الفصل الثاني

الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية

يقدم هذا الفصل صورةً عامة لموقع اللغة في المجتمع، وهي التي تزداد تفصيلًا وتخصيصًا في الفصول اللاحقة. وهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفصلين الثالث والرابع اللذين يقدِّمان تفاصيلَ هذه الصورة من حيث العلاقة بين اللغة والسلطة، والعلاقة بين اللغة والأيديولوجيا، على الترتيب. وتقدِّم هذه الفصول الثلاثة مجتمعة العناصر الرئيسية للموقف الذي أتَّخذُه في هذا الكتاب بشأن موقع اللغة في المجتمع: ألَا وهو أن اللغة ترتبط ارتباطًا أساسيًّا بالسلطة وضروب الصراع على السلطة، وأن ارتباطها هذا يرجع إلى خصائصها الأيديولوجية.

  • اللغة والخطاب: مفهوم اللغة الذي نحتاج إليه في الدراسة النقدية للغة هو الخطاب، أي اللغة باعتبارها ممارسةً اجتماعية تتحكم فيها الأبنية الاجتماعية.
  • الخطاب ونظم الخطاب: الخطاب الفعلي تتحكم فيه نظم الخطاب التي يشكلها المجتمع، وهي مجموعات من الأعراف المرتبطة بالمؤسسات الاجتماعية.
  • الطبقة والسلطة في المجتمع الرأسمالي: تتشكل نظم الخطاب أيديولوجيًّا من خلال علاقات السلطة في المؤسسات الاجتماعية والمجتمع بصفة عامة.
  • جدلية الهياكل والممارسات: للخطاب آثارٌ في الهياكل الاجتماعية، وهو يتأثر بها أيضًا، ومن ثَم فهو يُسهم في الاستمرار الاجتماعي والتحولات الاجتماعية.

(١) مثال

كما قلت آنفًا، سوف يناقش هذا الفصل اللغةَ والمجتمع بصورة عامة نسبيًّا، وهي التي سوف تتجه إلى التخصيص في الفصول اللاحقة. وهو لا يُتيح ضربَ الأمثلة النصية الإيضاحية بالسهولة التي يُتيحها الفصلان الثالث والرابع، ومن ثَم فربما يكون من المفيد تقديم مثال عملي يمكن استخدامه لإيضاح بعض الأفكار الرئيسية، ونستطيع الإحالة إليه أيضًا فيما بعد في هذا الفصل.

والنص جزء من مقابلة شخصية في مخفر شرطة بين شاهدة على حادثة سطو مسلح «ش» ورجل شرطة «ط»، ويجري فيه الحصول على معلومات أساسية. والشاهدة «ش» التي يبدو عليها الاضطراب بسبب هذه التجربة، تتعرض لأسئلة متوالية عما حدث، ورجل الشرطة يسجل المعلومات التي يحصل عليها كتابةً:

(١) ط : هل رأيت الذي كان في السيارة؟
(٢) ش : رأيت وجهه، نعم.
(٣) ط : وما كان عمره؟
(٤) ش : نحو ٤٥. كان يرتدي …
(٥) ط : وما كان طوله؟
(٦) ش : ست أقدام وبوصة.
(٧) ط : ست أقدام وبوصة. وشعره؟
(٨) ش : أسود ومجعد. هل تطول هذه المقابلة؟ لا بد أن أُحضر الأطفال من المدرسة.
(٩) ط : لن تطول كثيرًا، لا. وما شأن ملابسه؟
(١٠) ش : كان يبدو أشعثَ بعض الشيء، ويرتدي سروالًا أزرق، وكذلك …
(١١) ط : جینز؟
(١٢) ش : نعم.

كيف تصف العلاقة بين رجل الشرطة الذي يُلقي الأسئلة والشاهدة في هذه الحالة، وكيف يعبر عنها الكلام المنطوق؟

العلاقة غير متكافئة؛ فرجل الشرطة الذي يُجري المقابلة يتحكم في مسارها وفي إسهام الشاهدة فيها، ولا يكلف نفسَه مشقة تخفيف ما يطلبه منها. وهكذا فإن الأسئلة التي قد تتسبب في إيلام امرأة شاهدَت لتوِّها وقوعَ جريمة تتسم بالعنف، لا تُقدَّمُ قط في صورة مخففة. فسؤال رجل الشرطة في السطر (١) مثلًا كان يمكن أن يتخذ صورةً مخففة؛ كأن يكون على النحو التالي: تُرى أُتيحت لك الفرصة لإلقاء نظرة على مَن كان في السيارة؟ بدلًا من الشكل المباشر الذي اتخذه السؤال فعلًا. وفي بعض الأحيان يختزل السؤال في كلمة واحدة أو في عبارة موجزة: ما كان طوله؟ (٥) وشعره؟ (٧) ومثل هذه الأسئلة المختزلة معتادة عندما يقوم شخص بتعبئة استمارة لشخص آخر، مثلما يفعل «ط» هنا، والطريف أن الطبيعة الحساسة للموقف لا تنجح في التغلب على أسلوب ملْء الاستمارات. ومن الملاحظ أيضًا أن رجل الشرطة لا يُبدي التقدير، ناهيك بالشكر على المعلومات المقدمة من الشاهدة. ومن المعالم الأخرى للمقابلة أن رجل الشرطة يتحقق مما تقوله «ش» في (٧). وأخيرًا لاحظ كيف يُمارس التحكم في مساهمات الشاهدة؛ فرجل الشرطة يقاطعها في (٥) وفي (١١)، وأما في (٩) فإنه يقدم الحد الأدنى من المعلومات لسؤال الشاهدة عن مدى طول المقابلة؛ إذ لا يقر بمشكلتها ويطرح على الفور سؤالًا آخر يُنهي به استجواب الشاهدة.

فهل نكون على حق إذا قلنا إن هذه الخصائص تعسفية؟ إنها تعتبر كذلك من زاوية معينة؛ لأنها يمكن أن تكون مختلفة. ولكنها من زاوية أخرى أبعد ما تكون عن هذه الصفة؛ إذ إنها خاصة بالأحوال الاجتماعية، وبصفة أخص بطبيعة العلاقة بين الشرطة وأفراد «الجمهور» في مجتمعنا، بل وهي تمثِّل حقًّا جزءًا من تلك العلاقة. فلو أن تلك العلاقة تعرَّضت لتحولات كبيرة، أي إذا كان بعض أفراد المجتمعات المحلية يُنتخبون للعمل بالشرطة لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد مثلًا، فلنا أن نثق تمامًا في تغيير الخطاب ما بين الشرطة و«الجمهور» أيضًا. وهذا المثال يوضح جانبًا رئيسيًّا من جوانب الحجة التي يسوقها هذا الفصل، ألَا وهو أن الأحوال الاجتماعية تحدِّد خصائص الخطاب.

ومن الجوانب الأخرى أننا يجب أن نهتم بعمليات إنتاج النصوص وتفسيرها، وأن نعرف كيف تتشكل هذه العمليات المعرفية اجتماعيًّا وفي علاقتها بالأعراف الاجتماعية، لا بعلاقتها بالنصوص في ذاتها. وانظر مثلًا كيف تفسِّر الشاهدةُ عدمَ إظهار رجل الشرطة أدنى تقدير للمعلومات التي قدَّمتها. وإذا حدث شيء مماثل في مناقشة ودية فسوف يُدرك المشاركون غيابَ التقدير ويرونه مشكلة، وربما اعتبروه دليلًا على التكذيب أو الحرج، وللمرء أن يتوقع أن يتجلَّى طابعها «الإشكالي» في بعض المظاهر الصورية (مثل «الصمت الحرج» أو علامات التردد). وأظن أن التقدير غيرُ متوقع عمومًا في المقابلة الشرطية، ومن ثَم فإن غيابه لن يعتبر مشكلة لأي فرد يشعر بتناغمه مع أمثال هذه المقابلات. ولكن ذلك، فيما يبدو، لا ينطبق على حالة الشاهدة. والمثال يبيِّن أن تفسير الناس لمعالم النص يعتمد على الأعراف الاجتماعية — أو بدقة أكبر الأعراف الخاصة بالخطاب — التي يفترض التزامهم بها.

وأخيرًا سوف أُلقي الضوء في هذا الفصل لا على التحكم في استخدام اللغة وحسب، بل أيضًا على تحكُّم اللغة في المجتمع. وهكذا، مثلًا، يريد المرء أن يعرف مدى السلبية التي تتسم بها المواقع الخاصة بأفراد الجمهور في هذه المرتبة من مراتب خطاب العمل الشرطي. وفي المثال الذي سبق نرى أن الشاهدة تبدو حقًّا شاهدةً ذات انصياع كامل [لمرتبة الخطاب المذكورة]. وهكذا فإذا كان انصاع الفرد لموقعه في هذه المرتبة، فسوف تقوم اللغة بالحفاظ على العلاقات الاجتماعية التي تُحدده. وعلى العكس من ذلك، إذ قاوم الفرد أو طعن في الأعراف السائدة، أصبح من الممكن للغة أن تُسهم في تغيير العلاقات الاجتماعية.

حاول أن تتذكر حالات يمكن تفسير معالم الخطاب فيها تفسيرات مختلفة استنادًا إلى نوع الأعراف الاجتماعية التي يستخدمها الناس؛ مثل تفسير الشاهدة لعدم تقدير دورها في المثال السابق. هل يستطيع الناس مقاومة مجموعة معينة من الأعراف بالإصرار على تفسير معالم الخطاب وفقًا لمجموعة أخرى منها؟ حاول أن تُعيد كتابة النص المقتطف أعلاه بعد جعل الشاهدة في موقف مقاومة للأعراف التي يستخدمها رجل الشرطة، خصوصًا فيما يتعلق بغياب التقدير.

(٢) اللغة والخطاب

يتناول هذا القسم الحجة التي تقول إن الدراسة النقدية للغة ترى أن مفهوم اللغة الذي نحتاج إليه هو مفهوم الخطاب، أي اللغة باعتبارها شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية. ولقد استخدم مصطلح اللغة في عدد من المعاني المختلفة، ومن بينها المعنيان اللذان استقر علماء اللغة على التمييز بينهما، وهما اللغة (langue)، والكلام (parole) (على نحو ما ذُكر في الفصل الأول). وليس أيٌّ من هذين معادلًا للخطاب، وإن كانت مناقشتهما قد تُفيد في إيضاح بعض المفاهيم المختلفة للغة، وكيف يختلف الخطاب عن المفاهيم الأُخَر.

(٣) اللغة والكلام

اشتهر التمييز بين اللغة والكلام بسبب العمل الذي قام به عالم اللغة السويسري فردیناند دي سوسير، وسوف أقتصر على الإشارة إلى الصورة التي اتخذها تفسير سوسير بصفة عامة؛ إذ إن أفكاره أقل وضوحًا وأقل بساطة مما قد يُفهم من قولي هذا، وذلك إلى حدٍّ ما؛ لأن النُّسَخ المنشورة لكتاباته قد جمعها أفراد غيره ونشروها بعد وفاته.

كان سوسير يعتبر اللغة (langue) نظامًا أو شفرة تسبق الاستخدام الفعلي للغة، وهي موحدة بين جميع أفراد الجماعة اللغوية، وتمثل الجانب الاجتماعي للغة في مقابل الكلام (parole) الذي يعتبر فرديًّا. وكان سوسير يرى أن الكلام المنطوق أو المكتوب فعلًا، تتحكم فيه الخيارات الفردية فقط. ولا يتحكم فيه المجتمع على الإطلاق. وهكذا فإن علم اللغة، في نظر سوسير، يهتم في المقام الأول باللغة (langue) لا بالكلام (parole).
ويتميز استخدام اللغة (أي الكلام)، حسبما كان سوسير يدرك، بتنوع لغوي واسع النطاق، وكان وصف هذا التنوع الذي قدَّمه علم اللغة الاجتماعي الحديث هو الذي أسهم أكثر من غيره في تقويض المفهوم السوسيري للكلام ؛ إذ أظهر علم اللغة الاجتماعي أن هذا التنوع ليس نتيجةَ الخيارات الفردية كما كان سوسير يتصور، بل نتيجة لمظاهر الاختلاف الاجتماعي، بمعنى أن اللغة تتنوع طبقًا للهويات الاجتماعية للأشخاص أثناء تفاعلهم مع بعضهم البعض، ولأغراضهم التي يحددها المجتمع، وأُطُرهم الاجتماعية، وما إلى هذا بسبيل. وهكذا فإن الفكرة الفردية عن الكلام التي أتى بها سوسير غير مُرْضية، واختياري لمصطلح الخطاب ينمُّ قبل كل شيء على التزامي بالرأي القائل بأن استخدام اللغة يتحكم فيه المجتمع.
ولكن ما شأن اللغة (langue)؟ كان سوسير يفهم اللغة (langue) باعتبارها شيئًا موحدًا متجانسًا في شتى أرجاء المجتمع. ولكن هل توجد حقًّا لغةٌ موحدة متجانسة؟ لا شك أن كثيرًا من الناس يتكلمون ويتصرفون كأنما توجد هذه اللغة، ونحن نألف جميعًا الحديث عن «اللغة الإنجليزية»، أو «الإنجليزية» وحسب، إلى جانب وجود جيش من المتخصصين في «اللغة الإنجليزية»، الذين يحاضرون عن «اللغة الإنجليزية»، ويكتبون الكتب عن النحو ويضعون المعاجم «للغة الإنجليزية»، وهو ما يصدق على اللغات الأخرى، «الألمانية» و«الروسية» و«الفرنسية» وهلمَّ جرًّا.
والتعريف الفكه للغة يقول: إنها «لهجة ذات جيش وأسطول»، ولكن هذه الفكاهة تُخفي دلالةً باطنة جادة. إذ إن الجيوش والأساطيل الحديثة من معالم «الأمة الدولة»، وقِس على ذلك التوحيد اللغوي، أو «إضفاء الطابع المعياري» على اللغة في أراضٍ شاسعة محددة سياسيًّا، وهو الذي يجعل للحديث عن «الإنجليزية» أو «الألمانية» معنًى ما. فعندما يتكلم الناس عن اللغة الإنجليزية في بريطانيا مثلًا فإنهم يقصدون الإنجليزية البريطانية المعيارية، أي الضرب الموحد المعياري للإنجليزية البريطانية. وانتشار هذا الضرب في جميع المجالات العامة المهمة، ومنزلتها الرفيعة بين معظم أفراد الشعب، من ثمار التوحيد المعياري (انظر الفصل ٣) باعتبار ذلك جزءًا من توحيد بريطانيا الحديثة اقتصاديًّا وسياسيًّا وثقافيًّا. ومن هذا المنظور، تبدو «الإنجليزية» وغيرها من «اللغات» من ثمار الأحوال الاجتماعية الخاصة بحقبة تاريخية محددة.
ولكن فكرة اللغة (langue) عند سوسير لا تتسم بخصوصية تاريخية؛ إذ تُوحي كتابته بأنه يرى أنَّ لكل جماعة لغوية، مهما تكن ظروفها التاريخية، لغتَها (langue)، كما كان يرى أن امتلاك هذه اللغة (langue) شرطٌ لامتلاك اللغة بمفهومها العام. أضف إلى ذلك افتراض سوسير أن جميع أفراد الجماعة اللغوية متساوون في معرفة لغتها وإتقانها، والواقع يقول بعكس ذلك، أي بالتفاوت في معرفة اللغات المعيارية وإتقانها.
والظاهرة البارزة في الفكرة السوسيرية عن اللغة (langue)، وفي الاستخدامات المناظرة للغة (language) عند علماء اللغة الناطقين بالإنجليزية، هي تشابهها مع بعض الأقوال الخاصة بالتوحيد المعياري. أي إن الانتشار الحقيقي لنوع معياري للُغةٍ ما بين سكَّانِ بلد ما وفي مجالاتِ استخدام هذا النوع يعتبر جانبًا من جوانب التوحيد المعياري، وهو يختلف عن المزاعم الطنانة الخاصة بذلك النوع المعياري، أي الزعم بأنه لغة الشعب كله، وأن كل شخص يستخدمه، وأن كل شخص يُجِلُّه وهلمَّ جرًّا. ومفاد هذه المزاعم تحويل اللغات المعيارية إلى لغات قومية أسطورية. ومن المعروف أن أحد الشروط السياسية اللازمة لإنشاء دولة أمة وبقائها يتمثل في أن تحظَى المؤسسات التي تُوَحِّدُها بالشرعية في أعين جماهير الشعب، وكثيرًا ما يتطلب الظفر بالشرعية استعمال هذه المزاعم الطنانة. وأنا لا أقول إن سوسير واللغويِّين الآخرين كانوا يتعمدون إعادة إحياء أسطورة ذات دوافع سياسية في نظريتهم اللغوية، ولكن: هل كان من قبيل المصادفة أن ظهرت فكرة اللغة (langue) في الفترة التي بلغت أسطورة «اللغة القومية» فيها ذروتَها، أي مطلع القرن العشرين؟
فلأربط الآن بين هذا وبين القرار الذي اتخذته بالتركيز على الخطاب. لن أقبل التركيز السوسيري على اللغة في مقابل استعمال اللغة، ولن أقبل من ناحية أخرى الطابع الفردي لاستعمال اللغة الذي يُوحي به مصطلح الكلام (parole). بل أقول إن التركيز لا بد أن يكون على استعمال اللغة، بشرط أن نُدرك أنه خاضع للمجتمع، ومن ثَم يتفق مفهومه مع ما أسمِّيه الخطاب. ولكنَّ جانبًا من جوانب التمييز السوسيري بين اللغة والكلام (langue/parole) ذو طابع عام ويشير إلى التمييز بين الأعراف الاجتماعية الباطنة والاستخدام الفعلي للغة، وهذا تمييز أوافق عليه، ولو بصورة مختلفة (انظر القسم التالي). ومع ذلك فلا أفترض (مثلما تفترض اللغة (langue)) أن الأعراف موحدة متجانسة، بل أرى أنها، على العكس من ذلك، تتسم بالتنوع وبالصراع على السلطة. وأما تحقيق التجانس — وهو الذي يوجد إلى حدٍّ ما في حالة التوحيد المعياري — فإن الذين يُمسكون بزمام السلطة يفرضونه فرضًا. وانظر الفصل ٣ حيث العرض التفصيلي لهذا الرأي.

(٤) الخطاب باعتباره ممارسة اجتماعية

شرحت النظر إلى اللغة من وجهة نظر الخطاب بعبارة «اللغة باعتبارها شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية»، فما المعنى الدقيق الذي تحمله هذه العبارة؟ أولًا: إن اللغة جزء من المجتمع وليست خارجةً عنه بصورة ما. وثانيًا: إن اللغة عملية اجتماعية. وثالثًا: إن اللغة عملية يتحكم فيها المجتمع، أي إنها تخضع لتحكُّم جوانب أخرى (غير لغوية) في المجتمع. وسوف أناقش هذه جميعًا بالترتيب.

ليس من النادر أن تتضمن الكتب الدراسية عن اللغة أبوابًا عن العلاقة «بين» اللغة والمجتمع، كأنما كان هذان كيانَين مستقلَّين يتصادف أن يتصلَا في بعض الحالات. وأنا أرى أنه لا توجد علاقة خارجية «بين» اللغة والمجتمع بل علاقة داخلية وجدلية. فاللغة جزء من المجتمع، والظواهر اللغوية ظواهر اجتماعية فعلًا، وإن تكن من نوع خاص، والظواهر الاجتماعية ظواهر لغوية (إلى حدٍّ ما).

فأما الظواهر اللغوية فهي اجتماعية بمعنى أنه حيثما تكلم الناس أو أنصتوا أو كتبوا أو قرءوا، فإنما يفعلون ذلك بطرائق يحددها المجتمع ولها آثار اجتماعية. وحتى حين يَصِل وعيُ الناس بفرديتهم إلى ذروته ويتصورون أنهم بَرِئوا إلى أقصى حدٍّ من الآثار الاجتماعية — «في أحضان الأسرة» على سبيل المثال — فإنهم يستخدمون اللغة أيضًا بطرائق تخضع للأعراف الاجتماعية. كما أن الطرائق التي يستخدم الناس اللغة بها في أشد لقاءاتهم خصوصية وحميمية لا تقتصر على الخضوع للعلاقات الاجتماعية التي تحدد صبغتها الاجتماعية، بل إن لها أيضًا آثارًا اجتماعية بمعنى الحفاظ على هذه العلاقات (أو في الواقع تغييرها).

والظواهر الاجتماعية لغوية، من ناحية أخرى، بمعنى أن النشاط اللغوي الذي يجري في السباقات الاجتماعية (شأن جميع ألوان النشاط اللغوي) ليس مجردَ انعكاس أو تعبير عن العمليات والممارسات الاجتماعية، بل إنه يمثِّل جزءًا من هذه العمليات والممارسات. فالمنازعات حول معنى بعض العبارات السياسية مثلًا من الجوانب الثابتة المألوفة في السياسة. فالناس أحيانًا يتجادلون صراحةً حول معاني بعض الألفاظ؛ مثل: الديموقراطية، أو التأميم، أو الإمبريالية، أو الاشتراكية، أو التحرر، أو الإرهاب. وكثيرًا ما يستخدمون الألفاظ في معانٍ بارزة الاختلاف والتضاد إلى حدٍّ ما، وما أيسر العثور على نماذج ذلك في المناقشات بين زعماء الأحزاب السياسية، أو قُل بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية. وتعتبر هذه المنازعات أحيانًا مجردَ مقدمات أو فروع شجرَت من العمليات والممارسات الفعلية للسياسة. ولكنني أقول إنها ليست كذلك، بل إنها في ذاتها سياسة؛ إذ يتمثل جانب من السياسة في المنازعات والصراعات التي تحدث داخل اللغة وحول اللغة.

ولكن المسألة ليست مسألةَ علاقة متناظرة «بين» اللغة والمجتمع باعتبارهما وجهَين متكافئَين لكيان كلي واحد. فأما الكيان الكلي فهو المجتمع، واللغة عنصر من عناصره. وإذا كانت جميع الظواهر اللغوية اجتماعية، فليست جميع الظواهر الاجتماعية لغوية، وذلك على الرغم من وجود عنصر لغوي كبير عادةً، وإن كان كثيرًا ما لا يلقَى التقدير الصحيح، حتى في الظواهر الاجتماعية التي تقتصر على كونها لغويةً محضة (مثل الإنتاج الاقتصادي).

فلنتناول الآن النتيجة الثانية المترتبة على اعتبار اللغة ممارسة اجتماعية، والتي تقول: إن اللغة عملية اجتماعية، وليتمثل مدخلنا فيها يميز الخطاب عن النص؛ إذ سوف أتوسع في استخدام مصطلح النص، وسوف أستخدمه بالدلالة التي يستخدمه بها عالم اللغة مايكل هاليداي، أي بحيث يشمل النصوص المكتوبة و«النصوص المنطوقة»، وما النص المنطوق إلا ما يقال في قطعة من الخطاب المنطوق، ولكنني سوف أستخدم المصطلح بصفة عامة للإشارة إلى النسخة المكتوبة للكلام المنطوق.
والنص منتَجٌ لا عملية، فهو منتج لعملية إنتاج النص. ولكني سوف أستعمل مصطلح الخطاب في الإشارة إلى عملية التفاعل الاجتماعي برمتها، التي لا يمثل النصُّ إلا جزءًا منها. وهذه العملية تتضمن، إلى جانب النص، عملية الإنتاج، التي يعتبر النص من نواتجها، وعملية التفسير التي يعتبر النص من مواردها. ومن ثَم فإن تحليل النص لا يمثل إلا جزءًا من تحليل الخطاب، الذي يتضمن أيضًا عمليَّتَي الإنتاج والتفسير. ويمكن النظر إلى الخصائص الشكلية للنص من منظور تحليل الخطاب من ناحية، باعتبارها من آثار عملية الإنتاج، ومن ناحية أخرى باعتبارها مفاتيح في عملية التفسير. ومن الخصائص المهمة لعمليَّتَي الإنتاج والتفسير اشتمالها على التفاعل بين خصائص النص ونطاق واسع مما أشرت إليه في الفصل الأول بمصطلح «موارد الأعضاء»، وهي ما يحمله الناس في رءوسهم وينهلون منه عندما يُنتجون أو يفسرون النصوص، ومن بينها معرفتهم باللغة، والصور التي تمثِّل العالَمَين الطبيعي والاجتماعي اللذَين يعيشون فيهما والقيم والمعتقدات والافتراضات وما إليها بسبيل.

ولكن وصف عمليَّتَي الإنتاج والتفسير لا يكتمل إلا إذا تضمَّن خضوعهما للتحكم الاجتماعي، وهو ما يأتي بنا إلى النتيجة الثالثة المترتبة على النظر إلى اللغة باعتبارها ممارسة اجتماعية، أي إنها تخضع لتحكُّم جوانب اجتماعية أخرى غير لغوية. «فموارد الأعضاء» التي ينهل منها الأفراد حتى يتمكنوا من إنتاج النصوص وتفسيرها موارد معرفية بمعنى أنها توجد في رءوسهم، ولكنها اجتماعية بمعنى أن لها أصولًا اجتماعية، فهي وليدة المجتمع، وطبيعتها تعتمد على العلاقات والصراعات الاجتماعية التي وَلَّدَتها، كما أن طرائق انتقالها جماعية، وتتسم في مجتمعنا بالتفاوت في توزيعها. والناس يستوعبون ويتمثلون ما أنتجه المجتمع وأتاحه لهم، ويستخدمون هذه «الموارد» المستوعبة في ممارساتهم الاجتماعية، ومن بينها الخطاب. وهذا يُتيح للقوى التي تشكل المجتمعات موقعًا ذا أهمية حيوية داخل نفس الفرد، ولكن فاعلية هذا الموقع، كما سوف نرى، تعتمد على كونه غير ظاهر بصفة عامة. أضف إلى ذلك أن التحكم الاجتماعي لا يقتصر على طبيعة هذه الموارد المعرفية، ولكنه يسري أيضًا على أحوال استخدامها. فعلى سبيل المثال، نجد أن الاستراتيجيات المعرفية المتوقعة في إطار الأعراف تختلف عندما يقرأ المرء قصيدةً عنها عندما يقرأ إعلانًا في إحدى المجلات. ومن المهم أن نحسب حساب أمثال هذه الاختلافات عند تحليل الخطاب من منظور نقدي.

وإذن فإن الخطاب يتضمن الأحوال الاجتماعية، ويمكن تحديدها بالتمييز بين الأحوال الاجتماعية للإنتاج وبين الأحوال الاجتماعية للتفسير. ويضاف إلى ذلك أن هذه الأحوال الاجتماعية يمكن أن تُعزى إلى ثلاثة مستويات مختلفة من التنظيم الاجتماعي؛ أولها: مستوى الحالة الاجتماعية، أو البيئة الاجتماعية المباشرة التي يقع فيها الخطاب، وثانيها: هو مستوى المؤسسة الاجتماعية التي تشكِّل الإطار الأوسع للخطاب، وثالثها: مستوى المجتمع كله. والذي أقوله باختصار، هو أن هذه الأحوال الاجتماعية تشكل «الموارد» التي ينهل منها الناس في الإنتاج والتفسير، وإنها، بدورها، تشكِّل الطريقة التي يُنتجون بها النصوص ويفسرونها. (انظر: الشكل ٢-١).
وهكذا فعندما يرى المرء اللغة باعتبارها خطابًا وممارسة اجتماعية، فإنه يلتزم لا بتحليل النصوص وحسب، ولا بتحليل عمليَّتَي الإنتاج والتفسير وحسب، بل بتحليل العلاقة بين النصوص والعمليتَين وأحوالهما الاجتماعية، أي الأحوال المباشرة الخاصة بسياق الحال وكذلك الأحوال البعيدة الخاصة بالهياكل الاجتماعية والمؤسسية. أو إذا استخدمنا الكلمات المطبوعة بالبنط الثقيل في الشكل ٢-١، العلاقة بين النصوص والتفاعل والسياقات.
وبالتوازي مع هذه الأبعاد الثلاثة للخطاب، سوف أميز بين ثلاثة أبعاد أو ثلاث مراحل للتحليل النقدي للخطاب، وهي:
  • الوصف: وهو يمثل المرحلة الخاصة بالخصائص الشكلية للنص.
  • التفسير: وهو يختص بالعلاقة بين النص والتفاعل، أي بالنظر إلى النص باعتباره عملية إنتاج، وباعتباره موردًا في عملية التفسير؛ ولاحِظ أنني أستخدم مصطلح التفسير في الإشارة إلى العملية التفاعلية وباعتباره مرحلة من مراحل التحليل، لأسباب أُبيِّنها في الفصل السادس.
  • الشرح: وهو يختص بالعلاقة بين التفاعل والسياق الاجتماعي، أي بالتحكم الاجتماعي في عمليتَي الإنتاج والتفسير وآثارهما الاجتماعية.
fig1
شكل ٢-١: الخطاب باعتباره النص والتفاعل والسياق.

وسوف أناقش هذه المراحل الثلاث بالتفصيل في إطار الإجراءات الخاصة بالتحليل النقدي للخطاب في الفصلين الخامس والسادس.

ونستطيع أن نُشير إلى ما يجري في كل مرحلة من هذه المراحل بمصطلح «التحليل»، ولكننا يجب أن نذكر أن طبيعة التحليل تتغير عندما ننتقل من إحدى المراحل إلى سواها. وأقول بصفة خاصة إن التحليل في مرحلة الوصف يختلف عن التحليل في مرحلتَي التفسير والشرح. ففي حالة الوصف، عادةً ما يعتبر التحليل قضيةَ تحديد و«توصيف» الملامح الشكلية للنص من حيث فئات الإطار الوصفي، وهكذا فإن «موضوع» الوصف، أي النص، كثيرًا ما يُرى أنه قائم من دون إشكاليات. ولكن هذا القول خادع، كما يبين ذلك الخطاب المنطوق خير بيان؛ إذ على المرء أن يُنتج «نصًّا ما» بكتابة الكلام الملفوظ، ولكن طرائق هذه الكتابة متعددة مهما يكن طول الكلام المنطوق، ولا مندوحة عن تأثير تفسير النص في الأسلوب الذي يكتبه المرء به.

وأما عندما ننتقل إلى مرحلتي التفسير والشرح، فلا يمكن النظر إلى التحليل باعتباره تطبيقًا لإجراءات معينة على «شيء ما»، حتى ولو وضعنا المحاذير الخاصة باعتباره «شيئًا». فالذي يحلله المرء هنا أقل تحديدًا. ففي حالة التفسير نجد أنه يتمثل في العمليات المعرفية للمشاركين، وفي حالة الشرح يصبح العلاقات بين الأحداث الاجتماعية العابرة (أي التفاعلات)، والهياكل الاجتماعية الثابتة التي تشكِّل هذه الأحداث وتتشكَّل من خلالها. وفي الحالتين يكون على المحلل أن يقدِّم تفسيرات (بالمعنى الواسع) لعلاقات معقدة خفية.

وعلى الرغم من أنني سوف أستخدم، من باب التيسير، فكرةً للوصف تتفق مع الاتجاه المشار إليه عاليه، فلا بد أن أقول إن الوصف يعتمد، في نهاية المطاف، على «تفسير» المحلل بمعناه الواسع الذي استخدمتُ المصطلح فيه لتوِّي، مثلما تعتمد كتابة الكلام عليه تمامًا. فالذي يراه المرء في النص، وما يعتبره جديرًا بالكتابة، وما يختار أن يؤكده في الوصف، أمورٌ تعتمد جميعًا على كيفية تفسير النص. إذ يوجد اتجاه وضعي (انظر الفصل الأول حيث يَرِد هذا المصطلح) يَعْتبر النصوصَ اللغوية «أشياء» ذوات خصائص شكلية يمكن وصفُها وصفًا آليًّا من دون تفسير. ولكن المحللين لن يستطيعوا أن يمنعوا أنفسهم (مهما حاولوا) من الاشتباك مع النواتج الإنسانية بأسلوب إنساني، أي — من ثم — بأسلوب تفسيري.

(٥) اللغة اللفظية والبصرية

على الرغم من أن التركيز في هذا الكتاب سوف ينصبُّ أساسًا على الخطاب الذي يتضمن نصوصًا لفظية، فإن التناول الطبيعي يقضي بألَّا نتصورَ أن الخطاب مقصور على الألفاظ. وحتى حين تكون النصوص لفظية في جوهرها (وأنا أقصد النصوص المنطوقة هنا خصوصًا) فإن نسيج الحديث تتداخل فيه خطوط الإيماءات، والتعبير على الوجه، والحركة، ووضع الجسم أثناء الكلام، إلى الحد الذي يتعذر معه فهمه فهمًا صحيحًا إلا بأخذ هذه «الإضافات» في الاعتبار. ولنُطلق عليها مجتمعةً صفة المظاهر البصرية، استنادًا إلى أن المفسرين يُدركونها جميعًا بأبصارهم. والمظاهر البصرية يمكن أن تصاحب الحديث وتساعد على تحديد معناه، وانظر مثلًا كيف أن الابتسامة المتكلفة يمكن أن تحوِّل السؤال ذا المظهر البريء إلى سخرية مريرة. أو قد تكون المظاهر البصرية بديلًا مقبولًا تمامًا عن الكلام؛ فالإيماء بالرأس وهزُّ الأكتاف قد ينوبان عن التعبير عن كلمات؛ مثل «نعم»، و«لا»، و«لا أدري». وهي أمثلة واضحة.
وأما حين نتصدَّى للمادة المكتوبة، أو المطبوعة، أو الواردة في فيلم سينمائي أو برنامج تليفزيوني فإن أهمية المظاهر البصرية أوضح كثيرًا من ذلك. والواقع أن الأحداث قد تجاوزت التعارض التقليدي بين اللغة المنطوقة والمكتوبة، وإذا شئنا مصطلحات ذات نفع أكبر في المجتمع الحديث قلنا إن اللغة البصرية هي التي غدَت تُعارض اللغة المنطوقة. فمن المشهور مثلًا أن الصورة الفوتوغرافية تتمتع بأهمية التقرير اللفظي في تقديم «رسالة» خبر من الأخبار في الصحيفة، وكثيرًا ما تعمل الوسائل البصرية مع الوسائل اللفظية بأسلوب يجعلهما يدعمان بعضهما بعضًا إلى الحد الذي يتعذر معه الفصل بينهما. أضف إلى ذلك أن الأهمية الاجتماعية النسبية للصور البصرية تزداد بصورة مثيرة، ويكفي أن تذكر إلى أيِّ حدٍّ يستغل الإعلان الوسائل البصرية، وهو نوع من أنواع الخطاب الحديث الذي يتسم بالشعبية الجارفة والانتشار الشديد. ولهذه الأسباب مجتمعة سوف أتوسع في معاني الخطاب والنص ولا أحصرها حصرًا يقيدها، وإن كان تركيزي، كما قلت ينصبُّ في المقام الأول على العنصر اللفظي؛ إذ سوف تظهر الوسائل البصرية في شتى أرجاء الفصول التالية.

(٦) الخطاب ونظم الخطاب

ينظر هذا القسم في جانب من جوانب الأحوال الاجتماعية للخطاب وكيف تتحكم الهياكل الاجتماعية فيه، أي كيف يخضع الخطاب الفعلي لأعراف الخطاب الكامنة [في المجتمع]. وأرى أن هذه الأعراف تنتظم في مجموعات أو شبكات أطلق عليها نظم الخطاب وهو المصطلح الذي استخدمه ميشيل فوكوه. وإلى جانب ذلك، فإن هذه الأعراف ونظم الخطاب تجسِّد أيديولوجيات معينة.
ويتمتع مصطلحَا الخطاب والممارسة هنا بما يمكن أن نسمِّيَه «الغموض اللائق»؛ إذ يمكن أن يُشيرا إلى ما يفعله الناس في مناسبة معينة، أو ما يفعله الناس عادة حين تحين مناسبة من نوع معين. أي إن المصطلحَين يمكن أن يُشيرا إما إلى فعل أو إلى أحد الأعراف. والغموض لائق هنا لأنه يساعد على تأكيد الطابع الاجتماعي للخطاب والممارسة، من خلال الدلالة على أن الحالة الفردية دائمًا ما تُضمر أعرافًا اجتماعية؛ فأي خطاب أو ممارسة يعني ضمنًا وجودَ أنماط عرفية للخطاب أو الممارسة. والغموض يشير أيضًا إلى وجود شروط مسبقة للفعل الذي يقوم به أشخاص بصفتهم الفردية؛ إذ لا يستطيع الفرد أن يعمل إلا إذا توافرت الأعراف الاجتماعية التي يمكنه أن يعمل في إطارها. ويتمثل جزء من المعنى المضمر لفكرة الممارسة الاجتماعية في أن الناس يتمتعون بالقدرة [على الفعل] بفضل القيود التي يتعرَّضون لها، أي إنهم يستطيعون القيام بفعل ما بشرط أن يفعلوا ما يفعلونه في إطار قيود أنماط الممارسة، أو الخطاب. ولكن هذا القول يجعل الممارسة الاجتماعية تبدو خاضعةً لقيود أشد مما تخضع له في الواقع، وسوف أسوق الحجة في القسم الأخير من هذا الفصل على أن الالتزام بالقيود الاجتماعية لا يمنع المرء من أن يكون خلَّاقًا.
وسوف أستخدم مصطلح الخطاب للإشارة إلى «الفعل الخِطابي» (discoursal action)، أي إلى الحديث الفعلي أو الكتابة الفعلية، وأستخدم مصطلح الممارسة بطريق موازية. إذ يمكن أن يستخدم الخطاب للإشارة عمومًا إلى «الفعل الخِطابي»، أو إلى حالات محددة (كالإشارة إلى «خطاب ما»، أو «ممارسة ما»)، وسوف أستخدم الخطاب أيضًا في حالة عدم نشوء خطر الغموض عند الإشارة إلى أحد الأعراف أو إلى نمط من أنماط الخطاب (مثل: الخطاب الخاص بالمقابلات الشرطية). وحيثما كان المعنى غير واضح، فسوف أستعمل بدلًا من هذين المصطلحَين مصطلحَي نمط الخطاب أو أعراف الخطاب.

سبق لي أن ذكرت أن المجتمع يتحكم في التفاعلات جميعًا حتى ما يتسم منها بطابع الخصوصية والحميمية داخل الأسرة. حاول أن تتذكر خطابًا يتسم بأقصى الخصوصية والفردية بينك وبين المقربين منك. هل توافق على الزعم القائل بأن هذا الخطاب، حتى في هذه الحالة، دائمًا ما ينطوي على أعراف خِطابية؟

ولا تتمثل القيود التي يخضع لها الخطاب والممارسة في شتى الأنماط المستقلة للخطاب والممارسة بل في الشبكات التي يعتمد بعضها على بعض ونستطيع أن نُطلق عليها مصطلح «النظم»، أي إن لدينا نُظُمًا للخطاب ونُظُمًا اجتماعية. والنظام الاجتماعي هو الأعم الأشمل؛ فنحن نشعر دائمًا بوجود المجتمع وشتى المؤسسات الاجتماعية التي نعمل من خلالها باعتبارها مقسمة ذوات حدود، وذوات بناء أو هيكل خاص يفصل بين مجالات العمل المختلفة، وأنماط المواقف المختلفة، ولكلٍّ منها نمط ممارسة يرتبط بها. وسوف أستخدم مصطلح النظام الاجتماعي للإشارة إلى مثل ذلك البناء لحيِّز اجتماعي معين بحيث يقسمه إلى مجالات شتى ترتبط بشتى أنماط الممارسة. وأما ما سوف أدعوه «نظام خطاب» فهو في الحقيقة نظام اجتماعي يُنظَر إليه من منظور خطابي محدد، أي من حيث أنماط الممارسة التي ينقسم إليها الحيِّزُ الاجتماعي ويتصادف أن تمثِّل أنماطًا للخطاب. وهذا ملخص في الشكل ٢-٢.
fig2
شكل ٢-٢: النظم الاجتماعية ونظم الخطاب.
أشرتُ عاليه إلى أن النظم الاجتماعية ذوات بناء أو هيكل خاص، ومعنى ذلك أن النظم الاجتماعية لا تختلف وحسب من حيث أنماط الممارسة التي تتضمنها بل أيضًا من حيث نوع العلاقات فيما بينها، أي من حيث هيكل بنائها. وعلى غرار ذلك تختلف نظم الخطاب من حيث أنماط الخطاب وأسلوب هيكلتها أو بنائها. إذ نجد مثلًا أن «المحادثة» باعتبارها «نمط خطاب» قائمة في شتى نظم الخطاب وترتبط بشتى المؤسسات الاجتماعية. وهذا طريف في ذاته، ولكننا نجد طرافة أكبر إذا رأينا كيف تختلف نظم الخطاب من حيث العلاقة فيما بين المحادثة وأنماط الخطاب الأخرى (مثل علاقة التكامل أو التعارض أو التنافي [أي استحالة اجتماعها بغيرها] أو ما عدا ذلك). فعلى سبيل المثال، لا تضطلع المحادثة بدور بارز أي ظاهر للعيان في الإجراءات القانونية، ولكن قد يكون لها دورٌ خفي، مثل دورها في المساومات غير الرسمية بين وكلاء النيابة والمحامين. ومن ناحية أخرى نرى في التعليم أن المحادثة قد يكون لها أدوارٌ متفق عليها، لا قبل وبعد الدروس التي يُحدِّدها المعلمون وحسب، بل أيضًا باعتبارها شكلًا من أشكال النشاط الباطن في «خطاب» الدرس.

وإلى جانب نظام الخطاب الخاص بإحدى المؤسسات الاجتماعية، وهو الذي يتولَّى بناء أنواع الخطاب التي تشكله بطريقة معينة، نستطيع أن نُشير إلى نظام الخطاب للمجتمع بأسره، وهو الذي يتولَّى بناء أنظمة الخطاب الخاصة بشتى المؤسسات الاجتماعية بأسلوب خاص. وأما كيف تُبنَى أنواع الخطاب في أحد أنظمة الخطاب؟ وكيف تتغير طرائق البناء على مر الزمن؟ فهي من المسائل التي تحددها علاقات السلطة التي تتغير على مستوى المؤسسة الاجتماعية أو المجتمع كله. والسلطة في هذه المستويات تتضمن القدرة على التحكم في نُظُم الخطاب، وأحد جوانب هذا التحكم أيديولوجي الطابع، بمعنى أنه يضمن التناغم بين نظم الخطاب أيديولوجيًّا، وقد يكون التناغم الأيديولوجي داخليًّا أو (على المستوى المجتمعي) فيما بينها. انظر الفصل ۳ حيث المزيد من التفاصيل.

فلنحاول إذن أن نربط هذا بنموذج المقابلة الشخصية الذي سبق تقديمه. إنه خطاب (أو جزء من خطاب، على وجه الدقة) يستند إلى نمط واحد للخطاب خاص بمقابلة الشهود، أو بمزيد من التحديد، مرحلة جمع المعلومات، أو حادثة تمثل الخطاب المذكور. وفيه تبدو العلاقة بين الأعراف والممارسة، أي بين نمط الخطاب والخطاب، مباشرة يسيرة الفهم، فهي تقليدية تمامًا في هذه الحالة، ومعالمها التي أشرت إليها آنفًا يسهل التنبؤ بها وتوقعها بالنسبة لهذا النمط. أي إن نمط الخطاب عنصر من عناصر نظام الخطاب المرتبط بالعمل الشرطي باعتباره مؤسسة اجتماعية. وهو يختلف اختلافًا بيِّنًا عن غيره، أي عن «خطاب» إلقاء القبض على شخص ما، أو خطاب توجيه التهمة لشخص مشتبه فيه، كما تختلف الحادثة المذكورة عن غيرها من أساليب خطاب المقابلات مع الشهود، مثل إجراء التحقيق أو الاستجواب بهدف التحقق من صحة ما يرويه الشاهد. وعلى الرغم من أن المشاركين الذين يتمتعون بسلطة أكبر، ويمثِّلهم في هذه الحالة رجال الشرطة الذين يُجرون المقابلة، يتمتعون أيضًا بمزية تحديد نمط أو أنماط الخطاب المناسبة للحالة، فإن الاختيار يضع جميع المشاركين في مواقع محددة داخل نظام الخطاب والنظام الاجتماعي للعمل الشرطي. كما أنه يحدد لهم نوعًا واحدًا من عدد من الإجراءات الخاصة بهذه الحالة، وهي التي تشكِّلها سلسلة من أنماط الخطاب في نظم محددة؛ إذ من المحتمل أن جمع المعلومات سوف يتلوه تحقيقٌ يؤدي إلى توجيه التهمة، مثلًا. وهكذا نرى أن مقتطفًا صغيرًا مثل هذا يكشف لنا لا عن نمط خطاب معين فقط بل عن نظام خطاب كامل.

وعندما قلت إن الخطاب ينهل من أنماط الخطاب (والممارسة تنهل من أنماط الممارسة) كنت أحاول أن أتجنب كلَّ ما يوحي بعلاقة آلية بين الطرفين. فعلى الرغم من ضرورة وجود الأعراف حتى نستطيع الاشتباك مع الخطاب، فإن الأخير ليس مجردَ تحقيق أو تنفيذ الأول. والواقع أن خطابًا واحدًا قد يستطيع أن ينهل من نمطَين أو أكثر من أنماط الخطاب، ومن الممكن أن تجتمع الأنماط، من ناحية المبدأ، بصور لا تُحصى. وعلينا أن نذكر أن الخطاب ليس تنفيذًا [أو تفعيلًا] لنمط أو أنماط بل تجسيد خلاق من خلال الجمع بين الموارد المتاحة، وأما الحالة التقليدية للخطاب الذي ينهل من نمط خطاب واحد، مثل نموذج المقابلة السالف، فهو حالة محددة ولا يمثل المعيار السائد. انظر قسم جدلية الهياكل والممارسات أدناه، والفصل السابع.

حاول أن تتأمل مكان عملك أو دراستك الحالي أو السابق من حيث ممارساته الاجتماعية باعتباره نظامًا اجتماعيًّا ونظام خطاب. اذكر بعض الأنماط الرئيسية للممارسة، وحاول أن تبيِّن الحدود التي تفصلها عن بعضها البعض، وقد يكون ذلك من حيث أنواع المواقف والمشاركين المرتبطين بك. إلى أي حد تنتمي الأنماط والحدود المذكورة إلى الخطاب وإلى أيِّ حدٍّ لا تنتمي إليه؟

(٧) الطبقة والسلطة في المجتمع الرأسمالي

يتوسع هذا القسم في مناقشة الأحوال الاجتماعية للخطاب على المستويَين المجتمعي والمؤسسي، ويبيِّن كيف تحدِّد الهياكل الاجتماعية على هذين المستويَين طبيعة الخطاب. وأقول أولًا إن أسلوب هيكلة نظم الخطاب والأيديولوجيات التي تجسِّدها هذه النظم، يخضع لعلاقات السلطة في مؤسسات اجتماعية معينة وفي المجتمع بأسره. ومن ثَم فنحن نحتاج إلى إبداء الحساسية في التحليل النقدي للغة لخصائص المجتمع والمؤسسات التي تهمُّنا. وهكذا فسوف أبدأ، فيما يلي، بتحديد بعض الخصائص والاتجاهات البنيوية الأساسية للمجتمع البريطاني، وإن كان ذلك بالخطوط العريضة وحسب، والمجتمعات الرأسمالية المماثلة تتسم بمعالم مشابهة لها. وسوف أُشير بعد ذلك إلى صور تحكُّم المعالم المذكورة، فيما يبدو، في خصائص الخطاب في بريطانيا الحديثة. وسوف يجد القراء تحليلًا يتميز بتفاصيل أكبر لهذه المسائل في الفصل الثامن. وأودُّ أن أؤكد أن التفسير الذي أقدِّمه للمجتمع البريطاني ليس محايدًا؛ إذ لا يوجد ما يسمى بالتفسير المحايد، ولكنه تفسير تتجلَّى فيه خبرتي وقِيَمي والتزاماتي السياسية.

يعتبر الأسلوب الذي ينظم به مجتمع ما إنتاجَه الاقتصادي، وطبيعة العلاقات القائمة في الإنتاج بين الطبقات الاجتماعية، من المعالم البنيوية الأساسية التي تتحكم في غيرها. ففي المجتمع الرأسمالي يعتبر الإنتاج في المقام الأول إنتاج السلع والبضائع للبيع في الأسواق بغرض تحقيق ربح فردي، لا إنتاجًا لسلع يستهلكها منتجوها مباشرة، على سبيل المثال. والعلاقة الطبقية التي يعتمد عليها هذا الشكل من أشكال الإنتاج علاقة طبقة (رأسمالية) تملك وسائل الإنتاج، وطبقة (عاملة) مضطرة إلى بيع قدرتها على العمل إلى الرأسماليِّين في مقابل أجر معين يُمكِّنها من العيش.

ولكن ألَا يوجد عدد كبير من الناس الذين يرتبطون بعلاقة تتماسُّ إلى حدٍّ ما مع عملية الإنتاج المذكورة لا بعلاقة مشاركة مباشرة؟ يبدو أن هذا يصدق على العدد المتزايد من الأشخاص الذين يعملون في صناعات «الخدمات» وتزجية أوقات «الفراغ»، من شتى فئات العاملين المهنيِّين وغيرهم. وربما كان بعض هؤلاء يمثلون طبقات صغرى؛ وبعض هؤلاء (كالعاملين المهنيِّين) ينتمون معياريًّا إلى «طبقة وسطى» أو طبقة البورجوازية الصغيرة. وسوف أشير إشارة فضفاضة إلى «طبقة وسطى» ولكنني سوف أفترض أيضًا أن الطبقة العاملة تتميز بالتعقيد الداخلي في بريطانيا الحديثة، وتتضمن جماعات العاملين «بالخدمات» وتزجية «أوقات الفراغ» والعمال «التقنيين» وغيرها من الجماعات، إلى جانب جماعات أساسية من العمال الذين يُنتجون السلع.

(٨) السلطة الاقتصادية، وسلطة الدول، والسلطة الأيديولوجية

تبدأ العلاقة بين الطبقات الاجتماعية في الإنتاج الاقتصادي، ولكنها تمتدُّ لتشمل جميع أجزاء المجتمع. كما تعتمد سلطة الطبقة الرأسمالية على قدرتها على التحكم في الدولة، وسوف أفترض، على عكس ما تقول به النظرة إلى الدولة باعتبارها تقف موقفًا محايدًا «فوق» الطبقات، أن الدولة تمثِّل العنصر الأساسي الذي يحافظ على سيادة الطبقة الرأسمالية والتحكم في الطبقة العاملة. وهذه السلطة السياسية لا تقتصر ممارستُها في العادة على الرأسماليِّين، بل يمارسها تحالفٌ بين الرأسماليِّين وغيرهم ممن يرَون أن مصالحهم ترتبط برأس المال، كالعديد من العاملين المهنيِّين مثلًا. ولنا أن نُشير إلى هذا التحالف باسم الكتلة السائدة أو المهيمنة.

وتنهض سلطة الدولة — التي تشمل الحكومة، والسيطرة على الشرطة والقوات المسلحة وموظفي الحكومة وما إلى ذلك — بدور حاسم في فترات الأزمات. وأما في الأحوال العادية للحياة في المجتمع الرأسمالي، فإن مجموعةً كاملة من المؤسسات الاجتماعية مثل التعليم والقضاء والأديان وأجهزة الإعلام، بل والأسرة، تعمل بصورة جماعية وتراكمية على ضمان استمرار سيادة الطبقة الرأسمالية، وكثيرًا ما لا يرتبط أصحاب السلطة في هذه المؤسسات الاجتماعية بروابط مباشرة تذكِّر بالطبقة الرأسمالية.

وخذ على سبيل المثال الإدارات التعليمية المحلية، ومجالس أمناء المدارس، وكبار المعلمين المسئولين عن معظم ما يجري في المدارس. ومع ذلك فقد أُجريت تحليلات أتَت بنتائج مُقنعة عن الأسلوب الذي تُطبقه المؤسسة التعليمية وغيرها من المؤسسات لتدريب الأطفال على التكيُّف وقبول النظام القائم للعلاقات الطبقية.

ونستطيع تقديم ما يشرح ذلك إلى حدٍّ ما بالإشارة إلى أنَّ مَن يتمتعون بالسلطة في هذه المؤسسات يرَون أساسًا أن مصالحهم مرتبطةٌ بالرأسمالية. ولكن لدينا عاملًا أهم وهو الأيديولوجيا. فالممارسات المؤسسية التي ينهل منها الناس دون تفكيرٍ كثيرًا ما تجسِّد افتراضات تُضفي المشروعية المباشرة أو غير المباشرة على علاقات السلطة القائمة. والممارسات التي تبدو عامةً شاملة منطقية، كثيرًا ما يتبيَّن أن لها أصولًا في موقف الطبقة المهيمنة أو الكتلة المهيمنة، وأنها اكتسبت بعد ذلك الصورة الطبيعية. وحيثما كانت أنماط الممارسة، وأنماط الخطاب في حالات كثيرة، تعمل بهذا الأسلوب بغرض الحفاظ على علاقات السلطة غير المتكافئة، فسوف أقول إنها تعمل بأسلوب أيديولوجي.
وتعتبر السلطة الأيديولوجية، أي السلطة التي تُتيح للمرء تصويرَ ما يفعل باعتباره ممارسة عامة يقبلها المنطق السليم، عاملًا مهمًّا يستكمل السلطة الاقتصادية والسياسية، وهي تتمتع بدلالة خاصة هنا بسبب ممارستها في الخطاب. ولدينا بصفة عامة (كما ذكرت بإيجاز في الفصل الأول) أسلوبان يستطيع أصحاب السلطة اتِّباعهما في ممارستها والحفاظ عليها، إما إرغام الآخرين على الانصياع لهم، ورصد عقوبات تَصِل إلى العنف البدني وإلى القتل آخر الأمر، وإما اكتساب رضا الآخرين عن امتلاكهم وممارستهم للسلطة، أو على الأقل عدم اعتراضهم على ذلك. أي باختصار من خلال القسر أو الرضا. وأما في الواقع العملي فإن القسر والرضا يجتمعان بنِسَب متفاوتة في كل حالة. فالدولة لديها قوات القمع التي يمكن أن تُستخدم في القسر إذا دعَت الضرورة، ولكن أية طبقة حاكمة تجد أنها تستطيع الحكم بتكاليف ومخاطر أقل إذا استطاعت ضمان الرضا. والأيديولوجيا هي الآلية الأساسية للحكم من طريق الرضا، وما دام الخطاب يمثل الوسيلة الفضلى للحكم من طريق الرضا، فإن للخطاب أهميةً اجتماعية كبرى في هذا الصدد. انظر الفصل الرابع حيث المزيد من المناقشة، ولكن انظر ما سوف يأتي بعد حين هنا.

تأمل مرة أخرى مكان عملك أو دراستك أو أية مؤسسة أخرى تعرفها، من حيث التوازن القائم فيها بين القسر والرضا، والقوة والأيديولوجيا، في الحفاظ على السيطرة الاجتماعية. هل يمكنك تحديد أنماط معينة للخطاب تتسم بالأهمية الأيديولوجية «للحكم من طريق الرضا»؟

(٩) علاقات السلطة والعلاقات الطبقية والصراع الاجتماعي

لا يمكن حصر علاقات السلطة في العلاقات الطبقية؛ إذ توجد «علاقات سلطة» بين الفئات الاجتماعية في المؤسسات — كما رأينا — وعلاقات سلطة بين النساء والرجال، وبين الطوائف العرقية، وبين صغار السن وكبار السن، وهي لا تقتصر على مؤسسات بعينها. وتتمثل إحدى المشكلات القائمة عند تحليل الرأسمالية المعاصرة في كيفية النظر إلى الارتباط بين العلاقات الطبقية وبين الأنماط الأخرى المذكورة من العلاقات. إذ نرى من ناحية عدم وجود رابطة بسيطة شفافة بينها تُبرر حصر هذه العلاقات الأخرى في العلاقات الطبقية، أي من طريق اعتبارها مجردَ تعبيرات غير مباشرة عن الطبقة. ولكن العلاقات الطبقية — من الناحية الأخرى — تحدِّد طبيعة المجتمع، وتؤثر تأثيرًا أساسيًّا ونفاذًا في جميع جوانب المجتمع، بما في ذلك هذه العلاقات الأخرى، بحيث يصبح من المحال أن نقبل اعتبار العلاقة بين الجنسين أو بين الأعراق المختلفة وما إلى ذلك مجرد علاقات موازية للعلاقات الطبقية. وسوف أقول إن العلاقات الطبقية تتمتع بمكانة جوهرية أكبر من غيرها. وإنها تضع المعايير العريضة التي تمثل قيودًا على تطور العلاقات الأخرى، وهي معايير تبلغ من السعة ما يسمح بخيارات كثيرة تتسم بالضيق الناجم عن عوامل ذاتية تتعلق بكل علاقة يُنظر إليها.

وعلاقات السلطة علاقات صراع في جميع الأحوال، وأنا أستخدم مصطلح «الصراع» هنا في معناه التقني الذي يشير إلى العملية التي تشتبك فيها الفئات الاجتماعية ذوات المصالح المختلفة في صراع مع بعضها البعض. والصراع الاجتماعي ينشأ بين فئات منوعة، أي بين النساء والرجال، وبين السود والبيض، وبين الشبان والكهول، وبين الفئات المسيطرة في المؤسسات الاجتماعية وبين الفئات التي تسيطر عليها، وهلمَّ جرًّا لكنه مثلما تعتبر العلاقات الطبقية العلاقات الجوهرية الأولى في المجتمع الطبقي، يعتبر الصراع الطبقي أيضًا الصراع الجوهري الأول فيه. والصراع الطبقي خصيصة لازمة وكامنة في كل نظام اجتماعي يعتمد تحقيق الحد الأقصى من الأرباح والسلطة فيه لإحدى الطبقات على استغلالها لطبقة أخرى وسيادتها عليها. وقد يبدو الصراع الاجتماعي شديدًا إلى حد ما، وقد يتخذ أشكالًا سافرة إلى حد ما، ولكن جميع التطورات الاجتماعية، وأية ممارسة للسلطة، تقع في إطار الصراع الاجتماعي. ويصدق هذا أيضًا، كما سنرى في الفصل الثالث، على اللغة: فاللغة تمثل موقعًا للصراع الطبقي وعاملًا يسهم فيه، ولا بد للذين يمارسون السلطة من خلال اللغة أن يشتبكوا في صراع دائم مع غيرهم للدفاع عن موقعهم (أو فقدانه).

(١٠) التحولات في الرأسمالية

مرَّت الرأسمالية بتحولات كثيرة في القرن التاسع عشر. ورصد ماركس في تحليلاته الاقتصادية الاتجاه نحو الاحتكار، أي نحو تركيز الإنتاج في عدد يتناقص باطراد من الوحدات التي تتسع باطراد. وقد اشتد بروز هذا الاتجاه على مر الزمن، حتى أصبح نطاق التركيز المذكور دوليًّا، بمعنى أن عددًا صغيرًا نسبيًّا من الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات تسيطر الآن على الإنتاج في العالم الرأسمالي.
وفي الوقت نفسه أخذت الساحة الاقتصادية الرأسمالية تتسع باطراد حتى أصبحت تشمل عددًا من جوانب الحياة التي كانت تعتبر فيما مضى منفصلةً تمامًا عن الإنتاج. كما اتسع مفهوم السلعة؛ فبعد أن كانت «بضاعة» ملموسة غدَت تتضمن شتى الأشياء غير الملموسة: مثل الدورات التعليمية، والتأمين الصحي، والجنازات، وقضاء العطلات [في منتجات استجمام]، وهي التي تُباع الآن وتُشترَى في الأسواق المفتوحة في «عروض شاملة»، مثل مساحيق الصابون. وازداد التركيز بصورة مطردة على استهلاك السلع، وهو الاتجاه الذي يلخِّصه مصطلح «المذهب الاستهلاكي». وكان من نتيجة ذلك أن أصبح الاقتصاد وسوق السلع يؤثران تأثيرًا هائلًا في حياة الناس، بما في ذلك (خصوصًا، عن طريق التليفزيون) حياتهم «الخاصة» في البيت وفي الأسرة.

ومن الاتجاهات الأخرى التي تُجرَى بالتوازي مع هذا الاتجاه زيادةُ سيطرة الدولة والمؤسسات على الناس من خلال شتى ضروب البيروقراطية. فمن ناحية أصبحت الدولة تتدخل ويزداد تدخُّلها لخلق الظروف الملائمة لتيسير عمل الشركات المتعددة الجنسيات، من حيث الضوابط على العملات، والسيطرة على التضخم، وفرض القيود على الأجور وعلى قدرة النقابات في القيام بالإضرابات، وما إلى هذا بسبيل. ومن ناحية أخرى ظهر الجانب المضاد للمزايا التي اكتسبها الناس من دولة الرعاية، وهو الزيادة الحادة في درجة الفحص الذي يتعرض له أفراد الجمهور على أيدي الجهاز البيروقراطي.

هل تستطيع أن تجد أمثلةً للتوسع في مفهوم السلعة؟ ابحث بصفة خاصة عن الحالات التي امتدَّت فيها لغة السلع إلى مجالات أخرى (مثل قولك «هذه فكرة رائعة، ولكن هل تستطيع أن تبيعها للناس؟ وهل سيشترونها مهما كان الغلاف الذي تُغلفها به؟»)

(١١) تحليل المجتمع وتحليل الخطاب

سوف أشير الآن بصفة عامة إلى بعض علاقات التحكم التي يمكننا استكشافها بين هذه الخصائص للمجتمع الرأسمالي الحديث وبين خصائص نظم الخطاب. وأنا أقصد، فيما يلي، بريطانيا الحديثة خصوصًا.

سبق أن أكدت أهمية الأيديولوجيا في تحديد الأسلوب الذي تنتهجه شتى المؤسسات الاجتماعية للإسهام في الحفاظ على مكانة الطبقة المسيطرة. ويتسم المجتمع الحديث بدرجة عالية إلى حدٍّ ما من التكامل بين المؤسسات الاجتماعية في مهمة الحفاظ على السيادة الطبقية. ولنا أن نتوقع في مقابل هذا درجة عالية من التكامل الأيديولوجي بين نُظُم الخطاب المؤسسية داخل النظام المجتمعي للخطاب. وأعتقد أننا نجد ذلك فعلًا. إذ توجد — على سبيل المثال — أنماط أساسية معينة للخطاب تجسِّد الأيديولوجيات التي تُضفي المشروعية، بصورة مباشرة إلى حدٍّ ما، على العلاقات المجتمعية القائمة، والتي تتميز بدرجة عالية من البروز في المجتمع الحديث مكَّنَتها من «استعمار» عددٍ كبير من نظم الخطاب المؤسسية. وهذه تتضمن الخطاب الإعلاني وأنواع خطاب المقابلات الشخصية ولقاءات تقديم المشورة/العلاج. فالإعلانات مثلًا تتولَّى إدراج مجموع السكان إدراجًا مؤكدًا في النظام السلعي الرأسمالي من خلال جعلهم يقومون بدور «المستهلكين»، وهو دور مشروع بل مرغوب فيه.

كما أشرت عاليَه أيضًا إلى العلاقة الخاصة بين الأيديولوجيا وممارسة السلطة من خلال الرضا لا من خلال القسر. وأعتقد أن المجتمع الحديث يشهد ازدياد ممارسة السيطرة الاجتماعية من خلال الرضا، حيثما تسنَّى ذلك وكثيرًا ما يتوسل ذلك بإدراج الناس في أجهزة سيطرة يشعرون أنهم يشاركون في إنشائها (كأن يُوحي للمستهلكين بأنهم حاملو أسهم في جهاز الديمقراطية الذي يملك الناس أسهمه). وما دام الخطاب هو الوعاء المفضل للأيديولوجيا، ومن ثَم للسيطرة من خلال الرضا، فربما كان لنا أن نتوقع تغيرًا كميًّا في دور الخطاب في تحقيق السيطرة الاجتماعية. فنحن نجد، على سبيل المثال، أن الجرعات الثابتة من «الأخبار» التي يتلقَّاها معظم الناس يوميًّا تعتبر عاملًا مهمًّا من عوامل السيطرة الاجتماعية، وهي تُشكِّل نسبةً ليست ضئيلة من المشاركة اليومية للشخص المتوسط في الخطاب. ولكن ازدياد الاعتماد على السيطرة من خلال الرضا ربما يكون من وراء مَعْلمٍ كيفيٍّ آخر من معالم الخطاب المعاصر، ألَا وهو اتجاه خطاب السيطرة الاجتماعية نحو الإيحاء بمذهب المساواة الزائفة، وإزالة الدوال السطحية على السلطة والنفوذ. ويجد المرء ذلك في أنواع شتى من الخطاب، مثل الإعلانات، والتعليم، والبيروقراطية الحكومية. وللقارئ أن يجد أمثلةً ومناقشة تفصيلية للمسائل التي طرحها هذا القسم في الفصل الثامن.

(١٢) جدلية الأبنية والممارسات

العلاقة بين الخطاب والأبنية أو الهياكل الاجتماعية علاقة لا تسير في الطريق الواحد الذي أشرت إليه حتى الآن. فإلى جانب خضوع الخطاب لسيطرة الأبنية الاجتماعية نجد أنه يؤثر فيها ويُسهم في تحقيق الاستمرار الاجتماعي أو التغير الاجتماعي. ولما كانت العلاقة بين الخطاب والأبنية الاجتماعية علاقة جدلية على هذا النحو، فإن الخطاب يكتسب أهمية كبرى من حيث علاقات السلطة والصراع على السلطة؛ إذ إنَّ تولِّي أصحاب السلطة في المؤسسات والمجتمع السيطرةَ على نظم الخطاب يمثِّل أحد عوامل الحفاظ على سلطتهم.

فلتكن نقطة انطلاقنا النظر بصفة عامة في العلاقة بين الممارسة الاجتماعية والواقع. فالممارسة الاجتماعية لا تمثِّل «انعكاسًا» وحسب لصورة الواقع، فهي مستقلة عنه، وذلك يعني أن الممارسة الاجتماعية تتمتع بعلاقة فعالة مع الواقع، وهي تغير الواقع. والعالم الذي يعيش فيه البشر عالم من خلق البشر إلى حدٍّ هائل، فهو عالم خُلق في غمار الممارسة الاجتماعية. ويصدق هذا لا على العالم الاجتماعي فقط بل يصدق أيضًا على ما نسميه «العالم الطبيعي»؛ إذ إن جوهر العمل البشري هو أنه يخلق وسائل العيش التي تمكِّن الناس من تغيير العالم الطبيعي. وأما بالنسبة للعالم الاجتماعي فإن الأبنية الاجتماعية لا تتحكم فقط في الممارسة الاجتماعية بل تعتبر أيضًا من ثمار الممارسة الاجتماعية. وأقول بصفة خاصة إن الأبنية الاجتماعية لا تقتصر على التحكم في الخطاب، بل إنها أيضًا ثمرة من ثماره، وهو ما يصوره الشكل ٢-٣.
fig3
شكل ٢-٣: البنية الاجتماعية والممارسة الاجتماعية.

(١٣) مثال مواقع الذوات في المدارس

فلنزد هذه المقولة وضوحًا بإيراد مثال عملي للبناء الاجتماعي لإحدى المؤسسات الاجتماعية وهي المدرسة؛ فللمدرسة نظام اجتماعي ونظام خطاب يتضمَّنان بناءً متميزًا لحيِّزها الاجتماعي بتقسيمه إلى مجموعة من الحالات التي يقع فيها الخطاب (قاعة الدرس، قاعة الاجتماعات، وقت اللعب، اجتماع العاملين وهلمَّ جرًّا) ومجموعة من «الأدوار الاجتماعية» المعترف بها حيث يشارك الأشخاص في الخطاب (كبير المعلمين، المعلم، التلميذ، «ألفا» الفصل وغيرهم) ومجموعة من الأغراض المتفق عليها للخطاب، مثل التعليم والتعلم، والامتحان، والحفاظ على السيطرة الاجتماعية، إلى جانب مجموعة من أنماط الخطاب. فإذا ركزنا انتباهنا على «الأدوار الاجتماعية»، أو ما أفضِّل أن أُطلق عليه «مواقع الذوات» (وهو مصطلح سأشرحه بعد قليل) فسوف نجد لهذا التعبير دلالةً تسمح لنا بأن نرى أن ماهية المعلم والتلميذ تنحصر فيما يفعله كلٌّ منهما. وأما أنماط الخطاب في قاعة الدرس فتحدد مواقع الذوات للمعلمين والتلاميذ، واحتلال هذه المواقع وحده هو الذي يجعل من أحدهما معلِّمًا ومن الآخر تلميذًا. وما احتلال موقع الذات في جوهره إلا القيام بأعمال معينة (أو عدم أدائها) وفقًا للحقوق والالتزامات الخِطابية للمعلمين والتلاميذ، بمعنى ما هو مسموح له أو مفروض عليه من أقوال، وما هو غير مسموح له أو مفروض عليه أن يقوله، في إطار نمط الخطاب المعين المذكور. وإذن فإن هذه حالة يقوم فيها البناء الاجتماعي، في الأشكال المحددة لأعراف الخطاب، بالتحكم في الخطاب. ولكننا أيضًا نرى فيها أن المعلمين والتلاميذ يعيدون إنتاج مواقع الذوات المحددة عندما يشغلونها. وهكذا فإن هذه المواقع تستمر في كونها جزءًا من البناء الاجتماعي بفضل وجود الذين يشغلونها وحسب، بمعنى أن الخطاب بدوره يحدِّد ويعيد إنتاج البناء الاجتماعي.

(١٤) الذات

ولكن الذي وصفته للتوِّ دائرة مغلقة، بمعنى أن أنماط الخطاب تتحكم في ممارسة الخطاب، وهي التي تُعيد إنتاج أنماط الخطاب. والواقع أن مفهوم إعادة الإنتاج أشد تعقيدًا وأكبر أهمية ودلالة اجتماعية مما وصفته. وإذا أردنا السبب كان علينا أن ننظر في اختياري مصطلح (موقع) الذات بدلًا من «الدور الاجتماعي». ويتسم لفظ «الذات» بضرب آخر من ضروب «الغموض اللائق» الذي التقينا به من قبل في مصطلحَي الممارسة والخطاب، وإن يكن من مرتبة مختلفة. فأحد معاني الكلمة الإنجليزية subject يُشير إلى فرد من أفراد «الرعية»، أي إلى شخص يخضع للولاية القضائية القائمة على السلطة السياسية، ومن ثَم فهو سلبي ويتعرض للتشكيل، ولكن الكلمة نفسها قد تعني «الفاعل» مثلًا بالدلالة الإعرابية في جملة من الجمل، ومن ثَم فإن معناه إيجابي؛ إذ إنه مَن يقوم بالفعل، ومن ثَم تضعه قاعدة العلة والمعلول في موقع القائم بالعمل.
والذوات الاجتماعية تخضع لقيود تلزمها أن تعمل في إطار مواقع الذوات المحددة في أنماط الخطاب، كما سبق أن أشرت إلى ذلك، ومن ثَم فهي من هذه الزاوية سلبية، ولكن خضوعها للقيود وحده هو الذي يمكنها من العمل باعتبارها ممثلةً للمجتمع. وكما سبق أن ذكرت، فإن وجود القيود شرطٌ مسبق للتمكين: أي إنَّ ممثلي المجتمع فعالون وخلاقون. واذكر إصراري على أن الخطاب (والممارسة بصفة عامة) ينهل من أنماط الخطاب ولا يقوم بتنفيذها آليًّا، واذكر أيضًا قولي هناك إن ضروب الخطاب تنهل من مجموعات متداخلة من الأنماط. وأنماط الخطاب مورد من موارد الذوات، ولكن العمل في الجمع بينها بأساليب تفي بالمطالب المتزايدة والمتناقضات الكامنة في المواقف الاجتماعية الحقيقية عمل خلاق. انظر الفصل السابع الذي يقدم حجة تفصيلية تُفيد هذا المعنى.

وأما مصطلح إعادة الإنتاج فيتطلب بعض التعليق: لا يُنتج الناس خطابًا أو يفسرونه إلا نهلوا حتمًا من نَظْم الخطاب وغيره من جوانب البناء الاجتماعي، وهي التي استوعبوها فحفظوها فيما أسميته «موارد الأعضاء» [أي خبراتهم الذاتية المختزنة] التي تُمكنهم من ذلك. وتتكرر إعادة خلق هذه الأبنية، بفضل ما يُنهَلُ منها، في الخطاب والممارسة عمومًا، أي إن الخطاب، والممارسة بصفة عامة، يعتبران من هذه الزاوية من نواتج هذه الأبنية ومنتجين لها. وما أعنيه بإعادة الإنتاج إذن هو إنتاج هذه الأبنية من جديد، من خلال تعرُّضها للنهل منها. ولكن الأبنية قد تُنتج من جديد دون تغيير يُذكر فيها، أو ربما خُلقت من جديد في أشكال معدلة (بفضل الجمع الخلاق بين الأنماط المشار إليه عاليه). وهكذا فقد تكون إعادة الإنتاج ذات طابع محافظ أساسًا بحيث تحافظ على الاستمرار، أو ذات طابع تحويلي أساسًا بحيث تحدث تغييرات معينة.

وعلاقات السلطة القائمة بين القوى الاجتماعية، وأسلوب تطور هذه العلاقات في غمار الصراع الاجتماعي، تمثِّل عاملًا أساسيًّا يحدد صورة الطابع المحافظ أو التحويلي لإعادة الإنتاج في الخطاب. ومفاد ما قلته إذن أن نُظُم الخطاب تجسد الافتراضات الأيديولوجية، وهذه تحافظ على علاقات السلطة القائمة وتُكسبها المشروعية. فإذا وقع تحوُّل في علاقات السلطة من خلال الصراع الاجتماعي، فلنا أن نتوقع تحوُّلًا في أنظمة الخطاب. وعلى العكس من ذلك، إذا ظلت علاقات السلطة ثابتةً نسبيًّا، فقد يؤدي ذلك إلى إضفاء صبغة محافظة على إعادة الإنتاج. ومع ذلك فليس هذا بالضرورة واقع الحال، فحتى إذا ظلت علاقات السلطة ثابتة نسبيًّا فإنها تحتاج إلى تجديد نفسها في عالم دائم التغير، وهكذا فإن التحولات في أنظمة الخطاب قد تكون لازمة، ولو من أجل حفاظ مجموعة اجتماعية سائدة على موقعها.

ابحث عن أمثلة للجمع الخلاق بين أنماط الخطاب. والإعلانات مصدر صالح؛ لأنها تستغل أنماطًا كثيرة مختلفة وتستعين بها في تحقيق المبيعات.

(١٥) إعادة إنتاج الطبقة المرامي الخفية

ولكن ما شأن الجوانب التجريدية وغير المركزة للأبنية الاجتماعية، مثل العلاقة بين الطبقات الاجتماعية في مجتمع من المجتمعات؟ إن العلاقات الطبقية تتحكم أيضًا في الخطاب (وفي الممارسة الاجتماعية عمومًا) من ناحية، ولكنْ يعاد إنتاجها في الخطاب من ناحية أخرى. ولكن العلاقات والمواقع الطبقية لا يُعبَّر عنها أو يعاد إنتاجها مباشرة في معظم الممارسات. فالرابطة بين العلاقات الطبقية وضروب الخطاب تتوسل بوسائط معينة، وهذه الوسائط على وجه الدقة هي شتى أنماط الخطاب الخاصة بالمؤسسات الاجتماعية في مجتمع ما. وأما من حيث إعادة الإنتاج، فنستطيع أن نقول مثلًا إن العلاقات بين المعلم والطالب، ومواقع المعلم والطالب، وهي المضمرة في أنماط الخطاب التعليمي، يُعاد إنتاجها مباشرةً في الخطاب التعليمي في حين أن هذا الخطاب نفسه يُعيد إنتاج العلاقات الطبقية بصورة غير مباشرة. والمسألة العامة هي أن التعليم، مثله في ذلك مثل جميع المؤسسات الاجتماعية الأخرى، له «مرمى خفي» يتمثل في إعادة إنتاج العلاقات الطبقية وغيرها من الأبنية الاجتماعية رفيعة المستوى، إلى جانب مرماه التعليمي السافر.

وتعتبر سيطرة المستويات التجريدية للبناء الاجتماعي على التحديد الاجتماعي لأنماط الخطاب لشتى المؤسسات (ومن ثَم للخطاب نفسه) سيطرة غير مباشرة و«خفية»، مثل تأثيرها في هذه المستويات للبناء الاجتماعي؛ ولذلك لا تبدو السيطرة واضحة ولا يبدو تأثيرها المذكور واضحًا للذوات [أي للأفراد] في المسار المعتاد للأحداث. ويقول بيير بوردیو «لما كانت الذوات، إن شئنا دقة التعبير، لا تعرف ما تفعل، فإن ما تفعله ذو معنًى يتجاوز ما تعرفه». وانعدام شفافية الخطاب (والممارسة بصفة عامة) يدل على أن له أهميةً اجتماعية أكبر كثيرًا مما تكشف عنه النظرة السطحية، والسبب أن الناس قد يُضفون المشروعية (أو عدم المشروعية) في الخطاب، على بعض علاقات السلطة دون وعيٍ منهم بما يفعلونه. كما يشير ذلك أيضًا إلى أساس التحليل النقدي في طبيعة الخطاب والممارسة — أي وجود أشياء يفعلها الناس من دون وعي بها — وإلى التأثير الاجتماعي الذي يمكن أن يُحدثَه التحليل النقدي باعتباره من وسائل رفع مستوى الوعي الذاتي للناس.

ولأقل الآن كلمة عن المقتطف الذي أوردَته من المقابلة الشُّرطية في ضوء هذه القضايا: إن كون الشخص رجلَ شرطة أو شاهدًا لدى الشرطة يعني احتلال مواقع الذوات التي تُنشئها ضروب الخطاب، مثل خطاب المقابلات الشخصية (الرامية لجمع المعلومات) وهي التي «ينهل منها» المقتطف. وفي حدود احتلال الناس لهذه المواقع في المسار المعتاد لحياتهم وحسب، يُعاد إنتاج الأقنعة العرفية لرجل الشرطة والشاهد في إطار البناء الاجتماعي للعمل الشرطي باعتباره من المؤسسات. ولكن الممارسة العرفية الواقعية — مثل ما نجده في المقتطف — تُسهم أيضًا بصورة غير مباشرة في إعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية غير المتكافئة لمجتمعنا؛ وذلك من خلال إضفاء الصبغة الطبيعية على تفاوت المراتب، والتلاعب المعتاد بالناس الذي يُفصح عن بلادة الحس لصالح أهداف الكفاءة البيروقراطية، وصورة رجال الشرطة باعتبارهم يساعدوننا ويحموننا جميعًا (لا باعتبارهم يمثلون فرعًا من جهاز الدولة). والأشخاص الذين يشاركون في أمثال هذه المقابلات الشخصية، بمن فيهم من رجال الشرطة، ليس من المحتمل أن يكونوا، بصفة عامة، واعين بآثار إعادة الإنتاج المذكورة.

تأمل مؤسسة اجتماعية تقوم بإدارتها داخل نفسك في ضوء ما ذكرته في هذا القسم. ما مواقع الذوات الرئيسية التي يشغلها الناس في الخطاب؟ حاول التركيز على موقع واحد من مثل هذه المواقع، وربما يكون موقعًا عادةً ما شغلته بنفسك: تُرى ما الذي تُضطر أو يسمح لك بفعله أو عدم فعله في الخطاب الذي يميز موقع الذات؟ وأخيرًا تأمل كيف يمكن أن تكون ممارسة هذه المؤسسة إعادة إنتاج لأبنية اجتماعية مثل العلاقات الطبقية باعتبارها جزءًا من مرمًى خفيٍّ.

(١٦) ملخص ونتائج

قلت في هذا الفصل: إن على الدراسة النقدية للغة أن تعتبر اللغة نظريًّا شكلًا من أشكال الممارسة الاجتماعية، أو ما أسمِّيه الخطاب؛ وإن عليها، طبقًا لذلك، أن تؤكد أن الأبنية الاجتماعية هي التي تتحكم في الخطاب، وأن تؤكد كذلك تأثير الخطاب في المجتمع من خلال إعادة إنتاجه للأبنية الاجتماعية. ولا يقتصر تحديد صورة الخطاب وآثاره على وجود عناصر من الأحوال الاجتماعية في الخطاب بل يتضمن أيضًا نظم الخطاب التي تعتبر الجوانب الخطابية للنظم الاجتماعية على المستوى المجتمعي ومستوى المؤسسات الاجتماعية. وليس الناس عمومًا واعين بضروب التحديد والآثار على هذين المستويَين، ومن ثَم فإن الدراسة النقدية للغة ترمي إلى مساعدتهم على إدراك الأسباب والعواقب غير الشفافة لخطابهم.

وقد أرسى هذا الفصل الأسس التي سوف أُقيم فوقها البناء في الفصول اللاحقة. وربما يكون من العواقب المترتبة على النظر إلى الخطاب باعتباره مجردَ شكل خاص من أشكال الممارسة الاجتماعية أن على البحث اللغوي أن يرتبط ارتباطًا أوثق (مما هو عليه) بالبحوث الاجتماعية. وسوف أستكشف في الفصلين السابع والثامن الأبعاد اللغوية للتحولات الاجتماعية بقصد تحديد الدور الذي يضطلع به الخطاب في نشأة التحول الاجتماعي وتطوره وتدعيمه. ولكنني أحتاج الآن إلى أن أزيد من إيضاح العلاقة بين الخطاب والسلطة والأيديولوجيا، وهي التي تشغل قلب الممارسة الاجتماعية التي نسميها الخطاب. وهذا هو هدفي في الفصلين الثالث والرابع، اللذَين يركزان على السلطة والأيديولوجيا، على الترتيب، في علاقتهما بالخطاب.

المراجع

للاطلاع على بعض الآراء في «الخطاب» انظر: فان دييك (1997a) و(1997b)، وفيرْكِلَفْ وفوداك (١٩٩٧م)، ومیلز (١٩٩٧م)، وبراون ويول (١٩٨٣م). وحول مفاهيم «الممارسة»، و«إعادة الإنتاج» و«الذات»، انظر: ألتوسير (١٩٧١م). ويعتبر جنكینز (١٩٩٦م) مقدمة مفيدة «للذات» والهوية الاجتماعية. والتمييز بين اللغة والكلام (langue-parole) قدَّمه سوسير في (١٩٦٦م). انظر: تیبولت (١٩٩٧م) عن سوسير. وحول التمييز بين «الوصف» و«التفسير» و«الشرح» انظر: فيركلف (١٩٨٥م)، وكاندلين (١٩٨٦م). ويعتبر كريس ولويفين (١٩٩٦م) دراسة جيدة للصور البصرية. وتفسير الطبقة والسلطة في بريطانيا المعاصرة مستمدٌّ أساسًا من مصادر ماركسية، انظر المجلة العلمية الماركسية اليوم (توقفت عن الصدور في ١٩٩١م)، وماركس وإنجلز (١٩٦٨م)، وجرامشي (١٩٧١م). وفوكوه (١٩٧١م) يستخدم مصطلح «نظام الخطاب» في فوكوه، والمقتطف من بوردیو مأخوذٌ من بوردیو (١٩٧٧م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤