الفصل التاسع

كيف بدأت الحياة؟

… إذا (أوه! ما أعظمها من «إذا»!) كان بوسعنا أن نتصوَّر بِركةً صغيرة دافئة، تحتوي على كافة أنواع النشادر وأملاح الفوسفوريك والضوء والحرارة والكهرباء وغير ذلك، حيث تَشكَّل مركبُ بروتين كيميائيًّا بحيث يكون مستعدًّا للمرور بتغيراتٍ أخرى أشدَّ تعقيدًا …

تشارلز داروين، في خطاب له إلى جوزيف هوكر، ١٨٧١

لم تسمَّ جزيرة جرينلاند بهذا الاسم لأنها أرضٌ خضراء. في وقتٍ ما في نحو عام ٩٨٢ ميلاديًّا، أحد الفايكنج الدنماركيين المعروف باسم إريك الأحمر فرَّ من اتهامٍ بالقتل بالإبحار جهةَ الغرب من أيسلندا واكتشف تلك الجزيرة. لم يكن أول المكتشفين للجزيرة؛ فقد اكتُشِفَت بالفعل عدةَ مرات على يدِ أناسٍ من العصر الحجري ممن وصَلوا من شرق كندا منذ عام ٢٥٠٠ قبل الميلاد. لكن البيئة في جرينلاند قاسيةٌ ولا ترحم، وقد اختفَت تلك الثقافات السابقة ولم تُخلف وراءها سوى النذر اليسير من الآثار. رجا إريك أن يُحقق نجاحًا أفضل؛ فقد وصل في الآونةِ التي يُطلَق عليها الحقبة العصرأوسطية الدافئة، حيث كانت الظروف المناخية أكثرَ اعتدالًا وقتئذٍ؛ ومن ثم أُطلق على الجزيرة الاسم الحالي، وكان واثقًا من أن ما يُبشر به الاسمُ من مَراعٍ خضراء سيُغري مُواطنيه بالاتجاه غربًا. من الواضح أن الحيلة نجحَت لأنه سرعان ما أُقيمت مستعمرةٌ تضم عدةَ آلاف من الأشخاص، وبدا — على الأقل في البداية — أن الحياة ستزدهر بالنسبة إليهم هناك. ولكن مع زوال الحقبة الدافئة، عادت جرينلاند إلى الظروف المناخية المعروفة في شمال المحيط الأطلسي، وزاد الغطاء الجليدي المركزي حتى غطَّي ٨٠ بالمائة من كتلة اليابسة في الجزيرة. ومع زيادة قسوة الطقس، كافح سكانُ الجزيرة للحفاظ على نظام الزراعة الاسكندنافي الخاص بهم في التربة الضحلة للشريط الساحلي الرفيع، وتضاءلت المحاصيل ونقص عدد الماشية.

من المُفارقات أنه في الوقت نفسِه تقريبًا الذي كانت مستعمرة الفايكنج تنهار فيه، كانت هناك موجةٌ أخرى من مهاجري شعب الإنويت (الإسكيمو) تكسب عيشها في شمال الجزيرة باستخدام تقنيات صيدٍ برِّية وبحرية متطورة، تتلاءم جيدًا مع الظروف المحلية. ربما كانت مستعمرةُ الفايكنج ستتمكَّن من إنقاذ نفسِها لو استعارت استراتيجيات البقاء من شعب الإنويت، لكن السِّجل الوحيد الذي لدينا لوجودِ صلةٍ بين الشعبَين ملاحظةٌ من أحد المستوطنين الفايكنج بأن الإنويت ينزفون كثيرًا عند طعنِهم؛ وتلك ملاحظةٌ لا تشير إلى رغبةٍ في التعلُّم من جيرانهم الشماليين. وكانت النتيجة هي انهيار مستعمرة الفايكنج في وقتٍ ما في أواخر القرن الخامس عشر، ومن الواضح أن القلَّة المتبقية منهم لجأتْ إلى أكل لحوم البشر.

وعلى الرغم من ذلك، لم ينسَ أبدًا الدانماركيون مستعمرتَهم الموجودة جهة الغرب، وفي أوائل القرن الثامن عشر، أُرسلت بعثةٌ استكشافية لتجديد العلاقات مع المستوطنين. لم تجد البعثة غيرَ مقابر ومنازلَ مهجورة، ولكن أدَّت الزيارة بالفعل إلى إقامة مستعمرة أنجح، تعايشَت مع السكان الأصليين من شعب الإنويت لتُكوِّن في النهاية ما أصبح دولةَ جرينلاند الحديثة. نما اقتصاد جرينلاند اليوم من جذوره الخاصة بالإنويت، المعتمدةِ على صيد الأسماك على نحوٍ كبير، ولكن بدأ التركيز على نحوٍ متزايد على الثروة المعدنية المحتملة للجزيرة. في ستينيَّات القرن العشرين، وظَّفَت هيئةُ المسح الجيولوجي الدانماركية عالِمَ جيولوجيا شابًّا من أصولٍ نيوزيلندية، اسمه فيك مكجريجور، لإجراء دراسة جيولوجية على الركن الجنوبي الغربي للجزيرة بالقُرب من العاصمة، جودهوب (التي اسمها الحالي نوك).

قضى مكجريجور عدة سنوات يُسافر عبر المنطقة التي يشقُّها فيورد في قاربٍ صغير مفتوح جزئيًّا، بصعوبة يسَعُه ومعه طاقَمٌ محلي مكوَّن من شخصَين وأيِّ ضيف طارئ، بحيث يُحشرون جميعًا بين أدوات التخييم والصيد — التي لم تختلف عن المُعِدات التي كان يستخدمها شعبُ الإنويت الأوائل — بالإضافة إلى المعدَّات الجيولوجية. وباستخدام الأساليب القياسية لعلم دراسة الطبقات الجيولوجية، توصَّل إلى أن الصخور في المنطقة تراصَّت في عشر طبقات متتالية، ومن المحتمَل أن تكون الأقدم والأعمق منها «قديمة للغاية حقًّا»؛ إذ ربما يعود تاريخها إلى أكثرَ من ثلاثة مليارات سنة.

وفي أوائل سبعينيَّات القرن العشرين، أرسل مكجريجور عينةً من صخوره القديمة إلى مختبر ستيفن مورباث بأكسفورد، وستيفن هذا هو عالمٌ معروف بخبرته في تحديدِ عمر الصخور بالقياس الإشعاعي. تعتمد الطريقة المستخدَمة على قياسِ نسبة النظائر المشعَّة ونواتج تحلُّلها. على سبيل المثال، يتحلَّل اليورانيوم ٢٣٨ بعمر نصفي يبلغ ٤٫٥ مليار سنة (إذ يمرُّ بسلسلةٍ من النكليدات، ويتحول في النهاية إلى نظير رصاص مستقر)؛ لذا، وبما أن عمر الأرض يبلغ نحو أربع مليارات سنة، فإن تركيز اليورانيوم الطبيعي في أي صخرة سيستغرق عمر الأرض بالكامل حتى ينخفضَ إلى النصف. وبقياس نسبة هذه النظائر في أيِّ عينة من الصخور، يتمكن العلماء بناءً عليه من قياس المدة المنقضِية منذ ظهور تلك الصخور؛ وهذه التقنيات هي التي استخدمها ستيفن مورباث عام ١٩٧٠ لتحليل عينة من نوعٍ من الصخور يُسمى «النايس»، التي قطعها مكجريجور من المنطقة الساحلية التي تُسمى أميتسوك التي تقع جهة الجنوب الغربي بجرينلاند. المثير للدهشة أنه اكتشف أن حجر النايس احتوي على نسبة رصاص أكثر نسبيًّا من أي معدنٍ خام أو صخرةٍ أرضية كُشِف عنها حتى الآن. إن العثور على نسبٍ عالية جدًّا من الرصاص يعني أن صخرة النايس المقتطَعة من منطقة أميتسوك «قديمة للغاية حقًّا» كما خمَّن مكجريجور؛ إذ يبلغ عمرها ٣٫٧ مليار سنة على الأقل، وهي أقدمُ من أي صخرةٍ سبق العثور عليها في الأرض.

اندهش مورباث بشدةٍ من الاكتشاف مما جعله ينضمُّ بعد ذلك إلى مكجريجور في العديد من الرحلات الاستكشافية إلى جرينلاند. وفي عام ١٩٧١، قرَّرا أن يزورا منطقة إيسوا النائية وغيرَ المكتشفة تقريبًا، التي تقع على حافة الغطاء الجليدي الداخلي (انظر الشكل ٩-١). اضطُرَّا أولًا إلى الإبحار في قارب مكجريجور الصغير حتى منبع الفيورد المكتظِّ بالجليد في جودهوب حيث كان مستوطنو الفايكنج يعيشون حياتهم المحفوفةَ بالمخاطر في العصور الوسطى. بعد ذلك نقلتهما مروحيةٌ تابعة لشركة تعدين محلية كانت مهتمةً أيضًا هي الأخرى بالمنطقة، التي قد أشارت عملياتُ المسح المغناطيسية الجوية إلى احتمالِ أنها غنيةٌ بخام الحديد. اكتشف العالمان أنه داخل الصخر الأخضر بمنطقة إيسوا يُوجَد العديدُ من الكتل الصخرية التي تُشبه الوسادات، والتي تُعرف باسم الحمم الوسادية البازلتية، والتي قد كوَّنَتها الحممُ البركانية التي تنبثق في مياه البحر مباشرةً، والتي تُسمى «البراكين الطينية». مرةً أخرى، عمر هذه الصخور هو ٣٫٧ مليار سنة على الأقل. أظهر الاكتشاف بوضوحٍ أن الأرض كانت بها محيطاتٌ دافئة سائلة بعد مدةٍ ليست بطويلةٍ من تكوينها،١ وكانت بها براكينُ طينية (انظر الشكل ٩-١) خرجَت من مَنافِسَ حراريةٍ مائية في قاعِ بحرٍ ضحل.
fig31
شكل ٩-١: خريطة جرينلاند توضح موقع منطقة إيسوا.
لكن المفاجأة الحقيقية برزت حينما قاس مينيك روزينج — الباحثُ من المتحف الجيولوجي بكوبنهاجن — نسبةَ نظائرِ الكربون في الصخر الأخضر بإيسوا. تحتوي الصخور على ما يقرب من ٠٫٤ بالمائة من الكربون، وعند قياس نسبتَي النظيرَين و ، وُجد أن كمية النظير الأثقل والأشدِّ ندرةً في الصخور أقلُّ بكثير من المتوقَّع. تحتوي المصادر غير العضوية للكربون مثل ثاني أكسيد الكربون الجوي على نحوِ واحدٍ بالمائة من النظير ، ولكن تُفضل عملية البناء الضوئي أن تدمج النظير الأخفَّ في النبات والكتلة الحيوية الميكروبية، ومن ثم يُشير انخفاضُ مستوى النظير إلى وجود مادةٍ عضوية. أشارت هذه النتائجُ إلى أنه قد عاشت كائناتٌ حية منذ ٣٫٧ مليار سنة بداخل هذه المياهِ الدافئة التي تُحيط بالبراكين الطينية في إيسوا، وكانت تمتصُّ الكربون — مثل النباتات الحاليَّة — من ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء أو المذاب في المياه، وكانت تستخدمه لبناء كلِّ المركبات المعتمدة على الكربون التي تُكوِّن خلاياها.
fig32
شكل ٩-٢: بركانٌ طيني حديث في ترينيداد. هل انبثقَت الحياة الأولى على الأرض من بركانٍ طيني مماثل، مخلِّفةً آثارها في الصخر الأخضر بإيسوا؟ مصدر الصورة: مايكل سي ريجل عبر ويكيبيديا كومنز.
لا تزال النظرية الخاصة بصخور إيسوا محلَّ جدل، ولا يقتنع كثيرٌ من العلماء بأن انخفاض مستويات النظير الموجودة هناك يعني ضمنًا بالضرورة أنه كانت هناك كائناتٌ حية في هذه الحقبة المبكِّرة للغاية. ينبع كثيرٌ من الشك من حقيقة أن الأرض منذ ٣٫٨ مليار سنة كانت في خِضمِّ ما يُعرف باسم «القصف الشديد المتأخر»؛ إذ كانت الأرض تُواجه اصطداماتٍ منتظمةً من الكويكبات والمذنَّبات ذات الطاقات الكافية لتبخير أيِّ مياه سطحية، وعلى الأرجح أيضًا قتل أي حياةٍ في المحيطات. بالطبع اكتشاف حفرياتٍ لأي كائنات قديمة تنمو بالبناء الضوئي سيحسم القضية، ولكن تعرَّضَت صخور إيسوا إلى تشوُّهاتٍ شديدة على مدار آلاف السنين؛ ومن ثم لن يُمكن التعرفُ على أي حفريات من هذا القبيل. علينا أن نتخطَّى على الأقل عدةَ مئاتٍ من ملايين السنين قبل أن يُوجَد دليلٌ واضح على وجود حياة في شكل حفريات ميكروبات قديمة يمكن التعرفُ عليها.

وعلى الرغم من عدم وجود أدلةٍ قاطعة على ذلك، يعتقد كثيرون أن بيانات النظائر في إيسوا توفِّر أقدمَ مؤشرات على الحياة في الأرض، وبالتأكيد كانت ستوفر البراكين الطينية في إيسوا بيئة مثالية لقيام الحياة بفضل مياهها القلوية الدافئة التي تنبع من مَنافس حرارية. لقد كانت ستكون غنيةً بالكربونات غير العضوية المذابة، وكانت ستمتلئ الصخور الثعبانية الملتوية المقذوفة، العالية المساميَّة، بمليارات التجاويف الصغيرة، التي كان من الممكن أن يكون كلٌّ منها بمنزلة بيئةٍ دقيقة قادرة على توفير التركيز والاستقرار لكميات ضئيلة من المركبات العضوية. وربما أصبحَت الحياة خضراءَ بالفعل لأول مرةٍ في طين جرينلاند. ولكن السؤال هو: كيف؟

مشكلة المادة اللزجة

تدور أكبرُ ثلاثة ألغاز في العلم بوجهٍ عام حول أصل الكون وأصل الحياة وأصل الوعي. ميكانيكا الكم ضالعةٌ بشدة في صُلب اللغز الأول، وقد تناولنا من قبلُ ارتباطَها المحتمل باللغز الثالث؛ وكما سنكتشف قريبًا، فقد تساعد أيضًا في تفسير اللغز الثاني. لكن ينبغي أن ندرس أولًا ما إذا كانت التفسيرات غيرُ الكمية قادرةً على تقديم تفسير وافٍ بشأن أصل الحياة أم لا.

توصَّل العلماء والفلاسفة وعلماء اللاهوت الذين ظلُّوا يتفكرون بشأن أصل الحياة على مدار قرون إلى مجموعة متنوعة وغنيَّة من النظريات لتفسيره، تتراوح ما بين الخلق الإلهيِّ وحتى بزوغ الأرض من الفضاء فيما يُسمى بنظرية «التبذُّر الشامل». ظهر نهجٌ علمي أكثر في القرن التاسع عشر على يد علماء أمثال تشارلز داروين الذي قال إن العمليات الكيميائية التي حدثَت في «بركة صغيرة دافئة»؛ مما ربما أدَّى إلى إنشاء مادة حية. النظرية العلمية الرسمية التي استندَت إلى تكهناتِ داروين؛ طرحها الروسي إلكسندر أوبارين والإنجليزي جيه بي إس هولدين، بنحوٍ منفصل ومستقل، في مطلع القرن العشرين، وتُعرف الآن بوجهٍ عام باسم فرضية أوبارين-هولدين. اقترح كلاهما أن الغلاف الجويَّ في بدايةِ تكوُّن الأرض كان غنيًّا بالهيدروجين والميثان وبخار الماء، وقد امتزجَت هذه المواد — عندما تعرضَت إلى البرق أو الإشعاع الشمسي أو حرارة البراكين — وكوَّنَت خليطًا من المركبات العضوية البسيطة. ثم اقترَحا أن هذه المركبات ظلَّت تتراكمُ في المحيط الأولي حتى شكَّلَت حساءً عضويًّا دافئًا ومخففًا، تدفَّق مع الماء على مدار ملايين السنوات، وربما تدفَّق فوق براكين إيسوا الطينية، حتى أسفر مزيجٌ من مُكوناته تكوَّن مصادفةً في النهاية إلى جزيءٍ جديد يمتاز بخاصية غير عادية؛ ألا وهي القدرة على التضاعف الذاتي.

اقترح هولدين وأوبارين أن ظهور هذا «المضاعف البدائي» كان الحدثَ الرئيسي الذي أدَّى إلى نشوء الحياة كما نعرفها. وربما أصبح نجاحُه اللاحق خاضعًا لما نصَّت عليه نظريةُ الانتقاء الطبيعي لداروين. وبما أن المضاعف كيانٌ غاية في البساطة؛ فقد ولَّد العديد من الأخطاء أو الطفرات في أثناء عملية تضاعُفِه. وربما تنافسَت هذه المضاعفات الطافرة بعد ذلك مع الأشكال غير الطافرة للحصول على الموادِّ الكيميائية التي يمكن من خلالها بناءُ المزيد من المضاعفات. كذلك ربما خلفت المضاعفات الأنجحُ أكبرَ عددٍ من الذرية، وربما بدأتْ عمليةٌ جزيئية من الانتقاء الطبيعي الدارويني في دفعِ سربِ المضاعفات نحو فاعليةٍ أكبر وتعقيدٍ أكبر. ربما حظيَت المضاعفاتُ التي حصَلتْ على جزيئاتٍ إضافية — مثل الببتيدات — التي حفزت إنزيميًّا عمليةَ تضاعفها، بميزة، وربما بطريقةٍ ما أصبح البعضُ منها محبوسًا في حويصلات (أي: أكياس صغيرة ممتلئة بالسوائل أو الهواء) يحيط بها أغشيةٌ دهنية — مثل الخلايا الحية اليوم — وفَّرت لها الحمايةَ من تقلُّبات بيئتها الخارجية. بمجرد أن حُبست، ربما استطاع الجزء الداخلي في الخلية دعم التحولات البيوكيميائية — عملية الأيض الخاصة بها — من أجل صُنع جزيئاتها الحيوية ومنعها من التسرُّب. وبفضل قدرتها على الحفاظ على حالتها الداخلية والانعزال عن بيئتها، ربما وُلدت الخلية الحية الأولى.

قدمَت فرضية أوبارين-هولدين إطارًا عِلميًّا يمكن أن يُفهم منه كيف يمكن أن تكون قد نشأَت الحياة على الأرض. لكن لم تخضع النظرية إلى الاختبار لعدةِ عقود إلى أن اهتمَّ بها اثنان من علماء الكيمياء الأمريكيين.

بحلول خمسينيَّات القرن العشرين، كان هارولد يوري عالمًا متميزًا لكنه مثيرٌ للجدل. لقد حصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام ١٩٣٤ على اكتشاف الديوتيريوم، وهو نظير الهيدروجين الذي، كما تتذكَّر من الفصل الثالث، قد استُخدم في دراسة تأثيرِ النظائر الحركية في الإنزيمات، ومن ثم إثبات أن نشاطها يتضمَّن النفق الكمي. خبرة يوري في تنقية النظائر أهَّلتْه في عام ١٩٤١ لتولِّي رئاسة جزءِ تخصيب اليورانيوم من مشروع مانهاتن، الذي كان يحاول تطويرَ القنبلة الذرية. لكن شعر يوري بخيبة الأمل عندما أدرك أهدافَ مشروع مانهاتن والدوافع وراء التكتُّم عليه، وحاول أن يَثنِيَ الرئيسَ الأمريكي هاري إس ترومان عن قرارِ رمي القنبلة الذرية على اليابان. وبعد حادثة هيروشيما وناجازاكي، كتب يوري مقالًا في مجلة «كوليرز» الشهيرة بعنوان «أنا خائف» يُحذِّر فيه من المخاطر التي تفرضها الأسلحة الذرية. ومن موقعه في جامعة شيكاغو، جدَّ أيضًا في مُعارضة الحملة المناهضة للشيوعية التي أطلقها مكارثي في خمسينيَّات القرن العشرين، وكتب خطابات إلى الرئيس ترومان دعمًا لقضية يوليوس وإيثيل روزنبرج اللذين حوكما بتهمة التجسُّس، وأُعدِما في النهاية بتهمة نقل معلوماتٍ سرية ذرِّية إلى الاتحاد السوفييتي.

كان ستانلي ميلر هو عالِم الكيمياء الأمريكي الآخر الذي اشترك في اختبار فرضية أوبارين-هولدين، وقد التحق بجامعة شيكاغو بصفته طالبَ دكتوراه عامَ ١٩٥١، وعمل في البداية على مسألة التخليق النووي للعناصر داخل النجوم، وذلك تحت إشراف العالم المعروف باسم «أبو القنبلة الهيدروجينية»، إدوارد تيلر. في أكتوبر ١٩٥١، تغيرَت حياة ميلر حينما حضر محاضرةً ألقاها هارولد يوري عن أصل الحياة، وناقش خلالها معقوليةَ سيناريو أوبارين-هولدين واقترح أنه ينبغي لأحدٍ أن يختبر ذلك السيناريو. أُعجب ميلر بالأمر كثيرًا، ومن ثم انتقل من مختبر تيلر إلى مختبر يوري وبدأ يسعى لإقناع يوري بأن يُصبح المشرفَ على رسالته للدكتوراه، وأن يُتيح له تنفيذَ التجارِب. تشكَّك يوري في البداية بشأن خطط الطالب الحماسية لاختبار نظرية أوبارين-هولدين؛ إذ حسب أن التفاعُلات الكيميائية غيرَ العضوية قد تستغرق ملايينَ السنين حتى تولِّد عددًا كافيًا من الجزيئات العضوية التي يمكن اكتشافها، في حين أن ميلر كان أمامه ثلاثُ سنوات فقط كي يحصل على درجة الدكتوراه! وعلى الرغم من ذلك، كان يوري مُستعدًّا أن يُعطيه المكانَ والموارد التي يحتاج إليهما لمدةٍ تتراوح من ستة شهور إلى سنة. وبهذه الطريقة، إن لم تُحقق التجارِبُ أيَّ تقدم، فكان سيكون أمام ميلر الوقتُ الكافي كي يتحول إلى مشروع بحثي أكثر أمانًا.

في محاولة ميلر لاستنساخ الظروف التي نشأتْ فيها الحياة على الأرض في أول تكوينها، حاكى الغلافَ الجوي البدائي عن طريقِ ملء زجاجة بالمياه، كي تُحاكِيَ المحيط، والمضاف إليها الغازات التي اعتقد أنها كانت ستكون موجودةً في الغلاف الجوي وهي: الميثان والهيدروجين والنشادر وبخار الماء. ثم حاكى البرقَ بتعريض الخليط للشَّرر الكهربائي. فوجئ ميلر واندهش المجتمع العلميُّ بوجهٍ عام لما اكتشف أنه بعد أسبوع واحد فقط من تسليط الشرر على الغلاف الجوي البدائي الخاص به، احتوَت الزجاجة على كمياتٍ كافية من الأحماض الأمينية، وهي اللبنات التي تُبنى منها البروتينات. نُشرت الورقة البحثية التي تصف هذه التجرِبةَ في مجلة «ساينس» عام ١٩٥٣،1 وقد اعتُبر هو المؤلفَ الوحيد لها؛ إذ اتخذ هارولد يوري موقفًا شديدَ الغرابة لما أصرَّ على أن طالب الدكتوراه الخاص به يستحقُّ أن يُنسب له هذا الاكتشاف بالكامل.

تُعرف التجرِبة اليوم بوجهٍ عام باسم تجربة ميلر-يوري على الرغم من لفتةِ يوري غير الأنانية، وقد أُشيد بها باعتبارها أولَ خطوة لإنشاء حياةٍ داخل المختبر، وظلت علامةً بارزة في علم الأحياء. وعلى الرغم من عدم توليد جزيئات ذاتية التضاعف، كان يُعتقد بوجهٍ عام أن حساء ميلر «البدائي» من الأحماض الأمينية سيَتَبلْمرُ ليُكوِّن الببتيدات والبروتينات المعقَّدة، وستنتج عنه في النهاية المضاعفاتُ حسب فرضية أوبارين-هولدين، وذلك إذا توفَّر له الوقتُ الكافي ومساحة المياه الكبيرة بالقدر الكافي.

منذ خمسينيَّات القرن العشرين، كرَّرت مجموعةٌ كبيرة من العلماء تجرِبةَ ميلر-يوري بعدة طرق مختلفة، وباستخدام أخلاطٍ مختلفة من المواد الكيميائية والغازات ومصادر الطاقة؛ لتوليد الأحماض الأمينية، وكذلك السكريات، وحتى كميات صغيرة من الأحماض النووية. وها نحن بعدَ أكثرَ من نصف قرن، ولم يتمكَّن حساءٌ بدائي مُنشأ في المختبر حتى الآن من توليد مضاعف بدائي على حدِّ فرضية أوبارين-هولدين. ولفهم السبب، علينا أن نُلقي نظرةً أقرب على تجارب ميلر.

المشكلة الأساسية هي تعقيد الخليط الكيميائي الذي ولَّده ميلر. معظم المادة العضوية المنتجة كان في شكل قَطِران معقَّد، من النوع المألوف لدى علماء الكيمياء العضوية ممَّن يرَون مثلَ هذه المواد كثيرًا عندما لا يُتَحكَّم تحكمًا صارمًا في إجراءات تخليق المواد الكيميائية المعقدة الخاصة بهم، ومن ثم تنشأ الكثير من المواد الناتجة الخاطئة. في الحقيقة، يسهل إنتاج قَطِران مُشابه وأنت مستريحٌ في مطبخك فقط بحرق العشاء، تلك المادة اللزجة ذات اللون البُني الضارب إلى الأسود التي تصعب جدًّا إزالتُها من قعر المقلاة؛ مماثلةٌ إلى حدٍّ ما لتركيب القطران الذي ولَّده ميلر. تكمن مشكلة مثل هذه الأخلاط الكيميائية في صعوبةِ إنتاج أي شيء أكثرَ من هذه المادة اللزجة التي تُشبه القطران منها. من الناحية الكيميائية، فهذه الأخلاط لا تُعد «مُنتجة»؛ لأنها بالغةُ التعقيد لدرجة أن أي مادة كيميائية محدَّدة — مثل الأحماض الأمينية — عادةً ما تتفاعل مع العديد من المركبات المختلفة الأخرى لدرجة أنها تَضيع في غابةٍ من التفاعلات الكيميائية غير المهمة. إن ملايين الطهاة، وآلاف الطلاب الجامعيِّين، يُنتجون هذه المادةَ اللزجة العضوية على مدار قرون، ولم يخرجوا بنتيجةٍ سوى مهمة غسل صعبة.

من المادة اللزجة إلى الخلايا

تخيَّل أنك تُحاول عمل حساء بدائي عن طريق كشطِ كل المادة اللزجة من قعرِ كل القدور المحترقة في العالم بالكامل، ثم إذابة كلِّ هذه التريليونات من الجزيئات العضوية المعقدة في مُسطَّح مائي بحجم محيط. الآن، أضِف بضعةَ براكين طينية من جرينلاند باعتبارها مصدرَ الطاقة، وربما شرارة برق، وقلِّب. كم عدد السنوات المطلوبة أن تُقلب فيها حساءك قبل أن تخلق الحياة؟ مليون سنة؟ مائة مليون سنة؟ مائة «مليار» سنة؟

حتى أبسط صور الحياة، على نحوٍ مشابه كثيرًا لهذه المادة اللزجة الكيميائية، معقدةٌ تعقيدًا غيرَ عادي. لكن على خلاف المادة اللزجة، فإنها أيضًا بالغةُ التنظيم. تكمن مشكلةُ استخدام المادة اللزجة باعتبارها مادةَ البداية لتوليد حياة منظمة في أن القُوى الديناميكية الحرارية العشوائية التي كانت متاحةً في الأرض البدائية — حركات الجزيئات التي تُشبه كرات البلياردو التي تناولناها في الفصل الثاني — عادةً ما تُدمر النظام ولا تخلقه. إنك ترمي دجاجةً في القِدْر وتُشعل النار تحتها وتُقلبها وتصنع حساء دجاج. لم يسبق أن رمى أحدٌ علبة حساء في قِدر ثم صنع دجاجة.

بالطبع لم تبدأ الحياةُ بالدجاج (أو البيض). أبسط الكائنات الذاتية التضاعف الموجودة في الوقت الحاليِّ هي البكتيريا، وهي أبسطُ بكثيرٍ من أي طائر.٢ أبسط هذه الكائنات يُسمى المفطورة (وهي البكتيريا التي كانت موضوعَ تجربة الحياة التخليقية التي ابتكرها كريج فينتر)، ولكن حتى هذه المخلوقات تُعد من أشكال الحياة البالغة التعقيد. إذ يُشفر جينومها ما يقرب من خَمسِمائة جين، وتنتج عددًا مماثلًا من البروتينات البالغة التعقيد التي تصنع — مثل الإنزيمات — الليبيداتِ والسكريات والحمضَ النووي والحمض النووي الريبوزي وغشاء الخلية والكروموسوم وغيرَها من البنيات الأخرى، والتي كلٌّ منها أعقدُ بكثيرٍ من محرك سيارتك. في الواقع، المفطورة بكتيريا ضعيفة ولا تستطيع البقاءَ على قيد الحياة بمفردها، ولا بد أن تحصل على الكثير من جُزيئاتها الحيوية من مضيفها؛ إنها طفيليةٌ، ومن ثم لن تستطيع البقاءَ على قيد الحياة في أي حساء بدائي حقيقي. هناك بكتيريا أخرى أكثرُ احتمالًا تندرج ضمن الكائنات الأحادية الخلية وتُسمى البكتيريا الزرقاء، وهي تستطيع القيام بعملية البناء الضوئي كي تحصل على كلِّ موادِّها الكيميائية الحيوية. لو كانت تلك البكتيريا موجودةً في الأرض بعد نشأتها، لأصبحَت مصدرًا محتملًا لتلك المستويات المنخفضة من النظير المكتشفة في صخور إيسوا بجرينلاند التي يعود تاريخها إلى ٣٫٧ مليار سنة. لكن هذه البكتيريا أشدُّ تعقيدًا بكثيرٍ من المفطورة، حيث إن الجينوم لديها يُشفر ما يقرب من «ألفَي» جين. فكم تحتاج من الوقت في تقليب محيط الحساء البدائي الخاص بك لتخليق البكتيريا الزرقاء؟

كان السير فريد هويل، وهو عالم الفلَك البريطاني الذي صاغ مصطلح «الانفجار العظيم»، مهتمًّا بمعرفة أصل الحياة وظل معه هذا الاهتمامُ طيلة حياته. قال إن احتمالية عمل العمليات الكيميائية العشوائية معًا من أجل توليد الحياة تُشبه هبوبَ إعصار في ساحة خردة، وتجميعَه لطائرةٍ نفاثة جامبو بالصدفة. النقطة التي كان يُثيرها بوضوحٍ هي أن الحياة القائمة على الخلايا — كما نعرفها اليوم — بالغةُ التعقيد والتنظيم بحيث لا يمكن أن تنشأ من الصدفة وحدها؛ لا بد أنه سبقَتها مضاعفاتٌ ذاتية أبسط.

عالم الحمض النووي الريبوزي

إذن، كيف كان شكلُ تلك المضاعفات الذاتية الأولية؟ وكيف كانت تعيش؟ لمَّا لم يبقَ أيٌّ منها على قيد الحياة اليوم، ربما بسبب الانقراض بسبب تفوُّق السلالات المنحدرة منها الأكثر نجاحًا عليها، فغالبًا ما ستبنى معرفتنا لطبيعتها على تخميناتٍ ذات أسُس علمية. يتمثَّل أحدُ المناهج في هذا الإطار في الاستقراء العكسي من أبسط أشكال الحياة الباقية اليوم لتخيُّل مضاعفٍ ذاتي أبسط بكثير، وهو نوعٌ من البكتيريا الأكثر بساطة التي ربما كانت مقدمةً لكل أشكال الحياة في الأرض منذ مليارات السنين.

تكمن المشكلة في عدم إمكانية استخلاص مضاعفاتٍ ذاتية أبسط من الخلايا الحية؛ لأنه لا شيء من مُكونات الخلايا قادرٌ على التضاعف الذاتي من تلقاءِ نفسه. جينات الحمض النووي لا تُضاعف نفسها؛ فهذه وظيفةُ إنزيمات البوليميراز في الحمض النووي. وبدورها، لا تُضاعف هذه الإنزيمات نفسَها لأنها تحتاج إلى أن تُشفَّر أولًا داخل جدائل الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي.

سيكون للحمض النووي الريبوزي دورٌ مهم في هذا الفصل، ومن ثم قد يُفيد أن نتذكر ما هو وما يفعله. الحمض النووي الريبوزي هو القريبُ الكيميائي الأبسط للحمض النووي، ويتكوَّن من لولب أحادي الجديلة على خلاف اللولب المزدوج في الحمض النووي. وعلى الرغم من هذا الاختلاف، فإن الحمض النووي الريبوزي بنحوٍ أو بآخَر له سَعةُ تشفير المعلومات الجينية ذاتُها التي لقريبه الشهير؛ الفرق الوحيد أنه لا يمتلك النسخةَ المُكملة من تلك المعلومات. وتمامًا مثل الحمض النووي، فإن المعلومات الجينية للحمض النووي الريبوزي تُكتب بأربعة حروفٍ جينية مختلفة؛ ومن ثم يمكن تشفير الجينات في الحمض النووي الريبوزي مثلما يُمكن أن تشفَّر في الحمض النووي. في الحقيقة، العديد من الفيروسات — مثل فيروس الأنفلونزا — تمتلك جينومات حمض نووي ريبوزي بدلًا من جينومات حمض نووي. لكن في الخلايا الحية مثل خلايا البكتيريا أو الحيوانات أو النباتات، يؤدي الحمضُ النووي الريبوزي دورًا مختلفًا عن دور الحمض النووي؛ المعلومات الجينية التي تُكتَب في الحمض النووي تُنسخ أولًا في الحمض النووي الريبوزي في عملية قراءة الجينات التي تناولناها في الفصل السابع. وعلى خلاف كروموسوم الحمض النووي غير القابل للتحرك والكبير نسبيًّا، تمتلك سلاسلُ الحمض النووي الريبوزي الأقصر الحريةَ في التحرك في جنبات الخلية، ومن ثم يُمكن أن تحمل الرسالةَ الوراثية للجينات من الكروموسوم إلى آلية تخليق البروتينات. وهناك يُقرأ تسلسل الحمض النووي الريبوزي ويُترجَم إلى تسلسلات الأحماض الأمينية التي تنتقل إلى البروتينات، مثل الإنزيمات. لذا، في الخلايا الحديثة على الأقل، الحمض النووي الريبوزي وسيطٌ رئيسي بين الشفرة الجينية المكتوبة في الحمض النووي والبروتينات التي تصنع جميع المكوِّنات الأخرى في الخلايا.

بالعودة إلى مشكلة أصل الحياة التي نُناقشها، نقول إنه على الرغم من أن الخلية الحية بكاملها تُعتبر كِيانًا ذاتيَّ التضاعف، فإن مكوناتها الفردية ليست كذلك؛ إنها مثل المرأة التي تلدُ طفلًا من جنسها (ببعض «المساعدة») ولكن قلبها أو كبدها لا يفعل ذلك. وهذا يخلق مشكلةً عند محاولة الاستقراء العكسي من الحياة الخلوية المعقَّدة الموجودة اليوم إلى سلَفِها الأبسط بكثيرٍ غير الخلوي. وإذا غيَّرنا صيغة الأمر، فسيصبح السؤال هو: ما الذي أتى أولًا؛ هل جين الحمض النووي أم الحمض النووي الريبوزي أم الإنزيم؟ وإذا أتى الحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي أولًا، فما الذي صنعهما؟ وإذا أتى الإنزيم أولًا، فكيف شُفِّر؟

يوجد حلٌّ محتمل قدَّمه عالمُ الكيمياء الحيوية الأمريكيُّ توماس سيك، الذي في عام ١٩٨٢ اكتشف أن بعض جزيئات الحمض النووي الريبوزي تُشفر المعلومات الجينية وفي الوقت ذاته يمكن أن تقوم بدور الإنزيمات في تحفيز التفاعلات (وهذا العمل أهَّله لمشاركة جائزة نوبل عام ١٩٨٩ في الكيمياء مع العالم سيدني ألتمان). الأمثلة الأولى على هذه «الريبوزيمات» — كما تُعرف — وُجدت في جينات كائنات صغيرة أحادية الخلية تُسمى «رباعيات الغشاء» وهي نوعٌ من الأوليات الموجودة في بِرَك المياه العذبة، ولكن منذ ذلك الحين وُجد أن الريبوزيمات لها دورٌ في كل الخلايا الحية. وسرعان ما اتُّخذت بعد اكتشافها على أنها حلٌّ محتمل للخروج من مُعضلة نشأة الحياة. تقترح «فرضية عالم الحمض النووي الريبوزي»، كما أصبحَت تُعرف، أن التخليق الكيميائي الأوَّلي نتج عنه توليدُ جزيءٍ من الحمض النووي الريبوزي يمكن أن يأخذ دور الجين والإنزيم في آنٍ واحد، ومن ثَم يمكنه تشفير بنيته (مثل الحمض النووي)، وعملُ نُسخٍ من نفسه (مثل الإنزيمات) من المواد الكيميائية الحيوية المتاحة في الحساء البدائي. كانت عملية النسخ هذه في البداية عشوائية بشدة، مما أدى إلى ظهور الكثير من الصور الطافرة التي ظلَّت تتنافس مع بعضها البعض في المنافسة الداروينية الجزيئية التي تناولناها سابقًا. وبمرور الوقت، قامت مضاعفاتُ الحمض النووي الريبوزي هذه بتوظيف البروتينات لتحسين فاعلية التضاعف لدَيها مما أدى إلى تكوُّن الحمض النووي وفي النهاية أول خلية حية.

أصبحت فكرةُ أن عالَمًا من جزيئات الحمض النووي الريبوزي الذاتية التضاعف سبقَ ظهورَ الحمض النووي والخلايا؛ فكرةً شبهَ راسخةٍ في الأبحاث الخاصة بأصل الحياة. ثبَتَ أن الريبوزيمات قادرةٌ على تنفيذ كل التفاعلات الأساسية المتوقَّعة من أي جزيءٍ ذاتي التضاعف. على سبيل المثال، يمكن لفئةٍ من الريبوزيمات أن تجمع جزيئين من الحمض النووي الريبوزي معًا، وتستطيع فئة أخرى فصلهما عن بعضهما البعض. ويمكن لشكلٍ آخَر منها أن يصنع نسخًا من سلاسلَ قصيرةٍ من قواعد الحمض النووي الريبوزي (التي لا يتجاوز طولها حفنةً من القواعد). من هذه الأنشطة البسيطة، يُمكننا أن نتخيَّل ريبوزيمًا أشدَّ تعقيدًا؛ قادرًا على تحفيز المجموعة الكاملة للتفاعلات اللازمة للتضاعف الذاتي. وبمجرد أن تبدأ عملية التضاعف الذاتي، تبدأ عملية الانتقاء الطبيعي؛ ومن ثم يكون عالم الحمض النووي الريبوزي قد وُضع على مسارٍ تنافسي أدى في النهاية، أو هكذا يُقال، إلى أول خلية حية.

لكن هذا السيناريو يتخلَّله العديدُ من المشاكل. فعلى الرغم من أن التفاعلات الكيميائية الحيوية البسيطة يُمكن أن تُحفِّزها الريبوزيمات، فإن التضاعف الذاتي للريبوزيم عمليةٌ معقَّدة إلى أبعدِ الحدود؛ حيث تتضمَّن تعرُّفَ الريبوزيم على تسلسلِ قواعده، وتحديدَ المواد الكيميائية المماثلة في بيئة الريبوزيم، وتجميعَ تلك المواد الكيميائية في التسلسل الصحيح لصُنع نسخةٍ من ذاته. هذه مهمةٌ صعبة حتى على البروتينات التي تحظى بالعيش داخل الخلايا الزاخرة بالمواد الكيميائية الحيوية الصحيحة، ومن ثم تَزيد صعوبةُ تصور كيف يتحقق ذلك للريبوزيمات التي تحيا في الحساء البدائي الفوضوي واللزج. وحتى اليوم، لم يكتشف أحدٌ أو ينجح في صُنع ريبوزيم باستطاعته تنفيذُ هذه المهمة المعقَّدة، حتى في المختبر.

تُوجَد أيضًا المشكلةُ الأكثر جوهريةً والمتعلقة بطريقةِ صنع جزيئات الحمض النووي الريبوزي ذاتها في الحساء البدائي. يتكوَّن الجزيء من ثلاثة أجزاء وهي: قاعدة الحمض النووي الريبوزي التي تُشفِّر معلوماتُه الجينية (مثلما تشفر قواعد الحمض النووي معلومات الحمض النووي الجينية)، ومجموعة فوسفات، وسكر يُسمَّى الريبوز. وعلى الرغم من تحقيق قدرٍ من النجاح في تصميم تفاعلاتٍ كيميائية معقولة بإمكانها توليدُ قواعد الحمض النووي الريبوزي ومكونات الفوسفات في الحساء البدائي، فإن التفاعل الأكثر معقولية الذي يُنتج الريبوز يُنتج أيضًا مجموعةً كبيرة من أنواع السكر الأخرى. لا تُوجَد آليةٌ غير بيولوجية معروف أنها يمكن أن تُولِّد سكر الريبوز من تلقاء نفسها. وحتى إن جرى توليد سكر الريبوز، فإن تجميع المكونات الثلاثة مع بعضها البعض بالطريقة الصحيحة لَهو في ذاتِه مهمةٌ صعبة. فعند تجميع الأشكال المعقولة من مكونات الحمض النووي الريبوزي الثلاثة بعضها مع بعض، فإنها تُجمَّع بطرق اعتباطية لتُشكل المادة اللزجة البدائية الحتمية. يتجنَّب علماء الكيمياء هذه المشكلةَ باستخدام أشكالٍ خاصة من القواعد عُدِّلَت مجموعاتها الكيميائية بحيث تتحاشى هذه التفاعلاتِ الجانبيةَ غيرَ المرغوب فيها، لكن هذا تحايل؛ وعلى أي حال، من غير المُحتمَل أن تكون القواعد «المنشِّطة» قد تشكَّلَت في ظروفٍ بدائية مقارنةً بقواعد الحمض النووي الريبوزي الأصلية.

على الرغم من ذلك، فإن بإمكان علماء الكيمياء تخليقَ قواعدِ الحمض النووي الريبوزي من موادَّ كيميائية بسيطة؛ عن طريق المرور بسلسلةٍ بالغةِ التعقيد من التفاعلات المحكومة بعناية، التي تُعزَل فيها كل مادة ناتجة يُرجى الحصولُ عليها من التفاعل الواحد، وتنقيتها قبل أن تدخل التفاعل التالي. قدَّر عالم الكيمياء الاسكتلندي جراهام كيرنز–سميث أنه يُوجَد نحو ١٤٠ خطوةً ضرورية لتخليق قاعدةٍ واحدة من الحمض النووي الريبوزي من مركَّبات عضوية بسيطة يُحتمل أنها كانت موجودةً في الحساء البدائي.2 وفي كل خطوة يوجد على الأقل نحوُ ستة تفاعلات بديلة ينبغي تجنبُها. هذا يُسهل تصور عملية تخليق المادة الكيميائية حيث يمكن تصورُ كل جزيء باعتباره نوعًا من النَّرد الجزيئي، بحيث تكون كلُّ خطوة تُناظر رميةً يُمثل فيها الرقمُ ستة توليدَ المادة الناتجة الصحيحة، وأيُّ رقم آخر توليدَ المادة الناتجة الخطأ. وبذلك، فإن احتمالات تحويل أيِّ جزيءٍ أوَّلي إلى حمضٍ نووي ريبوزي في النهاية تُعادل رمي الرقم ستة ١٤٠ مرةً على التوالي.
بالطبع يُحسِّن علماءُ الكيمياء من هذه الاحتمالات الصعبة بالتحكُّم الجيد في كل خطوة، ولكن العالم البدائي كان سيُضطرُّ إلى الاعتماد على الصدفة وحدها. هل تُراها الشمس قد ظهرت في الوقت المناسب كي تبخر بِركة صغيرة من الموادِّ الكيميائية تُحيط ببركانٍ طيني؟ أم تُراه البركان الطيني ثار لإضافة ماءٍ وقليل من الكبريت لإنشاء مجموعةٍ أخرى من المركبات؟ أم هل تُراها العاصفة البرقية قد قلَّبَت الخليط وسرَّعت من بعضِ التغييرات الكيميائية بإضافة الطاقة الكهربية؟ ربما تستمرُّ الأسئلة، ولكن لا صعوبة البتة في تقديرِ احتمالية أن تُسفر كلُّ خطوة من اﻟ ١٤٠ خطوةً الضرورية — بالاعتماد على الصدفة وحدَها — عن المادة الناتجة المناسبة من بين ستِّ موادَّ ناتجة ممكنة: إنها تُساوي واحدًا في ٦١٤٠ (أي تقريبًا: ١٠١٠٩). للحصول على فرصةٍ إحصائية لتوليد الحمض النووي الريبوزي من خلال عملياتٍ عشوائية بحتة، ستحتاج على الأقل إلى هذا العدد من الجزيئات البدائية في حسائك البدائي. لكن العدد ١٠١٠٩ أكبرُ بكثير من حتى عدد الجسيمات الأساسية في الكون المشهود بأكمله (حيث إنها تساوي تقريبًا ١٠٨٠). ببساطة، لم يكن لدى الأرض الجزيئاتُ الكافية، ولا الوقتُ الكافي، لتوليد هذه الكميات المَهولة من الحمض النووي الريبوزي في هذه الملايين من السنين؛ ما بين تكوينها وظهور الحياة في الوقت الذي اقترَحَته صخورُ إيسوا.
على الرغم من ذلك، هَبْ أن تخليق كمياتٍ هائلة من الحمض النووي الريبوزي حدث بالفعل من خلال بعض العمليات الكيميائية غير المكتشفة حتى الآن. علينا الآن التغلُّب على المشكلة المستعصية بالقدر نفسِه وهي ترتيبُ القواعد الأربع المختلفة للحمض النووي الريبوزي (المكافئة — كما ستتذكَّر — للحروف الأربعة لشفرة الحمض النووي وهي A وG وC وT) معًا في التسلسل الصحيح لتخليق ريبوزيم قادر على التضاعف الذاتي. معظم الريبوزيمات عبارةٌ عن سلاسلِ حمض نووي ريبوزي بطولِ مائة قاعدة على الأقل. في كل موضع في السلسلة، يجب أن تكون هناك قاعدةٌ من القواعد الأربعة، ومن ثم يوجد ٤١٠٠ (أو ١٠٦٠) طريقة مختلفة لتجميع سلسلةٍ من الحمض النووي الريبوزي بطول ١٠٠ قاعدة. ما مدى احتمالية أن يؤديَ الارتباط العشوائي لقواعد الحمض النووي الريبوزي إلى التسلسل الصحيح بطولِ السلسلة؛ لتكوين ريبوزيم ذاتيِّ التضاعف؟
بما أنه يبدو أننا نستمتع بالأعداد الكبيرة، فيُمكننا حسابُ ذلك. يتبيَّن أن ٤١٠٠ من السلاسل الفردية من الحمض النووي الريبوزي بطول ١٠٠ قاعدةٍ ستكون لها كتلةٌ مُجمَّعة بمقدار ١٠٥٠ كيلوجرام. إذن هذا هو المقدار الذي سنحتاج إليه من أجل الحصول على نسخةٍ واحدة من معظم السلاسل، ومن ثم على فرصةٍ معقولة بأن تحتويَ إحدى السلاسل على الترتيب الصحيح لكل قواعدها بحيث تُصبح مضاعفًا ذاتيًّا. ولكن الكتلة الكلية لمجرة درب التبانة تُقدَّر بنحو ١٠٤٢.

من الواضح أنه لا يمكننا الاعتمادُ على الصدفة المحضة فقط.

بالطبع، قد لا يكون هناك ترتيبٌ واحد فقط من بين اﻟ ٤١٠٠ سلسلةٍ محتملة من سلاسل الحمض النووي الريبوزي التي يبلغ طولها ١٠٠ قاعدة، والذي من شأنه أن يكون بمنزلة مضاعفٍ ذاتي. قد يكون هناك الكثير. قد يكون هناك حتى تريليوناتُ المضاعفات المحتملة التي يمكن أن تتولَّد من سلاسل الحمض النووي الريبوزي التي هي بطول ١٠٠ قاعدة. ربما يكون الحمض النووي الريبوزي الذاتيُّ التضاعفِ أمرًا شائعًا بالفعل، ونحن بحاجةٍ فقط إلى مليونِ جُزيء للحصول على فرصةٍ لتشكيل مضاعف ذاتي. المشكلة مع هذه المحاجَّة أنها ليست سوى مُحاجة. وعلى الرغم من المحاولات العديدة، فلم يتمكَّن أحدٌ من تخليق حمض نووي ريبوزي (أو حمض نووي أو بروتين) ذاتيِّ التضاعف أو لم يُرصَد واحدٌ منها في الطبيعة. تنجلي الدهشةُ عند التفكير في مدى صعوبةِ مهمة التضاعف الذاتي. في عالم اليوم، يتطلَّب الأمرُ خليةً حية كاملة لتحقيق هذا العمل الفذِّ. فهل يُحتمل أنه قد تَحقَّق بنظامٍ أبسط بكثيرٍ منذ مليارات السنين؟ لا ريب أنه تحقَّق على هذا النحو، وإلا ما كنا هنا اليوم نتفكَّر في المسألة. لكن الكيفية التي تَحقَّق بها هذا قبل أن تتطوَّر الخلايا غيرُ واضحةٍ البتة.

في ضوء الصعوبات في تحديد المضاعفات الذاتية البيولوجية، فربما تتكوَّن لدينا فكرةٌ أفضلُ عن طريق طرح سؤالٍ عام أكثر، وهو: ما مدى سهولة التضاعف الذاتي في أي نظام؟ وفَّرَت لنا التكنولوجيا الحديثةُ الكثيرَ من الأجهزة التي يمكن أن تُضاعف الأشياء، بدايةً من ماكينات تصوير المستندات وحتى أجهزة الكمبيوتر الإلكترونية والطابعات الثلاثية الأبعاد. فهل بإمكان أيٍّ من هذه الأجهزة أن تصنع نسخةً من نفسها؟ ربما الجهاز الأقرب هو الطابعة الثلاثية الأبعاد مثل إحدى طابعات الرِّب راب (التي يعني مقابِلُها الإنجليزي «الاستنساخ السريع للنماذج الأولية») والتي تُعَد من بناتِ أفكار أدريان بوير من جامعة باث بالمملكة المتحدة. بإمكان هذه الطابعات طباعةُ مكوناتها التي يمكن بعد ذلك تجميعُها لعمل طابعة رِب راب ثلاثية الأبعاد جديدة.

هذا رائع، لكنه ليس كذلك تمامًا. إذ ستكون الآلةُ المطبوعة مصنوعةً من مادة البلاستيك فقط، ولكن هيكلها سيكون مصنوعًا من المعدن مثل معظم مكوناتها الكهربية. ومن ثَم لا يُمكنها استنساخُ غيرِ الأجزاء البلاستيكية، وينبغي تجميعُ هذه الأجزاء يدويًّا مع الأجزاء الأخرى لعمل طابعة جديدة. تتمثَّل رؤية المصمِّمين في إتاحة طابعات رِب راب ذاتيةِ التضاعف (إذ يوجَد العديد من التصميمات البديلة) مجانًا؛ كي ينتفع بها الجميع. ولكن في وقت تأليف هذا الكتاب، نحن ما زلنا بعيدين جدًّا عن بناءِ آلة ذاتية التضاعف بحق.

إذن، إذا كان البحث عن آلات ذاتية التضاعف لا يُساعد حقًّا في سعيِنا لاكتشاف مدى سهولة التضاعف الذاتي أو صعوبته، فهل يُمكننا أن نتجنبَ العالم الماديَّ تمامًا ونستكشفَ هذا السؤال داخل جهاز كمبيوتر، حيث يمكن أن نستبدل بتلك المواد الكيميائية الفوضوية والصعبة التخليق لبناتِ البناء البسيطةَ للعالم الرقمي؛ نقصد وحدات البِت التي لا تحتوي إلا على القيمة ١ أو ٠؟ «البايت» الواحد من البيانات، الذي يتكون من ثماني وحداتِ بت، يُمثل رمزًا واحدًا من النصِّ في شفرة الكمبيوتر ويمكن مقارنتُها مع وحدة الشفرة الجينية؛ أي: قاعدة الحمض النووي أو الحمض النووي الريبوزي. يمكننا الآن طرحُ السؤال الآتي: من بينِ كل السلاسل المحتملة من وحدات البايت، ما مدى شيوع تلك التي يُمكن أن تتضاعف ذاتيًّا في جهاز الكمبيوتر؟

هنا، لدينا ميزةٌ كبيرة لأن سلاسل البايت الذاتيةَ التضاعف شائعةٌ جدًّا في الحقيقة؛ إننا نعرفها باسم فيروسات الكمبيوتر. هذه الفيروسات عبارةٌ عن برامج كمبيوتر قصيرة نسبيًّا، ويمكن أن تصيب أجهزةَ الكمبيوتر الخاصة بنا عن طريق حثِّ وحدة المعالجة المركزية الخاصة بها على إنشاءِ عددٍ هائل من النسخ. عندئذٍ تُهاجم فيروسات الكمبيوتر هذه البريدَ الإلكتروني الخاص بنا كي تُصيب أجهزة كمبيوتر أصدقائنا وزملائنا. ومن ثم إذا اعتبرنا ذاكرةَ الكمبيوتر نوعًا من الحساء البدائي الرقمي، فإن فيروسات الكمبيوتر يمكن اعتبارها معادلًا رقميًّا للمضاعفات الذاتية البدائية.

يُعد فيروس تينبا من أبسط فيروسات الكمبيوتر حيث لا يتجاوز طوله ٢٠ كيلوبايت؛ وهو قصيرٌ جدًّا مقارنةً بمعظم برامج الكمبيوتر. وعلى الرغم من ذلك، نجح في مُهاجمة أجهزة الكمبيوتر الخاصة ببنوكٍ كبرى في عام ٢٠١٢، حيث تسلَّل إلى متصفِّحاتها وسرق بيانات تسجيل الدخول؛ لذلك كان من الواضح أنه كيانٌ كبير ذاتيُّ التضاعف. وعلى الرغم من أن ٢٠ كيلوبايت قد تكون قصيرةً جدًّا بالنسبة إلى برنامج كمبيوتر، فإنها تحتوي على سلسلةٍ طويلة نسبيًّا من المعلومات الرقمية، تبلغ ١٦٠ ألف بت من المعلومات، وذلك في ضوء أن البايت الواحد يساوي ٨ وحدات بت. وبما أن كلَّ بت يمكن أن يكون في حالةٍ من حالتين (٠ أو ١)، فيُمكننا بسهولةٍ حسابُ احتمال توليدِ سلاسل معيَّنة من الأرقام الثنائية بنحوٍ عشوائي. على سبيل المثال، فرصُ إنشاء سلسلةٍ معينة تتكون من ثلاث وحدات بت — ولنقل ١١١ — تساوي ١ / ٢ × ١ / ٢ × ١ / ٢، أو فرصة واحدة من بين كل ٢٣ فرص. وباتباع المنطق الرياضي ذاتِه، نستنتج أن الوصول إلى سلسلةٍ محددة بطول ١٦٠ ألف وحدة بت — وهو طول فيروس تينبا — عن طريق الصدفة يساوي فرصةً واحدة من بين كل ٢١٢٠٠٠٠ فرصة. وهذا رقمٌ صغير جدًّا على نحوٍ مُحير، ويُخبرنا أن فيروس تينبا لا يمكن أن يكون قد ظهر بمحضِ الصدفة وحدها.

ربما توجَد، مثلما توقَّعنا بشأن جزيئات الحمض النووي الريبوزي، العديدُ والعديد من الشفرات البرمجية الذاتية التضاعف الأبسط بكثيرٍ من فيروس تينبا والتي ربما نشأت عن طريق الصدفة. لكن إذا كان الأمر كذلك، فسيكون قد نشأ بالتأكيد فيروس كمبيوتر — بحلول الوقت الحالي — تلقائيًّا من هذا الكم الهائل من وحدات الجيجابايت الخاصة بشفرات الكمبيوتر التي تتدفَّق عبر الإنترنت كل ثانية. ففي النهاية، معظم هذه الشفرات عبارةٌ عن تسلسلاتٍ من الواحد والصفر (فكر في كل الصور والأفلام التي تُنزَّل كل ثانية). هذه الشفرات جميعها على الأرجح فعالةٌ من حيث إصدارُ تعليمات لوحدات المعالجة المركزية الخاصة بنا لتنفيذ العمليات الأساسية مثل النَّسخ أو الحذف، لكن كل فيروسات الكمبيوتر التي أصابت جهازَ أي شخصٍ تُظهِر بصمةً لا لبس في أنها من تصميمٍ بشَري. وعلى حدِّ علمنا، فإن هذا التيار الهائل من المعلومات الرقمية الذي يتدفق حول العالم كلَّ يوم لم يولِّد أبدًا فيروسات كمبيوتر بنحوٍ تلقائي. إذن، حتى في البيئة المواتية للتضاعف في أجهزة الكمبيوتر، فإن التضاعف الذاتي صعب، وعلى حدِّ عِلمنا، فإنه لم يحدُث أبدًا بنحوٍ تلقائي.

إذن، هل يمكن لميكانيكا الكمِّ أن تُساعد هنا؟

تكشف هذه الرحلةُ إلى العالم الرقمي عن المشكلة الأساسية في البحث عن أصل الحياة، التي تتلخَّص في طبيعة محرك البحث المستخدَم لتجميع مكوناتها الضرورية معًا في التكوين الصحيح لتوليد مضاعفٍ ذاتي. أيًّا ما كانت الموادُّ الكيميائية التي كانت متوفرةً في الحساء البدائي، فكان عليها أن تستكشف كَمًّا هائلًا من الاحتمالات حتى تصلَ عن طريق الصدفة إلى مُضاعف ذاتي نادر على نحوٍ غير عادي. هل يمكن أن تكون المشكلة في أننا نحصر روتين البحث في قواعد العالم الكلاسيكي؟ لعلك تتذكر من الفصل الرابع أن المنظِّرين الكميِّين بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا كانوا متشكِّكين للغاية في البداية إزاء تقرير صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بأن النباتات والميكروبات كانت تنفذ روتين بحثٍ كمي. ولكنهم اقتنعوا في النهاية بفكرة أن أنظمة البناء الضوئي كانت بالفعل تُنفذ استراتيجية بحثٍ كمي تُسمى السير الكمي. استكشف العديد من الباحثين — بما فيهم نحن3 — فكرةَ أن مسألة أصل الحياة هي الأخرى ربما تضمَّنَت نوعًا من سيناريو البحث الكمي.

تخيَّل بِركةً بدائية صغيرة منحسرة داخل أحد مسامِّ الصخور الملتوية المنبثقة من بركانٍ طيني تحت بحر إيسوا القديم منذ ثلاثة مليارات سنةٍ ونصفِ المليار، حينما كانت طبقات صخور جرينلاند الأصلية في طَور التكوين. هنا ربما تكوَّنَت البِركة التي وصفها داروين بأنها: «بِركة صغيرة دافئة، تحتوي على كافة أنواع النشادر وأملاح الفوسفوريك والضوء والحرارة والكهرباء وغير ذلك، حيث تَشكل مركب بروتين كيميائيًّا بحيث يكون مستعدًّا للمرور بتغيراتٍ أخرى أشد تعقيدًا». والآن، تخيل أيضًا أن «مركب بروتين» ما (يمكن أن يكون جزيءَ حمضٍ نووي ريبوزي) — ولَّده نوعُ العمليات الكيميائية التي اكتشفها ستانلي ميلر — عبارةٌ عن نوعٍ من الإنزيمات الأولية (أو الريبوزيمات) له بعضُ النشاط الإنزيمي، ولكنه لم يصبح جزيئًا ذاتيَّ التضاعف بعد. تخيَّل كذلك أن بعض الجسيمات في هذا الإنزيم يمكن أن تنتقل إلى مواضعَ مختلفة ولكن تمنعها حواجزُ الطاقة الكلاسيكية. لكن، كما تناولنا في الفصل الثالث، بإمكانِ كلٍّ من الإلكترونات والبروتونات أن يعبرا عبر حواجز الطاقة التي تمنع نقلها الكلاسيكيَّ من خلال ظاهرةِ النفق الكمِّي، وهي سمةٌ بالغة الأهمية في عمل الإنزيمات. وفعليًّا، يوجَد الإلكترون أو البروتون على جانبي الحاجز في آنٍ واحد. إذا تخيلنا أن هذا يحدث داخل الإنزيمات الأولية الخاصة بنا، فسنتوقَّع ارتباطَ تكويناتٍ مختلفة — العثور على الجسيم على أيٍّ من جانبَي حاجز الطاقة — بأنشطة إنزيماتٍ مختلفة، بمعنى القدرة على تسريع أنواعٍ مختلفة من التفاعلات الكيميائية، التي ربما يدخل فيها تفاعلُ التضاعف الذاتي.

ولتسهيل التعامل مع الأرقام؛ لنتخيَّل أنه يوجَد في المجمل ٦٤ من البروتونات والإلكترونات داخل الإنزيم الأوَّلي التخيُّلي الخاص بنا، كلٌّ منها قادرٌ على القيام بعملية النفق الكمي إلى أيٍّ من الموضعَين المختلفَين. لا يزال المقدار الإجمالي للتباين البنيوي المتاحِ للإنزيم الأولي التخيلي الخاص بنا؛ هائلًا: ٢٦٤، وهو عددٌ كبير من التكوينات المحتملة. تخيل الآن أن تكوينًا واحدًا فقط من هذه التكوينات لدَيه ما يلزم ليُصبح إنزيمًا ذاتيَّ التضاعف. السؤال هو: ما مدى سهولة العثور على التكوين المحدَّد الذي يمكن أن يُؤدِّيَ إلى نشوء الحياة؟ هل سيتحقَّق المضاعف الذاتي في البركة الدافئة الصغيرة الخاصة بنا؟
لنفترض أولًا أن الإنزيم الأوَّلي عبارةٌ عن جُزيء كلاسيكي تمامًا غيرِ قادر على القيام بأيِّ حيلٍ كَمِّية، مثل التراكب أو النفق الكمي. لا بد أن هذا الجزيء — في أيِّ لحظة — يكون في واحدٍ من التكوينات اﻟ ٢٦٤ المحتملة المختلفة، ومن ثم فإن احتماليةَ أن يكون هذا الإنزيم الأولي مضاعفًا ذاتيًّا تساوي ١ على ٢٦٤؛ وهذه فرصةٌ ضئيلة للغاية حقًّا. ومع وجود احتمالاتٍ هائلة، سيَعلق الإنزيم الأولي الكلاسيكي في أحد التكوينات المُملَّة التي لا تستطيع أن تتضاعف ذاتيًّا.
بالطبع الجزيئات تتغيَّر نتيجةً لخاصية الإهلاك وفقًا لقواعد الديناميكا الحرارية العامة، ولكن في العالم الكلاسيكي يكون هذا التغييرُ بطيئًا نسبيًّا. وحتى يتغير جزيءٌ واحد؛ يجب تفكيك الترتيب الأصلي للذرات وإعادةُ ترتيب الجسيمات المكونة له لتشكيل تكوين جزيئي جديد. وكما اكتشفنا في الفصل الثالث بشأن كولاجين الديناصور الذي عاش طويلًا، فيمكن أن تحدث تغييراتٍ كيميائية في بعض الأحيان على مدار عدةِ أزمنةٍ جيولوجية. من المنظور الكلاسيكي، سيستغرق الإنزيم الأوَّلي الخاص بنا زمنًا طويلًا للغاية حتى يستكشف جزءًا صغيرًا للغاية من التكوينات الكيميائية البالغِ عددها ٢٦٤.
ومع ذلك، سيختلف الوضع على نحوٍ جذري إذا اعتبرنا أن الجسيماتِ الرئيسيةَ البالغَ عددُها ٦٤ في الإنزيم الأولي هي إلكترونات وبروتونات يمكنها شقُّ نفقٍ بين مواقعها البديلة. وباعتبار أنه نظامٌ كمي، فإن الإنزيم الأوَّلي يمكن أن يُوجَد في كلِّ التكوينات المحتملة الخاصة به في آنٍ واحد في صورة تراكب كمِّي. يتَّضح الآن السببُ وراء اختيار العدد ٦٤؛ إنه العددُ ذاته الذي استعرضناه لمَّا ضربنا المثَل على الخطأ الفادح الذي ارتكبه إمبراطور الصين في مسألةِ رقعة الشطرنج كي نُوضح قوةَ الحوسبة الكمية في الفصل الثامن، لكن هنا تحلُّ جسيمات النفق محلَّ المربعات على الرقعة أو وحدات الكيوبت. ويعتبر المضاعف الذاتي الأولي الخاص بنا — إذا عاش مدةً كافية — بمنزلة كمبيوتر كمِّي بقوة ٦٤ كيوبت، وقد اكتشفنا للتو مدى قوةِ مِثل هذا الجهاز. ربما بإمكانه استخدامُ موارده الحوسبية الكمية الهائلة للإجابة على السؤال التالي: ما التكوين الجزيئي الصحيح للمضاعف الذاتي؟ في هذا الإطار، تتَّضح المشكلة وحلُّها المحتملُ أكثر. لنعتبر أن الإنزيم الأوَّلي في حالة تراكب كمي، وستُصبح مشكلةُ البحث عن البنية التي ستكون مضاعفًا ذاتيًّا من بين اﻟ ٢٦٤ بنية محتملة؛ قابلةً للحل.
لكن هناك عقَبة. ستتذكَّر أن وحدات الكيوبت يجب أن تبقى مترابطةً ومتشابكة؛ كي تُنفذ عملية الحوسبة الكمية. إذ بمجرد أن يبدأ فكُّ الترابط، تنهار حالة التراكب للحالات اﻟ ٢٦٤ المختلفة، ولا تبقى سوى حالةٍ واحدة. فهل هذا يفيد؟ في ظاهر الأمر، لا؛ لأن فرصة انهيار التراكب الكمِّي إلى الحالة الذاتية التضاعف الواحدة لم تتغيَّر عن ذي قبل؛ أي: ١ على ٢٦٤، وهذا العدد يساوي فُرصَ رمي العملة واستقرارِها على الصورة ٦٤ مرةً على التوالي. لكن ما سيحدث بعد ذلك هو ما سيختلف فيه الوصف الكمي عن نظيره الكلاسيكي.
إذا لم يكن الجزيء يتبع سلوكًا ميكانيكيًّا كميًّا ووجد نفسه — كما سيحدث على نحوٍ شبهِ مؤكَّد — مع الترتيب الخطأ للذرات غير القادر على التضاعف الذاتي، فستتضمن تجرِبةُ تكوينٍ مختلف عمليةً بطيئة جيولوجيًّا خاصة بتفكيك الروابط بين الجزيئات وإعادة ترتيبها. ولكن بعد فكِّ ترابط الجزيء الكمي المكافئ، فإن كل الإلكترونات والبروتونات البالغ عددها ٦٤ في الإنزيم الأولي الخاص بنا ستكون جاهزةً — في آنٍ واحد تقريبًا — لأن تشقَّ النفق مرةً أخرى وتدخل في حالةِ تراكب من مواضعها المحتملة كي تُعيد إقامة حالة التراكب الكمي الأصلية المتضمِّنة ٢٦٤ تكوينًا مختلفًا. وعندما يكون جزيء المضاعف الأولي الكمي في حالة ٦٤ كيوبت، فيمكنه تَكرارُ البحث عن التضاعف الذاتي في العالم الكمي دون توقف.
فك الترابط سيهدم حالةَ التراكب بسرعة مرةً أخرى، ولكن هذه المرة سيجد الجزيءُ نفسَه في تكوينٍ آخر من التكوينات الكلاسيكية المتنوعة الخاصة به، البالغِ عددها ٢٦٤ تكوينًا. ومرةً أخرى، سيهدم فكُّ الترابط حالةَ التراكب، وسيجد النظام نفسه مرةً أخرى في تكوينٍ آخر، وستستمرُّ هذه العملية إلى ما لا نهاية. بالأساس، وفي بيئةٍ محميَّة نسبيًّا كتلك، فإن تكوين حالة التراكب الكمي وهدمها عمليةٌ قابلة للانعكاس، لا تنفكُّ العملة الكمية عن الرمي من خلال عمليتَي التراكب وفكِّ الترابط، وهما عمليتان أسرعُ بكثيرٍ من عمليتَي تكوين الروابط الكيميائية وتفكيكها في العالم الكلاسيكي.

لكنَّ هناك حدثًا واحدًا سيُنهي عملية رمي العملة الكمية. إن توصلَ جزيء المُضاعف الأوَّلي الكمي في النهاية إلى حالة مضاعف ذاتي، فسيبدأ في عملية التضاعف، وعملية التضاعف ستُجبر النظام على الانتقال على نحوٍ لا رجعةَ فيه إلى العالَم الكلاسيكي، وذلك كما هو الحال مع الخلايا الإشريكية القولونية الجائعة التي تناوَلْناها في الفصل السابع. ستكون العملة الكمية قد رُمِيَت بنحوٍ لا رجعة فيه، وسيكون أولَ مضاعف ذاتي قد وُلد في العالم الكلاسيكي. بالطبع لن تخلوَ عملية التضاعف هذه من نوعٍ من العمليات الكيميائية الحيوية داخل الجزيء، أو بينه وبين البيئة المحيطة به، التي تكون مختلفةً عن العمليات التي حدثت قبل العثور على ترتيب المضاعف الأولي. بعبارةٍ أخرى، لا بد من آليةٍ تُثبت هذا التكوين الخاص داخل العالَم الكلاسيكي قبل أن يُفقَد وينتقلَ الجزيءُ إلى الترتيب الكميِّ التالي.

كيف كان يبدو المضاعف الذاتي الأول؟

الاقتراح الذي أوضحناه فيما سبق تخمينيٌّ بالطبع. لكن إذا كان البحث عن المضاعف الذاتي الأول قد جرى في العالم الكمي دون العالم الكلاسيكي، فإنه على الأقل سيحلُّ على الأرجح مشكلةَ البحث عن المضاعف الذاتي.

وحتى يُصبح هذا السيناريو صالحًا؛ فلا بد أن الجزيء الحيوي الأوَّلي — المضاعف الذاتي الأولي — كان قادرًا على اكتشاف الكثير من البنيات المتنوِّعة عبر النفق الكمِّي لجسيماته إلى المواضع المختلفة. فهل نعرف نوعَ الجزيئات القادرة على تنفيذ تلك الخدعة؟ حسنًا، إننا نعرف ذلك إلى حدٍّ ما. فحسبما اكتشفنا حتى الآن، تتماسكُ الإلكترونات والبروتونات في الإنزيمات على نحوٍ غير مُحكم نسبيًّا، مما يُمكِّنها من شقِّ أنفاق إلى مواضعَ مختلفةٍ بسهولة. البروتونات في الحمض النووي والحمض النووي الريبوزي أيضًا قادرةٌ على شقِّ الأنفاق، على الأقل عبر الرابطة الهيدروجينية. ومن ثم يُمكننا تخيلُ مضاعفنا الذاتي الأوَّلي وكأنه شيءٌ مثل بروتين أو جزيء حمض نووي ريبوزي كان متماسكًا على نحوٍ غير مُحكم من خلال الروابط الهيدروجينية وكذلك الروابط الإلكترونية الضعيفة التي سمحَت لجسيماته — البروتونات والإلكترونات — أن تنتقل بحريةٍ عبر بِنْيته لتكوين حالة تراكب من تكويناته المختلفة التي يبلغ عددها عدة تريليونات.

هل يوجَد أيُّ دليل على هذا السيناريو؟ يُعد أبورفا دي باتل، وهو فيزيائيٌّ يعمل في مركز فيزياء الطاقة العالية التابع للمعهد الهندي للعلوم ببنجالور، واحدًا من الخبراء العالَميِّين في الخوارزميات الكمية؛ أي: برمجيات أجهزة الكمبيوتر الكمية. يقترح أبورفا أن جوانبَ من الشفرة الجينية (أي: تسلسلات قواعد الحمض النووي التي تُشفر الأحماض الأمينية) تشي بأصلها باعتبارها شفرةً كمية.4 ولا يتَّسع المقام هنا لعرض أي تفاصيل فنية (حيث إن ذلك سيأخذنا إلى أعماق الجوانب الرياضية لنظرية المعلومات الكمية)، ولكن فكرته لا ينبغي أن تكون مفاجئة. في الفصل الرابع، رأينا كيف أنَّه في البناء الضوئي تنتقل طاقة الفوتون إلى مركز التفاعل باتباعِ عدةِ مسارات في آنٍ واحد؛ أي: السير العشوائي الكمي. ثم في الفصل الثامن تناولنا فكرة الحوسبة الكمية، وهل يمكن أن تكون قد استفادت الحياةُ من الخوارزميات الكمية لتحسين فاعلية بعض العمليات البيولوجية أم لا. وبالمثل، إن سيناريوهات أصل الحياة التي تتضمَّن ميكانيكا الكم، رغم أنها تخمينية، ليست سوى امتدادٍ لهذه الأفكار؛ أي: احتمالية أن الترابط الكمي في علم الأحياء لعب في نشأة الحياة الدور نفسَه الذي يلعبه حاليًّا في الخلايا الحية.

بالطبع أيُّ سيناريو يتضمن ميكانيكا الكمِّ لتفسير نشأة الحياة منذ ثلاثة مليارات سنةٍ يبقى تخمينيًّا إلى حدٍّ بعيد. ولكن، كما ذكرنا، حتى التفسيرات الكلاسيكية بشأن نشأة الحياة لا تخلو من المشاكل؛ فليس من السهل إنشاءُ حياةٍ من العدم! وبتوفيرها استراتيجياتِ بحثٍ أكثر فاعلية، ربما سهَّلَت قليلًا ميكانيكا الكمِّ من مهمة بناءِ مضاعفٍ ذاتي. إنها على نحوٍ شبه مؤكد لا تُمثل سوى جزءٍ من القصة الكاملة، ولكنها ربما زادت كثيرًا من احتمالية ظهور الحياة في تلك الصخور القديمة في جرينلاند.

هوامش

  • (١)

    يُعتقد أن الأرض قد تكثَّفَت من بقايا شمسية منذ نحوِ ٤٫٥ مليار سنة، لكنها شكَّلَت قشرةً صُلبة بعد ذلك بنحو نصف مليار سنة.

  • (٢)

    هذا باستثناء الفيروسات التي لا تتضاعف إلا بمساعدة خلية حية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤