الفصل الثالث

مُحرِّكات الحياة

يمكن فهمُ كلِّ ما تفعله الكائنات الحية في سياق اهتزاز الذرَّات وتذبذُبِها …

ريتشارد فاينمان1
هاملت : كم يمكث الميتُ في القبر حتى يتعفَّن؟
حفَّار القبور : في الحقيقة، إذا لم يكن جسدُه قد فسَد قبل الموت — إذ ترِدُ إلينا هذه الأيامَ جثثٌ عديدة متقرِّحة بالجدري وغيرِه، ولن تصمدَ هذه بعد الدفن إلا قليلًا — فستمكث الجثةُ ثمانيَ سنواتٍ أو تسعًا، وتمكث جثةُ الدبَّاغ تسع سنوات.
هاملت : ولماذا هو دونَ غيرِه؟
حفَّار القبور : يا سيدي، هؤلاء الناس تتصبَّغ جلودُهم بموادِّ الدباغة وبسببها لا يصلُ الماء إلى الجسم مدةً طويلة، والماء أقوى ما يُسبب تعفُّنَ الجسم الميت.
ويليام شكسبير، «هاملت»، الفصل الخامس، المشهد الأول، «جبانة»
منذ ثمانٍ وستين مليون سنة؛ أي: في الآونةِ التي نُطلق عليها العصر الطباشيري المتأخِّر، ثَمة تيرانوصور ريكس صغير كان يشقُّ طريقه عبر وادي نهرٍ يقطع غابةً شبهَ استوائيةٍ وقد تناثرَت فيه الأشجار. كان يبلغ التيرانوصور ثمانيةَ عشر عامًا تقريبًا وهو لم يصِل إلى مرحلة البلوغ بعد، لكن طوله يمتدُّ إلى نحو خمسة أمتار. ومع كل خطوة ثقيلة، تتسارعُ أطنانٌ من لحم الديناصور بزخمٍ كفيل لأن يُسوي الأشجار أو أيَّ مخلوقات أصغرَ منه قادها سوءُ حظِّها إلى أن تأتيَ في طريقه. يستطيع جسم التيرانوصور الحفاظَ على سلامته برغم تلك القُوى التي يمكن أن تُمزق لحمه؛ لأنَّ كل عظمة ووتر وعضلة في جسمه مثبتةٌ بألياف مَرِنة من بروتين يُسمى «الكولاجين». يعمل هذا البروتين بمنزلة مادةٍ لاصقة تربط بين اللحم، وهو من المكوِّنات الأساسية في أجسام جميع الحيوانات، بما في ذلك الإنسان. ومثلما هو الحال مع جميع الجزيئات الحيوية، يُصنَّع هذا البروتينُ ويُفكَّك بفعل الآلات الأعجبِ في هذا الكون. وفي هذا الفصل، سنُركز على كيفية عملِ هذه الآلات النانَويَّة البيولوجية؛ وسنتناول بعد ذلك الاكتشافَ الحديث القائل١ بأنَّ تُروس محركاتِ الحياة ورافعاته تنهلُ من العالم الكمي؛ للحفاظ على حياة الإنسان وجميع الكائنات الحية الأخرى.

لنَعُد — رغم ذلك — إلى الوادي القديم أولًا. ففي هذا اليوم بالتحديد، سيكون جسم الديناصور الذي يتألَّف من ملايينِ الآلات النانوية هو سببَ هلاكه؛ ذلك أنَّ أطرافه التي كانت فعَّالةً للغاية في مُطاردة فريسته وتمزيقِها ستُثبت فشلَها في استخراج الفريسة من الطين اللزج الموجود في قاع النهر الناعم الذي علق فيه. فبعدَ ساعاتٍ من الصراع غير المُثمر، امتلأ فكَّا التيرانوصور الضخمان بالماء المُوحل وغاص الحيوان المحتضَر في الطين. في معظم الظروف، كان جسمُ الحيوان سيتحلَّل سريعًا على غِرار «الجثامين» التي وصفها حفَّار القبور في مسرحية «هاملت»، لكن هذا الديناصور تحديدًا غاص بسرعةٍ شديدة وطُمِر جسدُه بالكامل بعد مدةٍ وجيزة في الرمل والطين الكثيف الذي يحفظ الجسم. وعلى مَرِّ السنين والقرون، تخلَّلَت المعادنُ ذاتُ الحبيبات الدقيقة ما في عظام الديناصور ولحمِهِ من تجاويفَ ومَسامَّ، فحلَّت الحجارةُ محلَّ أنسجة الحيوان؛ ومِن ثَم تحوَّلت جثةُ الديناصور إلى حَفريةِ ديناصور. وعلى السطح، استمرَّت الأنهار في الجريان فوق الأرض، مُرسِّبةً خلفها طبقاتٍ متتاليةً من الرمال والطين والطَّمْي، إلى أن استقرَّت الحفريةُ تحت عشَرات الأمتار من الحجارة الرملية والطَّفْل الصفحي.

بعد نحو أربعين مليونَ سنة، أصبح المُناخ دافئًا وجفَّت الأنهار وتعرَّضَت طبقاتُ الصخور التي تُغطي عظام الحيوان الميت منذ مدةٍ طويلة للتعرية بفعل رياح الصحراء الحارة. مرَّت ثمانيةٌ وعِشرون مليونَ سنةٍ أخرى قبل أن تدبَّ أقدامُ كائنٍ آخر يمشي على رِجلَين — «الإنسان العاقل» — في وادي النهر، لكن هذه الرئيسيات المنتصبة هرَبَت في الغالب من هذه الرُّقعة الجافة وبيئتها العدائية. عندما وصل السكَّان الأوروبيون في العصور الحديثة إلى تلك المنطقة القاسية أطلقوا عليها اسمَ الأراضي الوَعْرة في مونتانا وأطلَقوا على وادي النهر اسم هيل كريك. في عام ٢٠٠٢، خيَّم فريقٌ من علماء الحفريات بقيادةِ أشهر صيَّاد حفريات وهو جاك هورنر في هذا المكان. كان أحدُ أفراد المجموعة وهو بوب هورمون يتناول غَداءه، ولاحظ حينَها عظمةً كبيرة ناتئة من صخرةٍ فوقه مباشرةً.

على مدار ثلاث سنوات، جرَت أعمالُ الحفر بعنايةٍ واستُخرج ما يقرب من نصفِ الهيكل العظمي للحيوان من الصخور المحيطة به، وهي مهمةٌ شارك فيها فيلقُ المهندسين بالجيش الأمريكي وطائرةٌ مروحية وعددٌ كبير من طلاب الدراسات العليا، ثم نُقل الهيكل إلى مُتحفِ جبال روكي في بوزمان بولاية مونتانا وسُمِّيَ هذا الهيكل بالعيِّنة MOR 1255. اضطُرَّ الفريق إلى قطعِ عظم الفخذ إلى جُزأَين لكي يُمكن رفعُه إلى المروحية، وتهشَّمَت جراءَ ذلك قطعةٌ من عظام الحفرية. أعطى جاك هورنر بعضًا من هذه الشظايا إلى زميلته عالمةِ الحفريات الدكتورة ماري شوايتسر الباحثةِ بجامعة ولاية نورث كارولينا؛ لعِلمه باهتمامها بالتكوين الكيميائيِّ للحفريات.

فوجئت شوايتسر حين فتَحَت الصندوق. فقد بدا أنَّ أول شظية نظرَت إليها تحتوي على نسيجٍ ذي مظهرٍ غريب للغاية في الجانب الداخلي من العظم (أي: تجويف نخاع العظام). وضعَت قطعةَ العظام في حمَّامٍ حِمضي كي تتحلَّل الطبقةُ الخارجية ذاتُ المعادن الحجرية لتكشفَ عن بِنَاها الأعمق. غير أنها في هذه المرة تركَت قطعةَ الحفرية في الحمام مدةً طويلة للغاية من دونِ قصد، وحين عادَت وجدَت أنَّ «جميع» المعادن قد تحلَّلَت. توقَّعَت شوايتسر أن تجد قطعةَ العظام قد تحلَّلَت بالكامل، لكنها ذُهِلت هي وزملاؤها حين اكتشَفوا أنَّ مادةً ليفيَّة مرِنة بقِيَت ولم تتحلَّل وقد بدا تحت المجهر أنها تُشبه نوعَ الأنسجة الرِّخوة الموجود في العظام الحديثة. وعلى غِرار العظام الحديثة أيضًا، اتَّضح أنَّ هذا النسيجَ مليءٌ بالأوعية الدموية وخلايا الدم وسلاسلَ طويلةٍ من ألياف الكولاجين، وهو الغِراء الأحيائي الذي حافَظ على تماسُك جسم الحيوان الضخم حينما كان حيًّا.

صحيحٌ أنَّ الحفريات التي تحتفظ ببِنْية أنسجتها الرِّخوة نادرة، لكنها موجودةٌ بالفعل. فحفريات بورجيس شيل، التي اكتُشِفَت بأعالي جبال روكي في مُقاطَعة بريتيش كولومبيا بكندا في الآونةِ من ١٩١٠ إلى ١٩٢٥، تحتفظ على نحوٍ مذهل بآثارٍ تفصيلية للُحوم الحيوانات التي سبَحَت في بحار العصر الكمبري قبل ما يقرب من سِتِّمائة مليون سنة، وينطبق الأمرُ نفسُه على حفريةِ طائر الأركيوبتركس الذي عُثر عليه في محجر سولنهوفن بألمانيا، وكان يعيش منذ ما يقرب من مائةٍ وخمسين مليون سنة. أما الحفريات التقليدية ذاتُ الأنسجة الرخوة فلا تحفظ إلا «آثار» النسيج الحيوي، لا «مادته» الأساسية، ورغم ذلك، اتضح أنَّ المادة الرِّخوة التي لم تتحلَّل في الحمَّام الحمضي لدى ماري شوايتسر، هي ذاتها النسيج الرِّخو للديناصور. وفي عام ٢٠٠٧، نشرَت شوايتسر نتائجَ بحثها في مجلةِ «ساينس»،2 وقد قوبل البحثُ في البداية بقدرٍ كبير من التشكُّك والدهشة. وعلى الرغم من أن بقاء الجزيئات الحيوية على قيدِ الحياة ملايينَ السنين أمرٌ مُذهل حقًّا، فإنَّ تركيزنا ينصبُّ على ما حدث بعد ذلك في هذه القصة. فلكي تُثبت شوايتسر أنَّ البِنَى الليفيةَ تتألَّف من الكولاجين بالفعل، أثبتَت أولًا أنَّ البروتين الذي يلتصقُ بالكولاجين في الكائنات الحديثة هو أيضًا ما التصَق بالألياف الموجودة في عظمتها العتيقة. ولاختبارِ فرضيَّتها مرةً أخيرة، مزَجَت نسيج الديناصور بإنزيمٍ يُسمى «الكولاجيناز»، وهو أحد الآلات الجزيئية البيولوجية العديدة التي تُكوِّن الأليافَ في أجساد الحيوانات وتُفكِّكها. وفي غضونِ دقائق، تَسبب هذا الإنزيم في تفكُّك سلاسل الكولاجين التي ظلَّت متماسكةً مدة ثمانية وستين مليون سنة.

الإنزيمات هي محركاتُ الحياة. ولعلَّنا نعرف الإنزيمات التي تُستخدَم على نحوٍ معتاد في حياتنا اليومية، مثل إنزيم البروتياز الذي يُضاف إلى المنظِّفات «البيولوجية»، ويُساعد في إزالة البقع، أو إنزيم البكتين الذي يُضاف إلى المربَّى كي يُعطيَها القوام المُتماسك، أو إنزيم المنفحة الذي يُضاف إلى الحليب ليساعد في تَخثُّره ليُصبح جُبنًا. ربما نُدرك أيضًا ما تؤدِّيه الإنزيماتُ المختلفة الموجودة في المعدة والأمعاء من دورٍ في هضم الطعام. وليست هذه سوى أمثلةٍ بسيطة للغاية على ما تقوم به الآلاتُ النانَوية للطبيعة. إنَّ أشكال الحياة جميعها تعتمد — أو اعتمَدَت — على الإنزيمات، بدايةً من الميكروبات الأولى التي نضحَت من الحساء البدائي، وحتى الديناصورات التي دبَّت بأقدامها على غابات العصر الجوراسي، وحتى كل كائنٍ حي في عصرنا الحالي. فكل خليةٍ في جسمك ممتلئةٌ بالمئات أو حتى الآلاف من تلك الآلات الجزيئية التي تساعد في استمرارِ عملية تجميع الجزيئات الحيوية وإعادة تدويرها، وهي العملية التي نُطلق عليها الحياة.

في هذا المقام، يُعَد مصطلحُ «المساعدة» هو الكلمةَ الأساسية التي تُحدد وظيفة الإنزيمات؛ فوظيفتها هي تسريع (تحفيز) كافةِ أنواع التفاعلات الكيميائية الحيوية التي كانت ستحدثُ ببطءٍ شديد لولا الإنزيمات. معنى هذا أنَّ إنزيمات البروتياز التي تُضاف إلى المنظفات البيولوجية تُسرع من تكسير البروتينات الموجودة في البقع، وتُسرع إنزيمات البكتين من تكسير السكريدات المتعددة في الفاكهة، بينما تُسرع إنزيمات المنفحة من تخثُّر الحليب. وبالمثل، تُسرع الإنزيمات الموجودة في خلايا جسمنا من عملية «الأَيْض»، وهي عمليةٌ لا تتوقَّف فيها تريليونات الجزيئات الحيوية داخل الخلايا عن التحوُّل إلى تريليونات الجزيئات الحيوية الأخرى؛ لكي نبقى على قيد الحياة.

ليس إنزيم الكولاجيناز الذي أضافته ماري شوايتسر إلى عظام الديناصور سوى إحدى الآلات الحيوية، ووظيفته المعتادة هي تَحلُّل ألياف الكولاجين في أجسام الحيوانات. يُمكن التوصُّل إلى قيمةٍ تقديرية لمعدَّل السرعة الذي توفِّرُه هذه الإنزيماتُ من خلال المقارنة بين الوقت المُستغرَق لتحلُّلِ ألياف الكولاجين في حالةِ عدم وجودها (ومن الواضح أنه أكثرُ من ثمانيةٍ وستِّين مليونَ سنة) والوقت المُستغرق عند توفُّر الإنزيم المناسب (نحو ثلاثين دقيقة)؛ أي: تريليون ضعف المُدة.

في هذا الفصل، سنستعرض الكيفية التي تُمكِّن إنزيماتٍ مثل الكولاجيناز من تحقيق تلك السرعة الفلَكية في التفاعلات الكيميائية. ومن الاكتشافات المذهلة في المدةِ الأخيرة أن ميكانيكا الكمِّ تؤدي دَورًا في عملِ بعض الإنزيمات على الأقل؛ ونظرًا إلى دور الإنزيمات المركزيِّ في الحياة، فستَكون أولَ ميناء نحطُّ عليه في رحلتنا عبر علم الأحياء الكمي.

الإنزيمات: الشيء المُميِّز بين الأحياء والأموات

استُخدِمَت الإنزيمات قبل اكتشافها وتحديد سِماتها بآلاف السنين. فمنذ عدة آلافٍ من السنين، كان أسلافُنا يُحولون عصير العنب أو القمح إلى نبيذٍ أو جِعَةٍ بإضافة الخميرة، وهي في الأساس عبارةٌ عن حقيبةٍ ميكروبية من الإنزيمات.١ أدرَكوا أيضًا أنَّ مُستخلصاتٍ من بطانة المعدة لدى العجول (المنفحة) تُسرع من عملية تحويل الحليب إلى جُبن. وعلى مدارِ قرونٍ عديدة، ساد اعتقادٌ بأن خصائص التحويل تلك تنبع عن قُوًى حيويةٍ مرتبطةٍ بالكائنات الحية؛ إذ تهَبُها الحيوية وسرعة التغيير، وهما ما يُميزان الأحياءَ عن الأموات.

في عام ١٧٥٢، ومُستلهِمًا من الفلسفة الميكانيكية لرينيه ديكارت، شرَع العالم الفَرنسي رينيه أنطوان فيرشو دي ريومور في دراسة أحد الأنشطة الحيوية، وهو الهضم، من خلال إجراء تجرِبة بارعة. كان الاعتقادُ الشائع حينذاك أنَّ الحيوانات تهضم طعامَها عن طريق عمليةٍ ميكانيكية ناتجة تتمثَّل في السَّحْق والخضِّ داخل جهازها الهضمي. بدَتْ تلك النظريةُ وثيقةَ الصلة بالطيور على وجه التحديد؛ لأن حَواصلها تحتوي على حصَواتٍ صغيرة كان يُعتقد أنها تهضم طعامها، وهي عمليةٌ ميكانيكية تتَّسق مع وجهة نظر رينيه ديكارت (المذكورة في الفصل السابق) بأنَّ الحيوانات آلاتٌ فحسب. غير أنَّ هضم الطيور الجارحة لطعامها رغم أنَّ الحصوات الهضمية لا توجد في حَواصلها كان من الأمور التي أثارت حيرةَ دي ريومور. ولهذا، أطعم صقْرَه قِطعًا صغيرة من اللحم المغلَّف في كبسولاتٍ معدنية صغيرة بها ثقوبٌ صغيرة. وعندما استرجع الكبسولاتِ من حوصلة الطائر، اكتشف أن اللحم قد هُضم تمامًا على الرغم من أنه من المحال أنه خضَع لأيِّ عملية ميكانيكية؛ نظرًا إلى أنه مغلَّف داخل كبسولات معدنية. بدا جليًّا أنَّ التروس والرافعات والمطاحن التي قال عنها ديكارت، لا تكفي لتفسيرِ قوةٍ واحدة على الأقل من القُوى الحيويَّة في الحياة.

وبعد قرنٍ من تجرِبة دي ريومور، درَس فرنسيٌّ آخر وهو الكيميائي ومؤسس علم الأحياء الدقيقة لوي باستور عمليةَ تحوُّلٍ بيولوجي أخرى تُعزى إلى «القُوى الحيوية»، وهي تحوُّل عصير العنب إلى نبيذ. أثبَت باستور أنَّ مبدأ التحويل في التخمير يبدو وثيقَ الصلة بالخلايا الحية للخميرة التي تُوجَد في «الخمائر» المستخدَمة في صناعة الجِعَة أو في الخميرة التي تُستخدَم لعمل الخبز. وبناءً على هذا، ظهَر مصطلح «إنزيم» (معناه باليونانية: «في الخميرة») الذي صاغه عالمُ وظائفِ الأعضاء فيلهلم فريدريش كونيه عامَ ١٨٧٧ لوصفِ العناصر الفاعلة في هذه «الأنشطة الحيوية»، مثل تلك التي تقوم بها خلايا الخميرة الحية، أو في واقع الأمر أي عمليات تحويل تُحفزها موادُّ مستخلَصةٌ من الأنسجة الحية.

فما هي الإنزيمات وكيف تُسرع عمليات التحويل في الحياة؟ لِنَعُد إلى الإنزيم الذي افتتَحْنا به القصةَ في هذا الفصل وهو الكولاجيناز.

لماذا نحتاج إلى الإنزيمات وكيف تفقد الشراغف ذيولها؟

الكولاجين هو البروتينُ الأكثر وفرةً في الحيوانات (بما في ذلك الإنسان). وهو بمنزلة خيطٍ جُزيئي محبوك داخل الأنسجة وفيما بينها؛ للحفاظ على اللَّحم متماسكًا. وعلى غِرار البروتينات جميعها، يتألَّف الكولاجين من لَبِناتِ بناءٍ كيميائية أساسية: وهي سلاسلُ من «الأحماض الأمينية» يُوجَد منها ما يقرب من عشرين نوعًا، وربما تُعرَف بعضها (مثل الجلايسين، والجلوتامين، واللايسين، والسيستين، والتيروسين) في شكلِ مُكمِّلات غذائية تُباع في متاجرِ الأغذية الصحية. يتكوَّن كلُّ جُزيءٍ من جزيئات الحمض الأميني من ذرَّات يتراوح عددُها من العشَرة إلى الخمسين ذرةً من الكربون والنيتروجين والأكسجين والهيدروجين، والكبريت أيضًا في بعض الأحيان، وتتماسكُ تلك الذرَّات معًا بفعلِ روابطَ كيميائيةٍ بشكلها الثلاثيِّ الأبعاد المُميِّز لها على نحوٍ فريد.

بعد ذلك، تصطفُّ عدةُ مئات من هذه الأشكال الجزيئية الملتوية من الأحماض الأمينية، وتُكوِّن أحدَ البروتينات، وكأنها حبَّاتُ خرزٍ غريبة الشكل قد تراصَّت في سلسلة. ترتبط كلُّ حبةٍ من حبات هذا الخرَز بالتي تليها عن طريقِ «رابطةٍ ببتيديَّة» تربط ذرةَ كربونٍ في حمضٍ أميني بذرَّة نيتروجين في الحمض الأميني التالي. وهذه الروابطُ الببتيدية قويةٌ للغاية؛ فهي ما حافَظ على تماسُك أليافِ الكولاجين في حفريَّة التيرانوصور ريكس طيلةَ ثمانيةٍ وستين مليون سنة.

يمتاز بروتين الكولاجين على وجه التحديد بدرجةٍ كبيرة من القوة، وهو أمرٌ بالغ الأهمية؛ لدورِه في الحفاظ على شكلِ أنسجتنا وبِنْيتِها باعتباره بطانةً داخليةً لها. تتضافرُ البروتينات معًا في جدائلَ ثلاثيةٍ تتضافرُ بدورها معًا، فتُشكِّل حِبالًا سميكة هي «الألياف». تمتدُّ هذه الألياف عبر الأنسجة لِتَخيط خلايانا معًا، وهي تُوجَد أيضًا في الأوتار التي تربط العضلات بالعِظام، وفي الأربطة التي تربط العظامَ بعضَها ببعض. يُطلَق على تلك الشبَكة الكثيفة من الألياف «المصفوفة خارج الخلية»، وتتمثَّل وظيفتُها الأساسية في الحفاظ على تماسُك الجسم.

إنَّ أيَّ شخصٍ غيرِ نباتي يعرف بالفعل المصفوفةَ خارج الخلية في شكلِ الغضروف القويِّ الألياف الذي قد يجده في قطعةِ سجق عَسِرة الهضم، أو في أحدِ أنواع اللحوم الأرخص ثمنًا. سيُدرك الطُّهاة أيضًا ما تتَّسم به هذه المادة المليئة بالأوتار من عدمِ قابليةٍ للذوبان؛ ولهذا لا تلين في الطهي حتى بعد ساعاتٍ من غَلْيها في حساء. ورغم أنَّ المصفوفة خارج الخلية ربما لا تكون مُفضَّلة على طبق العشاء، فإنَّ وجودها في أجسام الأكَلة أمرٌ بالغ الأهمية. فمن دون الكولاجين، تتفكَّك عِظامنا وتسقط العضلاتُ عن العظام وتتحوَّل الأعضاء الداخلية إلى مادةٍ هُلامية.

بالرغم من ذلك، فليست أليافُ الكولاجين الموجودةِ في العظام أو العضلات أو الطعام بالمنيعة على أي حال. ذلك أنَّ غَلْيها في موادَّ قلويةٍ أو أحماض قوية سيُفتِّت الروابط الببتيدية الموجودة بين حبَّات الأحماض الأمينية في نهاية المطاف، وسيُحول تلك الأليافَ القوية إلى جيلاتين قابلٍ للذوَبان، وهو تلك المادة الهلامية التي تُستخدم في عمل المارشملُّو والجيلي. ربما يتذكر مُحبو الأفلام شخصيةَ رجلِ المارشملو ستاي بوفت في فيلم «صائدو الأشباح» (جوست باسترز) بأنه تلك الكتلةُ العملاقة من اللحم الأبيض المتأرجِح التي أرهبَت نيويورك. غيرَ أنَّ رجل المارشملو كان يُهزَم بسهولة بتسييله في كريم مارشملو مُذاب. إنَّ الروابط الببتيدية بين حبَّات الحمض الأميني لألياف الكولاجين هي ما يُفرِّق بين رجل المارشملو والتيرانوصور ريكس. فأليافُ الكولاجين المتينة هي ما يمنح القوةَ للحيوانات الحقيقية.

ثمة مشكلةٌ رغم ذلك تنتج عن تدعيم جسم حيوانٍ ما بموادَّ قويةٍ ومتينة مثل الكولاجين. فكِّر فيما يحدُث عندما تتعرض لِجُرح أو كدمةٍ أو حتى كسرٍ في ذراعٍ أو ساق، حينها تتلفُ الأنسجة، ومن المحتمل أيضًا أن تتضرَّر المصفوفة خارج الخلية، تلك الشبكة الداخلية ذاتُ الألياف القوية، أو تتقطَّع. إذا تضرَّر منزلٌ بسبب عاصفة أو زلزال، فينبغي إزالةُ البِنَى المكسورة قبل الشروع في أعمال الإصلاح. وبالمثل أيضًا، تَستخدم أجسامُ الحيوانات إنزيمَ الكولاجيناز للتخلُّص ممَّا تضرَّر في المصفوفة خارج الخلية؛ كي يُمكن إصلاحُ النسيج من خلال مجموعةٍ أخرى من الإنزيمات.

والأهم من ذلك أنه ينبغي إعادةُ تشكيل المصفوفة خارج الخلية على الدوام بما يتلاءم مع نموِّ الحيوان؛ لأن البِنْية الداخلية التي دعمَت جسم الحيوان في مرحلة الطفولة لن تتمكَّن من دعم جسده البالغ الكبير. تُمثل هذه المشكلة خطورةً كبيرة في البرِّمائيات على وجه الخصوص؛ لأن تكوينها في مرحلةِ البلوغ مختلفٌ تمامًا عن تكوينها في مرحلة الطفولة؛ ولهذا فإنَّ حلَّها يُمِدُّنا بالكثير جدًّا من المعلومات. نجد المثال الأشهر على هذا في التحول البرمائي: تحوُّل الضِّفدع من بيضةٍ كروية إلى شرغوف يتلوَّى، ثم إلى ضفدع يقفز في مرحلة البلوغ. عُثر على حفرياتٍ لهذه البرمائيات البَتْراء الذيل ذاتِ الجسم القصير والأطراف الخلفية البالغةِ القوة في الصخور الجوراسية، التي يعود تاريخُها إلى منتصف حقبة الحياة الوُسطى منذ ٢٠٠ مليون سنة، التي تُعرف باسم عصر الزواحف. لكنها تُوجَد أيضًا في صخور العصر الطباشيري. لذا يبدو من المُحتمل أنَّ الضفادع سبَحَت عبر نهر مونتانا نفسِه الذي لقي فيه الديناصور MOR 1255 حتْفَه. لكن على خلاف الديناصورات، تمكَّنَت الضفادعُ من النجاة من الانقراض الجماعي الذي حدَث في العصر الطباشيري، وظلَّت منتشرةً في بِرَك العصر الحاليِّ وأنهاره ومستنقَعاته؛ مما أتاح الفرصةَ لطلَّاب المدارس والعلماء أن يدرسوا كيفيةَ تحوُّل الجسد من شكلٍ إلى شكل.

إنَّ عملية تحول الشرغوف إلى ضفدعٍ تتضمَّن مقدارًا كبيرًا من التفكيك وإعادة التشكيل، ومن ذلك تفكيكُ الذَّيل الذي يُمتَصُّ داخل الجسم تدريجيًّا ويُستَخدَم لحمُه من جديدٍ في تشكيل الأطراف الجديدة للضفدع. كلُّ ذلك يستلزم السرعة في تفكيك المصفوفة خارج الخلية المكوَّنة من الكولاجين، قبل أن يُعاد تجميعها في صورة الأطراف التي ستتشكَّل. لكن تذكَّرْ تلك الثمانيةَ والستين مليونَ سنةٍ تحت صخور مونتانا؛ فأليافُ الكولاجين لا تتحلَّل بسهولة. وبناءً على هذا، فقد كان التحوُّل البرمائي سيستغرق زمنًا طويلًا للغاية إذا اعتمَد على التحلُّل الكيميائي للكولاجين عن طريق عملياتٍ غير عُضوية فقط. لا يستطيع الحيوان بالطبع أن يَغْليَ أوتارَه القوية في حمض ساخن؛ ولهذا يحتاج إلى وسيلةٍ أخفَّ تؤدي إلى تحلُّل ألياف الكولاجين.

وهنا يأتي دور إنزيم الكولاجيناز.

لكن ما آليةُ عمل ذلك الإنزيم هو وغيره من الإنزيمات؟ ظلَّ الاعتقاد المشتقُّ من المذهب الحيوي، بأنَّ نشاط الإنزيمات يحدث من خلال نوعٍ من القُوى الحيوية الغامضة، قائمًا حتى أواخِر القرن التاسع عشر. وفي ذلك الوقت، أوضح أحدُ زملاء كونيه، وهو عالم الكيمياء إدوارد بوخنر، أن المُستخلصاتِ غيرَ الحية من خلايا الخميرة يمكن أن تُحفز التحولاتِ الكيميائيةَ نفسَها التي تُحدِثُها الخلايا الحية. بعد ذلك، طرح بوخنر اقتراحَه الثوريَّ بأن تلك «القوة الحيوية» ليست سوى شكلٍ من أشكال «التحفيز» الكيميائي.

المحفزاتُ موادُّ تُسرع التفاعلاتِ الكيميائيةَ العادية، وقد عرَفها علماء الكيمياء في القرن التاسع عشر. واقع الأمر أنَّ العديد من العمليات الكيميائية التي أدَّت إلى الثورة الصناعية؛ اعتمدَت على المحفزات الكيميائية اعتمادًا جوهريًّا. فعلى سبيل المثال، كان حمض الكبريتيك مادةً كيميائية أساسية أشعَلَت الثورتَين الصناعية والزراعية؛ إذ يُستخدم في صناعة الحديد والفولاذ، وفي صناعة النسيج، وفي صناعة سماد الفوسفات. ويَنتج هذا الحمض عن تفاعلٍ كيميائي يبدأ بثاني أكسيد الكبريت ( ) والأكسجين (اللذَين يُمثلان الموادَّ المتفاعلة)، وتتفاعل المادتان كِلتاهما مع الماء لتكوين المادة الناتجة وهي حمض الكبريتيك ( ). غير أنَّ هذا التفاعل بطيءٌ للغاية؛ ولذا تعذَّر استخدامه تِجاريًّا في البداية. غير أنه في عام ١٨٣١، اكتشف بيريجرين فيليبس — وهو أحدُ مُصنِّعي الخلِّ في بريستول بإنجلترا — طريقةً لتسريع التفاعل بتمرير ثاني أكسيد الكبريت والأكسجين فوق البلاتين الساخن الذي كان بمنزلة «مادة محفِّزة». ويجدُر بنا الإشارةُ إلى أنَّ الموادَّ المحفزة تختلف عن الموادِّ المتفاعلة (وهي المواد الأولية التي تُشارك في التفاعل)؛ فالموادُّ المحفزة تُساعد على تسريع التفاعل من دون أن تُشارك فيه أو تتغيَّر بسببه. وبناءً على هذا، اقترح بوخنر أنَّ الإنزيمات لا تختلف من حيث المبدأُ عن نوع المُحفز غيرِ العضوي الذي اكتشفه فيليبس.

أدَّت الأبحاثُ الكيميائية التي أُجريَت على مدارِ عُقود إلى تأكيدِ رؤية بوخنر. وكان إنزيم المنفحة الذي يُستخرج من مَعِدة العُجول هو أولَ ما يُنقَّى من الإنزيمات. لقد خزن المِصريُّون القدماءُ الحليبَ في حقائبَ مصنوعةٍ من بطانة معدة العجول، وهم على الأرجح أولُ مَن اكتشفوا أنَّ تلك المادة الغريبة تُسرع من تحويل الحليب إلى جُبن يُحفظ بنحوٍ أفضل. استمرَّت تلك الممارسة حتى نهاية القرن التاسعَ عشر. حينذاك، كانت مَعِدات العجول نفسها تُجفَّف وتُباع في الصيدليات بوصفها «منفحة». وفي عام ١٨٧٤، كان الكيميائي الدانماركي كريستيان هانسن في مقابلةٍ للعمل بإحدى الصيدليات عندما سمع مصادفةً عن وصولِ طلَبيةٍ من المنافح، ولما استفسَر عن ماهيَّتها توصَّل إلى فكرةٍ يَستخدم فيها مهاراته الكيميائيةَ لتقديم مصدرٍ للمنفحة تقلُّ فيه الرائحةُ الكريهة. عاد إلى مُختبره حيث طوَّر طريقةً لتحويل السائل ذي الرائحة الكريهة الناتجِ عن عملية إماهةِ معدة العجل إلى مسحوقٍ جاف، وقد كوَّن ثروتَه من التسويق للمنتج الذي بِيع على مستوى العالم باسم مُستخلص المنفحة الخاص بدكتور هانسن.

تُعَد المنفحة في الواقع مَزيجًا من عدةِ إنزيمات مختلفة، وأنشطُ إنزيمٍ فيها لأغراض عمل الجبن هو الكيموسين، وهو نفسُه ينتمي إلى عائلةٍ ضخمة من الإنزيمات تُسمى البروتياز تُسرِّع انشقاق البروتينات. تتمثَّل وظيفةُ هذا الإنزيم في صناعة الجبن في أنه يؤدي إلى تَخثُّر الحليب؛ ومِن ثمَّ ينفصل إلى الحليب الرائب ومَصْل الحليب، أما وظيفته الطبيعية في جسد العجل فهي تخثير الحليب الذي يرضعه حتى يبقى مدةً أطولَ في القناة الهضميَّة؛ مما يسمح بأن تطول مدةُ امتصاصه. الكولاجيناز أيضًا إنزيمٌ آخَر من عائلة البروتياز، لكن طرق تنقيته لم تتطوَّر إلا بعد ذلك بخمسين عامًا في خمسينيَّات القرن العشرين، حين انشغل عقلُ جيروم جروس، العالم السريري في كلية الطب بجامعة هارفارد ببوسطن، بكيفيةِ امتصاص الشراغف لذيولها حتى تتحولَ إلى ضفادع.

كان جروس مُهتمًّا بدور ألياف الكولاجين؛ باعتبارها مثالًا على التجمُّع الجزيئي الذاتي، الذي اعتقد أنه «ينطوي على سرٍّ كبير من أسرار الحياة».3 ولهذا قرَّر العمل على ذيلِ شرغوف ضفدع أمريكي كبير، وهو ذيلٌ كبير قد يبلغ طولُه عدةَ بوصات. أصاب جروس في تخمينه أن عمليةَ امتصاص الذيل يجب أن تتضمَّن مراتٍ كثيرةً من تجمع ألياف الكولاجين لدى الحيوان وتفكُّكِها. وللكشف عن نشاط الكولاجيناز، طوَّر اختبارًا بسيطًا يتمثل في مَلء طبق بتري بطبقةٍ من هُلام الكولاجين اللَّبَنيِّ الشكل المملوءٍ بألياف الكولاجين القوية والمتينة. وعندما وضَع شرائحَ من ذيل الشرغوف على سطح الهلام، لاحظ منطقةً تُحيط بذلك النسيج تتفتَّت فيها تلك الأليافُ القوية، وتحوَّلَت إلى جيلاتين قابلٍ للذوبان. عمل بعد ذلك على تنقية المادة الهاضمة للكولاجين ووجد أنها إنزيم الكولاجيناز.

يوجد الكولاجيناز في أنسجة الضفادع وغيرها من الحيوانات، ومنها الديناصور الذي وُجِدَت عظامه في هيل كريك. واليوم، يؤدي الإنزيمُ الوظيفةَ نفسَها التي كان يؤديها منذ ثمانية وستين مليون سنة، ألا وهي تَحلُّل ألياف الكولاجين، لكن الإنزيم قد تعطَّل حين مات الحيوان وسقط في المستنقع؛ ولذا ظلَّت أليافُ الكولاجين على حالها، إلى أن أضافت ماري شوايتسر قدرًا من الكولاجيناز النشِط إلى شظايا العظام.

ليس الكولاجيناز سوى إنزيم واحد من ملايين الإنزيمات التي تعتمد عليها الحيواناتُ والميكروبات والنباتات في إجراء الغالبية العظمى من الأنشطة الضرورية للحياة. فثمَّة إنزيماتٌ تُخلِّق أليافَ الكولاجين من المصفوفة خارج الخلية، وتُوجَد إنزيماتٌ أخرى تصنع الجزيئات الحيوية مثل البروتينات والحمض النووي والدهون والكربوهيدرات، بينما تُوجَد مجموعةٌ مختلفة تمامًا تُفتِّت تلك الجزيئات الحيوية وتُعيد تدويرها. فالإنزيمات مسئولة عن الهضم والتنفُّس وعملية البناء الضوئي وعملية الأيض. إنها مسئولة عن تكويننا جميعًا، وهي تُبقينا على قيد الحياة. وهي تُعَد محركات الحياة.

لكن هل يقتصر دور الإنزيمات على كونِها محفزاتٍ بيولوجيةً توفر نوعَ التفاعل الكيميائيِّ نفسِه المستخدَم لعمل حمض الكبريتيك وعشرات المواد الكيميائية الاصطناعية الأخرى؟ منذ عدةِ عقود، كان معظمُ علماء الأحياء سيتَّفقون مع رأي بوخنر القائلِ بأنَّ كيمياء الحياة لا تختلف عن نوع العمليات التي تحدُث داخل مصنعٍ للموادِّ الكيميائية أو حتى في عدة التجارِب الكيميائية للأطفال. غير أنَّ هذا الرأي قد تغيَّر جذريًّا في العَقدَين الأخيرين بعد أن قدَّم عددٌ من التجارِب المهمة أفكارًا جديدةً جديرةً بالاهتمام، بشأن آليةِ عمل الإنزيمات. يبدو أنَّ عمل محفزات الحياة لا يقتصر على مستوى الكيمياء الكلاسيكية المعتادة، بل هي قادرة على الوصول إلى مستوًى أعمقَ من الواقع، واستخدامِ بعض الخدع الكمية الحاذقة.

بالرغم من ذلك، فلِكي نفهم أهميةَ ميكانيكا الكم في تفسيرِ لغز الحياة؛ يجب علينا أولًا أن ندرس طريقةَ عمل المحفزات الصناعية المعتادة.

تغيُّر المشهد

تعمل المحفِّزات من خلال عدةِ آليات مختلِفة، لكننا نستطيع فَهْم معظمها عن طريق فكرةٍ تُسمى «نظرية الحالة الانتقالية»؛4 إذ تُقدم شرحًا مبسطًا لآلية المحفزات في تسريع التفاعلات. ولفهم نظرية الحالة الانتقالية؛ ربما سيُفيدنا أن ننظر إلى المسألة من زاويةٍ مختلفة، ونفكر أولًا في «سبب» الحاجة إلى المحفزات لتسريع التفاعلات. والإجابة هي أن معظم الموادِّ الكيميائية المعروفة في بيئتنا مستقرةٌ وغير تفاعلية. فهي لا تتحلَّل تلقائيًّا ولا تتفاعل بسهولة مع المواد الكيميائية الأخرى؛ الحقُّ أنها إذا كانت تتَّسم بأيٍّ من هاتَين السمَتَين، لَما صارت شائعةً الآن.
يرجع السبب في استقرار المواد الكيميائية الشائعة إلى أنَّ روابطها لا تتفكَّك في كثيرٍ من الأحيان؛ نتيجةً للاضطراب الحتمي بين الجزيئات، الذي لا يتوقَّف داخل المادة. يُمكننا تقريبُ الصورة بتخيُّلِ أنَّ الجزيئات المتفاعلة تحتاج إلى اجتيازِ مشهدٍ ما بالصعود إلى قمة التل الذي يحول دون تحوُّلِها إلى جزيئاتٍ ناتجة (انظر الشكل ٣-١). وغالبًا ما تحصل على الطاقة اللازمة لصعود «التل» من خلال الحرارة التي تَزيد سرعةَ الذرات والجزيئات مما يدفعها إلى الحركة أو الاهتزاز بسرعةٍ أكبر. وقد يؤدي هذا التدافعُ والتصادم بين الجزيئات إلى تفكيك الروابط التي تُمسك ذرات الجزيئات معًا، وتُتيح لها أيضًا تكوينَ روابطَ جديدة. غير أنَّ ذرات الجزيئات المستقرَّة، وهي الأكثرُ شيوعًا في بيئتنا، تلتحم معًا بفعل روابطَ قويةٍ بما يكفي لمقاومةِ ما يُحيط بها من اضطرابٍ جزيئي. ولهذا فإنَّ الموادَّ الكيميائية التي نجدها من حولنا شائعةٌ لأن جزيئاتها مستقرَّة٣ بوجهٍ عام، رغم ما يحدُث في بيئتها من تدافُعٍ قويٍّ بين الجزيئات.
fig3
شكل ٣-١: يُمكن تحويلُ الجزيئات المتفاعلة — الممثَّلة بالنقاط الرمادية — إلى جزيئاتٍ ناتجة — الممثَّلة بالنقاط السوداء — بشرط أن تتسلَّق تلَّ الطاقة أولًا. ونادرًا ما تمتلك الجزيئات الباردة الطاقة الكافية للصعود، بينما يسهل على الجزيئات الساخنة صعود القمة.

بالرغم من ذلك، فحتى الجزيئات المستقرَّة يمكن أن تتفكَّك روابطُها إذا توفَّر لديها القدرُ الكافي من الطاقة. ومن المصادر المحتملة للطاقة توفر قدرٌ أكبر من السخونة التي تُسرع من حركةِ الجزيئات. فتسخينُ مادةٍ كيميائية سيؤدي إلى تفكيك روابطها في نهاية المطاف. وهذا هو السبب في أننا نطهو الكثيرَ من مأكولاتنا؛ فالحرارة تُسرع التفاعلات الكيميائية المسئولة عن تحويل المكونات النِّيئة — المواد المتفاعلة — إلى موادَّ ناتجةٍ ألذَّ.

يُمكننا رسمُ صورة واضحة للكيفية التي تعمل بها الحرارة لتسريع التفاعلات الكيميائية؛ من خلال تخيُّلِ أن الجزيئات المتفاعلة حباتُ رمالٍ في الحجرة اليسرى من ساعةٍ رملية موضوعةٍ على جنبها (انظر الشكل ٣-٢أ). إذا تُرِكَت حبات الرمال وشأنَها، فستظلُّ في مكانها إلى الأبد لأنها لا تمتلكُ الطاقة الكافية كي تصلَ إلى عنق الساعة الرملية وتمرَّ إلى الحجرة اليُمنى التي تُمثل المواد النهائية الناتجة عن التفاعل. يمكن إمدادُ الجزيئات المتفاعلة في عملية كيميائية بقدرٍ أكبر من الطاقة من خلال تسخينها؛ مما سيؤدي إلى زيادةِ سرعة حركتها واهتزازها، ومن ثمَّ يتوفَّر لبعض الجزيئات طاقةٌ تكفي لأن تتحولَ إلى موادَّ ناتجة. يمكننا تصويرُ تلك العملية على أننا سنهزُّ الساعة الرملية هزةً قوية، بحيث تُقذف بعض حبات الرمال إلى الحجرة اليمنى وتتحولُ من موادَّ متفاعلة إلى موادَّ ناتجة (انظر الشكل ٣-٢ب).
fig4
شكل ٣-٢: تغير مشهد الطاقة. (أ) يمكن أن تنتقل الجزيئات من حالة المادة المتفاعلة (م)، إلى حالة المادة الناتجة (ن)، لكن يجب أولًا أن تمتلك الطاقةَ الكافية لأن تجتازَ الحالة الانتقالية (عُنق الساعة الرملية). (ب) يؤدي قلب الساعة الرملي إلى وضع المادة المتفاعلة (الركيزة) في حالةٍ ذاتِ طاقة أعلى من طاقة المادة الناتجة؛ مما يجعلها تمر بسهولة. (ﺟ) تعمل الإنزيمات عن طريق استقرار الحالة الانتقالية؛ إذ تخفض مستوى الطاقة بفاعليَّة (عنق الساعة الرملية)؛ ممَّا يُتيح للركائز أن تتدفَّق إلى حالة المادة الناتجة بسهولة أكبر.
لكن توجد طريقةٌ أخرى لتحويل الموادِّ المتفاعلة إلى موادَّ ناتجة؛ وذلك بخفض حاجز الطاقة الذي يجب أن تَعبُرَه. وهذا ما تفعله المحفِّزات. فالدور الذي تُؤديه يُكافئ توسيعَ عنق الساعة الرملية حتى يتدفق الرمل من الحجرة اليسرى إلى الحجرة اليمنى بأقلِّ قدرٍ من التحفيز الحراري (انظر الشكل ٣-٢ﺟ). ونتيجةً لهذا تَزيد سرعة التفاعل كثيرًا بفضل قدرة المُحفِّز على تغيير شكلِ مشهد الطاقة بطريقةٍ تُتيح للركائز٤ أن تتحوَّل إلى موادَّ ناتجةٍ بسرعة أكبر مما يُمكنها في حالة غياب المحفز.
يُمكننا توضيحُ كيفية حدوث هذا على المستوى الجزيئي؛ بالنظر أولًا في التفاعل البطيء للغاية، المسئول عن تفكُّك جزيئات الكولاجين في غيابِ إنزيم الكولاجيناز٥ (انظر الشكل ٣-٣). ربما تتذكَّر مما أوضحناه سابقًا أنَّ الكولاجين سلسلةٌ من الأحماض الأمينية التي يرتبط كلٌّ منها بما يليه من خلال «رابطةٍ ببتيدية» (موضَّحة في الشكل بخطٍّ سَميك) بين ذرةِ كربون وذرةِ نيتروجين. ليست الرابطةُ الببتيدية سوى نوعٍ واحدٍ ضمن أنواعٍ متعددة من الروابط التي تُحافظ على تماسُك الذرات داخل الجزيء. تتكون هذه الرابطةُ في الأساس من إلكترونَين مشتركَين بين ذرةِ نيتروجين وذرةِ كربون. يجذب الإلكترونان المشتركان السالبا الشحنةِ نَواتَي الذرَّتين الموجبَتَي الشحنة الموجودتَين على جانبَي الرابطة، فيُصبحان بمنزلةِ لاصقٍ إلكتروني يُمسك الذرَّتَين معًا في الرابطة الببتيدية.٦
fig5
شكل ٣-٣: البروتينات مثل الكولاجين (أ) تتكون من سلاسل الأحماض الأمينية التي تتشكَّل من ذرَّاتِ كربون (C) ونيتروجين (N) وأكسجين (O) وهيدروجين (H) متصلةٍ بروابطَ ببتيدية. تُمثَّل إحدى هذه الروابط في الشكل بخطٍّ سميك. يمكن أن تتحلَّل الرابطة الببتيدية بجزيء الماء ( )؛ لأنه يكسر الرابطةَ الببتيدية (ﺟ)، لكنها يجب أن تمرَّ أولًا بحالةٍ انتقالية غير مستقرَّة تتكون من بِنْيتَين مختلفتين على الأقل يجري التبادلُ فيما بينهما (ب).
تمتاز الروابط الببتيدية بدرجةِ استقرارٍ عالية؛ لأنَّ تفكيكها، بإجبار الإلكترونات المشتركة على الانفصال، يستلزم قدرًا كبيرًا من «طاقة تنشيط»؛ أي: إنَّ الرابطة عليها أن تتسلَّق تلَّ طاقةٍ شاهقًا قبل أن تصل إلى عُنق الساعة الرملية في التفاعل. وعمليًّا، لا تتفكَّك الرابطة في المعتاد من تلقاء نفسها، وتحتاج إلى مساعدةٍ من أحدِ جزيئات الماء المحيطة بها، في عمليةٍ تُسمى «التحلُّل المائي». ولكي تحدث هذه العملية؛ يجب أولًا أن يتحرك جزيءُ الماء على مسافةٍ قريبة من الرابطة الببتيدية تكفي لأن يمنح الجزيءُ أحدَ إلكتروناته إلى ذرةِ الكربون في الرابطة؛ مما يؤدِّي إلى تشكيلِ رابطة جديدة ضعيفة تُقيد جزيءَ الماء في مكانه، وهي الممثِّلةُ في الشكل ٣-٣ بالخطِّ المنقَّط. تُسمى تلك المرحلة المتوسطة بالحالة الانتقالية (ولهذا تُعرَف النظرية باسم «نظرية الحالة الانتقالية») وهي ذروةُ عدم الاستقرار في تلِّ الطاقة الذي يجب أن تتسلَّقه الرابطةُ كي تتفكَّك، ويُمثله عنقُ الساعة الرملية. نلاحظ من الشكل أن الإلكترون الذي منحه جزيءُ الماء قطَع المسافة حتى وصل إلى ذرة الأكسجين الملاصقةِ للرابطة الببتيدية، وقد صار الآن سالبَ الشحنة؛ إذ اكتسب إلكترونًا إضافيًّا. وفي هذه المرحلة الانتقالية، صارت الشحنةُ الكلية لجزيء الماء الذي منحَ الإلكترون موجبة.
عند هذه النقطة، يُصبح فهم العملية صعبًا بعضَ الشيء. فلنتخيَّلْ أنَّ الشحنة الموجبة في جزيء الماء ليست بسبب فقدانه لإلكترون، بل لأنه صار يحتوي على نواةِ هيدروجين عارية؛ أي: بروتون يُمثله في الشكل الرمز +. لا يعود هذا البروتون موجبَ الشحنة ثابتًا بقوةٍ في مكانه داخلَ جزيء الماء، بل يُصبح «غير متمركِز» من منظور ميكانيكا الكمِّ كما أوضَحْنا في الفصل السابق. وعلى الرغم من أنه يبقى معظمَ الوقت مرتبطًا بجزيء الماء (التركيب الموضَّح على اليمين في الشكل ٣-٣ب)، فقد يبتعد عن جزيء الماء أحيانًا ويُصبح أقربَ من ذرة النيتروجين (التركيب الموضح على اليسار في وسط الشكل ٣-٣ب) حيث الطرَفُ الآخر من الرابطة الببتيدية. وفي هذا الموضع، يمكن للبروتون المتنقِل أن يطردَ أحد إلكترونات الرابطة الببتيدية من مكانه؛ ومِن ثمَّ يُفكِّك الرابطة.
غير أنَّ هذه العملية لن تحدث في المعتاد. ويعود السبب في هذا إلى أن الحالات الانتقالية — كتلك الموضَّحة في الشكل ٣-٣ب — قصيرةُ الأجل للغاية؛ فهي تتَّسم بدرجةٍ كبيرة من عدم الاستقرار حتى إنَّ أهون «هزة» قد تُزحزحها. فعلى سبيل المثال، يسهل استعادةُ الإلكترون السالبِ الشحنة الذي منَحه جزيءُ الماء؛ ومن ثمَّ يُعاد تشكيل المواد المتفاعلة الأولية (الموضَّحة بالسهم السميك في الشكل). واقع الأمر أنَّ احتمالية حدوث هذا السيناريو أكبرُ كثيرًا من احتمالية حدوث سيناريو التفاعل الذي يسير في الاتجاه الأمامي والذي تتفكَّك فيه الرابطة. ونتيجةً لهذا، لا تتفكَّك الروابط الببتيدية عادةً. الواقع أنَّ تفكُّك نصف الروابط الببتيدية في البروتينات الموجودة في مَحاليل محايدة؛ أي: ليست حمضية ولا قلوية، يستغرق أكثرَ من ٥٠٠ عام، وتُعرَّف تلك المرحلة الزمنية بأنها نصفُ عمر التفاعل.

كلُّ هذا يحدث بالطبع في حالة «غياب» الإنزيمات؛ فنحن لم نوضِّح بعدُ الآليةَ التي تساعد بها الإنزيمات في عملية التحلل المائي. ووَفقًا لنظرية الحالة الانتقالية، تُسرع المحفزات العمليات الكيميائية مثل تفكيك الرابطة الببتيدية برفع مستوى الاستقرارِ في المرحلة الانتقالية؛ ومِن ثمَّ تزيد فرصُ تشكيل الموادِّ الناتجة النهائية. تُوجَد عدةُ طرقٍ لرفع مستوى الاستقرار. على سبيل المثال، يمكن لوجودِ ذرةِ فِلزٍّ موجبةِ الشحنة بالقرب من الرابطة؛ أن تجعل ذرةَ الأكسجين ذاتَ الشحنة السالبة محايدةً في الحالة الانتقالية؛ كي تجعلها مستقرةً (وبهذا لا تُصبح في عجَلة لإعادة الإلكترون الذي منحه جزيءُ الماء). فمن خلال الإسهام في استقرار الحالات الانتقالية، تَمُدُّ المحفزات يدَ العون؛ إذ تصبح بمنزلة المُكافئ لتوسيع رقبة الساعة الرملية.

والآن، علينا البحثُ فيما إذا كانت نظرية الحالة الانتقالية — التي نتناولُها من خلال التشبيه بالساعة الرملية — يمكن أن تُفسر الكيفيةَ التي تُسرع بها الإنزيماتُ كلَّ التفاعلات الكيميائية الأخرى الضرورية للحياة.

الاهتزاز والتذبذُب

كان إنزيم الكولاجيناز الذي استخدمَته ماري شوايتسر لتفتيتِ ألياف الكولاجين العتيقة التي تعود للتيرانوصور هو نفسه الإنزيم الذي اكتشَفه جيروم جروس في الضفادع. لعلك تتذكَّر أن هذا الإنزيم ضروريٌّ لتفكيك المصفوفة خارج الخلية للشرغوف، حتى يُمكنَ إعادةُ تشكيل أنسجته وخلاياه وجزيئاته البيولوجية في صورةِ ضفدع كبير. لقد أدى هذه الوظيفةَ نفسَها في جسم الديناصور، وهو لم يزَل يُؤديها في أجسامنا: تفكيك ألياف الكولاجين بما يُتيح نموَّ الأنسجة وإعادةَ تشكيلها خلال النمو، وبعد التعرُّض لجرح. لكي نتمكَّن من تخيُّل هذه العملية الإنزيمية؛ سنقتبس فكرةً من مُحاضرةٍ ثورية في العلم ألقاها ريتشارد فاينمان على جَمعٍ من الناس عام ١٩٥٥ في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، وكانت المحاضرة بعُنوان «هنالك متَّسع كبير في القاع». وتُعرَف هذه المحاضرة بوجهٍ عام بأنها وضَعَت الأساسَ الفكري لمجال تقنية النانو، وهي الهندسة على نطاقِ الذرَّات والجزيئات. يُقال أيضًا إنَّ أفكار فاينمان ألهمَت قصةَ فيلم «رحلة رائعة» (فانتاستيك فويدج) الصادرِ عام ١٩٦٦، الذي تحكي قصتُه عن تضاؤل غواصةٍ وطاقَمِها إلى حجمٍ بالغِ الصغر يكفي لِحَقنهم في جسدِ أحد العلماء للكشف عن جلطةٍ دموية في دماغه قد تودي بحياته وعلاجها. ولدراسة تلك العملية الإنزيمية، سننطلق في رحلةٍ بغوَّاصة نانوية خيالية. وستكون وِجهتُنا ذيلَ أحد الشراغف.

بداية، يتعيَّن علينا العثور على الشرغوف. نزور إحدى البِرَك القريبة فنجد مجموعةً من بَيض الضفادع، ونأخذ حَفْنةً من الكرات الهلامية ذاتِ النقاط السوداء، وننقلها إلى وعاءِ ماءٍ زجاجي. لن يستغرق الأمرُ طويلًا حتى نلاحظ اهتزازاتٍ داخل البيضة، ثم تظهر الشراغفُ الصغيرة من بيوضها في غضون أيام. نأخذ ملاحظاتٍ سريعة عن سِماتها الأساسية تحت عدسة مُكبرة فنجد رأسًا كبيرًا نسبيًّا وأنفًا قابعًا فوق فمٍ صغير وعينَين جانبيَّتين وخياشيمَ ريشيةً أمام زعنفة الذيل الطويلة القوية، ثم نُقدم للشراغف كميةً كافية من الطعام (الطحالب)، ونعود يوميًّا لتدوين الملاحظات. تمرُّ أسابيعُ ولا نلاحظ سوى تغييرٍ طفيف في شكل الحيوان، لكننا ندهش من السرعة في زيادةِ طوله ومُحيطه. بعد مرورِ ثمانية أسابيع تقريبًا، نُلاحظ انحسارَ خياشيم الحيوان داخل جسمه وظهور الأطراف الأمامية. يمرُّ أسبوعان آخَران وتظهر سيقانه الخلفية من قاعدةِ ذيله القوي. في تلك المرحلة، لا بد أن نَزيد من وتيرةِ رصد الملاحظات؛ إذ يبدو أنَّ معدل التحول في تزايُد. تختفي خياشيمُ الشرغوف والكيس الخيشومي تمامًا، وتنتقل عيناه إلى منطقةٍ أعلى في رأسه. وبينما تطرأ هذه التغيراتُ الكبيرة في الطرَف الأمامي للشرغوف، يبدأ ذيله في التقلُّص. تلك هي الإشارة التي كنَّا بانتظارها؛ ومن ثَم نركب غوَّاصتَنا النانوية وننطلقُ بها في الوعاء الزجاجي لدراسةِ أحد أهمِّ التحولات في الطبيعة.

نظرًا إلى تقلص حجم الغواصة؛ يُمكننا رؤيةُ المزيد من تفاصيلِ عملية التحول التي يمرُّ بها الشرغوف، ومنها ما يحدُث على جلده من تغيراتٍ كبيرة؛ فقد زاد سُمكًا ومتانةً وأصبح مُزوَّدًا بالغُدد المخاطية التي ستُحافظ على رطوبته وليونته حينما يترك البركة ويمشي على اليابسة. نغوص في إحدى هذه الغدد التي ستقودنا في رحلةٍ عبر جلد الحيوان. بعد اجتيازِ عددٍ من الحواجز الخلَوية بسلام، نصِل إلى داخل الجهاز الدوري. نتجول في أوردةِ الشرغوف وشرايينه، فنشهد العديدَ من التغيرات التي تحدث في جسم الحيوان من الداخل. تتشكَّل الرئتان من بداياتٍ تُشبه الكيس وتتمدَّدان وتمتلئان بالهواء. أما قناته الهضمية الحلزونية الطويلة، التي كانت مناسبةً لهضم الطحالب، فقد استقامت وأصبحت كالقناةِ الهضمية المعتادة لدى الحيوانات المفترسة. يُصبح هيكله الغضروفي شِبهُ الشفاف — بما في ذلك حبل الظهر (وهو شكلٌ بدائي من أشكال العمود الفقري يمتدُّ بطول الجسم) — مُعتِمًا وغيرَ شفاف، بينما تحلُّ العظام محلَّ الغضاريف. نستمر في رحلتنا ونتبع العمود الفقري الناميَ وصولًا إلى ذيل الشرغوف الذي بدأ للتوِّ في عملية الامتصاص داخل جسم الضفدع الآخذ في النمو. ولأننا على هذا المستوى النانوي؛ نتمكَّن من رؤية أليافٍ عضلية سَميكة ومخططة تكتظُّ بطول جسم الحيوان.

من خلال التقلُّص بدرجة أكبر، نرى أن كلَّ ليف عضلي يتكون من أعمدةٍ طويلة ذاتِ خلايا أسطوانية تُعَد تقلُّصاتها الدورية هي مصدرَ حركة الشرغوف. يحيط بتلك الأسطوانات العضلية شبكةٌ كثيفة من الحبال القوية: المصفوفة خارج الخلية التي هي موضوعُ استكشافنا. يبدو أنَّ المصفوفة نفسَها في حالةٍ مستمرَّة من التغيُّر؛ إذ تتفكَّك الألياف الفردية لتحرير الخلايا العضلية المحاصَرة كي تنضمَّ إلى عملية هجرة جماعية لعددٍ كبير من خلايا ذيل الشرغوف الآخِذ في الاختفاء لتنتقلَ إلى جسم الضفدع.

نتقلَّص بدرجةٍ أكبر، فنحطُّ على أحد تلك الحبال المتفكِّكة من المصفوفة خارج الخلية الآخِذة في التحلُّل. ومع تمدُّد محيطِه، نجد أنه منسوجٌ من آلاف فتائل البروتين، وكلٌّ فتيل منها هو في حد ذاته حُزمةٌ من ألياف الكولاجين. يتكون كلُّ ليف من ثلاثةِ خيوط من بروتين الكولاجين — وهي حبات الأحماض الأمينية المتراصَّة على سلسلة، التي تعرَّفنا عليها في مناقشتنا لعظام الديناصور — لكنها التفَّت بعضُها حول بعض لتكوينِ شريطٍ حلزوني شبيهٍ بشريط الحمض النووي، لكنه يتكوَّن من ثلاثِ سلاسل لا سلسلتَين. وعند هذه النقطة، نصل أخيرًا إلى وجهتنا المُستهدَفة من تلك الرحلة، ألا وهي أحد جزيئات إنزيم الكولاجيناز. نجد أنه بِنْيةٌ شبيهة بالمحار تُمسك بأحد ألياف الكولاجين وتنزلق على الليف مفكِّكةً الشريطَ الحلزوني الثلاثي، وبكل سهولة تقطع الروابط الببتيدية التي تصل بين حبَّات الحمض الأميني. ها هي السلسلة التي يمكن أن تبقى سليمةً ملايينَ السنين تتفكَّك الآن في لحظة. سنقترب الآن أكثرَ كي نرى عملية القطع تلك.

تأخذنا المرحلةُ التالية من التقلُّص إلى المقياس الجزيئي الذي لا يتجاوز بضعةَ نانومترات (التي هي أجزاءٌ على مليونٍ من الميلليمتر). من الصعب جدًّا أن نتخيَّل مدى ضآلةِ هذا المقياس، ولكي تتصوَّر ضآلته على نحوٍ أوضح بعضَ الشيء، انظر إلى الحرفِ o في أي كتاب مكتوب بالإنجليزية؛ إذا قلَّصتَ من حجمك الطبيعيِّ إلى مقياس النانومتر، فسيظهر لك هذا الحرفُ وكأنه يُساوي مساحة الولايات المتحدة الأمريكية برُمَّتها تقريبًا. ببلوغ هذا المقياس، يُمكننا أن نرى أن الجزء الداخلي للخلية مكتنزٌ بجزيئات الماء وأيونات٧ الفلزَّات، ومجموعةٍ كبيرة ومتنوعة من الجزيئات البيولوجية التي تتضمَّن الكثيرَ من تلك الأحماض الأمينية ذات الأشكال الغريبة. تسود في تلك البركة المزدحمةِ بالجزيئات حالةٌ مستمرة من الاضطراب والهياج؛ إذ تدور الجزيئات حول نفسها، وتهتزُّ وترتطم بعضها ببعض في تلك الحركة الجزيئية الشبيهةِ بحركة كرات البلياردو التي وصَفْناها في الفصل السابق.

وهناك في وسطِ هذا النشاط المضطرِب والعشوائي بين الجزيئات، تنزلقُ تلك الإنزيمات الشبيهة بالمحار بطولِ ألياف الكولاجين، وتتحرك بطريقةٍ مختلفة تمامًا. على هذا المقياس، يمكننا تكبيرُ إنزيمٍ واحد وهو يشقُّ طريقه عبر سلسلةِ بروتين الكولاجين. للوهلة الأولى، يبدو الشكلُ العام لجزيء الإنزيم متكتلًا مبهَمَ المعالم، مما يُعطي انطباعًا خاطئًا بأنه بِنْيةٌ غيرُ منتظمة الأجزاء. بالرغم من ذلك، يمتاز الكولاجيناز، كغيرِه من الإنزيمات، ببِنْية محدَّدة تَشغل كلُّ ذرة فيها موقعًا معيَّنًا داخل الجزيء. وعلى النقيض من التدافع العشوائي للجزيئات المحيطة، فإن الإنزيم يؤدي رقصةً جزيئية رائعة ودقيقة؛ إذ يلتفُّ حول ألياف الكولاجين، مُفككًا الانعطافاتِ الحلزونيةَ في الألياف مع قصِّ الروابط الببتيدية التي تصلُ الأحماضَ الأمينية بعضَها ببعض داخل السلسلة، ثم يفكُّ نفسه ويمضي قُدمًا لقطع الرابطة الببتيدية التالية في السلسلة. ليست تلك بنُسَخٍ مصغَّرة من آلاتٍ صناعية تَسير عملياتُ تشغيلها — على مستوى الجزيئات — وفقًا لحركةِ تريليونات الجزيئات على نحوٍ عشوائي شبيهٍ بحركة كرات البلياردو. فهذه الآلات النانوية الطبيعية تؤدي على المستوى الجزيئي رقصةً مصمَّمة بعناية، قد تطوَّرَت حركاتها بدقةٍ على مدار ملايينِ السنين من الانتقاء الطبيعي للتأثير في حركة الجسيمات الأساسية للمادة.

لإلقاءِ نظرةٍ فاحصة على عملية القطع؛ ننزل إلى فلقةِ الإنزيم الشبيهة بالفكِّ والتي تُثبت الركائزَ في مكانها: سلسلة بروتين الكولاجين وجُزيء ماءٍ واحد. هذا هو «الموقع النشط» للإنزيم، وهو أداته الفاعلة التي تُسرِّع تفكيكَ الروابط الببتيدية عن طريق ليِّ عنق الساعة الرملية للطاقة. إنَّ هذه الحركات المُصمَّمةَ بعنايةٍ التي تحدث داخل مركز القيادة الجزيئي تختلفُ للغاية عن كل التدافُع العشوائي الذي يحدث خارجَ الإنزيم وحوله، وهي تؤدي دورًا بالغَ الأهمية في حياة الضفدع بأكمله.

يوضح الشكل ٣-٤ الموقع النشط للإنزيم. ومن خلال مقارنة هذا الشكل بالشكل ٣-٣، يمكن رؤية أن الإنزيم يُعيق الرابطة الببتيدية في الحالة الانتقالية غير المستقرة التي ينبغي الوصولُ إليها قبل أن يُمكن تفكيكُ الرابطة. تُثبَّت الركائز في أماكنها بفعلِ روابطَ كيميائية ضعيفة، تُمثَّل في الشكل بخطوط منقَّطة، وهي تتألف في الأساس من إلكترونات مشتركة بين الركيزة والإنزيم. يحافظ هذا التثبيتُ على بقاء الركائز في تكوينٍ مُحدَّد جاهزٍ لعملية القطع التي يقوم بها الفكَّان الجزيئيَّان للإنزيم. حينما يُطبِق فكَّا الإنزيم، فإنهما يفعلان ما هو أدقُّ من مجردِ «قَضْم» الرابطة؛ فهما يوفران الوسائلَ التي يمكن أن يحدث بها التحفيز. نُلاحظ ذرةً كبيرة موجبة الشحنة تتدلَّى تحت الرابطة الببتيدية المستهدفة، وتتَّخذ وضع الاستعداد. تلك ذرةُ زنك ذاتُ شحنةٍ موجبة. إذا اعتبرنا أنَّ الموقع النشط للإنزيم هو فكَّاه، فستكون ذرةُ الزنك إحدى قواطعه. تقتلعُ الذرةُ ذاتُ الشحنة الموجبة إلكترونًا من ذرة الأكسجين التي تنتمي إلى الركائز كي تستقرَّ الحالة الانتقالية ومن ثمَّ تُغير مشهد الطاقة؛ أي: تُوسع عنق الساعة الرملية.
fig6
شكل ٣-٤: تفكك الرابطة الببتيدية (بالخط السميك) للكولاجين في الموقع النشط لإنزيم الكولاجيناز. تُمثَّل الحالة الانتقالية للركيزة بالخطوط المتقطعة. وتُمثِّل الكرة الموجودة على يسار المركز في الأسفل، أيونَ الزنك الموجَبَ الشحنة، وتُمثل مجموعةُ الكربوكسيل (COO) في الأعلى حمضَ جلوتامات أمينيًّا في الموقع النشط للإنزيم. تجدُر الإشارة إلى أنَّ المسافات بين الجزيئات ليست مرسومةً وفقًا لمقياسٍ محدد.
تُنفَّذ بقيةُ المهمة عن طريق القاطع الجزيئي الثاني للإنزيم. هذا القاطع هو أحدُ الأحماض الأمينية للإنزيم نفسِه ويُسمى الجلوتامات، وقد اتخذ وضعيةَ الاستعداد ليُعلِّق ما لدَيه من ذرة أكسجين سالبةِ الشحنة فوق الرابطة الببتيدية المستهدَفة. يتمثَّل دورُ هذا القاطع في أن يقوم أولًا باقتلاع بروتون مُوجب الشحنة من جُزيء الماء المقيَّد. بعد ذلك، يدفع هذا البروتون داخل ذرة النيتروجين في أحد طرَفَي الرابطة الببتيدية المستهدفة؛ ومِن ثم تُصبح الذرة موجبةَ الشحنة مما يطرد الإلكتروناتِ من الرابطة الببتيدية. لعلك تتذكَّر أن الإلكترونات بمنزلة صمغ يُثبت الروابط الكيميائية، ومن ثمَّ فإن إخراج الإلكترون يُشبه إزالة الصمغ من مِفصل رابطة، مما سيُؤدي إلى ضَعفها وتفكيكِها.5 وبعد إجراء بِضْع عمليات أخرى من إعادة تنظيم الإلكترونات، تُلفَظ الموادُّ الناتجة عن التفاعل، وهي السلاسل الببتيدية المفكَّكة، من الفكَّين الجزيئيَّين للإنزيم. ها هو تفاعلٌ ربما يستغرق إكمالُه ما يصل إلى ثمانية وستين مليون سنة، قد اكتمل في عددٍ قليل من النانوثواني.

لكن ما محلُّ ميكانيكا الكم في الصورة؟ لكي نتمكنَ من إدراك أهمية ميكانيكا الكمِّ في شرح التحفيز الإنزيمي، سنتوقَّف مؤقتًا لنُفكرَ مجددًا في الأفكار التي طرَحها روَّادُ ميكانيكا الكم. لقد ذكَرنا بالفعل الدور الخاصَّ الذي تؤديه تلك الجسيماتُ القليلة في الموقع النشط للإنزيم، ووصَفْنا حركاتِها المتنظمةَ التي تتناقضُ تمامًا مع حركة الجزيئات العشوائية التي تحدُث في الأماكن الأخرى بالبيئة الجزيئية. لدينا الآن جزيئاتٌ حيوية عاليةُ التنظيم، تتفاعل بطرقٍ مُحدَّدة مع جزيئات حيوية أخرى عاليةِ التنظيم. يمكن رؤيةُ هذا التفاعل من منظور التضخُّم المستبدِّ الذي أشار إليه يوردان، أو من منظور إرفين شرودنجر القائل ﺑ «تولد النظام من النظام» في كلِّ المراحل؛ بدايةً من الضفدع الذي يكبر بنموِّ أنسجته المنظمة وخلاياه، وحتى الألياف التي تُمسك تلك الأنسجة والخلايا معًا، وصولًا إلى الحركة المُنظِّمة للجسيمات الأساسية داخلَ الموقع النشط لإنزيم الكولاجيناز الذي يُعيد تشكيلَ تلك الألياف؛ ومِن ثمَّ يؤثر في نموِّ الضفدع بأكمله. وبصرف النظر عمَّا إذا كنا سنختار نموذج يوردان أم نموذج شرودنجر، فإنَّ ما يحدث هنا مختلفٌ تمامًا عن حركة الجزيئات الفوضوية التي تدفع القطارات إلى صعود التلال.

لكن هل يسمح هذا النظامُ الجزيئيُّ لمجموعةٍ مختلفة من القواعد أن تؤثر في الحياة مثلما زعَم شرودنجر؟ لمعرفة إجابة هذا السؤال، نحتاج إلى معرفةِ المزيد عن تلك المجموعة المختلفة من القواعد التي تعمل على نطاق الأجسام الصغيرة للغاية.

هل تُفسر نظرية الحالة الانتقالية كل شيء؟

أيَلزم أن تنطويَ تلك الحركةُ الجزيئية المصمَّمة بعنايةٍ على ميكانيكا الكم؟ لقد عرَفنا أنَّ قدرة الكولاجيناز على تسريع تفكيك الروابط الببتيدية تتضمَّن عددًا من آليات التحفيز التي يستخدمها الكيميائيُّون عادةً لتسريع التفاعلات الكيميائية من دون اللجوء إلى ميكانيكا الكم. فعلى سبيل المثال، يبدو أن ذرةَ فلز الزنك في الموقع النشط للإنزيم تؤدِّي دورًا مُماثلًا لدور فلزِّ البلاتينيوم الساخن الذي استخدمه بيريجرين فيليبس في القرن التاسع عشر لتسريع تصنيع حمض الكبريتيك. ولتسريع التفاعلات الكيميائية، تعتمد هذه المُحفزات غير العضوية في تقريب مجموعاتها التحفيزية من الركائز على الحركة الجزيئية العشوائية، لا الحركة الجزيئية المصمَّمة بعناية. فهل يقتصر التحفيز الإنزيمي على كونه مجموعةً من آليات التحفيز الكلاسيكية المباشرة التي تُوجَد بكَثرةٍ في المواقع النشِطة، وهي بذلك تُوفر الشرارةَ الحيوية التي تُحرك الحياة؟

حتى وقتٍ قريب، كان كلُّ خبراء الإنزيمات تقريبًا سيُوافقون على ذلك؛ إذ كانت نظريةُ الحالة الانتقالية القياسية، بوصفها للعمليات المختلفة التي تساعد في إطالة مدةِ الحالة الانتقالية الوسيطة، تُعَد هي التفسيرَ الأفضل لكيفية عمل الإنزيمات. غير أنه بعد أخذِ كلِّ العوامل المساهمة المعروفة في الاعتبار، ظهرَت بعضُ الشكوك. فعلى سبيل المثال، يفهم العلماءُ الآلياتِ المحتمَلة المختلفة التي يمكن أن تُسرع تفاعل التفكُّك الببتيدي الذي تناوَلْناه سابقًا في هذا الفصل فَهمًا جيدًا، وتنتج كلٌّ منها على حدةٍ عواملَ زيادة سرعة تصل إلى مائة ضعفٍ تقريبًا. لكن حتى إذا ضرَبنا كلَّ هذه العوامل معًا، فإن أقصى ما يمكن تحقيقُه هو زيادة سرعة التفاعل بمليون ضعف تقريبًا. وهذا المقدار ضئيلٌ للغاية مقارنةً بعوامل زيادة السرعة التي نعرف أنَّ الإنزيمات تُحقِّقها بالفعل، ويبدو أنَّ هناك فجوةً شاسعة للغاية بين النظرية والواقع.

ثَمة لغزٌ آخر يكمن في كيفية تأثُّر النشاط الإنزيمي بالتغيرات المختلفة التي تطرأ على الإنزيمات نفسِها. فعلى سبيل المثال، يتكون الكولاجيناز في الأساس، كغيره من الإنزيمات، من هيكلٍ بروتيني على سلسلةٍ تدعم فكَّي الإنزيم وأسنانَه في موقعه النشط. وسوف نتوقَّع أن تغيير الأحماض الأمينية التي تُشكل فكَّي الإنزيم وأسنانَه سيُخلِّف تأثيرًا كبيرًا في كفاءة الإنزيم، وهذا ما يحدث بالفعل. وما يبعث على الدهشة بدرجةٍ أكبر هو اكتشافُ أنَّ تغيير الأحماض الأمينية في إنزيماتٍ بعيدة عن الموقع النشط قد يترك أيضًا تأثيرًا كبيرًا على كفاءة الإنزيم. إنَّ السبب الذي يجعل تلك التعديلاتِ الطفيفةَ في بِنْية الإنزيم تؤدي إلى اختلافٍ كبير لم يزَل لُغزًا في نظريةِ الحالة الانتقالية القياسية، لكننا نجد سببًا منطقيًّا لذلك إذا استدعَيْنا ميكانيكا الكمِّ إلى الصورة. وسنعود إلى هذا الاكتشافِ في الفصل الأخير من الكتاب.

بالرغم من ذلك، تُوجَد مشكلةٌ أخرى وهي أنَّ نظرية الحالة الانتقالية لم تنجح حتى الآن في توفيرِ إنزيماتٍ اصطناعية تعمل بكفاءةِ الإنزيمات الحقيقية. ربما تتذكر مقولةَ ريتشارد فاينمان الشهيرة: «ما لا أستطيع خَلْقه، لا أستطيع فهمَه». تنطبق هذه المقولةُ على الإنزيمات؛ لأنه بالرغم من هذا القدر الكبير الذي نعرفه عن آليات الإنزيمات، لم يتمكن أحدٌ من تصميم إنزيم من البداية يُمكنه تحقيقُ ولو جزءٍ من معدل السرعة الذي تُوفره الإنزيمات الطبيعية.6 وبناءً على معيار فاينمان، فإننا لا نفهم حتى الآن كيفيةَ عمل الإنزيمات.
لكن أعِد النظر إلى الشكل ٣-٤ واطرَح السؤال الآتيَ: ما الذي يفعله الإنزيم؟ ستجد الإجابةَ واضحةً تمامًا وهي: تُعدِّل الإنزيماتُ فُرادى الذرات والبروتونات والإلكترونات داخل الجزيئات وفيما بينها. حتى هذه النقطةِ من الفصل، ننظر إلى هذه الجسيمات على أنها تتصرَّف على نحوٍ شديد الشبه بكتلٍ صغيرة من الشحنة الكهربية، تتعرَّض للدفع والسحب من مكانٍ إلى آخَر في جزيئاتٍ شبيهة بنموذج الكرات والعصا. غير أننا رأينا في الفصل السابق أنَّ الإلكترونات والبروتونات وحتى الذرَّات الكاملة تختلف كثيرًا عن تلك الكرات الكلاسيكية؛ لأنها تتبع قواعدَ ميكانيكا الكم، بما في ذلك القواعد الغريبة التي تعتمد على الترابط، لكنها تختفي على المستوى العيانيِّ الذي تُوجَد فيه كراتُ البلياردو؛ وذلك بسبب عملية فكِّ الترابط. ليست كراتُ البلياردو على أي حال بالمثال الجيد على الجُسيمات الأساسية؛ ولكي نفهمَ ما يجري بالفعل داخل المواقع النشطة للإنزيمات، يجب أن نُنحِّيَ أفكارنا الكلاسيكية المُسبقة جانبًا، وندخل إلى عالم ميكانيكا الكمِّ الغريب؛ حيث تستطيع الأجسام فِعل شيئَين أو مئات الأشياء في وقتٍ واحد، تتمتَّع فيه الجسيماتُ باتصالاتٍ طيفية وبالقدرة على اختراقِ حواجزَ يبدو أنه لا يمكن اختراقُها. فتلك الخصائص المذهلة لم تتوفَّر قط لأيٍّ من كرات البلياردو.

دفع الإلكترونات

من الأنشطة الأساسية للإنزيمات، كما عرَفنا، تحريكُ الإلكترونات داخل جزيئات الركائز، مثلما يحدُث مثلًا عندما يدفع إنزيم الكولاجيناز الإلكترونات ويسحبها داخل الجزيء الببتيدي. لكن تحريك الإلكترونات لا يتمُّ داخل الجزيئات فحسب، بل يمكن أيضًا نقلُها من جزيءٍ إلى آخَر.

ثَمة نوعٌ شهير جدًّا في الكيمياء من أنواع تفاعلات نقل الإلكترونات يحدث خلال عملية تُسمى «الأكسدة». تجري الأكسدة عند حرقِ أنواع الوقود الكربونية، مثل الفحم، في الهواء. وبصفةٍ أساسية، تتمثَّل هذه العمليةُ في انتقال الإلكترونات من جُزيءٍ مانح إلى جزيءٍ مُستقبِل. ففي حالةِ حرق كومةٍ من الفحم، تتحرَّك إلكتروناتٌ عاليةُ الطاقة من ذرَّات الكربون لتُشكِّل داخل ذرَّات الأكسجين روابطَ منخفضة الطاقة؛ مما يتسبَّب في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون. يتحرَّر الفائضُ من الطاقة في صورةِ حرارة نيران الفحم. ونحن نستغلُّ هذه الطاقة الحرارية لتدفئة المنازل وطهيِ الطعام، وتحويل المياه إلى بخارٍ يدفع أحدَ المحركات، أو يُشغل التوربينات لتوليد الكهرباء. بالرغم من ذلك، يُعَد حرقُ الفحم ومحركاتِ الاحتراق الداخلي وسائلَ أوَّليةً بدرجةٍ كبيرة وغيرِ فعالة في استخدام طاقة الإلكترونات. أما الطبيعة، فقد اكتشفَت منذ أمدٍ بعيد وسائلَ أكفأَ للاستفادة من هذه الطاقة عن طريق عملية التنفس.

عادةً ما نفكر في عملية التنفُّس على أنها شهيقٌ وزفير: نأخذ الأكسجين الذي نحتاج إليه داخل الرئتَين، ونُخرج ثانيَ أكسيد الكربون بصفتِه ناتجًا فائضًا. لكن التنفُّس في حقيقته يُعد خطوتَين تُمثلان الخطوةَ الأولى (استنشاق الأكسجين) والخطوةَ الأخيرة (طرد ثاني أكسيد الكربون) من عمليةٍ جزيئية أكثر تعقيدًا ونظامًا تجري داخل جميع خلايا الكائن الحي. وهي تحدث داخل عُضيَّاتٍ معقَّدة٨ تُسمى الميتوكوندريا، وهي شبيهةٌ إلى حدٍّ ما بخلايا بكتيريةٍ حبيسة داخل خلايانا الحيوانية الأكبرِ منها؛ فهي تحتوي على بِنًى داخليةٍ كالأغشية، وعلى حمضٍ نووي أيضًا. الحقُّ أننا على يقينٍ تقريبًا من أنَّ الميتوكوندريا تطورَت من بكتيريا تكافلية استوطَنَت أسلافَ الخلايا الحيوانية والنباتية منذ مئات الملايين من السنين، ثم فقَدَت القدرةَ على العيش مستقلة. غير أنَّ النسل الذي تنحدِر منه بصفتها خلايا بكتيريةً حيَّة مستقلة يُفسر على الأرجح قُدرتَها على تنفيذِ عملية فائقة الصعوبة كالتنفُّس. الحقُّ أنَّ التنفس من حيث التعقيدُ الكيميائي يأتي في المَرتبة الثانية في الأهمية بعد عملية البناء الضوئي التي سنتناولُها في الفصل التالي.
لتسليط الضوء على الدور الذي تؤدِّيه ميكانيكا الكم في هذه العملية، سنحتاج أولًا إلى تبسيط آلية التنفُّس. وحتى مع تبسيطها، سنجد أنها تنطوي على سلسلةٍ من العمليات اللافتة للنظر التي تعكس أعجوبةَ هذه الآلات النانوية البيولوجية. يبدأ التنفُّس بحرق الوقود الكربوني، وهو في هذه الحالة العناصرُ الغذائية التي نحصل عليها من الطعام. فعلى سبيل المثال، تتكسَّر الكربوهيدرات داخل المعدة لإفراز السكريات، مثل الجلوكوز الذي ينطلق في مجرى الدم، ثم يصلُ إلى الخلايا التي هي بحاجةٍ إلى الطاقة. يصلُ الأكسجين اللازم لحرق هذا الوقود المتمثِّل في السكر إلى تلك الخلايا من الرئتين عن طريق الدم. ومثلما يحدث في حالة احتراق الفحم، تنتقل الإلكتروناتُ الموجودة في المدارات الخارجية لذرات الكربون داخلَ أحد الجزيئات إلى جزيءٍ يُسمى نيكوتيناميد الأدينين الثنائي النكليوتيد المختزل (NADH). بالرغم من ذلك، لا تُستخدَم هذه الإلكترونات على الفور للارتباط بذرَّات الأكسجين، بل تُنقل من إنزيمٍ إلى آخَر على مدار «سلسلةٍ تنفُّسية» من الإنزيمات تُوجَد في خلايانا، فهي بذلك تُشبه العصا التي يُمررها كلُّ عدَّاءٍ إلى زميله في سباقات التتابُع. ومع كل خطوةٍ من خطوات النقل، تنخفض حالةُ طاقةِ الإلكترون إلى درجةٍ أدنى، ويُستخدَم الفرقُ في الطاقة لِتُزوَّد به الإنزيمات التي تطرد البروتونات خارج الميتوكوندريا. حينئذٍ يُستخدَم البروتون الناتجُ المنحدِر من خارج الميتوكوندريا إلى داخلها؛ لدفع إنزيمٍ آخَر يُسمى إنزيم الأدينوسين الثلاثيَّ الفوسفات إلى الدوران، وهو إنزيمٌ يُخلِّق جُزيئًا حيويًّا يُسمى الأدينوسين الثلاثي الفوسفات. ولهذا الجزيء الحيوي أهميةٌ كبيرة في الخلايا الحية؛ لأنه بمنزلة بطاريةِ طاقة يُمكن نقلُها بسهولة في أنحاء الخليةِ لتشغيل العديد من الأنشطة المحتاجة إلى الطاقة، مثل تحريك الأجسام أو بنائها.

تُعَد وظيفة الإنزيمات المسئولة عن ضخِّ البروتونات بفعل الإلكترونات شبيهةً إلى حدٍّ ما بتلك الخاصة بالمضخات الهيدروليكية التي تخزن الطاقة الفائضة عن طريق ضخِّ المياه إلى أعلى مُنحدرٍ تلِّي. وبعدها يُمكن تحريرُ الطاقة المُخزَّنة عن طريق السماح للمياه بالتدفُّق من أعلى التلِّ لتدوير المحرِّك التوربيني الذي يولِّد الطاقة الكهربية. وعلى هذا النحوِ أيضًا، تضخُّ إنزيمات التنفس البروتونات خارج الميتوكوندريا. عندما تعود هذه البروتونات مجددًا إلى الداخل، فإنها توفر الطاقةَ اللازمة لدوران إنزيم الأدينوسين الثلاثي الفوسفات، الذي يُشبه التوربين في هذه الحالة. يُحفز هذا الدورانُ مجموعةً أخرى من الحركات الجزيئية ذاتِ الإيقاع المنظَّم، التي تربط مجموعةً كيميائية ذاتَ طاقةٍ عالية من الفوسفات بجزيءٍ داخل الإنزيم لتخليقِ جزيء الأدينوسين الثلاثي الفوسفات.

من خلالِ تشبيه هذه العملية لاحتجاز الطاقة بسباق التتابُع؛ يُمكننا تخيُّلُ استبدال زجاجة المياه (التي تُمثل طاقةَ الإلكترون) بالعصا؛ إذ يأخذ كلُّ عدَّاء (إنزيم) رشفةَ ماءٍ ثم يُمرر الزجاجة إلى أن يُسكب الماء الفائض في النهاية في دلوٍ يُسمَّى الأكسجين. إنَّ احتجاز طاقة الإلكترونات في كتلٍ صغيرة يجعل العملية أكثرَ كفاءةً من تحويل الطاقة إلى الأكسجين مباشرةً؛ إذ لا يُفقد منها سوى قدرٍ ضئيل للغاية في صورةِ حرارة مهدَرة.

إذن، لا تتعلَّق الأحداث الرئيسية في التنفُّس بالشهيق والزفير إلا من بعيد، فهي تتكوَّن من عمليةِ نقل منظَّمة للإلكترونات عبر التتابع بين إنزيمات التنفُّس داخل خلايانا. يقع كلُّ حدث من أحداث نقل الإلكترونات بين أحد الإنزيمات والذي يليه في التتابُع في فجوةٍ يبلغ طولها عدةَ عشَرات من وحدات الأنجستروم — وهي مسافةٌ تسع العديدَ من الذرَّات — أي أنها أكبرُ كثيرًا من التقدير المتوقَّع للمسافة التي تسمح بالقفز التقليدي للإلكترونات. ويتمثَّل لغز عملية التنفُّس في الكيفية التي تتمكَّن بها هذه الإنزيمات من نقل الإلكترونات بتلك السرعة والكفاءة عبر تلك الفجوات الواسعة بين الجزيئات.

طُرح هذا السؤال أولَ مرة في أوائل أربعينيَّات القرن العشرين على لسان عالم الكيمياء الحيوية الأمريكيِّ ذي الأصول المجَريَّة، ألبرت زينت-جيورجي، الذي حصَل على جائزة نوبل في الطب عام ١٩٣٧؛ لدوره في اكتشاف فيتامين سي. وفي عام ١٩٤١، ألقى زينت-جيورجي محاضرةً بعُنوان «نحو كيمياء حيوية جديدة» وقال فيها إنَّ طريقةَ تدفُّق الإلكترونات بسهولةٍ عبر الجزيئات الحيوية؛ شبيهةٌ بطريقة حركتها في أشباه الموصلات مثل كريستالات السيليكون المستخدَمة في الأجهزة الإلكترونية. لكن من سوء الحظ أنه اكتُشف بعد سنواتٍ قليلة أنَّ البروتينات من الموصلات السيئة للكهرباء؛ ولهذا لن تتدفَّق الإلكترونات بسهولةٍ عبر الإنزيمات بالطريقة التي تَصوَّرها زينت-جيورجي.

شهِدَت خمسينيَّات القرن العشرين تقدُّماتٍ كبيرةً في الكيمياء؛ لا سيما على يدِ العالم الكنَدي رودولف ماركوس الذي وضع نظريةً قوية سُميت على اسمه (نظرية ماركوس)، وهي تشرح السرعةَ التي يمكن للإلكترونات أن تتحرَّك بها أو تتنقل بين الذرَّات أو الجزيئات المختلفة. وقد حاز هو أيضًا في نهاية المطاف على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٩٢ على أبحاثه في هذا النطاق.

بالرغم من ذلك، فحتى قبل نصفِ قرن من الزمان، كانت مسألةُ قدرة إنزيمات التنفُّس تحديدًا على تحفيز مثلِ هذا النقل السريع للإلكترونات عبر مسافاتٍ طويلة نسبيًّا بين الجزيئات لم تزَل لُغزًا لم يُحلَّ بعد. ظهر اقتراحٌ بأن البروتينات ربما تدور بتسلسلٍ مثل ماكينات الساعات؛ مما يُقرِّب الجزيئات البعيدة بعضَها من بعض فيسهل على الإلكترونات أن تتحرَّك بين الجزيئات. ومن التنبُّؤات المهمة لمِثل هذه النماذج أن هذه الآلية تتباطأُ كثيرًا في درجات الحرارة المنخفضة؛ إذ تنخفض الطاقة الحرارية التي تدفع حركة الساعة. غير أنَّ أول طفرةٍ حقيقية في علم الأحياء الكمِّي قد ظهَرَت عام ١٩٦٦ على يد عالمَي الكيمياء الأمريكيَّين دون ديفولت وبريتون تشانس اللذَين أجْرَيا تجارِبَهما بجامعة بنسلفانيا، وأثبتا من خلالها أن سرعة قفز الإلكترونات في الإنزيمات التنفُّسية لا تنخفِض في درجات الحرارة المنخفضة، على عكس كلِّ التوقعات.7

وُلد دون ديفولت في ميشيجان عام ١٩١٥، ولكنه انتقل إلى الغرب مع عائلته في زمَن الكَساد. درَس في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا وجامعة بيركلي بكاليفورنيا وحصل على الدكتوراه في الكيمياء عام ١٩٤٠. كان ناشطًا حقوقيًّا ملتزمًا، وسُجِن مدةً خلال الحرب العالمية الثانية؛ لأنه طالَب بحقه في رفض أداء الخدمة العسكرية وَفقًا لما يُمليه عليه ضميره. وفي عام ١٩٥٨، استقال من وظيفته بصفته أستاذًا في الكيمياء بجامعة كاليفورنيا، وانتقل إلى جورجيا حتى يتمكَّن من المشاركة بنفسه في النِّضال من أجل تحقيق المساواة العِرقية في الجنوب وتطبيق الدَّمج العِرقي. عرَّضتْه قوةُ إيمانه بالقضية وإخلاصه لها والالتزام بالاحتجاج السلمي لخطر الإصابة الجسدية في أثناء المَسيرات مع النشطاء أصحاب البشرة السوداء. ولقد أُصيب بكسرٍ في الفكِّ في إحدى المسيرات عندما تعرَّضَت مجموعته من المتظاهرين ذَوي الأعراق المختلفة لهجومٍ من أحد الحشود. غير أنَّ هذا لم يردَعْه.

في عام ١٩٦٣، انتقل ديفولت للعمل لدى جامعة بنسلفانيا مع بريتون تشانس الذي كان يكبُره بعامَين والذي كان قد رسَّخ سُمعته على مستوى العالم بالفعل بصفتِه واحدًا من أبرز العلماء في مجاله. حصل تشانس على درجة الدكتوراه مرتَين لا مرةً واحدة؛ الأولى في الكيمياء الفيزيائية والثانية في علم الأحياء. ولهذا كان «مجال» خبرته واسعًا للغاية، وتنوَّعَت اهتماماتُه البحثية. وقضى قدرًا كبيرًا من حياته المهنية في العمل على بنية الإنزيمات ووظائفها، وفاز أيضًا في أثناء ذلك بميدالية ذهبية في الإبحار باسم الولايات المتحدة في دورة الألعاب الأوليمبية عام ١٩٥٢.

كان بريتون تشانس منشغلًا بالتفكير في آليةٍ يمكن للضوء من خلالها تحفيز نقل الإلكترونات من الإنزيم التنفُّسي، السيتوكروم، إلى الأكسجين. وبالتعاون مع ميتسو نيشيمورا، اكتشف تشانس أن هذا النقل يحدث في بكتيريا الكروماتيوم فينوسوم حتى عندما تبرد خلاياها إلى درجة حرارة النيتروجين السائل البارد التي تبلغ ١٩٠ درجةً مئوية تحت الصفر.٩ غير أنَّ كيفية اختلاف تلك العملية مع تغيُّر درجة الحرارة، وهو ما قد يُوفر بعضَ التلميحات عن الآلية الجزيئية المعنيَّة، لم يكن معروفًا بعد. أدرك تشانس أنَّ المطلوب هو بدءُ التفاعل بسرعةٍ كبيرة للغاية باستخدام ومضةٍ قصيرة للغاية من الضوء، لكنها كثيفة. وهنا أتى دورُ خبرةِ دون ديفولت. ذلك أنه عمل بضعَ سنوات بصفته استشاريًّا كهربائيًّا لدى شركةٍ صغيرة تُطوِّر جهاز ليزر يمكن أن يُطلِق مثلَ تلك النبضات الضوئية القصيرة.

معًا، صمَّم كلٌّ من ديفولت وتشانس تجربةً تتضمَّن استخدام ليزر ياقوتي يُطلق ومضةً قصيرة من الضوء الأحمر الساطع لمدة ٣٠ نانوثانية فحسب (واحد على ٣٠ مليار من الثانية) وتسليطه على خلايا بكتيرية ممتلئة بإنزيمات التنفُّس. واكتشفا أنَّ خفض درجة الحرارة يؤدي إلى انخفاض سرعة نقل الإلكترونات، وحين بلغَت درجة الحرارة ١٠٠ درجة كلفن (أو ١٧٣ درجة مئوية تحت الصفر) تقريبًا صار زمنُ تفاعل نقل الإلكترونات أبطأَ بمقدار ألفِ مرة مما كان عليه في درجة حرارة الغرفة. كان هذا هو المتوقَّعَ إذا كانت عملية نقل الإلكترونات تعتمد في الأساس على كمية الطاقة الحرارية المُستخدَمة في التفاعل. غير أنَّ شيئًا غريبًا حدث عندما خفض ديفولت وتشانس درجةَ الحرارة إلى ما دون ١٠٠ درجة كلفن. فبدلًا من أن تنخفض سُرعة نقل الإلكترونات إلى قيمٍ أقل، بدا أنها وصَلَت إلى مستوًى من الثبات على الرغم من خفضِ درجة الحرارة أكثرَ فأكثر حتى وصلَت إلى ٣٥ درجةً فوق الصفر المطلق (٢٣٨ درجة مئوية تحت الصفر). أشار هذا إلى أنَّ آليةَ نقل الإلكترونات لا يمكن أن تقتصرَ على عمليةِ قفز الإلكترونات «الكلاسيكية» التي تناولناها مسبقًا. يبدو أن الإجابة تكمنُ في العالم الكمِّي؛ لا سيما في العملية الغريبة التي تُسمى النفَق الكمِّي التي تعرَّضنا لها في الفصل الأول.

النفَق الكمي

لعلَّك تتذكَّر من الفصل الأول أنَّ النفق الكمي هو تلك العملية الكمية الغريبة التي تُتيح للأجسام اختراقَ الحواجز المنيعة مثلما يخترق الصوتُ الجدران بسهولة. اكتُشف النفقُ الكمي للمرة الأولى في عام ١٩٢٦ على يد عالم الفيزياء الألماني فريدريش هوند وسرعان ما نجح جورج جاموف ورونالد جيرني وإدوارد كوندون في استخدامه لشرح مفهوم التحلُّل الإشعاعي، وكان جميعهم يستخدمون رياضياتِ ميكانيكا الكم الحديثة آنذاك. كان النفق الكميُّ قد صار من الخصائص الأساسية في الفيزياء النوويَّة، لكن العلماء أدرَكوا فيما بعدُ أنه ظاهرةٌ تنطبق على نطاقٍ أوسع في علوم الموادِّ والكيمياء. ومثلما رأينا بالفعل، فإنَّ ظاهرة النفق الكمي ضروريةٌ للحياة على الأرض؛ لأنها تسمح لأزواج من أنوية الهيدروجين الموجبة الشحنة الموجودة في باطن الشمس بالاندماج معًا؛ مما يُشكل الخطوة الأولى لتحويل الهيدروجين إلى هيليوم؛ ومن ثمَّ تنبعث طاقة الشمس الهائلة. بالرغم من ذلك، فلم يكن أحدٌ يعتَقد حتى وقتٍ قريب أنَّ هذه الظاهرة تدخل في أيِّ عملية من عمليات الحياة.

لتقريب مفهوم النفق الكمي؛ يُمكن تخيُّلُه على أنه وسيلةٌ تَعبُر بها الجسيماتُ من أحَد جانبَي حاجزٍ ما إلى الجانب الآخَر، على نحوٍ تُخبرنا البديهةُ أنه مُستحيل. ما نقصده بكلمة «حاجز» في هذا السياق منطقةٌ في الفراغ لا يمكن اختراقُها فيزيائيًّا (من دون طاقة كافية)، مثل مجالات القُوى التي تستخدمها قصصُ الخيال العلمي. قد تتمثَّل تلك المنطقة في مادةٍ عازلة ضيقة تفصل طرَفَين من الموصِّلات الكهربية أو حتى فضاء فارغ، مثل الفجوة بين إنزيمَين في سلسلة التنفُّس. قد تكون أيضًا أحدَ أنواع تِلال الطاقة التي تناوَلْناها سابقًا، والتي تحدُّ من سرعة التفاعلات الكيميائية (ارجع للشكل ١-١). تخيل كرةً تُركل إلى أعلى تلٍّ صغير. لكي تصلَ هذه الكرةُ إلى القمة وتتدحرجَ من الجانب الآخر من التل؛ ينبغي أن تتلقَّى ركلةً قوية بالدرجةِ الكافية. فمع صعود المنحدر، ستتباطأ سرعتُها تدريجيًّا، ومن دون القدر الكافي من الطاقة (الركلة القوية)، ستتوقَّف وتتدحرج مرةً أخرى إلى حيث أتت. طبقًا للميكانيكا النيوتنية الكلاسيكية، لا سبيل لأن تعبر الكرةُ الحاجزَ إلا بامتلاكِ ما يكفي من الطاقة لرفعها إلى أعلى تلِّ الطاقة. لكن إذا كانت هذه الكرةُ إلكترونًا، على سبيل المثال، وكان التلُّ حاجزَ طاقةٍ تنافريًّا، فسيضعف احتمالُ أن يخترق الإلكترونُ الحاجزَ في شكل موجة، بل سيخترق الحاجزَ من طريقٍ بديل ذي فاعليةٍ أكبر. وهذا الطريق البديل هو النفقُ الكمي (انظر الشكل ٣-٥).

من السمات المهمة في ميكانيكا الكم أنه كلما خفَّ وزنُ الجسيم، سهل عليه القيامُ بالنفق الكمي. لا غَرْو إذن أنه فورَ أن أدرك العلماء أنَّ تلك العملية سِمةٌ واسعةُ الانتشار في العالم دون الذرِّي، اتضح أنَّ نفق الإلكترونات هو الأكثرُ شيوعًا لأنها جسيماتٌ أولية خفيفةٌ للغاية. وفي أواخر عِشرينيَّات القرن العشرين، فُسِّر انبعاثُ الإلكترونات من المعادن بفعل مجال كهربائي على أنه من تأثيرات ظاهرة النفق. فسَّر النفقُ الكمي أيضًا كيفية حدوث التحلُّل الإشعاعي: عندما تلفظ أنويةُ ذرات معينة — مثل نواة اليورانيوم — جُسيمًا في بعض الأحيان. وقد صار هذا التفسيرُ أولَ تطبيق ناجح لميكانيكا الكم على مسائل الفيزياء النووية. أما في الكيمياء، فقد أصبح النفقُ الكميُّ للإلكترونات والبروتونات (أنوية الهيدروجين) وحتى الذرات الأثقل، من الظواهر المفهومة جيدًا في الوقت الحالي.

fig7
شكل ٣-٥: اختراق النفق الكمي لمشهد الطاقة.

ومثلما هو الحال مع العديد من الظواهر الكمِّية الأخرى، فمن أهم سِمات النفق الكمي أنه يعتمد على طبيعة جسيمات المادة الشبيهة في انتشارها بالموجة. لكن كي يتمكنَ جسمٌ مكوَّن من جسيماتٍ عديدة من شَقِّ نفق كمي، ينبغي أن يحافظ على خصائص الموجة لجميع مكوناته وهي تتحرك بخُطًى متَّسقة تتزامن فيها قممُ الموجات وقيعانها، وهو ما نشير إليه باسم ترابط النظام، أو «تناغمه». أما فكُّ الترابط فهو العملية التي تَحيد فيها الموجات الكمية العديدة عن الترابط مع بعضِها البعض بسرعة وتلغي أيَّ سلوكٍ جماعي يتَّسم بالتناغم، مما يُدمر قدرة الجسم على تكوين نفقٍ كمي. فلِكي يُشكل الجسيم نفقًا كميًّا، لا بد أن يبقى في شكل موجةٍ كي يتسرَّب من خلال الحاجز. وهذا هو السببُ في أنَّ الأجسام الكبيرة مثل كرة القدم، لا تُشكل نفقًا كميًّا؛ إذ إنها تتألَّف من تريليونات الذرات التي لا يُمكن أن تتصرف على نحوٍ موجي متناسق ومترابط.

وفقًا للمعايير الكمية، تُعَد الخلايا الحية أيضًا أجسامًا كبيرة، ومن ثمَّ يبدو للوهلة الأولى من غير المُحتمل أن تحدث ظاهرةُ النفق الكمي داخل الخلايا الحية الحارة والرطبة التي تتحرك ذراتُها وجزيئاتها على الأرجح بطريقةٍ غير متَّسقة في معظم الأحيان. بالرغم من ذلك، فقد اكتشفنا أنَّ التكوين الداخلي للإنزيمات مختلف؛ فجسيماته تتبع حركةً منتظمةَ الإيقاع لا حركةً فوضوية. ولهذا سنستكشف ما قد يُشكله هذا الإيقاعُ المنتظم من فارقٍ في الحياة.

النفق الكمي للإلكترونات في علم الأحياء

استغرق الأمر عدةَ سنوات حتى تُشرَح درجات الحرارة غيرُ المتوقَّعة في نتيجةِ تجرِبة ديفولت وتشانس عام ١٩٦٦ شرحًا وافيًا. ظهر عالمٌ أمريكي آخَر تخصَّص في عدة مجالات تتنوَّع بين علم الأحياء الجزيئي والفيزياء وعلوم الكمبيوتر، وهذا العالم الأمريكي هو جون هوبفيلد. اشتهر هوبفيلد بعمله على تطوير الشبكات العصَبية في علم الحوسبة، لكنه كان مهتمًّا بشدةٍ بالعمليات الفيزيائية المتضمَّنة في علم الأحياء. وفي عام ١٩٧٤، نشر ورقة بحثية بعنوان «انتقال الإلكترونات بين الجزيئات الحيوية عن طريق الأنفاق المنشطة حراريًّا»8 طور فيها نموذجًا نظريًّا يشرح النتيجة التي توصَّل إليها ديفولت وتشانس. أوضح هوبفيلد أنه في درجة الحرارة المرتفعة، تكون الطاقة الاهتزازية للجزيئات كافيةً بما يسمح للإلكترونات أن تثبَ الحاجزَ من دون شقِّ نفَق. ومع انخفاض درجة الحرارة، ستصبح الطاقةُ الاهتزازية غيرَ كافية لحدوث التفاعل بين الإنزيمات. غير أنَّ ديفولت وتشانس وجَدا أنَّ التفاعل يحدث بالفعل في درجات الحرارة المنخفضة. ولهذا اقترح هوبفيلد أنه في درجات الحرارة المنخفِضة يصبح الإلكترون في حالةٍ تصل به إلى منتصف المسافة على منحدر الطاقة؛ ومن ثمَّ تصبح المسافة التي يحتاج إلى قطعها أقصرَ ممَّا لو كان مستقرًّا عند سفح المنحدر، وهو ما يُعزز فرصَه في عمل نفقٍ كمي عبر الحاجز. وقد أصاب في اقتراحه بالفعل؛ ذلك أنَّ انتقال الإلكترونات عبر النفق الكمي يحدُث حتى في درجات الحرارة المنخفضة للغاية، مثلما وجد ديفولت وتشانس.

في الوقت الحالي، قلةٌ فقط من العلماء هم مَن يَشكُّون في أن الإلكترونات تنتقلُ على مدار السلاسل التنفُّسية عبر النفق الكمي. وهذا يُرسخ أهمَّ التفاعلات التي تستفيد من الطاقة في خلايا الميكروبات والحيوانات (التي لا تقوم بالبناء الضوئي) داخل مجالِ علم الأحياء الكمي، وسنتناولُ نوع التفاعلات التي يتضمَّنُها البناءُ الضوئي في الفصل التالي. غير أنَّ الإلكترونات خفيفةٌ للغاية حتى بمقاييسِ العالم الكمي، وسيُصبح سلوكها «شديد الشبَه بالموجات» حتمًا في نهاية المطاف. وبناءً على هذا، لا ينبغي التعامُل معها على أنها جسيماتٌ كلاسيكية صغيرة تتحرَّك وتقفز، وإن كانت لا تزال تُعامَل بتلك الطريقة في العديد من الكتابات القياسية في الكيمياء الحيوية التي لم تزَل تَستخدِم نموذجَ «المجموعة الشمسية» للذرَّة. سيكون من اللائق تشبيهُ الإلكترونات في الذرة بسحابةٍ موجية منتشرة من «الإلكترونات» تُحيط بنواةٍ صغيرة هي «سحابة الاحتمال» التي ناقَشْناها في الفصل الأول. وربما لا يكون من المُدهش للغاية إذن أنَّ موجات الإلكترونات يمكن أن تخترقَ حواجز الطاقة مثلما تخترقُ موجاتُ الصوت الجدرانَ — كما ذكرنا في الفصل الأول — حتى وإن كان ذلك في الأنظمة البيولوجية.

ماذا إذن بشأن الجسيماتِ الأكبر مثل البروتونات أو حتى الذرات ككل؟ هل تستطيع تلك الجسيمات شقَّ نفقٍ في الأنظمة البيولوجية؟ قد تظن للوهلة الأولى أن الإجابة هي لا. فالبروتون الواحد أثقلُ من الإلكترون بمقدار ألْفَي مرة، ومن المعروف أنَّ النفق الكميَّ يمتاز بدرجةِ حساسيةٍ كبيرة تجاه مدى ضخامةِ جُسيم النفق؛ فالجسيمات الصغيرة تشقُّ النفق بسهولة، في حينِ تجد الجسيمات الثقيلة صعوبةً في شقِّ الأنفاق ما لم تكن المسافةُ المراد قطعُها قصيرةً للغاية. بالرغم من ذلك، توضح التجارِبُ الأخيرة أنه حتى هذه الجسيمات الضخمة نسبيًّا قادرةٌ على شق نفقٍ كمي في التفاعلات الإنزيمية.

نقل البروتونات

لعلك تتذكَّر أنه من بين الأنشطة الأساسية لإنزيم الكولاجيناز (ارجع للشكل ٣-٤)، إلى جانب تحفيز نقل الإلكترونات، نقل البروتونات لتحفيزِ تفكيك سلسلة الكولاجين. وكما ذُكر سابقًا، هذا التفاعل من أشهَر خُدَع مناورات الجسيمات التي تُنفذها الإنزيمات. يتضمَّن نحو ثلثِ تفاعلات الإنزيمات نقل ذرَّة هيدروجين من مكانٍ إلى آخَر. لاحظ هنا أن «ذرة الهيدروجين» يمكن أن تعنيَ عدة أشياء: يمكن أن تكون ذرة هيدروجين محايدة H تتكوَّن من إلكترون حول نَواتها (بروتون)، أو أيون هيدروجين موجب الشحنة H+، وهو عبارة عن نواة عارية؛ أي: بروتون من دون إلكترونِه، أو حتى أيون هيدريد سالب الشحنة؛ أي: ذرة هيدروجين بها إلكترونٌ إضافي H.

أيُّ عالم جاد في الكيمياء أو الكيمياء الحيوية سيقول من فوره إن نَقْل ذرات الهيدروجين (البروتونات) داخل الجزيئات وفيما بينها؛ لا يعني ضِمنًا بالضرورة وجودَ أيِّ تأثيرٍ كَمِّي، أو على الأقل لا ينطوي على تأثير كمي يتطلَّب منَّا أن نحتكم على نحوٍ مباشر إلى عمليات العالم الكميِّ الأكثرِ غرابةً مثل النفق الكمي. في واقع الأمر، بالنسبة إلى معظم التفاعلات الكيميائية التي تحدُث في درجات الحرارة التي تعمل فيها الحياة، يُعتقد أن البروتونات تتحرَّك في معظم الأحيان من جزيءٍ إلى آخَر بقفزاتٍ حرارية غير كمِّية. ولكن البروتونات تشقُّ نفقًا كَميًّا في التفاعلات الكيميائية القليلة التي يمكن تمييزُها من خلال عدم اعتمادها النسبي على درجة الحرارة، مثلما أوضح كلٌّ من ديفولت وتشانس بشأن النفق الكمِّي للإلكترونات.

تعمل الحياة في درجاتِ حرارة مرتفعة (بمقاييس العالم الكمي). لذا على مدار معظم تاريخ الكيمياء الحيوية، افترض العلماءُ أن النقل الإنزيمي للبروتونات يتمُّ بالكامل عن طريق آلية القفز (غير الكمية) من أعلى حاجز الطاقة.١٠ لكن تغيرَت تلك الرؤية في عام ١٩٨٩ حينما قدَّمَت جوديث كلينمان وزملاؤها من جامعة بيركلي أول دليلٍ مباشر على حدوث ظاهرة النفَق الكمي فيما يتعلَّق بالبروتونات في تفاعلات الإنزيمات.9 كلينمان عالمةُ كيمياء حيوية دافعَت كثيرًا عن أهميةِ ظاهرة النفق الكمي فيما يتعلق بالبروتونات في الآلية الجزيئية للحياة. وفي الحقيقة، لقد ذهبَت إلى حدِّ الادعاء بأنها من أهم الآليات وأكثرِها انتشارًا في علم الأحياء ككل. استند الاكتشافُ الذي توصَّلَت إليه في هذا المجال إلى دراسة إنزيمٍ مُعيَّن في الخميرة يُسمَّى نازعةَ هيدروجين الكحول (ADH)، ووظيفته نقل بروتون من جُزيءِ كحول إلى جزيءٍ آخَر صغير يُسمى نيكوتيناميد الأدينين الثنائي النكليوتيد المتأكسِد (NAD) لتكوين نيكوتيناميد الأدينين الثنائي النكليوتيد المختزل (وهو جُزيء قابلناه بالفعل وقُلنا عنه إنه الحاملُ الأساسي للإلكترونات في الخلية). تمكَّن الفريق من تأكيد حدوث ظاهرة النفَق الكمي فيما يتعلَّق بالبروتونات عن طريق استخدام أسلوبٍ عبقري يُسمى «تأثير النظائر الحركية». هذه الفكرة معروفةٌ جيدًا في الكيمياء وتستحقُّ شرحًا متأنِّيًا هنا، حيث إنها تُساعد في توفير أحدِ الأدلة الأساسية في علم الأحياء الكمي؛ ولذا سنتطرَّق إليها عدة مرات في هذا الكتاب.

تأثير النظائر الحركية

هل سبق لك أن صعدت تلًّا شديد الانحدار بدرَّاجة ووجدت الصاعدين على أقدامهم هناك يجتازونك؟ على الأرض المسطَّحة، لا تُوجَد مشكلةٌ في ركوب الدراجة واجتياز أيِّ عدد من المُشاة، وحتى العدَّائين منهم، من دون جهد؛ إذن فلماذا ركوب الدراجة ليس فعالًا كثيرًا على التلال؟

تخيَّل أنك بدلًا من ركوب الدراجة ترجَّلتَ عنها وجعلتَها تمشي بجوارك سواء على الأرض المسطحة أو صعودًا على التل. الآن، تُصبح المسألة واضحة. على التل، يجب أن تدفع الدراجةَ وكذلك نفسَك لصعود المنحدَر. إن وزن الدراجة الذي ليس مُهمًّا في حركتها الأفقية بطول طريقٍ مسطح، يُصبح الآن عبئًا عليك عندما تُحاول صعودَ التل؛ حيث يجب رفعُ وزن الدرَّاجة عدة أمتار ضد جاذبية الأرض. وهذا ما يدفع جهات تصنيع دراجات السباق إلى إبراز أهمية خفَّة وزن درَّاجاتهم. من الواضح أن وزن الجسم يُحدث فرقًا كبيرًا فيما يتعلق بسهولةِ تحريكه، ولكن الدراجة في مثالنا توضح أن الفرقَ يعتمد على نوع الحركة التي نتحدَّث عنها.

والآن، تخيَّل أنك تريد اكتشافَ هل الأرض الممتدَّة بين مدينتَين — ولنقُل المدينة أ والمدينة ب — مسطَّحة أم منحدِرة، ولكنك لا تستطيع السفرَ بين المدينتَين بنفسك. تطرأ على بالك إحدى الاستراتيجيات الممكنة عندما تكتشف أن هناك مكتبَ بريدٍ يقع بين المدينتَين ويعمل به سُعاة بريد يركبون إمَّا دراجات خفيفة أو ثقيلة. لاكتشاف هل الأرض الممتدَّة بين المدينتَين مسطحةٌ أم منحدرة، ما عليك إلا أن تُرسل مجموعةَ طرودٍ متماثلة بين المدينتَين، بحيث تُرسل نصفها مع سُعاة بريد يركبون دراجاتٍ خفيفةً، والنصف الآخر مع سُعاة يركبون دراجاتٍ أثقل. إذا اكتشفتَ أن توصيل الطرود جميعها استغرق الوقت نفسَه تقريبًا، فيمكنك استنتاجُ أن الأرض الممتدَّة بين المدينتين على الأرجح مسطحةٌ تمامًا؛ لكن إذا استغرق توصيلُ كل الطرود على الدراجات الثقيلة وقتًا أطولَ بكثير، فستستنتج أن الأرض الممتدَّة بين المدينة أ والمدينة ب على الأرجح منحدرة. ومن ثم يُصبح سُعاة البريد هؤلاء بمنزلة مِسْبارٍ لتحديد مدى تسطُّح إحدى الأراضي أو انحدارِها.

ومثل الدراجات، تكون الذرَّات في كل عنصرٍ كيميائي في شكل مجموعاتٍ ذاتِ أوزان مختلفة. لنضرب المثل بذرَّة الهيدروجين حيث إنها أبسطُ الذرات، وأكثرُ ما يُهمُّنا في هذا المقام. يتحدَّد العنصر بعدد البروتونات التي تُوجَد داخلَ نَواته (بالإضافة إلى العدد المُساوي المُناظر له من الإلكترونات التي تُحيط بالنواة). ومن ثم يحتوي الهيدروجين على بروتون واحد في نواته، والهيليوم على بروتونين، والليثيوم على ثلاثة، وهكذا. ولكن تحتوي أنويةُ الذرات أيضًا على نوعٍ آخرَ من الجسيمات؛ ألا وهو النيوترون الذي قابلناه في الفصل الأول حينما ناقَشْنا اندماجَ أنوية الهيدروجين داخل الشمس. إن إضافة النيوترونات إلى النواة يجعل الذرةَ أثقل، ومن ثم تُغير سِماتها الفيزيائية. إذا كانت ذرَّات عنصر معيَّن تحتوي على أعدادٍ مختلفة من النيوترونات، فسيُطلق عليها اسم «النظائر». النظير العادي لذرة الهيدروجين هو الأخف، حيث إنه لا يحتوي إلا على بروتونٍ واحد وإلكترونٍ واحد. يَشيع هذا الشكلُ من الهيدروجين بكثرة. ولكن يُوجَد نظيرا هيدروجين أندر وأثقل؛ وهما: الديوتيريوم ويحتوي على نيوترون واحد بالإضافة إلى البروتون في نواته، والتريتيوم ويحتوي على نيوترونَين.

بما أن الخصائص الكيميائية للعناصر يُحددها في الغالب عددُ الإلكترونات التي تحتوي عليها ذراتُها، فإن النظائر المختلفة للعنصر نفسِه — التي تختلف أعدادُ النيوترونات الموجودة في أنويتها — ستكون لها خصائصُ كيميائية مماثلةٌ للغاية، ولكنها ليست متطابقة. يتضمَّن تأثيرُ النظائر الحركية قياسَ مدى حساسيةِ التفاعل الكيميائي تجاه تغيُّر الذرات من نظائرَ خفيفةٍ إلى أخرى ثقيلة، ويُعرَف بأنه النسبة بين معدلات التفاعل المرصودة مع النظائر الثقيلة والخفيفة. على سبيل المثال، إذا دخَل الماء في أحد التفاعلات، فإن ذرات الهيدروجين في جزيئات الماء يمكن أن تحلَّ محلَّها نظائرُ أثقلُ منها، وهي الديوتيريوم أو التريتيوم؛ لتكوين أكسيد الديوتيريوم أو أكسيد التريتيوم. ومثلما هو الحال مع مثال سُعاة البريد راكبي الدراجات، قد يكون التفاعل حساسًا تجاه تغيير وزن الذرات وقد لا يكون حساسًا تجاهه، ويعتمد ذلك على الطريق الذي تسلكه الموادُّ المتفاعلة كي تتحولَ إلى موادَّ ناتجة.

تُوجُد عدةُ آليات مسئولة عن تأثيرات النظائر الحركية الكبيرة، والنفق الكمِّي من تلك الآليات وهو يتَّسم، شأنه شأنُ الصعود بالدراجة، بدرجةِ حساسية قُصوى تجاه كتلة الجسيم الذي يُحاول شقَّ النفق. تؤدي زيادةُ كتلة الجسيم إلى جعل سلوكِه أقلَّ شبهًا بسلوك الموجة، ومن ثم يقلُّ احتمال أن ينفذَ الجسيمُ من خلال حاجز الطاقة. لذا، تؤدي مضاعفةُ كتلة الذرة، على سبيل المثال، بالتغيير من ذرةِ هيدروجين عادية إلى ذرةِ ديوتيريوم، إلى ضَعْف احتمالية عملِ نفقٍ كمي.

إذن، قد يدلُّ وجودُ تأثير نظائرَ حركية كبير على أن آلية التفاعل — أي: المسار بين الموادِّ المتفاعلة والمواد الناتجة — تتضمَّن نفَقًا كَميًّا. لكن قد لا يكون ذلك قاطعًا حيث إن التأثير قد يرجع إلى إحدى العمليات الكيميائية الكلاسيكية (غير الكَميَّة). لكن إذا كان النفقُ الكمي داخلًا في التفاعل، فمن المفترض أيضًا أن يُظهر التفاعلُ استجابةً غريبة تجاه درجة الحرارة؛ بمعنى أن معدَّله ينبغي أن يستقرَّ في درجات الحرارة المنخفِضة، تمامًا مثلما أوضح ديفولت وتشانس فيما يتعلَّق بالنفق الكميِّ للإلكترونات. وهذا بالضبط ما اكتشفَته كلينمان وفريقُها بشأن إنزيم نازعة هيدروجين الكحول؛ وطرحَت النتيجةُ دليلًا قويًّا على أن النفق الكمي كان له دورٌ في آلية التفاعل.

انطلق فريق كلينمان بعد ذلك ليجمع أدلة قوية على شيوع النفق الكمي للبروتونات في العديد من التفاعلات الإنزيمية في أنواع درجات الحرارة التي تدور فيها الحياة. وأجرت عدةُ فرق أخرى — مثل فريق نايجل سكروتون بجامعة مانشستر — تجاربَ مُشابهة باستخدام إنزيماتٍ أخرى وأثبتَت وجودَ تأثيراتِ نظائر حركية تُشير بقوةٍ إلى حدوث ظاهرة النفق الكمي.10 لكن لا تزال الطريقةُ التي تُحافظ بها الإنزيمات على الترابط الكمِّي لتحفيز النفق الكمي موضوعًا مثيرًا للجدل. كان معروفًا بعضَ الوقت أن الإنزيمات ليست ساكنة، بل إنها لا تتوقَّف عن الاهتزاز في أثناء تفاعلاتها. على سبيل المثال، يُفتح «فكَّا» إنزيم الكولاجيناز ويُغلق كلما فَكَّكا رابطةَ كولاجين. اعتُقِدَ أن هذه الحركات إما أنها طارئةٌ على آلية التفاعل، أو أنها لها دورٌ في احتجاز الركائز وإدخالِ كلِّ الذرات المتفاعلة ضمن النسق الصحيح. وعلى الرغم من ذلك، يزعم الآن الباحثون في علم الأحياء الكميِّ أن هذه الاهتزازات هي ما يُطلق عليها «الحركات القائدة» التي وظيفتها الأساسية هي التقريب بين الذرات والجزيئات بالقدرِ الذي يُتيح لجُسيماتها (الإلكترونات والبروتونات) القيامَ بعملية النفَق الكمي.11 سنعود إلى هذا الموضوع في الفصل الأخير من الكتاب؛ حيث إنه من أمتع الموضوعات في علم الأحياء الكميِّ وأسرعها تطورًا.

إذن، هل ما سبق يُرسخ الجانب الكميَّ في علم الأحياء الكمي؟

صنَعَت وفكَّكَت الإنزيماتُ كلَّ جزيء حيوي داخل كلِّ خلية حية؛ سواءٌ كانت حيةً الآن أم قبل ذلك. وهي تُعدُّ من العوامل الحيوية الأساسية للحياة. لذا، يطرح لنا اكتشاف أن بعض الإنزيمات — أو ربما جميعها — تعمل بتحفيز إزالة الطابَع المادي للجسيمات من نقطةٍ ما في الفراغ وإضفاءِ الطابَع الماديِّ الفوري عليها في نقطةٍ أخرى؛ رؤيةً جديدة بشأن لغز الحياة. وفي حين أنه لا تزال هناك العديدُ من المسائل العالقة بشأن الإنزيمات التي يجب فَهمُها فهمًا أفضلَ مثل دور حركات البروتينات، فلا شكَّ أن النفق الكميَّ له دورٌ في طريقة عملها.

وعلى الرغم من ذلك، تنبغي مواجهةُ نقدٍ طرَحه العديدُ من العلماء الذين يقبلون النتائج التي توصَّلَت إليها كلينمان وسكروتون وغيرُهما، لكنهم يزعمون أن دور التأثيرات الكمية في علم الأحياء يُشبه دورها في تشغيل القطارات البخاريَّة؛ فهي موجودةٌ على الدوام ولكنها ليست ذاتَ صلةٍ على نحوٍ كبير لفهم طريقة عمل أيٍّ من النظامَين. وكثيرًا ما تُذكر حُجتهم في النقاشات حول ما إذا كانت الإنزيمات «تطوَّرَت» للاستفادة من الظواهر الكمية مثل النفق الكمي أم لا. يقول النُّقاد إنه لا مفرَّ من ظهور الظواهر الكمية في العمليات البيولوجية في ضوء الأبعاد الذَّرية لمعظم التفاعلات الكيميائية الحيوية. وإنهم على حقٍّ إلى حدٍّ ما. فالنفق الكميُّ ليس سحرًا؛ إنه يحدث في الكون منذ نشأته. بالتأكيد إنه ليس خدعةً «اخترعتها» الحياة بطريقةٍ أو بأخرى. ولكننا نرى أن وجود تلك الظاهرة في نشاط الإنزيم ليس حتميًّا البتة في ضوء الحرارة والرطوبة والزحام داخل الخلايا الحية.

تذكَّر أن الخلايا الحية أماكنُ شديدة الزحام؛ فهي مكتظةٌ بجزيئات معقَّدة لا تتوقفُ عن الاهتياج والاضطراب، وذلك على نحوٍ مُماثل لحركة الجزيئات التي تُشبه كرات البلياردو التي أوضَحْناها في الفصل السابق، وقلنا إنها مسئولة عن دفع القطارات البخارية لصعود التلال. إذا كنتَ تتذكر، إنها تلك الحركة العشوائية التي تُبدد الترابط الكميَّ الدقيق وتُربكه، وتجعلنا نرى العالَم من حولنا «طبيعيًّا». لم يكن متوقَّعًا أن يصمد الترابط الكمي في هذا الاضطراب الجزيئي، ولذا كانت مفاجأةً كبرى حين اكتُشف تمكُّنُ التأثيرات الكمية مثل النفَق الكمي من مقاومةِ اضطراب بحر الجزيئات الذي يُمثل الخلايا الحية. وفي النهاية، لم ينبذ معظمُ العلماء فكرةَ إمكانية حدوث النفق الكمي وغيره من الظواهر الكمية الدقيقة في علم الأحياء إلا منذ عَقْدٍ من الزمن أو نحو ذلك. وحقيقة وجودها في هذه البيئات تقترح أن الحياة تتَّخذ تدابيرَ خاصةً للاستفادة من المزايا التي يُوفرها العالم الكمي «كي تُحافظ على عمل خلاياها». ولكن ما تلك التدابير؟ كيف تمنع الحياةُ اقترابَ ذلك العدوِّ للسلوك الكمي، ألا وهو فكُّ الترابط؟ هذا من أكبر الألغاز في علم الأحياء الكمي، ولكن تُفكُّ شفراته رويدًا رويدًا، وذلك كما سنكتشف في الفصل الأخير.

لكن قبل أن ننتقل إلى موضوعٍ آخر، يجب أن نعود إلى حيث تركنا غواصتَنا النانوية؛ أي: إلى الموقع النشط لإنزيم الكولاجيناز داخل ذيل الشرغوف الآخذِ في الاختفاء. نُغادر الموقع النشط بسرعة مع انفتاح فكَّي الإنزيم مرةً أخرى؛ مما يُتيح تحرُّر سلسلةِ الكولاجين المفكَّكة (وكذلك نحن!) ومِن ثم نترك الإنزيم الذي يُشبه البلطينوس مستعدًّا للإطباق على الرابطة الببتيدية التالية في السلسلة. عندئذٍ، نأخذ جولةً قصيرة فيما بقي من جسم الشرغوف كي نَشهد الأنشطةَ المُنظمة التي تقوم بها بعضُ الإنزيمات الأخرى التي لا تقلُّ أهميةً في حياة الكائن الحي. عندما نُتابع الخلايا المهاجرة من الذيل الآخذِ في التقلُّص وتحوُّلها إلى أطرافٍ خلفية، سنشهد بناءَ ألياف كولاجين جديدة تُشبه خطوطَ سككٍ حديدية جديدة؛ كي تدعم بناء جسم الضفدع البالغ، حيث إنه يُبنى غالبًا من الخلايا المهاجرة من الذيلِ الآخذِ في الاختفاء. هذه الأليافُ الجديدة تبنيها إنزيماتٌ تحتجز وحدات الأحماض الأمينية الفرعية التي يُطلقها إنزيم الكولاجيناز، وتربطها ببعضها مرةً أخرى في ألياف كولاجين جديدة. وعلى الرغم من عدم توفر الوقت الكافي لدينا للتعمُّق داخل هذه الإنزيمات، فإنه يُوجَد داخل مواقعها النشطة النوعُ نفسه من الحركات ذاتِ الإيقاع المنظم الذي شهدناه داخل إنزيم الكولاجيناز، ولكنه يقوم بالتفاعل العكسي هذه المرة. وفي أماكنَ أُخرى، فإن كل الجزيئات الحيوية للحياة — الدهون والحمض النووي والأحماض الأمينية والبروتينات والسكريات — تصنعها وتُفككها إنزيماتٌ مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، كلُّ حركة يقوم بها الضفدع النامي تتمُّ على نحوٍ مماثل بوساطة الإنزيمات. على سبيل المثال، عندما يرى الحيوان ذبابة، تنتقل الإشارات العصبية التي تحمل الرسالة من العينَين إلى الدماغ عن طريق مجموعةٍ من إنزيمات الناقلات العصبية التي تكتظُّ بها الخلايا العصبية. وعندما يُخرِج الضفدع لسانه ليلتقطَ الذبابة، فإن الانقباضات العضلية التي تسحب الذبابةَ للداخل يُحركها إنزيمٌ آخرُ يُسمى الميوسين الذي تكتظُّ به الخلايا العضلية، وهذا الإنزيم يُسبب انقباض تلك الخلايا. وعندما تدخل الذبابة إلى معدة الضفدع، يُطلق حشدٌ من الإنزيمات لتسريع هضمها وإخراج العناصر الغذائية منها حتى يمكن امتصاصُها. وتُحوِّل المزيدُ من الإنزيمات تلك العناصرَ الغذائية إلى أنسجةٍ في الضفدع، أو تحتجز طاقتَها عبر إنزيمات التنفُّس داخل عضيات الميتوكوندريا.

كل نشاط «حيوي» يقوم به الضفدع والكائنات الحية الأخرى، وكل عملية تُحافظ على حياتها — وحياتنا — تُسرعها الإنزيمات التي هي محركات الحياة، والتي يرجع الفضلُ في قُدرتها الخارقة على التحفيز؛ إلى قدرتها على تنظيم إيقاع حركات الجسيمات الأساسية، ومِن ثَم الانغماس في العالم الكَمِّي للاستفادة من قوانينه الغريبة.

لكن النفق الكمِّي ليس الميزة المحتملة الوحيدة التي توفِّرها ميكانيكا الكم للحياة. ففي الفصل التالي، سنكتشف أن أهمَّ تفاعلٍ كيميائي في المحيط الحيوي يتضمَّن خدعةً أخرى من العالم الكمي.

هوامش

  • (١)

    تشير كلمة «نانو» إلى البِنَى التي تُقاس بالنانومتر؛ أي: ما يساوي واحدًا على مليارِ جزءٍ من المتر.

  • (٢)

    الخميرة فِطرٌ أحاديُّ الخلية.

  • (٣)

    توجد بالطبع استثناءاتٌ مهمة للغاية، تحديدًا المواد الكيميائية مثل الأكسجين التي لا تتوقف عن التجدد، على الرغم من أنها تفاعلية؛ وذلك بفعل عملياتٍ تحدث على كوكبنا، أبرزُها تلك التي تقوم بها كائناتٌ حية كالنباتات التي تُخرج الأكسجينَ إلى الغلاف الجوي.

  • (٤)

    يُطلَق على المادة الكيميائية الأولية في التفاعل اسمُ المادة المتفاعلة، لكن عند تسريع التفاعل بتوفيرِ مُحفزٍ كأحد الإنزيمات؛ يُشار إلى تلك المادة الكيميائية الأوَّلية باسم الركيزة.

  • (٥)

    تبدأ معظم أسماء الإنزيمات بمقطعٍ أوَّل يُمثل الجزيء الأوَّلي المستهلك في التفاعل — الركيزة — وتنتهي بالمقطع: «از»، وبذلك نعرف أن الكولاجيناز هو الإنزيم الذي يعمل على الكولاجين.

  • (٦)

    يُعرف هذا النوع من الروابط باسم الرابطة التَّساهمية.

  • (٧)

    الأيون عبارةٌ عن ذرةٍ أو جزيء يحمل شحنةً كهربية نتيجةَ فقدان إلكترونات (وحينها يُصبح أيونًا موجبًا)، أو إضافة إلكترونات (وحينها يُصبح أيونًا سالبًا).

  • (٨)

    لعلَّك تتذكَّر من الفصل الثاني، العُضيات عبارةٌ عن «أعضاء» للخلايا؛ بمعنى أنها بِنًى داخل الخلايا تُنفِّذ وظائفَ معينةً مثل التنفس.

  • (٩)
    يستخدم معظم العلماء وحدة كلفن (K) في قياس درجة الحرارة. التغيير بمقدار ١ كلفن في درجة الحرارة يعني التغييرَ بمقدار درجةٍ مئوية واحدة. رغم ذلك، يبدأ مقياس كلفن بما يُطلَق عليه الصفر المُطلَق، وهو يُساوي ٢٧٣ درجة مئوية تحت الصفر. ومن ثم تبلغ درجة حرارة جسم الإنسان مثلًا ٣١٠ كلفن.
  • (١٠)

    لعلَّك تتساءل عن أهمية النفق الكمي في شرح عمليات الاندماج داخل الشمس. لكن في الشمس، حتى درجات الحرارة العالية للغاية وعمليات الضغط الشديدة جدًّا ليست كافيةً للتغلب على التنافر الكهربائي الذي يمنع اندماجَ بروتونَين موجبَي الشحنة، ومن هنا يلزم تدخلُ ميكانيكا الكم لتقديم يدِ المساعدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤