالشمولية والاستجابات والاعتمادية المتبادلة من المجال العلمي إلى المجال الأخلاقي والسياسي.

الضمير الإيكولوجي

إن عِلم البيئة أكثر من مجرد علم؛ لقد صار رؤيةً شاملة للعالم. ففي خطبة بعنوان «الضمير الإيكولوجي»، ألقاها ألدو ليوبولد في ٢٧ يونيو من عام ١٩٤٧ أمام لجنة الحفاظ على البيئة التابعة لمنظمة جاردن كلوب أوف أمريكا، أكَّد قائلًا: «علم البيئة أو الإيكولوجيا هو علم المجتمعات، ومن ثم فالضمير الإيكولوجي هو أخلاقيات الحياة المجتمعية.» وكان هذا مُنبئًا بظهور فلسفة «أخلاقيات الأرض» الخاصة بليوبولد، التي تنطوي على علاقاتٍ تربط بين علم البيئة والأخلاقيات والسياسة والإجراءات الإدارية. لطالَما كان هناك خلاف بين علماء البيئة المناصِرين لقضايا البيئة وأولئك الذين يرَون مناصرة هذه القضايا لا تتناسب مع المِهَن العلمية. كان ألدو ليوبولد مؤيدًا بقوةٍ لفريق مناصري القضايا البيئية. بالمثل، فقَدَ آخَرون الأمل في النهج الإيكولوجي المُتخصِّص والاختزالي إلى حدٍّ مبالَغٍ فيه. وفي ذلك كتب لويس مومفورد في كتاب بعنوان «سلوك الحياة» (صدر عام ١٩٥١)، يقول: «هكذا، وبحكم العادة اقتصرت عقولنا على إدراك كل ما هو مُجزَّأ وخاص ومنفرد، ومن ثَم لم تعتد عقولنا النظر إلى الحياة بوصفها نظامًا ديناميكيًّا مترابطًا، لدرجة أننا نعجز عن إدراك متى تتعرَّض الحضارة في مُجملها إلى الخطر اعتمادًا على منظورنا.» حظِيَت هذه الصحوة لعلم البيئة تجاه المخاوف البيئية في منتصف القرن العشرين بزخَمٍ إضافي بفضل كتاب فيرفيلد أوزبورن بعنوان «كوكبنا المنهوب» وكتاب ويليام فوجت بعنوان «الطريق إلى البقاء»، اللذَين نُشِرا في عام ١٩٤٨. ويُعتبر نشر كتاب «الربيع الصامت» (عام ١٩٦٢) لراشيل كارسون اللحظةَ الفاصلة التي صار فيها علم البيئة علمًا ذا مدلولات سياسية وثقافية.

أطلق بول سيرز، بعد مرور عامَين فقط على نشر كتاب «الربيع الصامت»، على علم البيئة «العلم التخريبي». وصرَّح سيرز بوضوحٍ تامٍّ بأن مبادئ علم البيئة زعزعت الكثير من افتراضات وممارسات النظام السياسي والاجتماعي القائم. ويحظى علم البيئة بقبولٍ لدى الحركات الساعية إلى إعادة المواءمة بين الأنظمة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وبين الأجندات التي لا تُولي اهتمامًا كبيرًا للمخاوف البيئية فحسب، بل أيضًا للمخاوف المُتعلِّقة بالظلم الاجتماعي وعدم المساواة. ويذهب المفكر الماركسي موري بوكتشين إلى أن استغلال الطبيعة يَنتج عن أُطُرٍ اجتماعية ظالمة، وأن الأُطُر الاجتماعية سليمة إيكولوجيًّا. كذلك تذهب الحركة النسوية الإيكولوجية إلى أن النظام الأبوي وفكرة مركزية الإنسان؛ أي هيمنة الإنسان على الطبيعة، هما شكلان للتعبير عن منطق الهيمنة. وقياسًا على منطق مُماثل، سيقوض المبدأ الأخلاقي البيئي الذي يُفنِّد فكرة مركزية الإنسان النظام الأبوي. وتسير حركة علم البيئة المُتقدم على نهجٍ فكري مُماثل في إرجاع الأمراض البيئية التي تُصيب المجتمع الحديث إلى فصل الذات الفردية الأنانية عن الكيان البيولوجي الكلي الأكبر. ويدعو عِلم البيئة المتقدِّم إلى إعادة تشكيل العلاقة المعقَّدة بين الفرد والغلاف الحيوي.

وهذه التفسيرات الخاصة بعِلم البيئة بعيدة كل البُعد عن العلوم الإيكولوجية، ولكنها تستمدُّ أفكارها من مجموعة الأفكار نفسها التي توصَّلَ إليها علماء البيئة. وقد جرى تعديل المفاهيم والتفسيرات والفلسفات الإيكولوجية لأغراضٍ متنوعة في الكثير من الخُطَب الاجتماعية والسياسية. والجدير بالذكر أن عِلم البيئة يُقدم تبريرًا نظريًّا ومفاهيميًّا للموقف المعهود للحركات المُنادية بالحفظ البيولوجي. كما أنه يكمن في صميم السياسات الخضراء، التي تؤكد الاعتمادية المتبادلة بين البشر وبيئتهم. ولعل في هذا تكرارًا لملحوظة جون موير التي كثيرًا ما يُساء اقتباسها: «عندما نُحاول انتقاء أي شيءٍ منفرد، نجده مرتبطًا بكل شيءٍ آخَر في الكون» (من كتاب «الصيف الأول لي وسط جبال سييرا»، ١٩١١). أُسيءَ استغلال علم البيئة حين استخدم على نحوٍ أكثر عملية في تلبية احتياجات التسويق والإعلان، مما يعكس في ظاهره السمات الحميدة بيئيًّا للمنتجات «الإيكولوجية». ففي عام ١٩٧١، مثلًا، أشارت حملة إعلانات شركة كوكا كولا إلى زجاجاتها القابلة لإعادة التدوير باعتبارها «الزجاجة المناسبة للعصر الإيكولوجي».

فرضية جايا

إلى جانب العلوم الإيكولوجية السائدة، التي تُركز على المُكونات الفردية وعلاقاتها بعضها ببعض، ثمَّة رؤيةٍ أخرى عن الكرة الأرضية بوصفها منتجًا منبثقًا من جميع أنواعها، والتفاعُلات فيما بينها تتَّسِم بترابُط منطقي يُبرِّر وصفها كائنًا حيًّا. وُضعت فرضية جايا على يد جيمس لافلوك، اختصاصي كيمياء الغلاف الجوي، ولين مارجوليس، اختصاصِيَّة علم الأحياء التطوري. ببساطة، يذهب كلاهما إلى أن كوكب الأرض كائن حي من حيث كونه كيانًا ذاتيَّ التنظيم قابلًا للتكيُّف، مُستمدًّا من تفاعلات الكائنات الحية بعضها مع بعض ومع بيئاتها الجيولوجية والبحرية والجوية. يُنظم هذا الكائن الحي، الذي يُطلَق عليه «جايا» (بمعنى الأرض الأم)، الجوانب الأساسية لبيئته ذاتيًّا، مِثل درجة حرارتها وملوحة المُحيط، وتركيزات الأكسجين وثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي.

لم يتوانَ لافلوك عن تأكيد أنَّ فرضية جايا ليست غائية الطابع؛ بمعنى أن الغاية من وراء عملياتها الذاتية التنظيم ليست إفادة الحياة، ولكن الحياة تستفيد على أي حال. على سبيل المثال، تعتمد درجة حرارة الأرض على نسبةِ تركيزِ ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي. يُعتبر النشاط البركاني المصدر الطبيعي الأساسي الوحيد لثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ويتمثَّل المَسرَب الأساسي في تجوية الصخور، التي تمزج الكالسيوم مع ثاني أكسيد الكربون لتكوين كربونات الكالسيوم التي تترسَّب في النهاية على أرضية قاع البحر. تُسرع وتيرة عملية التجوية إلى حدٍّ كبير بواسطة البكتيريا والنباتات التي تنقل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي إلى التربة على نحوٍ نشِط. وفي المحيطات، تعمل الطحالب البحرية والشعاب المرجانية على تسريع عمليةِ ترسيب الكربونات في أرضية البحر من خلال عزل الكربونات الذائبة في الأصداف الطباشيرية والشعاب المرجانية. تقوم الرواسب الكربونية المُتراكمة بتخزين ثاني أكسيد الكربون على هيئة رواسب من الطباشير والحجر الجيري. وتُساهم بعض الطحالب البحرية، مثل البُذيرات الجيرية، أيضًا في تكوين السحب. وعندما تموت، ينبعث منها كبريتيد ثنائي المِيثيل في صورته الغازية، الذي يتصاعد إلى الغلاف الجوي فوق سطح البحر ليُنتِج قطرات حمضية صغيرة. يتكثف بخار الماء على هذه القطرات ليكوِّن السحب، التي تعكس بدَورها الطاقة الشمسية. وهكذا، تُعَد الحياة مكوِّنًا أساسيًّا لأنظمة الاستجابة العالمية التي تُسهِم في تنظيم تركيزات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي، وبالتبعية، درجة الحرارة العالمية.

fig26
شكل ٧-١: صورة الرخام الأزرق. حققت هذه الصورة، التي الْتُقطت لأول مرة في عام ١٩٧٢، الكثير في سبيل توصيل رؤيةٍ شمولية عن كوكب الأرض، باعتباره مجتمعًا كوكبيًّا كاملًا ومُتناهيًا.
حفَّزت فرضية جايا ظهور نمطٍ من التفكير يتجاوز حدود العمليات والنتائج الميكانيكية، مما أدَّى إلى ميلاد فرعٍ علميٍّ جديد، وهو علم نظام الأرض. كان لصورة كوكب الأرض المأخوذة من الفضاء الخارجي، والتي الْتُقِطت للأرض بأكملها لأول مرة في عام ١٩٧٢، تأثير قوي في تأكيد رؤيةٍ كونية شاملة (وواقعية) (شكل ٧-١). وبغضِّ النظر عن النوايا الأصلية للافلوك، فقد أصبحت فرضية جايا في الثقافة السائدة تُمثل رؤية شاملة لعِلم البيئة وتفاعلاتنا مع الطبيعة، تختلف عن المنهج العِلمي الاختزالي الذي يتَّسِم به جزء كبير من العلوم الإيكولوجية. لقد تجاوز الأسلوب الفكري لفرضية جايا الهدف الأصلي للافلوك، بدمجه للتفسيرات الميتافيزيقية أو الروحية. وبإدراك أن فرضية جايا تحمل معانيَ مختلفة باختلاف الأشخاص، ينجذب المُؤيدون إلى مفهوم جايا من خلال فكرة أننا، بشرًا وأفرادًا، جزء لا يتجزأ من كيانٍ أكبر يُثير فهمًا عميقًا لواقعية وجود الاعتمادية المتبادلة. وهذا يُبرِّر مُعارضة التدهور البيئي ويُحفزها، وربما لهذا السبب أسَرَتْ فرضية جايا خيال الكثير من الأفراد والحركات البيئية والمُنادية بالحفاظ على البيئة.

علم البيئة المُتقدِّم

يرتبط بفرضية جايا ارتباطًا وثيقًا، بحسب التفسيرات الرائجة على الأقل، إدراك مفاده أن مُجمل ما نشأ خلال ملايين السنين من التطوُّر له قيمة ومعنى يستحيل التعبير عنهما من خلال البحث العلمي الاختزالي. وهذا الوعي هو ما يُميز حركة علم البيئة المُتقدِّم، التي نشأت من خلال كتابات الفيلسوف النرويجي آرني نيس، الذي صاغ المصطلح. ويؤكد علم البيئة المتقدِّم على أن الغلاف الحيوي لا يتكوَّن من كياناتٍ منفصلة، وإنما يتكوَّن من عناصر متصلة ومتفاعِلة داخليًّا تُشكِّل معًا واقعًا أساسيًّا.

ينتقد أنصار هذا العلم النزعة الفردية المُتمحورة حول الإنسان والقابعة في صميم الثقافة الغربية. فيرى المُختصون بعلم البيئة المُتقدِّم أن الفلسفة البيئية يجب أن تعترف بالقِيَم الجوهرية للطبيعة، بعيدًا عن احتياجات الإنسان. ويرفضون تيار مناصرة القضايا البيئية السائد، المبني على أولويات رفاهية الإنسان، لا القِيَم الجوهرية. ومن خلال قبول المساواة بين جميع الكائنات الحية وقِيَمها الجوهرية، والاعتراف بوحدتنا الإيكولوجية، يدَّعي المُختصون بعلم البيئة المُتقدم فهمًا أعمق واتصالًا أوثق بالعالم الطبيعي.

علم البيئة المتقدِّم، من حيث المبدأ، هو فلسفة قائمة على المساواة، تُعطي أهمية أخلاقية متساوية لجميع أحياء المنطقة البيئية. وقد تعرَّض هذا العِلم إلى انتقاداتٍ واسعة النطاق لأن مذهب المساواة لا يترك مجالًا يُذكر لاتخاذ القرارات الأخلاقية. فإذا كانت جميع الكائنات الحية ذات قيمةٍ مُتساوية، فكيف لنا أن نفصل بين المصالح التنافُسية؟ وعلى هذا الأساس، في عام ١٩٨٠، ذهب بيرد كاليكوت إلى أن الأخلاقيات البيئية لا يُمكنها «إضفاء قيمة أخلاقية متساوية على كل فردٍ في المجتمع الأحيائي».

علم البيئة الثقافي

إن تطبيق الفكر الإيكولوجي على المجتمعات البشرية يُقدِّم رؤًى ونظريات حول أعرافنا وطقوسنا ومحاذيرنا. ويذهب علم البيئة الثقافي إلى أن البيئة الطبيعية تُساهم إلى حدٍّ كبير في الثقافة المُجتمعية والتنظيم المجتمعي. وقد صور عالِم الأنثروبولوجيا جوليان ستيوارد عِلم البيئة الثقافي بأنه «طُرق يُستحَث بها التغيير الثقافي عن طريق التكيُّف مع البيئة». وذهب ستيوارد إلى أن البيئة تؤثر على الثقافة البشرية، ولكن لا تُحددها، على الرغم من تعرُّض أنصار علم البيئة الثقافي اللاحِقين لانتقاداتٍ بسبب اقتراحهم وجود حتمية بيئية أقوى للثقافة. وأوضحَ العمل الميداني الذي قام به ستيوارد بين شعب الشوشون في أمريكا الشمالية كيف مَكنتهم الاستراتيجيات الثقافية المُعقَّدة من العيش في البيئة الصحراوية للحوض الكبير الواقع بين سييرا نيفادا وسلاسل جبال روكي. إن معرفتهم التفصيلية بالتغيُّرات الموسمية في توافر الموارد المتنوعة مثل الصنوبر والأعشاب والتوت والغزلان والأيائل والأغنام والظباء شكلت ثقافة الشوشون، من خلال التأثير على أنماط هجرتهم، وتفاعُلاتهم الاجتماعية، ومنظومات المعتقدات الثقافية لديهم.

وتابع أحد أبرز طلاب ستيوارد، وهو روي رابابورت، دراسة ممارسات الكفاف لشعب قبيلة تسيمباجا في هايلاند بغينيا الجديدة. استعان رابابورت بالمفاهيم الإيكولوجية، مثل تدفُّقات الطاقة، والقدرة الاستيعابية، والتقايُض لشرح الأساس المنطقي وراء إدارة الموارد من قِبَل شعب تسيمباجا. كانت الخنازير في قرى تسيمباجا تنظف نفايات القرية وتزيل الأعشاب الضارة من بساتين أشجار الفاكهة، لكنها بدأت في إثارة المشاكل عندما ارتفعت أعدادها ارتفاعًا مُبالغًا فيه. استخدم شعب تسيمباجا طقوسًا دورية لتقليص أعداد الخنازير إلى مستوياتٍ مناسبة بيئيًّا. ومن خلال استخدام المفاهيم الإيكولوجية لفهم ممارسات الكفاف في تسيمباجا، قلَّل رابابورت من دور المعتقدات الثقافية لصالح القيود البيئية.

على نحوٍ مُماثل، طبق مارفن هاريس التفكير الوظيفي والمادي على المعتقدات الهندوسية حول الأبقار المُقدسة في الهند. تُقدَّس الأبقار بين الهندوس؛ لأنها ترمز إلى الإحسان الإلهي والطبيعي، ومن ثَم يُتجنَّب تناول لحوم الأبقار. ذهب هاريس إلى أن مثل هذا الاعتقاد الثقافي عقلاني تمامًا داخل الأنظمة الإيكولوجية والاقتصادية الهندوسية. وجادل بأن القيود المفروضة على ذبح الأبقار هي استجابة للحاجة إلى الحليب، والروث المُستخدَم في تصنيع الوقود والأسمدة، والحيوانات اللازمة لأعمال الحرث.

تُوفِّر دراسة الممارسات الثقافية عَبْر مرشحات إيكولوجية فهمًا أكثر تعاطفًا واطِّلاعًا لإدارة البيئة. فعلى مدى سنواتٍ عديدة، تعرَّضَت الزراعة المتنقلة لانتقادات شديدة من قِبَل العلماء، والنشطاء البيئيين، ووسائل الإعلام؛ لأنها تؤدي إلى إزالة الغابات الاستوائية. فيقوم صغار المزارِعين الذين يُمارسون الزراعة المُتنقلة بإزالة مساحة صغيرة من الغابات التي يزرعون فيها المحاصيل السنوية والدائمة وحرقها، مثل الأرز والفاصوليا والذرة والقلقاس والكاسافا. وبمرور الوقت، تتراجع خصوبة التربة وتتراكم الآفات الحشرية. وبعد مرور بضع سنوات، يُدخِل المزارعون أشجار الفاكهة إلى المساحة المزروعة، ويُزيلون مناطق جديدة من الغابات من أجل زراعة محاصيلهم. اعتُبرت دورة إزالة الغابات وزراعتها ثم إهمالها دورةً مُدمِّرة ومُهدِرة من قِبَل أنصار حماية البيئة الذين نجحوا في إقناع الحكومات في بعض البلدان الاستوائية بحظر ممارسات الزراعة المُتنقلة لصالح الزراعة المستقرة. وقدَّم علم البيئة الثقافي تفسيرًا مختلفًا للزراعة المتنقلة، من خلال إدراك المعرفة البيئية التفصيلية التي يَمتلكها المزارعون والتي حافظت على مُمارساتهم على مدى أجيالٍ عديدة. تُعتبر الزراعة المُتنقلة، عند الكثافات السكانية البشرية المنخفضة نسبيًّا، مُستدامة إلى حدٍّ كبير؛ إذ يتبع الزراعة فترات إراحة طويلة للأرض تُعيد بناء مُغذيات التربة. وتشجع أشجار الفاكهة المزروعة الطيور والقوارض على جلب بذور أنواع الأشجار الأخرى من الغابات المُحيطة، مما يُعزِّز تعافي الغابات بصورةٍ أكبر. وتُحاكي عملية إزالة الرقع الصغيرة نسبيًّا عمليات الاضطراب الطبيعية التي تُصيب الغابات الاستوائية، حيث تتسبَّب العواصف وسقوط الأشجار بصفةٍ دورية في فتح مساحات صغيرة. وتعمل الرقع الصغيرة التي تتم إزالتها على تعزيز التنوُّع الحيوي من خلال خلق مجموعةٍ أكبر من الموائل في منطقةٍ معينة.

إن وجهات النظر البيئية غير المناسبة المُستمدَّة من الموروثات الاستعمارية لإدارة الأراضي، والتي لم تأخذ في الاعتبار ممارسات الإدارة التقليدية قد أسفرت عن سياسات خاطئة. وتصف دراسة جيمس فيرهيد وميليسا ليتش في غينيا بغرب أفريقيا كيف فسَّر مسئولو الغابات الحكوميون، المتأثرون بالمفاهيم الغربية لإدارة الأراضي والتحول الإيكولوجي، رُقَع الغابات الفسيفسائية بأنها بقايا غابات استوائية أكثر اتساعًا. وافترض المسئولون الحكوميون أن السكان المحليين قد دمَّروا الغابات، ومن ثَم فرضوا لوائح وغراماتٍ لحظر فَقْد المزيد من الغابات. وأوضح فيرهيد وليتش أن جُزر الغابات كانت تتمدَّد في الواقع بسبب زراعة الأشجار وأنشطة مكافحة الحرائق التي يقوم بها السكان المحليون.

الهمجي النبيل

يُعزِّز علم البيئة الثقافي المفرط البساطة صورة الهمجي النبيل من الناحية الإيكولوجية؛ وهي أسطورة ثابتة تاريخيًّا من الثقافة الغربية. تُنسَب الأسطورة الحديثة للهمجي النبيل عادةً إلى فيلسوف عصر التنوير جان جاك روسو، على الرغم من أنه هو نفسه لم يستخدِم هذه العبارة قط. لقد انبهر الكتَّاب والفنانون الرومانسيون في القرن الثامن عشر وصاعدًا بفكرة الماضي المثالي الأكثر بساطة، الذي عاش فيه الناس في وئامٍ مع الطبيعة. واحتُفي بمجتمعات السكان الأصليين في الفن والأدب، وفي الأعمال الأكاديمية الدراسية، باعتبارها مُجتمعاتٍ مُتناغِمة ثقافيًّا وروحيًّا مع إيكولوجيا بيئتهم. ويتجلَّى استمرار التمسُّك بهذه المُثل العُليا في فيلم جيمس كاميرون «أفاتار»، الصادر عام ٢٠٠٩، الذي يُحافظ فيه سكان قبائل النافي الأصليون على عالَمٍ طبيعي نابض بالحياة.

ولهذه الأفكار نظيراتها الحديثة. فقد اتَّخذ كلٌّ من شعب الكيابو في منطقة الأمازون، وشعب بينان الشرقي في غابات بورنيو المطيرة، موقفًا مُعارضًا لإزالة الغابات، وشق الطرق، وتشييد السدود، دفاعًا عن أراضيهم الموروثة، وأنماط حياتهم القائمة على الغابات (شكل ٧-٢). وقد توحَّدت مجتمعات السكان الأصليين هذه بمساعدة المنظمات البيئية في بعض الأحيان، لحماية غاباتها، ونجحَتْ في إيقاف بعض مشروعات التنمية الواسعة النطاق.

وكان الجمع بين الحفاظ على الغابات المَطيرة وحقوق السكَّان الأصليين فعَّالًا للغاية في جذب اهتمام وسائل الإعلام، واستحضار فكرة الهمجي النبيل الغربية القديمة من المنظور البيئي، إلى جانب التوافق مع المخاوف البيئية المتزايدة.

fig27
شكل ٧-٢: احتجاج شعب بينان على عمليات توغل قاطعي الأشجار في الغابات التي يعتمدون عليها.

واجهت الأفكار، التي تَنسِب إلى السكان الأصليين تمتُّعهم بوعي إيكولوجي، انتقادات بوصفها تشويهًا للمجتمعات التقليدية، بل وتقويضًا لشرعيتها. إن التلميح إلى أن السكان الأصليين لم يكُن لهم أي تأثير يُذكر على بيئتهم هو إنكار لتاريخهم الإنساني. لقد غيرت كثير من مجتمعات السكان الأصليين بيئتها إلى حدٍّ كبير ودائم. فقد قام السكان الأصليون بإدارة المشاهد الطبيعية وتعديلها بنشاطٍ على مدى آلاف السنين. وفعل السكان الأصليون الأستراليون ذلك على مدى ٦٠ ألف عام، حيث استخدموا النار لتعديل المشاهد الطبيعية التي ربما ساهمت في انقراض كثيرٍ من الحيوانات الضخمة في أستراليا. بالمثل، استخدم الأمريكيون الأصليون النار، التي ساهمت أيضًا على الأرجح في انقراض الأنواع.

علاوةً على ذلك، كثيرًا ما تذعن مجتمعات السكان الأصليين لبرامج التنمية التي تتعارض مع التوقُّعات الثقافية المتوقَّعة منها، بل وتدعمها. فقد دعم شعب كوكو يالانجي شق طريق إلى جنوب مدينة كوكتاون في منطقة كيب تريبيوليشن، بأستراليا، ما أثار الرعب في نفوس دعاة الحفاظ على البيئة. ويسعى شعب بينان الغربي في ساراواك، على عكس جيرانهم من شعب بينان الشرقي، إلى إبرام اتفاقيات تعويض مع شركات قَطْع الأشجار للدخول إلى أراضيهم، ويُرحبون بالمزايا وفُرَص العمل المرتبطة بها. إنهم لا يُرحبون بقَطْع الأشجار، وإنما، مثل أي مجتمع آخَر، يتكيفون مع الوضع لتحقيق أقصى استفادة من الظروف الحالية.

تميل المجتمعات، بغضِّ النظر عن تقاليدها وأعرافها وثقافاتها، إلى استخدام الموارد على نحوٍ مستدام عندما تكون الكثافات السكانية مُنخفضة، ويكون الوصول إلى الأسواق والتكنولوجيا محدودًا، وليس بسبب أي أخلاقيات تتعلَّق بالحفاظ على البيئة. وهذا لا يعني أن أخلاقيات الحفاظ على البيئة ليست مهمة، بل يعني أنها تندرِج تحت أولويات أكبر تتعلق بتأمين الرفاهية للأفراد. ومع نموِّ التجمعات السكانية البشرية، سوف تتجاوز في نهاية المطاف القدرة الاستيعابية التي يمكن أن تدعمها البيئات المحلية. وهذا من شأنه أن يخلق أزماتٍ بيئية يمكن أن تؤدي إلى الحروب، أو الهجرة، أو الانهيار الاجتماعي، أو إلى تحولٍ مؤسَّسي وثقافي نحو أنظمة اجتماعية وإنتاجية وفلسفات جديدة.

علم البيئة المقدس

في حين أن فكرة الهمجي النبيل لم تعُد قابلة للاستمرار في شكلها الأصلي، إلا أن ثمَّة اهتمامًا كبيرًا بفهم الطريقة التي تفسر بها المجتمعات التقليدية، ذات التاريخ الطويل من استغلال الأراضي والموارد المحلية، البيئة المحيطة بها. والمعرفة الإيكولوجية التقليدية هي مجموعة المعارف والممارسات والمعتقدات، التي تراكمت وتغيَّرَت على مدار الأجيال عن طريق الانتقال الثقافي، المتعلقة بعلاقات البشر مع الكائنات الحية الأخرى ومع بيئتهم. في أغلب الأحيان تتمتَّع المُجتمعات التي لدَيها معرفة إيكولوجية تقليدية ثَرية بعلاقةٍ مباشرة أكثر مع بيئتها، وتكون أقلَّ توجهًا نحو التكنولوجيا. والكثير منها يكون مؤلَّفًا من السكان الأصليين أو القبائل، ولكن ليس بالضرورة أن تكون كذلك.

يعترف فِكريت بركس ﺑ «علم البيئة المقدس» — وهو مُكون عقائدي قوي ضمن المعرفة الإيكولوجية التقليدية — الذي يُشكل تصوراتِ الشعوب حيال طريقة تفاعُلها مع الطبيعة وعناصرها. وهذا السياق الأخلاقي يجعل من المُستحيل على هذه المجتمعات التمييز بين الدين وعلم البيئة. فلا يمكن فصل السمات البيئية عن الجوانب الاجتماعية أو الروحانية. وتُشير القصص والطقوس إلى المعنى الإيكولوجي الذي يُضفي «إحساسًا بالمكان» وتنقُّله. وبالنسبة إلى شعب بينان ساراواك في بورنيو الماليزية، يوضح بيتر بروسيوس أن «المشهد الطبيعي هو أكثر من مجرد مخزون للمعرفة الإيكولوجية التفصيلية … فهو أيضًا مستودع لذكريات الأحداث الماضية، ما يجعله بالتبعية تمثيلًا تذكيريًّا ضخمًا للعلاقات الاجتماعية والمجتمع.»

أدَّى تفكُّك الثقافة وعلم البيئة في المجتمعات الصناعية إلى إحلال أنظمة الإدارة الصناعية والموجهة نحو الإنتاج محلَّ الإدارة البيئية التقليدية، أو ربما كان هذا التفكك هو نتاج هذا الإحلال. من الصَّواب أن ننتقد أسطورة الهمجي النبيل، ولكن من المُهم بالقَدْر نفسه أن نعترف بشرعية الأشكال الأخرى من المعرفة الإيكولوجية التي صمدت طويلًا أمام اختبار الزمن. ومن أجل استعادة الصحة البيئية عبر الوعي الإيكولوجي المتجدد، ربما نحتاج إلى إعادة بناء علم بيئة ذي منظور ثقافي لتحفيز التغيير بين سكان العالم الصناعي في المناطق الحضرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤