الفصل السادس

الخلايا الجذعية

كيف تتكون مليارات الخلايا الموجودة في أجسامنا؟ في النباتات والحيوانات، توجد خلايا قادرة على إنتاج كل أنواع الخلايا التي سيحتاج إليها الكائن من الميلاد وحتى الوفاة. وما إن يبدأ الكائن في النضج، حتى تكون هناك حاجة لخلايا أخرى لإنتاج مجموعات الخلايا المتخصصة المطلوبة لقيام عضو أو نسيج بوظيفته. وتُعرف تلك الخلايا بالخلايا الجذعية. ومع تطور التكنولوجيا وإمكانية التشريح الميكروسكوبي للأنسجة، كان من الواضح أن معظم الأعضاء، إن لم يكن كلها، والأنسجة في الجسم، لها خلاياها الجذعية القادرة على الانقسام والتمايز إلى خلايا عاملة ناضجة. في بعض الجوانب، يمكن تخيُّل تلك الخلايا كلوحة رسم خالية بها العديد من الرسوم الخلوية المخفية الموجودة بالفعل عليها. ويمكن لتجميعات مختلفة من البروتينات (عوامل النمو) أو غيرها من المثيرات، مثل الدهون أو السكريات التي تلامس الخلية، أن تحفز عملية الانقسام، وتسمح للخلايا الوليدة بأن تأخذ خصائص متغيرة. في هذا الفصل سنعرض باختصار لأنواع الخلايا الجذعية ومصادرها.

fig16
شكل ٦-١: أصل الخلايا الجذعية الجنينية والبالغة.
بشكل عام، يوجد نوعان رئيسيان من الخلايا الجذعية؛ الجنينية والبالغة (الشكل ٦-١). للخلايا الجذعية الجنينية خصائص حيوية مختلفة عن البالغة، التي توجد بالقرب من الميلاد أو الفقس أو الإنبات أو بعده. والنموذج الأصلي للخلايا الجذعية في النمو هو اللاقحة التي تنتج عن اندماج البويضة والحيوان المنوي، والتي لها «القدرة» الكاملة على إنتاج كل أنواع الأنسجة والخلايا المطلوبة في الجسم (لذلك يمكن وصف الخلية الجذعية بأنها «كاملة القدرة»). ومع نمو الجنين تظهر الخلايا الجذعية «متعددة القدرات»، وهي خلايا ذات قدرات متعددة لكنها محدودة. تنقسم تلك الخلايا وتتمايز إلى الفئات الأساسية للخلايا الجذعية الجنينية (المعروفة بطبقات التبرعم في الثدييات)، ثم تنمو بدورها في شكل أعضاء وأنسجة. وبدءًا من مرحلة الجنين وحتى البلوغ، يعتمد نموُّنا الخلوي على خلايا «متعددة القدرات» تُنتج، بعد الانقسام والتمايز، أنواع خلايا تنتمي لعائلة خلوية قريبة منها؛ فالخلايا الجذعية «المحدودة القدرة» أقل قدرة، وتُنتج فقط القليل من الخلايا وثيقة الارتباط بها، على سبيل المثال، خلايا الدم النخاعية، والخلايا الجذعية «أحادية القدرة» التي تُنتج نوعَ خلية واحدًا فقط، على سبيل المثال، الخلايا العضلية. وعادةً ما يستخدم مصطلح الخلية السلفية أو الخلية الجذعية السلفية لوصف الخلايا التي تنقسم بشكل سريع، لكنها لم تتمايز بعد. وتصلِح الخلايا الجذعيةُ السلفيةُ البالغةُ الأنسجةَ بإنتاج أنواع الخلايا المتخصصة المطلوبة للحفاظ على إعادة التكوين الطبيعي للأعضاء المتجددة.

قبل المضي قُدُمًا في تناول موضوع الخلايا الجذعية، يجب عرض بعض التطورات التي حدثت في التقنيات العلمية؛ حيث إنها أسرعت كثيرًا من وتيرة فهمنا لهذا المجال. أولًا: كان هناك الاكتشاف العرضي لوجود بروتينات وجزيئات سكرية معينة على سطح أنواع متعددة من الخلايا الجذعية. وقد حدَّدَت الأجسام المضادة لتلك الجزيئات معالم مجموعات الخلايا الجذعية تحديدًا دقيقًا. ثانيًا: توجد طريقة تسمى فرز الخلايا المستحث بالوميض الفلوري تستخدم أجسامًا مضادة يتم وسمها باستخدام مادة فلورية، وتسمح بفرز الخلايا الحية ميكانيكيًّا تبعًا لبروتيناتها السطحية. بشكل أبسط، يُمزج معلق الخلايا مع جسم مضاد له صبغة فلورية معينة، ثم يمرَّر المزيج عبر أنبوبة ضيقة جدًّا تُضاء بشعاع من الليزر؛ يَكتشف جهازٌ حساسٌ للضوء الخلايا التي تُنتج وهجًا فلوريًّا. ويمكن تحليل أو تجميع الخلايا الموجبة من المزيج من خلال الانحراف الإلكتروستاتي للقطرات الدقيقة وهي تخرج من الأنبوبة. وباستخدام الأنواع نفسها من الجسم المضاد، ولكن مع إرفاقها بخرز مغناطيسي صغير، يمكن فصل الخلايا الجذعية الصافية جزئيًّا بأعداد كافية للاستخدام الإكلينيكي. ويمكن أيضًا متابعة مجموعات الخلايا بعد نقلها إلى مستقبل، وذلك بإرفاق جين بروتيني فلوري أخضر صغير بأحد جيناته البروتينية. وتُنتج طفرات هذا الجين البروتيني الهلامي ألوانًا فلورية عديدة ومختلفة (استجابةً لضوء ذي أطوالِ موجاتٍ محددةٍ من أجل التحليل الدقيق). وعندما يتم التعبير عن هذا الجين، يتألق بروتينه داخل الخلايا. وقد استُخدمت تكنولوجيا «تألق حيوي» مماثلة لرصد الخلايا الفردية داخل الحيوان، عادةً باستخدام الكاميرات الحساسة المطوَّرة أصلًا من أجل المراقبة بالأقمار الصناعية.

(١) نظرة تاريخية

تعرضت نظرية التخلُّق المتوالي في علم الأحياء للتجاهل على مدار ألفي عام، إلى أنْ ذَكَرَها أرسطو أول مرة في كتابه «حول تكوُّن الحيوانات»، وترى هذه النظرية أن نمو النبات أو الحيوان من بويضة أو بوغ يتبع تسلسلًا من الخطوات يتغير خلالها الكائن وتتكون أعضاؤه المختلفة. وعلى الرغم من أن هذه النظرية تبدو بسيطة في عصر علم الوراثة، فإنها لم تَنَل القدر الكافي من التصديق؛ نظرًا لهيمنة النظرية الخلقية ونظرية التكون المسبق لأصل الحياة التي استمرت عدة قرون. لكن في عام ١٧٩٥، فنَّد عالم الأجنة كاسبر فردريك وولف في واقعة شهيرة نظرية التكون المسبق، وأكد صحةَ نظرية التخلق المتوالي. وقد دارت مناقشات خلافية مطولة من جانب علماء الأحياء، أدت في النهاية إلى انتصار نظرية التخلق المتوالي على نظرية التكون المسبق التي سادت فترة طويلة جدًّا. استمرت الدراسة المرئية لمجموعات الخلايا مع التطورات التي حدثت في الميكروسكوبات. وفي مطلع القرن العشرين، وصف إرنست نيومان الخلايا الموجودة في النخاع العظمي قائلًا:

الأشكال المختلفة لكل خلايا الدم الموجودة في الدم والأعضاء الليمفاوية وفي النخاع العظمي، كلها فروع من الخلية الجذعية «الليمفاوية». بهذه الطريقة تكمل تلك الخلية الجذعية نفسها مرة بعد مرة، حصريًّا بفعل الانقسام الخيطي أو بفعل خلايا أخرى أيضًا.

على الأرجح كان هذا أول استخدام لمصطلح الخلية الجذعية.

(٢) الخلايا الجذعية الجنينية

fig17
شكل ٦-٢: نموذج بسيط لبيئة خلايا جذعية. تكون الخلية في البيئة خاملة حتى تُنشَّط بفعل مثيرات لم يُتعرف عليها بالكامل بعدُ. وبعد الانقسام، تَقبل البيئة خلية وليدة واحدة، في حين تنقسم الخلية الأخرى، التي تصبح الآن خلية جذعية سلفية، عدة مرات، وتتغير إلى ملايين الخلايا المتمايزة بالكامل.
يمكن أن تنتج الخلايا الجذعية الموجودة في الجنين عددًا كبيرًا من الخلايا لإنتاج المائتي نوع من الخلايا الموجودة في الجسم البشري. في الإنسان، تكُون لكتلة الخلايا الداخلية (انظر شكل ٦-٢) للجنين في أولى مراحل تكونه ما بين ٥٠ إلى ١٥٠ خلية من ثلاثة أنواع رئيسية. في عام ١٩٨١، وَصَفَ مارتن إيفانز وماثيو كوفمان تكنولوجيا جديدة لمزرعة مِن أجنَّة الفئران واستخراج خطوط الخلايا الجنينية المزروعة. وفي نهاية ذلك العام، كان جايل مارتن أول من استخدم مصطلح «الخلية الجذعية الجنينية» لوصف خطوط الخلايا هذه. وبعد ثمانِي سنوات، فصَل جيمس تومسون مجموعة من الخلايا من كتلة الخلايا الداخلية لجنين بشري في مراحله الأولى، وأثبت وجود أول خطوط خلايا جذعية جنينية متعددة القدرات في مزرعة. والمصدر الحالي للعديد من الخلايا الجذعية الجنينية البشرية هو عمليات التلقيح الصناعي.

على الرغم من أن الخلايا الجذعية الجنينية لكلٍّ من الفأر والإنسان تتشارك في العديد من السمات الحيوية المتشابهة، فإنها تحتاج إلى بيئات مختلفة للنمو المستمر دون تمايز في الدوارق البلاستيكية. على سبيل المثال، تنمو الخلايا الجذعية الخاصة بالفئران على طبقة من الجيلاتين، وتحتاج فقط إلى إضافة عامل النمو البروتيني (عامل تثبيط سرطان الدم)، في حين تحتاج خطوط الخلايا البشرية المماثلة إلى طبقة مُغذِّية من الخلايا الليفية الحية الخاصة بالفئران وعامل نمو آخر (عامل نمو ليفي بشري). ودون ظروف نمو مُثلَى، تتوقف الخلايا عن الانقسام وتتمايز بسرعة. وهناك الآن إتقان كبير في عملية إنماء خطوط الخلايا الجذعية الجنينية، وهناك فهم متزايد للجينات التي لها دور في الحفاظ على سمات الخلايا الجذعية. إن الحفاظ على وفرة القدرة لهذه الخلايا يتطلب شبكة منظمة تضمن كبح الجينات التي تؤدي إلى التمايز. فالظرف الافتراضي هو تقليل الانقسام وإحداث التمايز. ربما طورت الطبيعة آليةً شِبهَ مضمونة لحماية الكائن من أخطار الخلايا الجذعية الجنينية التي تُفلت من آليات التحكم الطبيعية الخاصة بالنمو.

تنتج خلايا الخط التكاثري الحيوانات المنوية أو البويضات (الخلايا التكاثرية الفردانية) التي لها نصف العدد الطبيعي من الكروموسومات، وتنقل المعلومات الجينية من جيل لآخر. ويمكن بسهولة تمييز تلك الخلايا واسترجاعها والتعامل معها في ذباب الفاكهة. في تلك الأنواع من الذباب، تنمو البويضة على خيط (أو أنبوب مبيضي) داخل مبيض الذبابة. ويتحرك عدد قليل من خلايا الخط التكاثري الجذعية بطول أحد أطرافه بمعدل سرعةٍ يمكن توقعه، وتتمايز إلى بويضات خلال ثمانية أيام. والخلايا الجذعية محاطة بثلاثة أنواع من الخلايا المتمايزة — الخلايا الخيطية الطرفية، وخلايا القَلَنْسُوَة، وخلايا الغمد الداخلية — التي تساعد على تكوين هيكل أنبوبي الشكل بسيط تشريحيًّا (منطقة التكاثر). والخلايا الموجودة في طرف الأنبوب المبيضي منظمة في بيئة خاصة تحافظ على خلايا النسيج التكاثري الجذعية وتتحكم فيها. يتم تكوين وصلة خلوية خاصة بين الخلايا الجذعية وخلايا القلنسوة. وتحافظ تلك الوصلات على خلية النسيج التكاثري الجذعية في الأمام، وتمنعها من التحرك إلى أماكن قد تتلقى فيها إشارات خاصة بالتمايز. وهناك حاجة لبروتين خاص بالإشارات يعمل على الحفاظ على تلك الوصلات، ويتحكم في معدل انقسام خلايا النسيج التكاثري الجذعية.

في النبات، تتسم كل الخلايا الجذعية بأنها كاملة القدرة، وبإمكانها الانقسام والتمايز إلى كل أنواع الخلايا المطلوبة لإنتاج الكائن بأكمله. ومصطلح «كامل القدرة» قدَّمه عالم النبات النمساوي جوتليب هابرلاندت، لوصف عملية معروفة لكل المزارعين الذين يضعون منذ عهود بعيدة أجزاءً صغيرة من أحد النباتات، مثل الأوراق أو الجذوع أو الجذور في التربة، ويروونها لتتكاثر نباتاتهم الغالية من خلال الفسائل. قام فريد ستيوارد في أواخر خمسينيات القرن العشرين بأول عملية إنبات لنبات كامل (جزرة) من خلية نباتية فردية. ويُعَدُّ نبات أرابيدوبسيس ثاليانا (الذي يعرف أيضًا بجرجير أذن الفأر) نباتًا مزهرًا صغيرًا خضع للدراسة المكثفة، وهو مفيد في الدراسات الوراثية. فالقمة النامية عبارة عن نسيج غير متمايز بشكل كامل موجود في البراعم، ويستمر في تكوين الأوراق والأزهار والفروع طول عمر النبات. إن الخلايا الجذعية التي يتراوح عددها بين ٣٠ و٤٠، والتي توجد في هذا التركيب المعقد، محاطة بملايين الخلايا المتمايزة؛ مما يجعل هذا النموذج نموذجًا صعبًا في دراسته؛ لذا لجأ معظم علماء الوراثة لدراسة أطراف الجذور الأقل تعقيدًا. وباستخدام صفة وراثية طافرة تنتج عددًا كبيرًا من الأنسجة الإنشائية (الجنينية) البرعمية التي يمكن الوصول إليها، تم عمل خريطة تعبيرات جينية للنسيج الذي سمح بتمييز تلك الخلايا الجذعية الخادعة والتمييز الفلوري اللاحق لها.

(٣) الخلايا الجذعية البالغة

تاريخيًّا، بدأ فهمنا للخلايا الجذعية برصد كيفية إنتاج الخلايا الجذعية البالغة لأعداد كبيرة من الخلايا الوليدة البالغة. تطلبتْ الأفكار بعيدةُ النظر لإرنست نيومان في مجال إنتاج الدم من النخاع العظمي وجودَ مزرعة فعلية لإكمال الأدلة على ذلك. ولم يتم الوصول إلى تلك الأدلة إلا بعد ٦٠ سنة لاحقة، عندما اكتشف الباحثون أجزاءً متعددة من هذا اللغز المعقد، موضحين أن الخلايا الجذعية الموجودة في النخاع العظمي يمكن أن تجدد نفسها، هذا إلى جانب توفير كل الخلايا البالغة المختلفة في الدم وانقسامها.

في عام ١٩٦١، أجرى إرنست ماكولك وجيمس تيل سلسلة من التجارب التي تضمنت حقْن خلايا نخاع عظمي في أوردة ذيول فئران مُنعت من إنتاج خلاياها الجذعية من خلال جرعة مميتة من الأشعة السينية. وقد لوحظ نمو عُقيدات مرئية في طحال الفئران، وكانت أعداد تلك العقيدات متناسبة مع عدد خلايا النخاع العظمي المحقونة. ورأى ماكولك وتيل أن كل عُقَيدة تنشأ من خلية نخاعية واحدة، ربما خلية جذعية. ووفر هذا المقياس القائم على الحيوانات لخلايا النخاع العظمي الجذعية الأداة الأساسية لقياس أعداد الخلايا الجذعية في السنوات الثلاثين التالية. وفي أوائل السبعينيات من القرن العشرين، أوضح مايك ديكستر أنه من الممكن إنماء خلايا نخاع عظمي بدائية لعدة أسابيع في دوارق مَزارع معملية، إذا استُخدمت طبقة مُغذِّيَة من خلايا ضامة (وهي مجموعة مختلفة من أنواع الخلايا غير الخاصة بالدم توجد في النخاع العظمي).

في العقود التي تَلَتْ ذلك، اكتُشف العديد والعديد من الخلايا الجذعية البالغة الخاصة بالأنسجة. وكل تلك الخلايا قادرة على الانقسام والتمايز إلى أنواع الخلايا المكوِّنة لنسيجها المعنِيِّ. وقد دل النمو الذي رُصِد للخلايا العصبية الجديدة في الفئران على وجود خلايا جذعية في الدماغ البالغ. وهذه الملحوظة المهمة كانت معاكسة للأفكار السابقة بأن خلايا الدماغ تستمر طوال عمر الكائن. ومنذ ذلك الحين، تمت دراسة الخلايا الجذعية في دماغ الفئران والطيور المغردة والرئيسيات البالغة، بما في ذلك الإنسان. ونمو الخلايا العصبية الجديدة (وهي عملية تُعرف بتخلق النسيج العصبي) يتم بشكل حصري في موضعين في الدماغ. ويمكن إنماء الخلايا الجذعية العصبية في المعمل في بيئات متخصصة عبارة عن تجمعات لخلايا حرة الحركة، تحتوي على عدد كبير من الخلايا الجذعية. وبتغيير ظروف المَزارع، يمكن أن تتمايز إلى كلٍّ من الخلايا العصبية (وهي الخلايا القابلة للاستثارة كهربائيًّا التي تعالج وتنقل المعلومات) والخلايا الدبقية (وهي الخلايا التي تغذي وتحمي الخلايا العصبية للدماغ).

للأعضاء الأخرى خلايا جذعية توفر الخلايا البالغة المطلوبة باستمرار أو في مراحل معينة من النمو. وتتضمن الأمثلة الخلايا الجذعية الثديية التي هي مصدر لخلايا الغدة الثديية أثناء البلوغ. وقد عُزلت هذه الخلايا من نسيج من الفئران والإنسان، وتمايزت في المزارع إلى خلايا طلائية لمعية (الطبقة الداخلية للخلايا التي يحتمل إنتاجها للَّبن) وخلايا طلائية عضلية (الطبقة الخارجية)، إلى جانب امتلاكها القدرة على إعادة إنتاج العضو بالكامل في الفئران. يمكن أخذ الخلايا الجذعية الشمية البشرية البالغة من الخلايا المخاطية الموجودة في بطانة الأنف. وبشكل مشابه إلى حدٍّ ما للخلايا الجذعية الجنينية، يمكن لتلك الخلايا أن تتمايز لمجموعة متنوعة من أنواع الخلايا، وتُعَدُّ بمنزلة مصدر علاجي محتمل؛ نظرًا لسهولة استخراجها، خاصةً في الأشخاص الأكبر سنًّا. وتحتوي بصيلات الشعر على أنواع مختلفة من الخلايا الجذعية، ويمكن أن تنتج خلايا عصبية وخلايا شوان (التي تفرز الغمد النخاعي المياليني)، والخلايا الليفية العضلية (التي هي مزيج بين الخلايا الليفية والخلايا العضلية الملساء المهمة في التئام الجروح)، والخلايا الغضروفية (وهي الخلايا التي تكون الغضاريف وتحافظ عليها)، والخلايا الميلانينية (الخلايا المنتجة للميلانين التي تعمل على اسمرار البشرة عند التعرض للشمس). تشكل الخلايا القاعدية نحو ٣٠٪ من النسيج الطلائي للرئة، وفي الإنسان، هي موجودة في قنوات التنفس. وهي غير قابلة للتمايز بشكل نسبي، وربما تعمل كخلية جذعية لهذا النسيج. وقد تؤدي دراسة خصائصها الحيوية بشكل أكبر إلى استخدامها في إعادة إنتاج الرئتين. وتحدث عملية تجمع الخلايا البطانية في بطانة الأوعية الدموية بشكل أساسي أثناء نمو الجنين. كان يُعتقد أن تلك الخلايا مشتقة من خلايا جذعية سلفية بطانية أثناء النمو، لكن في التسعينيات من القرن العشرين جرى التعرف على خلايا جذعية بطانية بالغة مفترضة في دم فئران بالغة. وترى الأبحاث الحديثة أن الخلايا السلفية البطانية البالغة مهمة لإنتاج الأوعية الدموية، خاصة عندما يحتاج ورمٌ نامٍ لإنماء أوعية دموية جديدة ويقوم بذلك. وتُستخدم الخلايا الجذعية السلفية البطانية؛ مثل الخلايا الجذعية الدموية، في مجرى الدم من قِبَل عوامل نمو قبل أن تنتقل إلى مكان الورم. ويمكن أن يؤدي تدمير تلك الخلايا داخل النخاع العظمي إلى تقليل معدل نمو الورم؛ حيث لا يمكن لأي ورم أن يكبر محيطه أكثر من ملِّيمترين دون تدفق الدم له.

(٤) خصائص الخلايا الجذعية

تبقى أعداد الخلايا الجذعية البالغة كمجموعة صغيرة ثابتة من الخلايا داخل أي نسيج معين. وبسبب نزوعها إلى الانقسام، فإن أي خروج عن السيطرة من جانبها قد يكون مُهلكًا للحيوان أو النبات. على الجانب الآخر، تحتاج كل خلية لتجديد نفسها إلى جانب توفير خلايا وليدة سلفية قادرة على التمايز والانقسام السريع لإنتاج ملايين الخلايا المطلوبة لعمل أي عضو أو نسيج. ولشرح هذه الملاحظة في النخاع العظمي، اقترح راي سكوفيلد الافتراض القائل بأن الخلايا الجذعية توجد في مكان أو بيئة متخصصة. وتتكون تلك البيئة من مجموعة من الخلايا المخصصة لتوفير بيئة دقيقة للحفاظ على خلية جذعية واحدة (الشكل ٦-٢). وتعمل تلك البيئات عمل «معسكرات القاعدة»؛ حيث تُحفَظ فعليًّا الخلايا الجذعية، فتعمل كمخزن مستمر لإعادة إنتاج الأنسجة. وبالحفاظ على التوازن بين التجديد الذاتي والتمايز، تلعب البيئة دورًا أساسيًّا في التحكم في مصير الخلايا الجذعية والحفاظ على أعدادها. وفي أغلب الحالات تبقى الخلايا الجذعية البالغة الموجودة في تلك البيئات خاملة، حتى تستقبل إشارات من البيئة الدقيقة التي تحفِّز انقسام الخلايا الجذعية. وما زالت ماهية تلك الإشارات غير واضحة. وتبقى الخلية الوليدة في البيئة كخلية جذعية، في حين تتركها الخلية الأخرى التي لم تَعُدْ تناسب تلك البيئة، وتمر بعملية انقسام وتمايز سريعَيْنِ لبناء خلايا بالغة. وإذا تم تحفيز البيئة الدقيقة أكثر، على سبيل المثال بإدخال بروتين محفِّز للنمو، يمكن تسريع معدل تلك العملية بشكل أكبر. وقد تم إثبات نموذج البيئة في مجموعة متنوعة من دراسات الخلايا الجذعية في نظم حيوية أخرى؛ مثل مبايض الذباب والنباتات وخبايا القولون في الثدييات. ولا يزال الغموض يعتري مسألة كون هذا النموذج البسيط عامًّا في كل الخلايا الجذعية أم لا.

تتسم الخلايا الجذعية البالغة بخاصية المرونة، أو ما بعد التمايز، وتعني ببساطة أن نوعًا من الخلايا الجذعية، تحت ظروف مختلفة، يمكن أن يتحول لنوع خلية آخر. على سبيل المثال، في الفئران والبشر، يمكن للخلايا الجذعية الجنينية الخاصة بالنخاع العظمي، وتلك السلفية الكبدية البالغة، وغيرها من الخلايا الجذعية؛ إنتاجُ خلايا بالغة في الكبد. ويمكن أن تحدث هذه التحولات في المعمل، وذلك بإدخال بروتينات عوامل نمو للخلايا الجذعية، أو بزرع خلايا في الكبد؛ حيث تستطيع إعادة الانتشار، وفي بعض الأحيان حتى يمكن أن تحسِّن من وظائف الكبد.

في الجنين، هناك ثلاثة أنواع أساسية من خلايا طبقة التبرعم؛ وهي: الطبقة الخارجية (المسئولة عن تكون الجهاز العصبي والشعر ومينا الأسنان والخلايا الكيراتينية للجلد)، والطبقة الداخلية (المسئولة عن تكوُّن الأمعاء والجهاز التنفسي والمثانة)، والطبقة الوسطى (المسئولة عن تكون العظام والعضلات والأنسجة الضامة، والطبقة الوسطى من الجلد والكبد والنخاع العظمي). ومن المثير للدهشة أن هذه الأنواع الثلاثة من الخلايا قد وُجد أنها تُنتج خلايا بالغة مشتقة بصورة طبيعية من خط تكاثري مختلف.

ما لم يتضح بعدُ هو آلية عمل عملية ما بعد التمايز الخاصة بالخلايا الجذعية. فمصير الخلية الجذعية يتحدد جزئيًّا من خلال صفاتها الوراثية عند الانقسام، وأيضًا من خلال الإشارات الخارجية التي تستقبلها. فإذا استقبلت إشارات خارجية متضاربة، يمكن أن تغير الخلية صفاتها الوراثية، وتتغير لنوع خلية مختلف. ولأنها صغيرة نسبيًّا وغير مميزة تركيبيًّا، قد ثبت أن التمييز المرئي للخلايا الجذعية البالغة صعب. وقد أشير إلى أن المرونة يمكن تفسيرها بوجود مجموعتين أو أكثر من الخلايا الجذعية داخل النسيج. على سبيل المثال، تتطور الخلايا الجذعية البالغة إلى أنواع خلايا بالغة، في حين أن عددًا أصغر من الخلايا الجذعية التكاثرية لا يزال بإمكانه إنتاج كل أنواع الخلايا. وهناك نموذج آخر يحاول تفسير التوازن بين التجديد الذاتي للخلايا الجذعية وتمايزها في النخاع العظمي وبصيلات الشعر والأمعاء، وهو يفترض أن أي خلية جذعية يمكن أن توجد في حالتين مختلفتين. فهي تكون خاملة، وهي خلية جذعية تحتفظ بإمكانية كاملة للنمو، في حين تكون الخلايا الجذعية الأخرى نشطة، قادرة على إنتاج أعداد كبيرة من الخلايا المتمايزة. ويتم التحكم في التوازن بين الخلايا الجذعية النشطة وغير النشطة من خلال مستويات بروتينات نمو متعددة خاصة بإرسال الإشارات اكتُشفت في البداية في ذباب الفاكهة، وهي الآن ضرورية في كل الخلايا الحيوانية.

تتسبب الأنشطة الأيضية العادية — خاصةً تناسُخ اﻟ «دي إن إيه»، عند تلازمها مع عوامل بيئية مثل المواد الكيميائية المسرطنة والأشعة فوق البنفسجية والإشعاع — في تلفِ اﻟ «دي إن إيه». وقد قُدِّر أنه من الممكن أن تحدث حتى مليون حالة تلف في المكونات الجزيئية ﻟﻠ «دي إن إيه» في كل خلية يوميًّا. وتمتلك الخلية مجموعة من العمليات التي يمكن من خلالها تحديد مكونات اﻟ «دي إن إيه» التالفة وإصلاحها. وأغلب تلك التغيرات في اﻟ «دي إن إيه» غير ضارة، وبعضها ربما يوضح سبب اختلافنا بعضنا عن بعض. وبعضها يسبب تلفًا هيكليًّا في جزيء اﻟ «دي إن إيه» ويغير قدرة الخلية على البقاء. ومن أمثلة تلك التغيرات المهلكةِ التشابكُ أو الانكسار الكيميائي لسلاسل اﻟ «دي إن إيه». ويتم التعرف على فشل العمليات الطبيعية لإصلاح اﻟ «دي إن إيه» في الخلية من خلال بروتين بي٥٣ (الذي عرضنا له في الفصل الثالث). تدخُل الخلية بعد ذلك في حالة دائمة من الخمول تُعرف بالهرم، أو تموت بفعل عملية الاستماتة. وفي غياب استجابة بروتين بي٥٣، قد تبدأ الخلية التالفة في القيام بعملية انقسام غير محكومة ينتج عنها الإصابة بالسرطان.

لكل الخلايا الحيوانية ساعة داخلية للهرم. فكل كروموسوم له تراكيب وقائية في طرفيه تسمى التيلوميرات، التي تتكون من تكرارات لتسلسل اﻟ «دي إن إيه» TTAGGG. وتقي التيلوميرات من اندماج أطراف الكروموسومات؛ مما يمنع تكوُّن الكروموسومات الحلقية. وفي كل مرة تنقسم فيها الخلية، لا يتم استبدال نسخة أو نسختين من هذا التسلسل. وفي النهاية، وبعد عدة عمليات انقسام، تبدأ تلك الوقاية عند التيلوميرات في الضعف، وتبدأ أطراف الكروموسومات في «التآكل»، وعندها تتوقف عملية الانقسام. وتتجنب الخلايا الجذعية الجنينية تلك المشكلة، فيما يتعلق بعدد عمليات الانقسام «المسموح بها»، بإنتاج إنزيم يسمى التيلوميريز، الذي يصلح التلف ويسمح بعمليات الانقسام المتعددة المطلوبة في مراحل النمو المبكرة. وفي النسيج البالغ، يكون أيضًا للخلايا التي تحتاج للانقسام باستمرار (على سبيل المثال، الخلايا المناعية والخلايا الجذعية الخاصة بعضو معين) مستوياتٌ مرتفعة من هذا الإنزيم، في حين أن معظم أنواع الخلايا الأخرى تعبر عنه في مستويات قليلة. وعادةً ما توجد مستويات عالية منه في خلايا الأورام سريعة الانقسام.

تبقى الخلايا الجذعية في القمم النامية في النباتات نشطةً طوال حياتها التي قد تطول لقرون في بعض الأشجار، والتي تكون فيها معرَّضة دومًا لأخطار بيئية تتسبب في حدوث تلف وطفرات بالحمض النووي «دي إن إيه». وكل النباتات لها آليات تتفاعل بحساسية عالية مع تلف اﻟ «دي إن إيه»؛ نتيجة التعرض للإشعاع أو المواد الكيميائية التي تؤدي لتسمم الخلايا، وتعلن الموت المبكر للخلايا. وقد رُصدت عمليات مشابهة في الخلايا الجذعية للنخاع العظمي للفئران. وتطوُّر هذه الطريقة الحازمة للحفاظ على التكامل الجينومي في مجموعات الخلايا المهمة هذه مختلفٌ عن الموت المبرمج للخلايا. على الجانب الآخر، يحدث انخفاض ملحوظ في أعداد الخلايا الجذعية البالغة في العديد من أنسجة الثدييات بمرور الوقت؛ ربما بسبب تلف اﻟ «دي إن إيه» التدريجي. وهذا يؤثر على قدرتها على الانقسام بتقدم العمر، وذلك بدفع الخلايا إلى وضع الخمول. وقد يقل أيضًا عدد بيئات الخلايا الجذعية. إننا نكبُر في السن؛ لأن خلايانا الجذعية تكبر نتيجةً لآليات تثبط نمو الخلايا السرطانية في شبابنا.

(٥) الخلايا الجذعية السرطانية

اكتسبت فكرة الخلايا الجذعية السرطانية مصداقية متزايدة تدريجيًّا في السنوات العشر الأخيرة. كان سرطان الدم هو أول أنواع السرطانات التي وُجد أن لها خلايا جذعية، ولكن يُعتقد أن سرطانات الدماغ والقولون والمبايض والبنكرياس والبروستاتا لها أيضًا خلايا جذعية. أصل تلك الخلايا محل جدل، والمفهوم قائم على فكرة أن مجموعة من الخلايا الخبيثة — كما هو الحال مع الخلايا الجذعية الطبيعية — لها القدرة على تجديد نفسها وإعادة بناء الأورام بشكل لانهائي في مواضع بعيدة. وكما هو الحال مع الخلايا الجذعية الطبيعية، تنقسم تلك الخلايا ببطء (بعبارة أخرى، تجدِّد نفسها)؛ مما يجعلها مقاوِمة أكثر للعقاقير المضادة للسرطان التي عادةً ما تقتل الخلايا سريعة الانقسام، في حين تبقى حساسية خلاياها الوليدة المتمايزة. أحد تفسيرات الخلايا الجذعية لسرطان الدم أن التَّلَفَ الجيني الذي يؤدي للإصابة بالسرطان يحدث في الخلية المتمايزة حديثًا متبوعًا بفقد تمايز يحفَّز بفعل بيئة الخلية الجذعية؛ مما ينتج عنه إمداد محدود جدًّا — لكنه دائم — من الخلايا الجذعية الخاصة بسرطان الدم. في الأورام الصلبة، من الصعب جدًّا تحديد الأصل الدقيق لخلية السرطان الجذعية المفترضة؛ إذ يكون للورم مجموعة متباينة من الخلايا الطافرة. ومن بين تلك الخلايا ربما توجد أنواع عديدة من الخلايا الجذعية؛ واحدة مثالية للبيئة المعنية والعديد من الخلايا الجذعية الأقل نجاحًا. والخلايا الأخيرة يمكن أن تصبح أكثر نجاحًا في بعض البيئات؛ مما يسمح للورم بالتكيف أكثر مع التغيرات التي تحدث في بيئته. وربما يؤدي إجراء المزيد من الدراسات على الخلايا الجذعية إلى تطوير علاجات جديدة للسرطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤