الفصل الثالث

الانتقاء من ساحة المنافسين

الطيور المُترمِّلة الطويلة الذيل هي طيور حَبَّاك صغيرة الحجم يمكن العثور عليها في الأراضي العشبية بوسط وجنوب أفريقيا. بعيدًا عن موسم التزاوج، تتشابَهُ الذكور والإناث على نحوٍ ملحوظ في مظهرها الخارجي؛ إذ تتمتع بريشٍ قمحي اللون أو أسمر مائل للصفرة ذي خطوط ثقيلة يساعدها على الاندماج في بيئتها العشبية المحيطة. ولكن في أثناء موسم التزاوج، تخضع الذكور لتحول ملحوظ (شكل ٣-١). فتطرح ريشها البني المُرقَّط وتستبدل به ريشًا فاحمَ السواد. واللافت أكثر للنظر أنه تنمو لديها ما بين ست وثماني ريشات في الذيل ليصل طوله إلى نصف متر. ويقوم الذكر بجولات طيران مرهقة عبر منطقته وريش ذيله منبسط ويتدلى أسفل منه، ويكون بارزًا جدًّا للإناث وغيرها من المراقبين في بيئته المحيطة عبر مسافاتٍ تزيد على كيلومتر واحد. وتنضم الإناث إلى الذكور في مناطقها لتبنيَ الأعشاش وترعى الصغار التي يُنجبها عادةً صاحب المنطقة. وفي أوائل ثمانينيات القرن العشرين، استعان السويدي مالت أندرسون، اختصاصي علم البيئة السلوكي، بمعالجة تجريبية ليقدم دليلًا قاطعًا على أن الانتقاء من جانب الإناث هو المسئول عن نشوء الفروقات الجنسية في خصائص الريش الموجودة في الطيور المُترمِّلة.
fig8
شكل ٣-١: يبدو ذكر الطيور المُترمِّلة شديد الشبه بالأنثى خارج موسم التزاوج، ولكن في أثناء موسم التزاوج ينمو للذكر ريش أسود مُذهل وريش ذيل طويل ويستخدم مظاهر الزينة هذه في استعراضات بهدف جذب الإناث.

أحصى أندرسون عدد الإناث التي تُعشِّش في منطقة كل ذكر من الذكور في منطقة عشبية في كينانجوب بلاتو في كينيا. ثم اصطاد الذكور أصحاب مناطق النفوذ ووزعها توزيعًا عشوائيًّا على مجموعةٍ من أربع مجموعاتٍ مرجعية. في المجموعة الأولى، قص ريش الذيل ليقل طوله بنحو ٧٠ بالمائة، وفي المجموعة الثانية أُلصِقَت قطع الريش المقصوص على أطراف ريش ذيل مُشابهٍ لذكور أخرى ليُطيلها على سبيل التجربة بنحو ٥٠ بالمائة. كانت المجموعتان المتبقيتان بمثابة مجموعتَي ضبط، في الأولى قُص ريش الذيل ثم أُعيد لصقُه بحيث ظلَّ الذيل بالطول نفسه، وفي الثانية تم التعامُل مع الطائر بالطريقة نفسها باعتباره متغيرًا قابلًا للمعالجة ولكن تُرك ريش الذيل دون أن يُقص. ثم أطلق أندرسون سراح الطيور لتعود إلى مناطقها وراقب عدد الإناث المعششة في منطقة كل ذكر من الذكور على مدار الشهر التالي. ووجد أن عددًا أكبر من المتوقع من الأعشاش الجديدة قد بُني في مناطق الطيور التي أُطيلت ذيولها على نحوٍ تجريبي، مقارنة بالطيور القصيرة الذيل أو طيور مجموعة الضبط. وهكذا قدمت هذه التجربة البارعة دليلًا مباشرًا وقاطعًا على اقتراح داروين الذي ظلَّ مرفوضًا لفترة طويلة بأن الإناث تنتقي من بين الذكور المحتمَلين بناءً على سماتها الجنسية الثانوية، وحولت الانتباه من التساؤل عما إن كانت الإناث تنتقي شريك التزاوج إلى التساؤل عن أسباب ظهور تفضيلات التزاوج على هذا النحو. وهكذا، شهِدَت العقود الأربعة الأخيرة تطوير مجموعة من النماذج النظرية الخاصة بتطور تفضيلات الإناث ومظاهر الزينة لدى الذكور وخضوع هذه النماذج للاختبارات التجريبية، بناءً على الفكرة القائلة بأنها قد تكون مفيدةً بشكل مباشر بالنسبة إلى الإناث فيما يخص تكاثرها وبقاءها على قيد الحياة، أو بشكل غير مباشر عبر تأثير الجينات التي ورثتها الذرية من شريك التزاوج الذي انتقته الأم.

انتقاء مُعيل جيد

يبني ذكر سمكة أبو شوكة عشًّا تودِع فيه الإناث بيضَها، ويخصبها صاحب العش (شكل ٣-٢). وتقدم الذكور رعاية أبوية كاملة؛ إذ تقوم بتهوية البيض لتحسين عملية تبادل الغازات وتحميه من الافتراس. في أثناء موسم التزاوج، تكتسب الذكور لونًا أحمر عند الحلق والصدر وتفضل الإناث التناسل مع ذكور لها ألوان أكثر تألقًا. وتعتمد شدة اللون الجذاب جنسيًّا للذكر على توافر صبغات الكاروتينات في غذائه، وهي المواد الملونة التي تُكسِب الجزر لونه البرتقالي والطماطم لونها الأحمر. والذكور التي تحصل على مستوى أعلى من الكاروتينات الغذائية لا تكتسب حلقًا وصدرًا أشد حمرةً وحسب؛ وإنما تتمتع بعمر أطول وتقدم رعاية أبوية أفضل، مما يزيد فرص بقاء النسل على قيد الحياة حتى يستقل بنفسه.
fig9
شكل ٣-٢: ذكر سمكة أبو شوكة يبني الأعشاش (أعلى اليسار) التي تضع فيها الإناث بيضها (أعلى اليمين). يعتني الذكر بالبيض إلى أن يفقس. وأثناء موسم التزاوج، تكتسب الذكور لونًا يجتذب الإناث من أجل التزاوج، بما في ذلك حلق وصدر أحمر اللون لافت للنظر، تجده الإناث جذابًا. والذكور الأكثر حمرة يكونون آباء أفضل، ويتمتعون بنسبة خصوبة أعلى، وينجبون نسلًا مقاومًا للعدوى الطفيلية.

وبهذه الطريقة، يحقق انتقاء الأنثى للذكر ذي اللون الجذاب جنسيًّا عوائد مباشرة على الكفاءة أو الصلاحية من حيث جودة الرعاية الأبوية المقدمة إلى النسل. وبوجهٍ عام، تشير النماذج النظرية لتطور التفضيلات إلى أن المزايا المباشرة لجودة الرعاية الأبوية قد تكون دافعًا مهمًّا وراء تطور تفضيلات الإناث، إذا كانت السمات الجنسية للذكر تنقل معلومات موثوقة إلى الإناث بخصوص قدرة الذكر على رعاية صغارهن. وبالإضافة إلى المساهمة في تعزيز اللون المرتبط بنسبة الكاروتينات لاجتذاب الإناث من أجل التزاوج، قد تقوم الكاروتينات الغذائية بدور مضادات الأكسدة، إذ تحمي الذكور من النواتج الثانوية لعملية الأيض التي تحدث تلفًا لخلايا الحيوانات المنوية وتعرض قدرة الذكر على تخصيب البيض للخطر. وفي حالة أسماك أبو شوكة، يحظى الذكر الذي يكتسب لونًا زاهيًا أثناء التزاوج بمزيد من الخصوبة؛ ومن ثم تحصل الأنثى التي تنتقي ذكرًا ذا حلق أكثر حمرة بميزة إضافية تتمثل في ضمان تخصيب بيضها الثمين.

غالبًا ما تنتقي الإناث الذكور من أجل الوصول إلى موارد أخرى بخلاف الرعاية الأبوية المباشرة، مثل تجهيزات العش أو الإمدادات الغذائية أو غيرها من الموارد الضرورية بالنسبة إلى الإناث لتنشئة نسلها. على سبيل المثال، في الكثير من أنواع اليعسوب وحشرة الرعاشة الصغيرة (مقترنات الأجنحة)، تضع الإناث البيض في مناطق البرك والمجاري المائية حيث تكون النباتات المائية أو التيارات المائية أو عمق المياه مثاليةً لنمو البيض وفقسه. وتتنافس ذكور اليعسوب والرعاشة الصغيرة على الوصول إلى هذه المواقع المفضلة لوضع البيض؛ ومن ثَمَّ تحتكر الوصول إلى الإناث التي تأتي لوضع بيضها.

رصد سلوك تزاوج مشابه بين الطيور والضفادع والأسماك، والمثال الصارخ على ذلك طائر يُدعى مرشد العسل البرتقالي الردف. يشكل شمع عسل النحل جزءًا أساسيًّا من غذاء هذه الطيور، وتؤسس الذكور مناطق نفوذ طَوال العام عند أسطح الجُرُف المكشوفة في الغابات الجبلية الكائنة بمحاذاة جبال الهيمالايا حيث يعشش النحل. ويتحكم عدد صغير من الذكور في إمكانية الوصول إلى الاحتياطي المحدود من خلايا النحل التي تأتي إليها الإناث من أجل الغذاء. ويحدث التودُّد والتزاوج عند أماكن خلايا النحل، وقد وثقت إحدى الدراسات التي أُجريت على هذا النوع من الطيور وجود ذكر واحد حظيَ بست وأربعين فرصة تزاوج مع ثمانية عشر أنثى مختلفة. وفي مثل هذه الظروف، يمكن أن يثير انتقاء الأنثى للموارد منافسة شديدة بين الذكور، مما يدعم، على نحوٍ غير مباشر، تطور الأسلحة التي تُسهِم في قدرة الذكر التنافسية. ناقشنا في الفصل الثاني ما سُمي بأنظمة التزاوج بغرض الدفاع عن الموارد. وانتقاء الإناث لمثل هذه المزايا المادية المباشرة يثير بضع إشكاليات مفاهيمية؛ نظرًا لأن أسباب تفضيل الإناث لذكور معينة واضحة. غير أن السؤال المثار دومًا في الأبحاث الخاصة بالانتقاء من جانب الإناث هو: لماذا تفضل الإناث ذكورًا ذات سماتٍ جنسية ثانوية مبالغٍ فيها في حين أن هذه الذكور لا تقدم شيئًا سوى مادتها الوراثية، كما في حالة الطيور المترملة التي أجرى أندرسون دراسته عليها؟

الانحياز الحسي

fig10
شكل ٣-٣: يلتقي ذكر عث الماء بأنثى باحثة عن الطعام في وضعية الشبكة (يسارًا). يهز الذكر أطرافه الأمامية لجذب انتباهها قبل أن يطلق الحاملات المنوية على المادة الغذائية الموجودة أمامها. يستمر الذكر في الاهتزاز، محاكيًا الاهتزازات الصادرة عن الفريسة التي تستجيب لها الأنثى، ويحدث تخصيبها في أثناء ذلك (يمينًا).
تتمتع الحيوانات بحواس شمٍّ وسمع وبصر متناغمة معًا على نحوٍ دقيق، وذلك بفضل الانتخاب الطبيعي المكثف الذي يؤثر على هذه الأنماط الحسية في سياقات تفادي الحيوانات المفترسة والبحث عن الطعام. فعلى سبيل المثال، يُعتقَد أن نشأة الرؤية المجسمة الثلاثية الألوان في الرئيسيات تعود جزئيًّا لكونها تُتيح للرئيسيات التي تعيش في الغابات الخضراء العثور على الثمار الناضجة أو النباتات الطازجة التي توفر لها أعلى قيمة غذائية. واتضح أن هذه القدرات الحسية قد تكون ذات أهمية أيضًا في سياق مختلف تمامًا، وهو سياق البحث عن شركاء التزاوج أو انتقائهم. فمثلًا، إذا كانت السمة التي تساعد الأنثى على العثور على طعام، مثلًا، تجعلها تنتبِهُ أكثر إلى لونٍ أو صوتٍ معين، فإذَن الذكر الذي يظهر هذا اللون أو الصوت سيمتلك أفضليةً على الذكَر الذي لا يظهرها. وهذه الحساسية تجاه إشارات معينة — الانحياز الحسي — تعني أن الانتخاب الجنسي قد يُحابي الذكر الذي يستغل مثل هذه التحيزات. يعتبر عث الماء من المفترسات المتربصة. فيتخذ ذكر عث الماء ما يُشار إليه بوضعية الشبكة حيث يمسك النباتات المائية بأطرافه الخلفية ويرفع أطرافه الأمامية داخل العمود المائي حيث يمكنه تعقُّب الذبذبات التي يحملها الماء والصادرة عن فريستها المِجذافيَّة الأرجُل. عندما تسبح فريسة ما أمامه، يتوجَّه ناحيتها ويقبض عليها بأطرافه الأمامية. وأثناء البحث عن شريكة للتزاوج، وعند ملاقاة أنثى، يهز الذكر أطرافه الأمامية أمامها (شكل ٣-٣). يتوافق تردُّد الاهتزاز مع وتيرة اهتزاز مِجذافيَّة الأرجُل ويجذب انتباه الأنثى لدرجة أنها تتوجَّه إلى مصدر الاهتزاز. وبعد أن يجذب انتباه الأنثى، يُطلق الذكر حزمًا من الحيوانات المنوية على المادة الغذائية قبل أن يواصل الاهتزاز. تُواصل الأنثى التوجه إلى مصدر الاهتزاز والتجول؛ ومن ثم تلتقط حزم الحيوانات المنوية التي أطلقها الذكر في هذه الأثناء. تكون الإناث الجائعة أكثر استجابة للاهتزاز، وتُخصب على نحو أكثر تواترًا من الإناث المُتخمة، وهو ما يُوضح لنا أن ثمة رابطًا بين بحث الأنثى عن الغذاء والنجاح التناسلي للذكر. الأهم من ذلك، عندما أمعن الباحثون النظر في الأصول التطورية لهذه السمات، وجدوا أن وضعية الشبكة قد تطورت قبل الاهتزاز، وهو ما يتسق مع فكرة أن استعراضات الذكر الجذابة جنسيًّا يمكن أن تستغل وجود انحياز حسِّي موجود مسبقًا لدى الإناث. وقد توصلت دراسات أُجريت على الأسماك والضفادع إلى استنتاجات مشابهة. ففي سمكة الذيل السيفي، سبقت تفضيلات الإناث للحمية السفلية المُطوَّلة من زعنفة ذيل الذكر في نشأتها نشأة الذيل السيفي لدى الذكور في التاريخ التطوري، في حين أن تفضيلات أنثى ضفدع التنجارا البرية للنداءات المعقدة سبقت تطور العناصر المعقدة لنداءات التزاوج لدى الذكر، مما يشير إلى أن السمات الجذابة جنسيًّا لدى الذكر يمكن أن تتطوَّر لتستغل العمليات الحسية المفيدة بالنسبة إلى الإناث في سياق مُنتقًى طبيعيًّا. غير أن السمات الذكورية أحيانًا ما قد تُسفِر عن استجابات من قِبل الإناث في أوقات أو أماكن يكون فيها التزاوج مؤذيًا بالنسبة لها. وسنعاود التطرق إلى هذه المشكلة مرة أخرى في الفصل السادس عند مناقشة الصراع الجنسي الذي يمكن أن ينشأ كنتيجة للانتخاب الجنسي.

الأبناء الذكور المثيرون جنسيًّا

يقدم الانحياز الحسي تفسيرًا آليًّا لكيفية نشأة تفضيلات الإناث لمظاهر الزينة الجنسية الثانوية لدى الذكور. وطُرِحت سلسلة من النماذج النظرية لتفسير كيفية الحفاظ على هذه التفضيلات من خلال المزايا التي توفرها للإناث ونسلها. ويُنسَب النموذج النظري الأول لتطور التفضيلات إلى الإحصائي السير رونالد إيه فيشر، الذي ألَّف عدة أعمال مهمة في علم الأحياء التطوري في أوائل القرن العشرين. تصور فيشر آنذاك عملية من خطوتَين. لنتخيل أسلاف سلالة طيور التدرج وفيها تُظهر الإناث تباينًا في قدراتها البصرية يسفر عنه الالتقاء والتزاوج بذكور معينة، لنفترض أنها الذكور الأطول ذيلًا، والأكثر استعدادًا للتزاوج عن غيرها، ربما بسبب الانحياز الحسي الذي ناقشناه آنفًا. لنفترض أيضًا ظهور طفرة في المجموعة تسفر عن تطور ذيل أطول قليلًا عن المتوسط في بعض الذكور وهو ما منحها ميزةً طفيفة على الذكور الأخرى، وربما زاد من قدرتها على المناورة أثناء الطيران مما يُعزز القدرة على الهروب من الحيوانات المفترسة أو يُقلل تكاليف استهلاك الطاقة أثناء الطيران. تنجب الإناث التي لديها تحيز مسبق للذكور ذات الذيل الأطول ذكورًا بذيول أطول أكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة، وإناثًا تفضل الذكور ذات الذيول الأطول. هكذا سيزداد تَكرار ظهور الجينات التي تحمل شفرة كل من الذيول الطويلة لدى الذكور وتفضيل الإناث لهذه الذيول، في المجموعة بسبب الميزة الانتقائية للذيول الطويلة أثناء الطيران. وبمجرد أن تترسخ، تظهر ميزة ثانية لدى الذكور ذات الذيول الطويلة؛ نظرًا لأن الذكور ذات الذيول الأطول ستتمتع على نحوٍ متزايد بميزة تزاوج قوية نظرًا لتزايد تواتر وجود الإناث التي تفضل هذه السمة في المجموعة. وذهب فيشر إلى أن الرابط بين توارث جينات التفضيل والذيل الطويل عبر الأجيال سرعان ما سينتج ما أَطلَق عليه «عملية التطور الجامح» التي من شأنها أن تشهد تزايدًا دائمًا لقوة تفضيلات الأنثى والسمة المبالَغ فيها لدى الذكر كتلك الموجودة في الطاووس الهندي. في الواقع يمكن أن تستمر هذه السمة وتفضيلها في التطور معًا إلى الحد الذي تصير معه هذه السمة مؤذية، مما يعيق الطيران أو يعرض الذكور إلى الافتراس، بسبب الفوائد التي تحققها السمة للذكر في اجتذاب شريكة التزاوج. وأساس التطور هنا هو التكاثر، لا البقاء على قيد الحياة. ولن يكبح العملية شيء غير الانتخاب الطبيعي عندما تفوق تكلفة البقاء الميزة التكاثرية التي تمنحها إياها. وفي حين أن نموذج عملية التطور الجامح الذي وضعه فيشر كانت نموذجًا نظريًّا، طوَّر المُنظِّرون منذ ذلك الحين نماذج رياضية منهجية تؤكد أن هذه العملية يمكن أن تحدث، وثمة أدلة تجريبية مستمدة من عدد من أنواع الحيوانات تتوافق مع هذا النموذج.

أسماك الجوبي هي أسماك ولودة صغيرة الحجم يمكن العثور عليها في مجاري المياه العذبة بترينيداد. تظهر لدى الذكور رقع باللون البرتقالي الزاهي والأسود والأزرق البرَّاق في حين أن الإناث تفتقر إلى أي ألوان لافتة للنظر. ومن بين مجموعات أسماك الجوبي، تتفاوت الذكور على نحوٍ ملحوظ في الأجزاء المغطَّاة بالرقع البرتقالية اللون، وتتفاوت الإناث أيضًا في مدى تفضيلها للون البرتقالي، حتى إن المجموعات التي يتمتع فيها الذكور بلون برتقالي أقوى تحظى إناثها بتفضيلٍ أقوى للون البرتقالي. وقد كان هذا التفاوت التلازُمي بين سمات الذكور وتفضيل الإناث بين المجموعات متوقعًا من عملية فيشر، إذا كانت السمة والتفضيل يتطوَّران معًا في عملية تطورٍ جامح إلى أن يكبحها الانتخاب الطبيعي عن التمادي في الإفراط. واتضح أن مجموعات أسماك الجوبي ذات اللون البرتقالي الأقل والتفضيل الأضعف من جانب الإناث للون البرتقالي تضمُّ سمكة بلطي مفترسة كبيرة الحجم تتغذى على أسماك الجوبي البالغة. واللون البرتقالي في ذكور الأسماك البالغة جذاب أيضًا للأسماك المفترسة؛ ومن ثم فإن تطور كلٍّ من السمة والتفضيل يكبحُه الانتخاب الطبيعي الذي يحول دون بروز الذكور في المجموعات التي تتواجَد فيها أسماك مفترسة، ولكن يستمر التطور ويصير أكثر إفراطًا في المجموعات التي تغيب فيها الأسماك المفترسة للأسماك البالغة. وقد يسفر الانتخاب المصطنع للذكور ذات اللون البرتقالي في المجموعات الخاضعة للدراسة من أسماك الجوبي عن زيادة شدة تفضيل الإناث للون البرتقالي، مما يثبت الارتباط الجيني بين السمة والتفضيل الذي تستند إليه عملية فيشر.

الجينات الجيدة

تواجه الحيوانات العديد من التحديات في حياتها. فعليها أن تجد الطعام وتنتشر وتتفادى الضواري، وتتمتع بمخزون وفير من الطاقة اللازمة للبحث عن شركاء التزاوج المحتملين والتنافس عليهم والاستعراض أمامهم، وبعد ذلك ربما يتعين عليها رعاية النسل الناتج عن عملية التزاوج. وعادةً ما تكون مظاهر الزينة الخاصة بالانتخاب الجنسي عبارة عن تراكيب شديدة الإفراط تتطلب تخصيص كميات كبيرة من الغذاء لنموها والحفاظ عليها. ومن ثم، عادةً ما تكون مظاهر الزينة الجنسية مرهونة بالحالة الجسدية؛ بمعنى أنها تتطوَّر إلى حدٍّ مرهون بقدرة صاحبها على تخصيص الموارد لنموها، بدلًا من تخصيصها للمتطلبات التنافسية الأخرى للحياة. ففي عام ١٩٧٥، اقترح اختصاصي علم الأحياء التطوري الإسرائيلي أموتز زهافي أن مظاهر الزينة الخاصة بالانتخاب الجنسي يمكن اعتبارها معوقات؛ إذ تسحب الموارد بعيدًا عن السمات اللازمة للصحة العامة للحيوان ورفاهيته. وذهب زهافي إلى أن المعوقات كانت كاشفة لجودة الجينات الكامنة لدى الذكر؛ لأن الذكور ذات الجينات الجيدة ينبغي أن تكون في موضعٍ يسمح لها بتخصيص المزيد من الموارد نسبيًّا لمظاهر الزينة مقارنة بالذكور ذات الجينات الضعيفة، مما يتيح للإناث اختيار ذكور تورث جينات الصحة والرفاهية العامة إلى ذريتها. عند الحديث عن الجينات الجيدة أو الضعيفة، نقصد بذلك التفاوت الوراثي الكمي، مثل التفاوت في القدرة على العثور على الموارد في البيئة المحيطة، أو تحويل الغذاء إلى طاقة، أو رفع الاستجابة المناعية للأمراض المعدية؛ أي كل تلك السمات التي تُسهم بشكلٍ أساسي في قدرة الفرد على البقاء والنمو والتكاثر، باختصار، كفاءته وصلاحيته للبقاء على قيد الحياة. ورغم أنها فكرة جذابة ومثيرة للإعجاب، تعتمد فكرة الانتخاب الجنسي للجينات الجيدة على استمرارية وجود تنوع وراثي للسمات المتعلقة بالصلاحية أو الكفاءة. غير أن رونالد فيشر أشار إلى أن الانتخاب المتكرر لسمة ما من شأنه أن يقضي على التنوع الذي يمكن توريثه. فنظرًا لأن الصلاحية ستكون معرضة بشدة للانتخاب الموجَّه، فلن يتبقى حتمًا أي تنوع وراثي أمام الإناث للاستفادة من انتقائها للذكور.

عادةً ما يُشار إلى المعضلة المحيطة بالحفاظ على التنوع الوراثي المتعلق بالكفاءة بإشكالية ساحة استعراضات جذب الإناث. وكما رأينا في الفصل الثاني، هذه الساحات عبارة عن ساحات عامة للاستعراض تشدُّ الإناث الرِّحال إليها للاختيار بين الذكور المستعرضة، ولكن دون الحصول على أي شيءٍ من الذكور خلاف الحيوانات المنوية لتخصيب بيضها. وهي سمات مشتركة للكثير من أنظمة التزاوج لدى الحيوانات. فعلى سبيل المثال، في الكثير من أنواع الطيور، مثل الطيهوج والطاووس الهندي ودِيك الصخور، تجتمع الذكور معًا لاستعراض مظاهر الزينة الجنسية الخاصة بها. وعادة ما تصل قوة تأثير الانتخاب الجنسي في ساحات استعراضات جذب الإناث إلى درجة مفرطة؛ إذ يمكن أن يحصل ذكر واحد عادة على جميع فرص التزاوج تقريبًا. وإن لم يكن هناك أي تنوع في الكفاءة بين الذكور المستعرضة، فلماذا إذَن ينبغي أن تحظى الإناث بهذه التفضيلات الثابتة والقوية تجاه ذكر واحد أو بضعة ذكور؟

في عام ١٩٨٢، اقترح ويليام هاملتون ومارلين زوك أن الطفيليات ربما تقدم حلًّا لإشكالية ساحة استعراضات جذب الإناث. تدخل العوائل وطفيلياتها في دورات متواصلة من التكيف والتكيف المضاد. فالطفيليات عُرضة للانتخاب الطبيعي لتفادي الاستجابات المناعية للعائل وتشجيع نموها وتكاثرها. وفي الوقت نفسه، يكون الجهاز المناعي لدى العائل عُرضة للانتخاب الطبيعي لاكتشاف الطفيليات التي من شأنها أن تشكل خطرًا على البقاء والتكاثر والقضاء على هذه الطفيليات. ومن ثم، من المتوقع أن تحفز التفاعلات بين العائل والطفيلي دورات تكيف بين مقاومة العائل وفَوْعَة الطفيلي أو (قدرته على الإمراض)؛ ومن ثم ينبغي أن يكون هناك تنوع وراثي في أي لحظة زمنية في مقاومة العائل للمرض. تتكهَّن النظرية بأن الطفيليات ينبغي أن تحظى بتأثيرات ملحوظة على ظهور السمات الجنسية الثانوية لدى الذكر، وينبغي أن تنتقيَ الإناثُ الذكورَ المقاوِمة للطفيليات، والأهم من ذلك، ينبغي أن يكون هناك تنوع قابل للتوريث فيما يخص المقاومة بحيث تُنجب الذكور غير المصابة ذرية مقاومة للعدوى.

تصاب أسماك أبو شوكة التي ناقشناها آنفًا بمجموعةٍ متنوعة من الطفيليات التي تؤثر على شدة اللون الأحمر الذي يجتذب الإناث أثناء التزاوج؛ والذكور غير المصابة قادرة على اكتساب لون أكثر حمرة تفضله الإناث من أجل التزاوج. علاوة على ذلك، تُنجب الذكور ذات اللون الأشد حمرة ذرية ذات مقاومة أعلى للعدوى التي تسببها على الأقل واحدة من طفيليات الديدان الشريطية، مما يشير إلى أن لون الذكر أثناء موسم التزاوج يوفر معلومات موثوقة بخصوص المقاومة ضد المرض القابلة للتوريث. ومن خلال تعريض مجموعة من أسماك أبو شوكة إلى الطفيليات خلال التجارب، وجد الباحثون تغيرات سريعة في تواتر الجينات التي تنظم استجابة الجهاز المناعي لمسببات الأمراض. بالإضافة إلى ذلك، ظهرت مقاومة العدوى الطفيلية بعد جيلَين فقط من التعرض إلى مجموعة جديدة من الطفيليات. وتوضح هذه النتيجة الأخيرة احتمالية وجود دورات من التطور التكيفي المشترك التي يُعتقَد أنها تميز الصلات بين العائل والطفيلي. إذَن، في حالة أسماك أبو شوكة، تستطيع الإناث اكتساب فوائد مباشرة وغير مباشرة من اختيارها ذكورًا أشد حمرة، فيما يخصُّ الرعاية الأبوية المباشرة والجينات التي تحمي النسل من العدوى الطفيلية.

الآن، صار من المُسلَّم به على نطاق واسع إمكانية اعتبار الطفيليات عوامل مهمة في الانتخاب الجنسي، رغم أن الأدلة التجريبية كتلك التي تمَّ التوصل إليها في سمكة أبو شوكة تظل منقوصةً إلى حدٍّ كبير بالنسبة إلى أنواع الحيوانات الأخرى. لقد وثَّقت دراسات كثيرة أنماط التغاير داخل الأنواع وفيما بينها، فيما يخص الحمولات الطفيلية ومظاهر الزينة البارزة، مع تفاوت الأدلة الداعمة لانتقاء الأنثى بناء على الطفيليات. ولا يُعرف الكثير عن الأساس الجيني للتفاعلات بين الطفيليات وعوائلها التي من شأنها أن تقدم حلًّا لإشكالية ساحة استعراضات جذب الإناث.

تركز فرضية هاملتون-زوك على عنصر محدد للتنوع الوراثي؛ ألا وهو عنصر مقاومة الطفيليات. وقد طُرِح حل أشمل لإشكالية ساحة الاستعراضات يكمن في التوازن بين الطفرة والانتخاب. يعتمد النموذج المُسمى بنموذج الاستحواذ الجيني للحفاظ على التنوع القابل للتوريث على حقيقة أن الطفرات التلقائية تحث التنوع باستمرار في حالة الذكر، التي تُعرَّف بأنها قدرة الكائن الحي على اكتساب الموارد وتخصيصها لخدمة السمات السلوكية والفسيولوجية والمورفولوجية أو الشكلية التي تُسهم في كفاءة الحيوان. وهكذا، فإن الجينات المُشفرة لمقاومة الطفيليات هي مجرد جزءٍ صغير من الجينات التي تؤثر مجتمعةً في الحالة الجسدية للذكر. على سبيل المثال، تسهم الجينات التي تتحكم في العمليات الفسيولوجية الأخرى، في الحالة العامة أيضًا مثل كفاءة المسارات الأيضية التي تدخل في عملية هضم الطعام أو فصل نواتج المواد المهضومة وتحويلها إلى مخزون من الدهون. ونظرًا لأن الحالة تعتمد على جزءٍ كبير جدًّا من الجينوم، فإنها تمثل هدفًا كبيرًا «لاستحواذ» كميات صغيرة جدًّا من التنوع الناتج عن طفرات عشوائية عبر العديد من الجينات (شكل ٣-٤). وقد رأينا آنفًا كيف يعتمد تطور سمات جنسية ثانوية عادةً على الحالة الجسدية. ومن خلال اختيار الذكور ذات الزينة المفرطة والمرهونة بالحالة الجسدية، قد تكون الإناث قادرة على اختيار الجينومات الخالية من الطفرات التي من شأنها أن تعرض قدرة نسلها على البقاء والتكاثر للخطر.
fig11
شكل ٣-٤: ما حل إشكالية ساحة استعراضات جذب الإناث؟ تسهم جميع الطفرات العشوائية في العديد من المواقع الكروموسومية عبر الجينوم (مثل الموقع F وH وM) في تناقصات طفيفة على المستوى الفسيولوجي أو السلوكي تقلل من كم الموارد المتاحة للذكر (الحالة) لتخصيصها للنمو والبقاء وتطور السمات الجنسية الثانوية. ومن خلال اختيار الذكور ذات السمات الكبيرة، تستطيع الإناث تجنب الذكور الحاملة للطفرات. غير أن الطفرات العشوائية تعاود الظهور كل جيل، لكي يحافظ التوازن بين الطفرة والانتخاب على تنوع الكفاءة.

أحدثت الدراسات التجريبية طفرات في الحمض النووي لمعرفة ما إذا كانت الطفرات التلقائية يمكن أن تؤثر على ظهور سمات جنسية لدى الذكر وما إذا كان يمكن التخلص لاحقًا من مثل هذه الطفرات من خلال الانتخاب الجنسي. على سبيل المثال، في أسماك الجوبي، أدى التطفير الكيميائي للذكور إلى تأخر النمو وتراجع نشاط التودد والمغازلة لدى النسل من الذكور، ولكن لم يكن له تأثير على حجم أو سطوع الرقع البرتقالية. وفي الخنافس الروثية وعث البصل، أضعفت الطفرات التي استُحثت من خلال الإشعاع المؤيَّن، القوة الجسدية والقدرة على البقاء لدى النسل على الترتيب. وبالنسبة إلى الخنافس والعث، أُعيدت مجموعات تجريبية تعرضت إلى الانتخاب الجنسي على مدار عدة أجيال إلى مستويات أداء ما قبل التأين في حين أن المجموعات التي لم تخضع للانتخاب الجنسي لم يحدث فيها ذلك. ومن ثم، يبدو أن الانتخاب الجنسي قد يكون مسئولًا عن زوال الطفرات الضارة، رغم تباين النتائج المستخلصة من دراسات مشابهة على ذباب الفاكهة «الدروسوفيلا».

توافق الجينات

يرث النسل من الأبوين مجموعتَين من الجينات: مجموعة من الأم وأخرى من الأب. وهكذا، تُوجَد عند كل منطقة مشفرة من الكروموسوم، أو موقع كروموسومي، نسختان من الجين الواحد (يُشار إلى كل نسخةٍ باسم الأليل) تحددان معًا أي سمةٍ معينة في الفرد، أو ما يُطلق عليه النمط الظاهري. ومن ثم، يتحدَّد النمط الظاهري من التفاعلات بين الجينات التي يُسهم بها كِلا الأبوين. ربما تكون بعض المجموعات الجينية جيدة؛ إذ تُعزز كفاءة النسل، في حين أن البعض الآخر قد يكون كارثيًّا. على سبيل المثال، عندما يمنح كِلا الأبوين جينًا يحتوي على طفرة ضارة، يظهر لدى النسل الناتج النمط الظاهري الضار، مما يُسفر عن ضعف النمو أو العقم أو حتى الوفاة. وقد أشار روبرت تريفيرس إلى أنه من المتوقع أن تنتقيَ الإناث من بين شركاء التزاوج المحتملين بناءً على توافقهم الجيني، من خلال انتقاء ذكورٍ ذات نمط جيني يتكامل مع نمطها على أفضل وجهٍ لتعزيز كفاءة النسل. فعندما تنتقي الإناث شركاء التزاوج بناءً على التوافق الجيني، لا تكون إشكالية ساحة استعراضات جذب الإناث معضلةً في حد ذاتها؛ نظرًا لعدم وجود انتخاب موجَّه نحو الكفاءة أو الصلاحية. لا يُوجَد نمط جيني واحد جيد تسعى وراءه الإناث؛ بل هناك ذكور تُفضلها أنثى ما بينما تنفر منها أنثى أخرى والعكس صحيح.

ثمة أدلة دامغة على أن الإناث في بعض الأنواع على الأقل تنتقي الذكور بناءً على التوافق الجيني. على سبيل المثال، وُجد أن إناث الفقاريات بداية من الأسماك والزواحف وصولًا إلى البشر تفضل الذكور التي تحمل جزيئات مركب التوافق النسيجي الكبير (منطقة كروموسومية تحتوي على جينات عديدة مهمة في مقاومة الأمراض) مختلفة عن مركباتها. يوفر مثل هذا التفضيل للنسل تنوعًا أكبر في جزيئات التعرف المناعي المحتمل لتنظيم الاستجابات المناعية لمجموعة أوسع من الطفيليات ومسببات الأمراض. وفي بعض الحيوانات على الأقل، تستطيع الإناث الاستعانة بالروائح للتعرف على الأنماط الجينية لمركب التوافق النسيجي الكبير؛ لأن بالإضافة إلى دورها في الجهاز المناعي، ترتبط هذه الجينات أيضًا بإنتاج الروائح المنبعثة من البول أو العرق أو غيرها من إفرازات الجسم.

ليس بالضرورة أن تتعارض ظاهرة انتقاء الأنثى للتوافق الجيني مع ظاهرة انتقائها لأكثر الذكور زينة. فقد كشفت التجارب على الفئران المنزلية إلى أي مدًى قد تختلف الإناث في تقدير الفوائد المحتملة من هذه الجينات الجيدة والمتوافقة. ومن ثم، تنتقي الإناث ذكورًا تترك أثرًا من رائحة مميزة عادةً، وهي سمة تُشير إلى الهيمنة الاجتماعية للذكر وجودته الجينية المطلقة. كما أنها تنتقي ذكورًا ذات أنماطٍ جينية مختلفة لمركب التوافق النسيجي الكبير بناءً على الإشارات العطرية التي تحويها الرائحة المميزة التي تتركها. غير أن اختلاف مركب التوافق النسيجي يبدو أنه يؤثر على اختيار الأنثى فقط عندما يكون التباين بين الذكور في الروائح المميزة التي تتركها محدودًا. حينئذٍ تفضل أنثى الفأر الذكور الأقوى والأكثر قدرة على المنافسة كشركاء للتزاوج، ولكن حين يكون ميدان المنافسين محدودًا، تنتقي الإناث الذكر صاحب الجينات الأكثر توافقًا.

ماذا عن الجنس البشري؟

أفرد داروين فصلَين في كتابه المنشور عام ١٨٧١ للحديث عن دور الانتخاب الجنسي في تطور البشر. لم يكن لدَيه «أدنى شك في أن تفوق الرجل في الحجم والقوة، مقارنة بالمرأة، إلى جانب مَنكِبَيه العريضَين، [و]عضلاته الأكثر تطورًا.» كان بسبب أن «الرجال الأقوى والأجرأ كانوا الأنجح … في الظفر بزوجات، ومن ثم تركوا عددًا أكبر من النسل.» كان داروين واضحًا أيضًا في حُججه من أن انتقاء الإناث والذكور على حدٍّ سواء لشركاء التزاوج كان بمثابة عمليات انتخابٍ مهمة لتطور ثنائية الشكل الجنسي لدى البشر. والآن، صارت هناك أدلة تدعم هذه الآراء.

يصنف الناس باستمرار بعض الوجوه على أنها أكثر جاذبية من وجوه أخرى، وقد وُثقَت مجموعة متنوعة من السمات تساهم في جاذبية الوجه. فعلى سبيل المثال، يجد كلٌّ من الرجال والنساء الوجوه ذات الملامح المتناسقة تمامًا أكثر جاذبية من الوجوه غير المتناسقة. كما نجد أن الوجوه التي تتطابق مع متوسط الشكل السائد في مجموعةٍ ما أكثر جاذبية من الوجوه الخارجة عن الشكل المألوف. وتُظهر وجوهنا ثنائية الشكل الجنسي بكل وضوح. فيتمتع الرجال بحواجب بارزة وفك مُربع وذقن، وجميع السمات التي تتطور مع البلوغ الجنسي. وتجد النساءُ الرجالَ ذوي الوجوه الذكورية أكثر جاذبيةً من الرجال ذوي الوجوه الأنثوية، في حين أن العكس صحيح بالنسبة إلى الرجال. وتتضح تفضيلاتنا لملامح الوجه عبر الثقافات وتظهر في وقتٍ مبكر جدًّا من تطور الطفل الرضيع؛ ولذا لا يُرجَّح أن تكون مدفوعة بالثقافة. وتمتد تفضيلاتنا لثنائية الشكل الجنسي لتصل إلى شكل الجسم. فتجد النساء الرجال ذوي الأكتاف الأعرض والأرداف الأكثر نحافة أكثر جاذبية من غيرهم، في حين أن الرجال يرون النساء اللاتي يحظين بمحيط أقل للخصر نسبةً إلى الورك أكثر جاذبية من غيرهن. ولهذه التفضيلات تأثير على حياتنا اليومية. فالأشخاص الجذابون ينظر إليهم باعتبارهم أكثر جدارة بالثقة، ومن المحتمل أكثر أن يتلقَّوا المساعدة عند الوقوع تحت ضغط أو كرب. وقد كان الأساس البيولوجي لتفضيلات الإنسان موضوع عددٍ كبير من الأبحاث.

يبدو أن الانتخاب الجنسي من خلال انتقاء شريك التزاوج كان عاملًا مهمًّا في تطور ثنائية الشكل الجنسي في البشر، ورُصد أثره في الكثير من الجماعات. وعادةً ما يسجل الرجال ذوو الملامح الذكورية الأكثر جاذبية عددًا أكبر من شريكات العملية الجنسية. ورغم محدودية البيانات، تشير بعض الدراسات إلى أن الرجال الجذابين ينجبون أيضًا عددًا أكبر من الأطفال، حسبما اعتقد داروين. ومن ثم، في دراسة أُجريت على ١٢٤٤ امرأة و٩٩٧ رجلًا وُلدوا في ولاية ويسكونسن الأمريكية بين عامَي ١٩٣٧ و١٩٤٠، أنجب الرجال في الربع الأدنى من تصنيف الجاذبية عددًا أقل من الذرية بنسبة ١٣ بالمائة من أقرانهم الأكثر جاذبية. وأنجبت النساء الجذابات أطفالًا أكثر بنسبة ١٦ بالمائة من قريناتهن الأقل جاذبية. ويرجع جزء من هذه التفاوتات في النجاح التناسلي إلى وجود احتمالية أكبر للاقتران بأفراد جذابين. وسجلت دراسة مشابهة من النمسا وجود ارتباطات إيجابية بين جاذبية وجوه النساء وعدد الأطفال الذين تنجبهم. فقد وُجِد بين أفراد جماعة هادزا العرقية في تنزانيا أن الرجال الذين يتمتعون بأصوات ذات نبرة أقل حدة، وهو ما تراه النساء عنصر جاذبية، ينجبون عددًا أكبر من الذرية. تبين لنا هذه الدراسات أن تفضيلات الذكور والإناث يمكن أن تفرض الانتخاب على السمات المرتبطة بثنائية الشكل الجنسي عبر المجموعات البشرية. وفي الوقت الحالي، يُوجَد عدد قليل جدًّا من الدراسات لا يكفي لتحديد ما إذا كان تطوُّر تفضيلات شريك التزاوج لدى البشر يرجع إلى نموذج الانتخاب الجامح الذي اقترحه فيشر أم لأن التفضيلات تستهدف الجينات الجيدة. غير أنه من الواضح أن انتقاء شريك الحياة لدى البشر هو عملية متبادلة بين الذكر والأنثى.

ومع أن الإناث هن الجنس الشديد الانتقائية عادةً، فإن الانتقاء المتبادل لشريك التزاوج أمرٌ مألوف تمامًا. ففي طائر الغطاس المتوج الذي خضَع لدراسة جوليان هكسلي، يتمتع كلٌّ من الذكور والإناث بالزينة المفرطة نفسها على الرأس ويقلد الذكور والإناث سلوك بعض بدقة أثناء رقصة المغازلة المعقدة (شكل ١-٢). والأمر نفسه ينسحب على عددٍ من أنواع الطيور، من بينها الكثير من الطيور البحرية مثل القطرس والبطريق والأويكات. كذلك وُجدت حالات من الانتقاء المتبادل لشريك التزاوج في أنواع من السمك والضفادع بل وحتى الحشرات. ومن المتوقع أن يظهر الانتقاء المتبادل لشريك التزاوج حيثما يستطيع كلا الأبوين الاستفادة من تفضيلاتهما. وقد يُفهم هذا الأمر على النحو الأفضل في الأنواع التي يشارك فيها كِلا الجنسين في الرعاية الأبوية، وكِلا الجنسين مُقيد نجاحه التناسلي ليس بعدد شركاء التزاوج الذين يمكن الظفر بهم، وإنما بعدد النسل الذي يمكنهما تنشئته معًا وجودته. وهذا الانتقاء المتبادل لشريك التزاوج قد يُسفر عن تزاوج متلائق قائم على مظاهر الزينة، وفيه تُحقق أكثر الأزواج تزينًا ناجحًا تناسليًّا أكبر، ليحابيَ بذلك تطور مظاهر الزينة المتبادلة. ولكن ليس بالضرورة أن يؤديَ الانتقاء المتبادل لشريك التزاوج إلى تشابُه الجنسين في الشكل؛ ولعلَّ في البشر مثالًا حيًّا على ذلك. وفي الفصل الرابع، سنستكشف بإسهاب الأسباب وراء الانحراف عن الأدوار الجنسية «النمطية» في انتقاء الشريك والتنافس على التزاوج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤