الفصل الثامن

موت الشمس

سالي باليوناس هي الطبيبة المختصة بمتابعة حالة الشمس. هي تعلم أنه حين تعطس الشمس تعتل الأرض، وهي تقيس نبض الضوء و«التنفس» المغناطيسي للشمس، وتدرس تأثيراتها على كوكبنا، التي كثيرًا ما تكون لطيفة وأحيانًا تكون عميقةً. في القرن السابع عشر، أصيبت الأرض بنزلة برد شديدة، أطلق على هذا العصر اسم «العصر الجليدي الصغير»؛ إذ انخفضت درجات الحرارة في أوروبا بشدة، حتى إن الهولنديين كانوا يتزلجون على القنوات طوال فصل الصيف، وظل الاسكتلنديون مغمورين بالثلج طوال العام. شهد ذلك العصر أيضًا خمولًا شمسيًّا، واختل المجال المغناطيسي للشمس بدرجة كبيرة، حتى إنه «نسي» دورة البقع الشمسية المنوط بها.

اكتشفت سالي باليوناس الجرثوم الفلكي عام ١٩٧٧، حين كانت طالبة دراسات عليا تعمل في مرصد «جبل ويلسون» في جنوب كاليفورنيا. في أول ليلة قضتها في الرصد حطمت صاعقة برق شجرة قريبة وفجرت كل نوافذ المبنى؛ لذا عدَّت ذلك نذير شؤم. كانت سالي أحد أفراد فريق عمل مكون من متطوعين وعلماء فلك محترفين، وهو الفريق الذي أنقذ التليسكوب البالغ قطر مرآته ٢٫٥ متر (١٠٠ بوصة)، الذي كان عملاقًا في زمانه، حتى إن إدوين هابل استخدمه لقياس حجم الكون وتمدده، من الإغلاق الوشيك. عاد التليسكوب القديم الضخم للعمل مجددًا، وهو يستخدم في كل ليلة صافية من أجل إجراء الأبحاث، وسالي باليوناس هي مديرة الموقع.

إن مراقبة الشمس وانتظار تقدمها في العمر أسوأ من مراقبة الطلاء وهو يجف؛ لذا تدرس سالي باليوناس النجوم المماثلة للشمس في مراحل تطورها المختلفة كي تجمع أجزاء قصة تقدم الشمس في العمر. هذا يتيح لها فرصة استخدام عينة كبيرة لتتبع التغيرات التي تستغرق وقتًا أطول بكثير من حياة أي إنسان.

صارت سالي باليوناس محل انتباه الرأي العام، لكن على نحو غير مريح لكل من يحب النظر إلى العلماء بوصفهم أشخاصًا يتصفون بالنزاهة والموضوعية وينأون بأنفسهم عن الجدال السياسي. ترى سالي أن التغيرات المناخية ناتجة عن الشمس لا عن النشاط البشري؛ وقد عارضت اتفاقية كيوتو ونتائج اللجنة الدولية المعنية بتغير المناخ. هي شخص مفضل من جانب بيوت الخبرة المحافظة، وحظيت بتمويل لأبحاثها من شركة «إكسون موبيل» ومعهد البترول الأمريكي.

قد يكون النظر إليها كدُمية تحركها الشركات وتسبح ضد تيار الأدلة الغامر عن التغير المناخي أمرًا مغريًا، لكن سالي تجسد بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام عن العلم: إلى أي مدى يتأثر العلماء بالأيديولوجيات السياسية حين يفسرون البيانات؟ أليس تعرُّض التفسيرات السائدة للتشكيك فيها ظاهرةً صحيةً؟ ماذا لو كان هناك عدة آليات تساهم في التغير المناخي؟ وإذا لم نلم بكل ما يؤثر على كوكبنا أو شمسنا؛ أي كل ما يمد المحيط الحيوي بالطاقة ويحافظ على جميع أشكال الحياة على الأرض، ألا نخاطر بذلك بالتغاضي عن القضية الأساسية والتمسك بقضايا فرعية؟

***

(١) العيش مع نجم

(١-١) الطقس العاصف

في «رحلات جليفر» أخبرنا جوناثان سويفت عن الجزيرة الطائرة لابوتا، وهي أرض خيالية للفلاسفة وعلماء الفلك المهووسين بالسماء. كانوا يخشون أن يُغطى وجه الشمس بالبقع على نحو متزايد يحول دون وصول الحرارة والضوء الكافيين إلى العالم. وحين يقابل سكان جزيرة لابوتا شخصًا ما في وقت مبكر من اليوم لا يسألونه عن حاله، بل يسألونه: كيف بدت «الشمس» هذا الصباح؟

منذ ألفي عام، لاحظ فلكيو البلاط الإمبراطوري الصينيون الشوائب الموجودة على وجه الشمس وتتبعوها. وفي جميع الثقافات التي اعتمد فيها التنبؤ بحالة الطقس على التغيرات الموسمية والشعبية كانت أي صلة واضحة بين شكل الشمس أو سلوكها والمناخ أمرًا ذا أهمية عملية شديدة. وفي عام ١٨٠١ أعلن سير ويليام هيرشل عن اكتشافه وجود علاقة بين عدد البقع الشمسية وسعر بوشل القمح؛ فحين كانت البقع الشمسية نادرة، كان سعر القمح مرتفعًا دائمًا. وقد ذهب إلى أن وجود عدد أقل من البقع على الشمس يعني نقصًا في الإشعاع المنبعث؛ مما يؤدي إلى ظروف نمو أسوأ، وانخفاض للإنتاج الزراعي، وأسعار أكثر ارتفاعًا وفق قانون العرض والطلب الذي لا يرحم.١

بعد مائتي عام لا تزال الشمس تُحير العلماء، الذين يحاولون استيعاب تأثيراتها على الأرض. يبلغ إجمالي الطاقة التي تصل إلى أعلى الغلاف الجوي ١٣٦٦ واطًا لكل متر مربع، وكأن مصباحًا ضوئيًّا مسلطًا لكل مساحة تماثل في حجمها قطعة الورق. على مدار الدورة الشمسية التي مدتها ١١ عامًا — وذلك وفق أدق قياساتنا — يتفاوت الناتج الشمسي بنسبة ٠٫١٪ فحسب. ذلك أداء متسق للغاية، وسيكون من الشاق عليك أن تلاحظ التباين في مصباح ضوئي تغيرت طاقته من ٩٩٫٩ واطًا إلى ١٠٠٫١ واط. وهذا لن يغير درجة الحرارة إلا بمقدار ٠٫٠٥ مئوية (٠٫٠٩ فهرنهايت)، لكن نماذج المناخ غير مؤكدة بدرجة كبيرة، وتتنبأ الصور المختلفة منها بأن الشمس يمكن أن تكون السبب وراء نسبة تتراوح من ١٠ إلى ٣٠٪ من الاحترار العالمي الذي وقع حديثًا.

تخفي تفاوتات الضوء المتواضعة حقيقة أكثر عمقًا: إن الشمس مولد للطاقة، بكل معنى الكلمة؛ فالبقع الشمسية هي مساحات ذات درجة حرارة سطح منخفضة تشهد تركيزًا قويًّا للمجالات المغناطيسية. ينعكس اتجاه المجال المغناطيسي للشمس بأكمله مع كل ذروة في دورة البقع الشمسية، ومع أن الإشعاع ذا الطول الموجي القصير لا يمثل سوى نسبة يسيرة من إجمالي الناتج الشمسي، فإنه يتباين بصورة مثيرة، مخلفًا آثارًا معقدة وعميقة على مناخ الأرض وغلافها الجوي. وعلى مدار الدورة الشمسية يتفاوت مقدار الأشعة فوق البنفسجية أكثر من تفاوت الضوء المرئي بنحو ١٥ ضعفًا، ولهذه الفوتونات المحملة بالطاقة تأثير بالغ على طبقة الأوزون.

إن التأثيرات الثانوية المرتبطة بالبقع الشمسية هائلة؛ إذ تقذف الشمس من سطحها بحلقات من البلازما أكبر في حجمها من الأرض، وبهذا تصل بين خطوط المجال المغناطيسي؛ مما يحرر طاقة تعادل مليار قنبلة ذرية، ويحدث تدفق هائل للغاز من سطح الشمس يطلق عليه اسم «الانبعاثات الكتلية الإكليلية». عند وقوع مثل هذا الوهج الشمسي يتحتم على رواد الفضاء على متن المحطات الفضائية أن يحتشدوا في مساحة واقية لتجنب تلف الخلايا. وحين تحدث الانبعاثات الكتلية الإكليلية يتبقى لنا عدة أيام كي نستعد للهجوم الذي سوف يُشن على الأقمار الصناعية ونظم الطاقة لدينا. تسبب الانبعاثات المعتدلة ظاهرة الشفق القطبي ذات الشكل الأخاذ، أما الانبعاثات الأكثر حدة فتتسبب في أضرار بشبكة الطاقة الكهربائية تقدر بمليارات الدولارات.

ما لم تكن في الفضاء، فلن يهدد أي شكل من هذا السلوك حياتك، لكن هذا العنف يذكرنا بأن الشمس ليست مجرد نجم مستقر باهت. أطلق وهج شمسي — يقع بهذه الشدة مرة كل ألف عام — حدث عام ١٨٥٩ شفقًا قطبيًّا شديد السطوع، حتى إن قاطني إنجلترا كانوا يستطيعون القراءة في ضوئه، وكان شديد الانتشار، حتى إنه شوهد في جزر الباهاما وهاواي. وتمر بعض النجوم المماثلة للشمس ﺑ «توهجات عظمى» تحمل من الطاقة ما يزيد على ١٠ إلى ١٠٠ مليون مرة عن أقوى وهج جرى رصده على الشمس، ومن شأنها أن تدمر طبقة الأوزون على نحو شبه مؤكد، ومن ثم تتسبب في خلل السلسلة الغذائية. ومن حسن حظنا لا يبدو أنها تحدث إلا عندما يتشابك المجال المغناطيسي لكوكب عملاق موجود في مدار قريب مع النجم، وليس لكوكب عطارد صغير الحجم أي مجال مغناطيسي.

جمعت وكالة ناسا برامجها الشمسية تحت مسمى «العيش مع نجم» (وكأن أمامنا اختيار). البعثة الفضائية الرئيسية هي القمر الصناعي «سوهو» (مرصد الشمس وغلافها). غيَّر هذا القمر الصناعي عظيم الشأن من رؤيتنا للغلاف الداخلي والخارجي للشمس والرياح الشمسية. وأثناء وقت «فراغه» اكتشف ما يزيد عن ألف مذنب شديد القرب من الشمس. تعمل «الشبكة العالمية لمراقبة نبضات الشمس» من خلال ستة أجهزة تصوير شمسي موزعة في جميع أنحاء الكرة الأرضية تراقب الشمس على نحو مستمر، وتصدر تحذيرًا حال حدوث شيء. إن الكشف عن السمات الظاهرية يعطي صورة مفصلة للجزء الداخلي من الشمس.

تستخدم أجهزةُ إعداد النماذج الشمسية أجهزةَ كمبيوتر قوية لتحويل البيانات إلى رؤية ثلاثية الأبعاد للشمس، وباستطاعتها أن تتنبأ بالانبعاثات الكتلية الإكليلية؛ حين تلتوي خطوط المجال المغناطيسي بشدة، حتى إنها تنقطع كشريط مطاطي، وتقذف بمليارات الأطنان من البلازما تجاه الأرض بسرعة مليون ميل في الساعة. وكانت هذه الأجهزة دقيقة في تنبئها بشكل هالة الشمس أثناء الكسوف الكلي للشمس في مارس عام ٢٠٠٦.

تتجلى القوة المذهلة للشمس وأهميتها المحورية لوجودنا على نحو شديد الوضوح أثناء الكسوف الشمسي. ومع أنني لست من «المهووسين» بالكسوف مثل بعض زملائي، فقد حالفني الحظ بأن أرى الكسوف الكلي للشمس عدة مرات. وهو مبهر للغاية حين يحدث على الماء. حين كنت بالقرب من الجسر، وأنا على متن سفينة سياحية قريبة من باجا بكاليفورنيا عام ١٩٩١، شاهدت الظل يمرق عبر المياه الممتدة متجهًا نحونا، وخيم بعدها الصمت والذهول على مئات المشاهدين. وعند الظهيرة في تلك المنطقة المدارية، بدا الأمر وكأن قبضة يد اخترقت السماء محدثة ثقبًا أسود فوقنا. وفي عام ٢٠٠٦ كنت قبالة ساحل تركيا على متن سفينة تبحر بهدف العثور على فرجة بين السحب لمشاهدة الكسوف. كنا على بعد مائة ميل من موقع كسوف شهير وقع عام ٥٨٥ قبل الميلاد، حين كتب هيرودوت أن قبيلتين متحاربتين، الميديين والليديين، أصابهما الذعر والارتباك حين أظلمت السماء. وضعت القبيلتان أسلحتهما وسط المعركة وأعلنتا السلام. كنت أشاهد باستمتاع والمشاهدون يحتشدون على جانب السفينة، ويدفع بعضهم بعضًا للتمتع برؤية أفضل، على الرغم من أنه لم يكن أحد جانبي السفينة أقرب إلى الشمس المظلمة من الآخر.

(١-٢) دهاء النار والجليد

سكان لندن يتزلجون على نهر التيمز. الأنهار الجليدية السويسرية تتقدم نحو المزارع وتسحق قرى بأكملها. الجيش السويدي يزحف مسافة ٣٢ كيلومترًا على بحر متجمد كي يغزو الدنمارك. الأسطول الهولندي حبيس أحد الموانئ مدة ستة أشهر. عدد سكان آيسلندا انخفض إلى النصف بسبب تجمد مياه البحر حولها مسافة كيلومترات، مما ألحق ضررًا شديدًا بالاقتصاد. سكان نيويورك يسيرون على الجليد من مانهاتن إلى جزيرة ستاتين. الطيور تتساقط من فروع الأشجار، متجمدة حتى الموت.

كانت هذه مشاهد من «العصر الجليدي الصغير» الذي سبَّب مواسم شتاء قاسية عبر دوائر العرض الشمالية في منتصف القرن السابع عشر، وهو يتزامن تقريبًا مع ما أطلق عليه اسم فترة غياب البقع الشمسية، وهي الفترة من عام ١٦٤٥ حتى ١٧١٥ التي كان فيها عدد البقع الشمسية منخفضًا على نحو غير معتاد. قد تظن أن الشمس دون البقع الشمسية ستجعل الأرض أكثر دفئًا لأن البقع الشمسية مظلمة، لكن المناطق الساطعة المحيطة بالبقع تعوض هذا التأثير على نحو كبير؛ من ثم تكون الشمس فعلًا أكثر عتامةً عند غياب البقع الشمسية، ومع ذلك فالقصة الكاملة أكثر تعقيدًا؛ لأن الشمس الخالية من البقع ستخفض درجات الحرارة بمقدار ٠٫٥ درجة مئوية فحسب (درجة واحدة فهرنهايت)، وهو أقل مما مرت به أوروبا. علاوة على ذلك، كان العصر الجليدي الصغير مقصورًا على نصف الكرة الشمالي، وبدأ في وقت مبكر يرجع إلى القرن الثالث عشر، مع وصول درجات الحرارة إلى أقل معدلاتها في الأعوام ١٦٥٠ و١٧٧٠ و١٨٥٠. لعب النشاط البركاني المتزايد دورًا في هذا الأمر، وربما أسهم في الأمر أيضًا توقف ظاهرة «سير المحيط المتحرك العظيم» التي تسمح لأوروبا بأن تستمتع بدفء تيار الخليج.

على مدار مقاييس زمنية أطول، كانت التغيرات في مخرجات الشمس مهمةً، لكن تعين قياسها بصورة غير مباشرة قبل عصر التليسكوبات. يعتبر الكربون ١٤ المشع وسيلة قياس ممتازة؛ إذ يتكون حين تنهمر الأشعة الكونية من الفضاء على الأكسجين في الطبقة العلوية من الغلاف الجوي، ثم يُدمج في حلقات الأشجار. ثمة عنصر آخر هو البريليوم ١٠ الذي يمكن قياسه في طبقات الجليد القطبية. يحمي المجال المغناطيسي الشمسي الأرض من الأشعة الكونية؛ لذا حين يكون النشاط الشمسي والبقع الشمسية منخفضين يتكون كم أكبر من الكربون ١٤ والبريليوم ١٠ ويترسب، وينخفض تركيزهما حين يكون النشاط الشمسي مرتفعًا. وكلا العنصرين يؤكد حدوث فترة غياب البقع الشمسية ويوضح أن النشاط الشمسي على مدار الأعوام السبعين الماضية مرتفع بنفس المقدار الذي كان عليه على مدار الثمانية آلاف عام الماضية. ليست تبعات تغير النشاط الشمسي على المناخ واضحة لأن الاقتران غير مباشر ومعقد.

تعد فترة العشرة آلاف عام قطرة في بحر الزمن الجيولوجي، وقد كانت العشرة آلاف عام الماضية فترة دافئة أطلق عليها اسم الهولوسين، وهي الفترة التي تبعت ذروة العصر الجليدي الأخير منذ ٢٠ ألف عام. تقدم لنا الطبقات الرسوبية والجليدية القديمة سجلًّا كاملًا للتغيرات على مدار ٥ ملايين عام (الشكل ٨-١). شهدت المليون عام الأخيرة تحديدًا تغيرات مفاجئة في المناخ، مع تفاوت فاق ١٠ درجات مئوية (١٨ درجة فهرنهايت)، وهو ما يزيد عن المقدار الذي نقلق أن يتسبب به الاحترار العالمي الحالي الذي يتسبب به البشر.
fig40
شكل ٨-١: التغيرات المناخية العالمية على مدار الخمسة ملايين عام الماضية، كما هي مقاسة من ٥٧ موقعًا للعينات اللبية الرسوبية في قاع المحيطات، وقياس تركيز النظائر المشعة في الطلائعيات صغيرة الحجم الموجودة بالمياه الباردة (المقياس الأيمن الذي يجسد بصورة بيانية درجة تركيز معدن حساس لدرجة الحرارة خضع للأيض من الكائنات في المحيطات). هذا يمكن ربطه بتغيرات درجة الحرارة العالمية المستدل عليها من العينات اللبية للصفائح الجليدية من بحيرة فوستوك، القارة القطبية الجنوبية (المقياس الأيسر الذي يبرز تغير درجة الحرارة على مستوى العالم من عينات الصفيحة الجليدية في مكان واحد). وجرى تمييز المناطق التي تظهر فيها دورتا ميلانكوفيتش اللتان تحدثان كل ٤١ ألف عام و١٠٠ ألف عام. (Robert A. Rohde, UC Berkeley, and Global Warming Art)

الشمس مسئولة جزئيًّا عن هذه التغيرات، وذلك بطريقة دقيقة ترتبط بالتغيرات في مدار الأرض، فمنذ مائة عام خمن عالم الرياضيات الصربي ميلوتين ميلانكوفيتش أن العصور الجليدية نتجت عن مجموعة من التغيرات الدورية: التغير الذي يحدث كل ١٠٠ ألف عام في الدرجة التي ينحرف بها مدار الأرض حول الشمس عن إحدى الدوائر، والتغير الذي يحدث كل ٤١ ألف عام في ميل محور الأرض بالنسبة للشمس، والتواء محور دوران الأرض الذي يحدث كل ٢٣ ألف عام مع الدوران السريع للكوكب حول نفسه. كل هذه التأثيرات تغير قدر الإشعاع الذي يتلقاه كل مكان بعينه على السطح. وتجتمع الإيقاعات الكونية المتكررة لتوجد نمطًا معقدًا من البرودة والتدفئة.

وكما هو الحال مع جميع التغيرات المناخية، تلعب عوامل أخرى دورًا، مثل النشاط البركاني والارتطامات ودوران المحيطات؛ لأن العصور الجليدية ليست منتظمة على نحو ما تتنبأ به نظرية ميلانكوفيتش، وقد كانت الدورة التي تحدث كل ١٠٠ ألف عام هي الأقوى على مدار المليون عام الماضية في حين تذهب النظرية إلى أنها يجب أن تكون الأضعف.٢ لكن بصرف النظر عن الآلية، لم يكن أسلافنا الذين عاشوا على امتداد ملايين السنوات القليلة الماضية ليقلقوا بشأن ارتفاع طفيف في درجة حرارة العالم.

(١-٣) خاتمة قوية حقًّا

كل ما سبق هو مجرد طريقة للالتفاف حول حقيقة أكبر؛ أن الشمس لن تعيش إلى الأبد. ولأول مرة منذ بدأنا النظر للكيفية التي سنموت بها نواجَه بما هو محتوم، وليس بما هو مرجح وحسب. وسوف تتسبب نهاية الشمس في مشكلة هائلة لنا، أو لأي مخلوقات قد تكون موجودة حين يقع المحتوم.

إن وصفنا للشمس بأنها نجم عادي وصف صحيح، لكن فيه إفراط في التبسيط؛ فهناك نجوم أصغر وأخرى أكثر ضخامة، ونجوم أكثر سخونة وأخرى أكثر برودة، ونجوم أقصر عمرًا وأخرى أطول عمرًا. لكن إذا صنفنا الشمس حسب الكتلة أو السطوع، فستحقق مكانة مبهرة حقًّا؛ إذ ترد ضمن أعلى ١٥٪ من النجوم. وليس هناك ما هو عادي في كرة من الغاز تتسع لمليون أرض ويزيد، وتحول ٦٣٥ مليون طن متري من الهيدروجين إلى هيليوم كل ثانية، وحولت ما يعادل كتلة ١٠٠ كوكب أرض إلى طاقة صافية وفق معادلة أينشتاين الأنيقة «الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء»، وتزود غلافنا الحيوي بالطاقة ونحن على بعد ١٥٠ مليون كيلومتر عنها ونتعرض لجزء من المليار من إشعاعها.

تستمد الشمس طاقتها من عملية الاندماج النووي نفسها التي نستخدمها في أسلحتنا الأكثر ترويعًا. لكن ليست الشمس قنبلة؛ إذ تظل منتفخة وذات حجم ثابت لأنه بكل مكان داخلها ثمة توازن مثالي بين الجاذبية التي تسحب للداخل والضغط الناتج عن تفاعلات الاندماج الذي يدفع للخارج. ومع تراكم الهيليوم — ناتج الاندماج النووي — في مركز الشمس، ينضغط وتزداد حرارته أكثر، وهذا يزيد من معدل الاندماج الكلي. وهكذا يتزايد حجم الشمس وسطوعها على نحو ثابت، وهو ما استمر مدة ٤٫٥ مليارات عام (الشكل ٨-٢).
fig41
شكل ٨-٢: رسم بياني لدورة حياة الشمس. نحن نقف تقريبًا في منتصف التفاعل الرئيسي الذي يتحول فيه الهيدروجين إلى هيليوم. بعد ذلك، تمر الشمس بسلسلة من التغيرات المشوشة ويتغير تركيبها، وتبحث عن مصادر جديدة للطاقة. وفي النهاية، تستنفد الشمس كل مصادر الطاقة النووية وتبرد إلى الأبد كقزم أبيض. (Tablizer, Wikipedia GNU License and Creative Commons License)

وضع جيم كاستينج، الأستاذ بجامعة بنسلفانيا، أفضل النماذج التي تناولت سطوع الشمس مع تقدمها في العمر. في غضون نصف مليار عام سيزيد الاحترار من معدل التجوية، وبهذا ينتقل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي إلى المحيطات. ومن قبيل المفارقة، في ضوء القلق الحالي بشأن الاحترار الناتج عن زيادة ثاني أكسيد الكربون، فإن وجود قدر قليل للغاية من ثاني أكسيد الكربون يعد أمرًا أسوأ. ستنخفض درجة تركيز ثاني أكسيد الكربون بدرجة شديدة، حتى إن التمثيل الضوئي في معظم الأشجار والنباتات سيتوقف. ستواصل بعض النباتات التي تركز الغاز لنفسها — كقصب السكر والحشائش المدارية — دورها ببسالة، لكن المحيط الحيوي سيتلف على نحو لا براء منه.

بعد ذلك ستصير فاجعة بكل معنى الكلمة. ستذوب القلنسوات الجليدية، وتشهد المناطق الاستوائية الفيضانات، وترتفع درجة الحرارة هناك إلى مستوى غير محتمل للعديد من الحيوانات. ستتبخر مياه المحيطات شديدة الدفء إلى طبقة الستراتوسفير وتبدأ في التسرب في الفضاء، وستواصل المحيطات التبخر. سيصير الكوكب بأكمله صحراء جافة. سيتمكن الإشعاع القاسي المنبعث من الشمس مرتفعة الحرارة آنذاك من تحرير ثاني أكسيد الكربون من الرواسب في قاع المحيطات، ليزيد أكثر من درجة حرارة الكوكب. وأخيرًا، حتى ذلك الغاز سيسخن لدرجة التبخر في الفضاء. وبعد حوالي ٣٫٥ مليارات عام من الآن ستكون الأرض صخرةً جافةً.

يتصف السجل الزمني بتناسق غريب ومخيف، ونحن نمثل قمة تاريخ الحياة ومركزه. وكما أشار بيتر وارد ودون براونلي في كتابهما «حياة كوكب الأرض ووفاته» ستعود الهيمنة الميكروبية التي أفضت إلى الحياة المعقدة، بعد فناء الحيوانات والنباتات بسبب الظروف القاسية. وإن استطاعت الأنواع أن تتطور للعيش تحت الأرض أو تحت قاع البحر فقد يستمر المحيط الحيوي حتى ذلك الوقت المجدب الذي تعد صحراء أتاكاما المقفرة الحالية أشبه بالجنة الوارفة قياسًا به. سيكون آخر سلف مشترك هو آخر سليل مشترك، وربما يكون أحد الكائنات القوية الناجية كبكتيريا «ديسولفورودس أوداكسيفاتور» التي تقبع في الصخور مستمتعة بالوهج الإشعاعي.

ليست الشمس ضخمة بما يكفي كي تموت كمستعر أعظم، لكن سيظل في جعبتها عدد قليل من الحيل. سينضغط مركز الشمس على نفسه ويسخن بفعل الهيدروجين غير المندمج حتى مرور ٥٫٥ مليارات عام من الآن، وحينها سيشتعل ذلك الغطاء الهيدروجيني وتصير الشمس نجمًا شبه عملاق يصل في الحجم إلى ضعف حجمه الحالي. بعد ذلك، وبعد مرور حوالي ٧٠٠ مليون عام، يحل الفصل الختامي. ليس المقصود النهاية الفعلية، بل اللحن الختامي المتصاعد الذي يتسم بالحرارة الشديدة والتفاعل العنيف لآخر ذرات الشمس. ينضغط مركز الشمس ويزداد سخونة حتى لا يسعه أن ينضغط أكثر من ذلك، وتطرد الحرارة الطبقات الأكثر برودة من الشمس، محولةً إياها إلى عملاق أحمر منتفخ. وعند ذروتها، ستكون الشمس أكبر حجمًا مما هي عليه اليوم بما يعادل ٢٥٠ مرة، وأكثر سطوعًا بما يعادل ٢٧٠٠ مرة.

أما ما سيحدث للأرض فيعتمد على التسابق بين تأثيرين؛ ففي حين تنتفخ الطبقات الخارجية للشمس للخارج تتخلص الشمس من ثلث كتلتها، وبهذا تضعف قبضة جاذبيتها وتبدأ الكواكب في اتخاذ مدارات حلزونية إلى الخارج. لكن الطبقات الخارجية التي تصل حرارتها إلى ٢٧٦٠ درجة مئوية (٥ آلاف درجة فهرنهايت) ستندفع خلال المجموعة الشمسية متجهة نحو الأرض. ستتحدد النتيجة بعد مرور قرابة ٧٫٦ مليارات عام، لذا لا تنسَ أن تعد الخطط بشأن ممتلكاتك.

ترسم الحسابات الحالية صورةً كئيبةً. من على الأرض، ستكبر الشمس ذات اللون الأحمر الزاهي في الحجم حتى تملأ السماء. ومع أننا نبتعد عن الشمس فإنها تتقدم نحونا بسرعة أكبر، وقد تطول ألسنة اللهب كوكبنا. سيبطئ الاحتكاك الناتج عن الحركة خلال الطبقات الخارجية للشمس من مسارنا وتهوي الأرض نحو الشمس على نحو لا يمكن إيقافه.، ثم تبتلع الشمس الأرض.

(١-٤) وداعًا أيتها الماسة المجنونة

يبدو المقطع الختامي لهذه السيمفونية صاخبًا. ستغمر قوى الاحتكاك والجاذبية كواكب الأرض والزهرة وعطارد وتجذبها نحو الشمس. سينجح المريخ في الفرار بالكاد، بعد أن تلتهم الشمس أقرب أبنائها. لكن دعونا نواصل الحديث لأنها لا تزال قصتنا؛ فالأرض المتبخرة هي جزء من قلب الشمس الحزين.

ماذا يحدث حين تحل النهاية؟ على عكس البشر، لا تبطئ النجوم من سرعتها مع تقدمها في العمر، فهي تلفظ أنفاسها الأخيرة على نحو معقد وفي إنشاد زاخر بالانفعال. ودليلنا إلى وفاة الشمس هو كاتي بيلاتشوسكي. كانت كاتي أحد كبار أفراد طاقم العمل في «المراصد الوطنية» لمدة ٢٠ عامًا، وهي تعلم الكثير عن الحياة الداخلية للنجوم. هذه السيدة النحيلة التي يبلغ طولها بالكاد خمس أقدام ويكسو رأسها هالة من لفات الشعر الأسود كانت نموذجًا عظيمًا للنساء في علم الفلك. وكرئيسة للجمعية المهنية لعلماء الفلك كانت تجلس فوق دليلين للهاتف كي تحظى برؤية أفضل لزملائها وتدير الاجتماعات في ثقة يشوبها الهدوء والحزم.

تصف كاتي العواقب التي تعود على الأرض بأسلوب رصين، وتقول: «سننتهي داخل الشمس لتتبخر مادتنا وتمتزج بمادة الشمس. بعد ذلك سينفجر جزء من الشمس بعيدًا في الفضاء؛ لذا يمكن القول إن الأرض ستُحرق ويُنثر رمادها في الفضاء النجمي.» ومثلما هو الحال في كل مرحلة من مراحل حياة أي نجم، يكون لكل من الجاذبية والضغط الناتجين عن التفاعلات النووية تأثيران متعارضان. لكن على عكس حالة التعادل القائمة عبر أحد عشر مليار عام جرى فيها تحويل الهيدروجين إلى هيليوم، يحظى الآن أحد الجانبين بميزة مؤقتة، ثم تذهب الميزة إلى الطرف الآخر. كان المصارعان ممسكين أحدهما بالآخر في حالة توازن، لكن الآن صارا يتمايلان على نحو خطير من جانب لآخر تمهيدًا لأن يطيح أحدهما بالآخر.

إن الشمس مصابة بالفصام؛ فغلافها الخارجي يبرد ويقل في المساحة وينكمش مركزها ويصل إلى درجة حرارة فائقة تبلغ ١٠ ملايين درجة مئوية (١٨٠ مليون درجة فهرنهايت). ولكي تتجنب الشمس الجاذبية تبدأ تفاعلًا نوويًّا حراريًّا جديدًا، وتحول الهيليوم إلى كربون. تتميز هذه المرحلة الانتقالية الجديدة بوميض هائل ويزيد ناتج طاقتها بنحو ١٠٠ مليار ضعف الناتج المعتاد من الطاقة. بعد ذلك تتقلص إلى حالة أكثر عتامة وأصغر حجمًا وأكثر سخونة مما مرت به كعملاق أحمر. وبفضل تكوينها للهيليوم، بالإضافة إلى القليل من الأكسجين والنيون، تكسب الشمس عددًا أكبر من السنوات يصل إلى مائة مليون عام. تبلغ درجة حرارة مركز الشمس الآن ٣٠٠ مليون درجة مئوية (٥٤٠ مليون درجة فهرنهايت).

حين ينفد الهيليوم يكون للجاذبية اليد العليا وتفرض انهيارًا جديدًا لمركز الشمس، وهو ما يطلق اندماجًا نوويًّا عنيفًا وغير مستقر. تقع سلسلة من أربعة اضطرابات عنيفة يفصل بين كل منها ١٠٠ ألف عام فحسب. تتموج تفاعلات الاندماج النووي عبر الطبقات الخارجية وتصل الشمس إلى ذروة سطوعها على مدار حياتها؛ إذ تزيد في سطوعها ٥٢٠٠ مرة عن سطوعها الحالي. هذه شهقة الموت. وفي ذروة احتضارها ستلفظ الشمس أنفاسها الأخيرة على صورة عدد من خيوط الغاز المضيء المنبعث في النطاق الخارجي للمجموعة الشمسية وما وراءه، وسيكون الوهج الأخضر والأحمر صورة متواضعة للسديم الكوكبي الجميل الذي صوره «تليسكوب هابل الفضائي». ليس من الواضح أين سيكون المكان الأمثل لمشاهدة هذا العرض. ستبتلع الشمس المريخ. وتتبخر محيطات القمر يوروبا ويتفحم القمر تيتان. ربما يكون بإمكان أولئك الذين كانوا بالذكاء الكافي بحيث انتقلوا للعيش على سطح قمر تريتون التابع لكوكب نبتون أن يشاهدوا المرحلة الأخيرة بارتياح نسبي.

في ضوء حرمان الشمس من غلافها ومن أي وقود نووي جديد، ينكمش قلبها بحيث لا يتجاوز آلافًا قليلة من الأميال. تسطع الشمس على نحو رائع وتشع حرارة تزيد عن ٢٠٠ ألف درجة مئوية (٣٦٠ ألف درجة فهرنهايت)؛ بمعنى أنها ستصير قزمًا أبيض. حين كتبت فرقة بينك فلويد أغنية «اسطعي أيتها الماسة المجنونة» كان عنوان الأغنية بمنزلة استعارة مزدوجة. كانت الأغنية مهداة للمغني سيد باريت؛ أحد مؤسسي الفرقة الذي تألق على نحو ملحوظ ثم ضاع في ظلمات المخدرات والجنون. كانت الأغنية أيضًا أنشودة شكر للمراحل الأخيرة من تطور النجوم.

توجد المادة الغنية بالكربون التي تحملها هذه الجمرة التي تفقد حرارتها في حالة غريبة ما بين الجرافيت والماس، وهي كثيفة للغاية، حتى إن حفنة منها ستزن أكثر من وزن طائرة نفاثة ضخمة. وبفعل الفقدان المتواصل للحرارة يخبو ضوء الشمس على نحو جميل من الأبيض إلى الأصفر إلى الأحمر الباهت ثم إلى الأسود.٣

(٢) الانتقال إلى خارج الأرض

(٢-١) مستقبلنا في الفضاء

إن خذلتنا الأرض والشمس، وكان هناك نوع مستقبلي على درجة كافية من الذكاء بحيث يفعل شيئًا حيال هذا الأمر، فإن أفضل رهان هو الانتقال خارج الأرض. كان السفر عبر الفضاء حتى هذه النقطة أمرًا بدائيًّا إلى حدٍّ ما، فالصواريخ ما هي إلا ألعاب نارية، وتعيَّن على رواد الفضاء الأوائل أن يرتدوا حفاضات. جرب نحو ٥٠٠ شخص إثارة الابتعاد عن الأرض، وخمسة بالمائة منهم ماتوا (لوضع الأمر في منظوره الصحيح، هذا أقل من معدل الوفيات الذي سجل بين ٢٧٠٠ شخص تقريبًا تسلقوا قمة إفريست والبالغ ١٠٪). ومن وجهة نظر كثير من المتخصصين في علوم المستقبل وأصحاب الرؤى المستقبلية، كان برنامج الفضاء مخيبًا للآمال؛ إذ طغت الإخفاقات على الانتصارات.

من منظوري الشخصي، لم أنجذب دومًا للأفكار المستقبلية من قبيل الاستعاضة عن الطعام بأحد الأقراص، وأن أشاهد التليفزيون على ساعتي، أو أن تكون لي سيارة حوامة، لكني أرغب بشدة في أن أجرب الذهاب إلى الفضاء أو أن أطأ بقدمي عالمًا آخر قبل أن أموت. ومع التقدم شديد البطء لاستكشاف الفضاء وعدم قدرتي على تقديم أكثر من ٢٠ مليون دولار إلى وكالة الفضاء الروسية، يبدو أن هذه المتع ستنتظر أبنائي أو أحفادي على الأرجح.

ما الذي لم يَسِر على النحو الصحيح؟ لقد ولد برنامج الفضاء من رحم التنافس بين القوتين العظميين، وظلت تديره طيلة عقود بصورة حصرية الوكالات الحكومية لدولتين فحسب. ليست هذه وصفة للكفاءة أو الابتكار. كسبيل لاكتساب المعرفة عن الكون تمدنا أجهزة الاستشعار عن بعد بمعلومات ذات تكلفة أقل بكثير من تكلفة استكشاف الفضاء. وأي تليسكوب كبير يمكنه أن يرى النجوم على امتداد نسبة ٩٥٪ من الزمان الكوني، ويصور بدقة بنية المجرات، ويقيس وفرة العناصر التي هي أندر من الهيدروجين تريليونات المرات، بالإضافة إلى اكتشاف الكواكب حول النجوم البعيدة. على النقيض، تعتمد وكالة ناسا على مكوكات فضاء يبلغ عمرها ٣٠ عامًا، وقد تحطم اثنان من بين خمسة منها إثر فشل كارثي، مما أدى إلى وفاة ١٤ فردًا من طاقمَي المكوكين. وبفضل سفن الفضاء استطاعوا أن يضعوا ١٢ رجلًا على سطح القمر، وأن يجلبوا نحو ٥٠٠ كيلوجرام من الصخور، لكن الأمر كان صعبًا ومكلفًا للغاية، حتى إننا لم نعد للقمر طيلة ٤٠ عامًا تقريبًا.

قد يبدو هذا التقييم جائرًا، لكن ليس تمامًا، فطيلة العقود الثلاثة الأولى كان برنامج الفضاء أحد صور المنافسة في الحرب الباردة. والآن نرى شبح هذا التنافس في ظل ظهور الصين كقوة فضائية، لكن المشهد الأكبر يشمل مشاركة أطراف خاصة وتجارية. إن استكشاف الفضاء يترك طور ميلاده المؤلم، واحتمالات المستقبل مشرقة للغاية.

في الولايات المتحدة، فُتح الباب أمام هذه المشاركة بموجب قانون الإطلاق التجاري لمركبات الفضاء الذي صدر عام ١٩٨٤، وقانون صدر عام ١٩٩٠ حرر الفضاء من القيود الحكومية، وأتاح شروط منافسة متساوية بين وكالة ناسا والشركات التجارية. وبحلول عام ١٩٩٧ خصخصت روسيا معظم وكالاتها المرتبطة بالإطلاق الفضائي. أدركت وكالة ناسا أنها تحتاج إلى شركاء من القطاع الخاص لتحقيق أهدافها، وفي عام ٢٠٠٦ أعلنت الوكالة حصولها من القطاع الخاص على تمويل قدره ٥٠٠ مليون دولار من أجل التطوير، وفي عام ٢٠٠٨ منحت العقود الأولية. وقد تسببت الاختلافات الثقافية بين الموظفين الحكوميين وأصحاب المشروعات الخاصة في بعض التوتر بالفعل!

احتضنت صحراء موهافي برنامج الفضاء الخاص، حيث كان بيرت روتان يحلم بالفضاء. ومثل بطله فيرنر فون براون، بدأ في بناء الصواريخ وهو طفل. غيرت تصميماته من طريقة تصنيع الطائرات الخفيفة، وحطمت الأرقام القياسية للمسافات الطويلة للطائرات الصغيرة الآلية. أسس روتان شركة «سكيلد كومبوزيتس» عام ١٩٨٢، وفي عام ٢٠٠٤ فازت الطائرة التجريبية التي بناها في الصحراء بجائزة «أنساري إكس» لإطلاق رحلتين مأهولتين حتى حافة الفضاء على متن مركبة قابلة لإعادة الاستخدام. لم يكن روتان يسعى للمال؛ إذ تكلف أكثر من ١٠٠ مليون دولار كي يفوز بجائزة إكس التي تبلغ قيمتها ١٠ ملايين دولار، لكن الفكرة تكمن في إثارة المنافسة عن طريق جائزة عامة أعدت على شاكلة جوائز الطيران الناجح التي كانت موجودة في أوائل القرن العشرين.

الآن صارت الأبواب مفتوحة، ويحتشد رواد الأعمال عبر الإنترنت من أجل الاستثمار في الفضاء، والبعض يدفعون لمجرد أن يكونوا من سائحي الفضاء. سجلت وكالة الطيران الفيدرالية ١٨ شركة للعمل على أجهزة الإطلاق منخفضة التكلفة. تحقق هدف الطيران المداري، وتعتزم شركة تحمل اسم «سبيس آيلاند جروب» بناء محطة فضائية خاصة ذات أماكن إقامة مؤجرة. وانخفضت تكاليف إطلاق الحمولات من ١٠ آلاف دولار لكل كيلوجرام إلى ألف دولار؛ أي حوالي ٧٠ ألف دولار للفرد البالغ، وإن شهدت هذه التكاليف مزيدًا من الانخفاض فسيصير حلم الصعود إلى الفضاء في متناول العديد من الأشخاص؛ بمن فيهم أنا وأنت. وآخر مسابقة كانت جائزة «جوجل لونار إكس»، التي يشار إليها اختصارًا بالاسم «مُون ٢٫٠»، والتي ستمنح ٢٠ مليون دولار لأي فريق يستطيع الهبوط بمركبة قمرية وتشغيلها بنهاية عام ٢٠١٢. لقد شهد العقد الماضي تقدمًا مذهلًا.

إن أصحاب الرؤى المستقبلية للفضاء في ثوبه الجديد ليسوا أشخاصًا غير واقعيين، بل هم علماء ومهندسون يتصفون بالجدية والواقعية مثل زميلي في الجامعة روبرت بوند. كان بوند يعمل بمختبر المملكة المتحدة للطاقة الذرية في كولهام على عمليات الاندماج النووي كمصدر للطاقة، لكن فاض به الكيل بسبب البيروقراطية الحكومية والوقوف المتكرر على طريق تحقيق أهدافه؛ لذا ترك وظيفته الحكومية وهو الآن يعمل لمصلحة شركة «ريآكشن إنجينز ليمتد»، وهي شركة خاصة تعمل على تصميم المركبات المدارية وتحت المدارية التي تستخدم محركًا نفاثًا هجينًا وصاروخًا يعمل بالوقود السائل. وقد تعين على هذه الشركة وغيرها من الشركات أن تخوض غمار سياسات دول الاتحاد الأوروبي التي لها استثمارات كثيرة في الصواريخ التقليدية غير القابلة لإعادة الاستخدام.

في أحد أيام الصيف المعتدلة تناولنا المشروبات في حديقته بالقرب من مدينة أكسفورد، وكان يتحدث بكل حيوية أثناء وصفه للتكنولوجيا التي يأمل في أن تجعل من السفر عبر الفضاء أمرًا روتينيًّا. روبرت رجل لطيف، كان يعزف على الجيتار في إحدى الفرق المتخصصة في غناء أغنيات السبعينيات خلال أيام نهاية الأسبوع، لكن الفضاء ليس هواية له، بل هو مسعى حياته. أَمَلْنا رأسنا للوراء ونظرنا لسماء الصيف الإنجليزي ذات اللون الأزرق الباهت وتخيلنا المستقبل.

لم يعد ادعاؤنا بأن مصيرنا سيكون في الفضاء يبدو أمرًا غير عقلاني. هكذا يعتقد ستيفن هوكينج، وقد حجز مقعدًا في الطائرة الفضائية «سبيس شيب تو»، وهي مشروع مشترك بين شركة روتان وشركة «فيرجن جالاكتيك» المملوكة للسير ريتشارد برانسون. وفي هذا الصدد يقول هوكينج: «أعتقد أن الجنس البشري لن يستطيع أن يجتاز الألفي عام التاليين إن لم ننتشر في الفضاء. هناك كم كبير للغاية من الحوادث التي يمكن أن تحل بالحياة على سطح كوكب واحد، لكنني متفائل. سنصل إلى النجوم.»٤ على الرغم من التكلفة والصعوبات العملية التي نواجهها، فلا يزال الفضاء يلهمنا. تذكر كلمات أنطوان دي سان إكسوبيري: «إن كنت تريد بناء سفينة، فلا تحشد الأفراد معًا لجمع الحطب ولا تخصص لهم المهام والعمل، وإنما علمهم أن يشتاقوا لاتساع البحر الذي لا نهاية له.»
ماذا عن تجاوز كل هذا العمل الشاق و«إرسال» البشر من هذا الكوكب إلى كوكب آخر؛ تلك الحيلة التي استخدمها الخيال العلمي لمدة ٥٠ عامًا؟ إن الانتقال الآني للمادة هو نقل المعلومات الكاملة الخاصة بالمرء، ذرة بذرة، إلى مكان بعيد بسرعة الضوء. واستخدام هذه التقنية سيتيح إمكانية الحياة المعلقة (تعطيل عمليات الحياة دون الوصول بالأفراد إلى حد الوفاة) وعمل نسخ احتياطية في حالة لم يَسِر شيء ما على ما يرام مع النسخة الأصلية. لوقت طويل كان الاعتقاد السائد هو أنَّ تعقد الحالات الكمومية قد يحول دون نقل وحدات المعلومات الكمومية؛ التي يطلق عليها اسم «البتات الكمومي». لكن في عام ١٩٩٣ نشر تشارلز بينيت، الباحث في شركة «أي بي إم»، شرحًا أنيقًا يوضح أن الانتقال الآني للمادة ممكن من حيث المبدأ.٥
لا يسهل تنفيذ مثل هذا الأمر في المختبرات. في عام ٢٠٠٩ برَّد كريستوفر مونرو وزملاؤه في «المعهد المشترك للأبحاث الكمية» ذرتين من الإيتربيوم حتى درجة الصفر المطلق تقريبًا، واستخدموا الموجات الميكروية لوضعها في حالة متشابكة.٦ وبعد ذلك استخدموا الفوتونات من أجل «قراءة» حالة كل ذرة، مع أنه فصل بينهما بمسافة متر. أظهرت النتيجة أن المعلومات الكمومية يمكن فعلًا نقلها. لكن الأمر لم يصل إلى النحو الذي يبدو عليه في مسلسل الخيال العلمي «ستار تريك»، فلم تنجح سوى محاولة واحدة من بين كل ١٠٠ مليون محاولة للنقل الآني للمادة، واستغرق الأمر ١٠ دقائق لنقل بت واحد من المعلومات الكمومية عبر مسافة متر. وفي هذا قال مونرو: «نحن بحاجة للعمل على ذلك الأمر.»

(٢-٢) عوالم جديدة جريئة

على الأقل نحن نعلم ما نواجهه، فعلى مدار مقياس زمني يمتد مليار عام سنشهد اندماج القارات (مجددًا)، وانخفاضًا في مستوى ثاني أكسيد الكربون إلى ما هو أقل من المستوى المطلوب لدعم الحياة، يليهما غليان المحيطات، ويُشوى السطح ويصير مجدبًا، ثم دوامة الموت النهائية وسقوط كوكبنا داخل الشمس. لقد رأى علماء الفلك المستقبل، وهو ليس جيدًا. وفي عام ٢٠٠٨ عُثر على حطام من الصخور يدور حول نجم قزم أبيض يدعى «جي دي ٣٦٢»، ويحتمل أن ذلك الحطام هو بقايا لكواكب مدمرة.

ماذا لو أن بإمكاننا الانتقال إلى موطن أفضل؟ انتقلت فكرة إعادة التأهيل من الخيال العلمي إلى العلم الحقيقي بسلاسة. قدم أولاف ستابلدون أول وصف خيالي عام ١٩٣٠ حين أعيد تأهيل كوكب الزهرة في روايته الرائدة «الرجال الأوائل والأواخر». وحديثًا، مثلت إعادة التأهيل صلب ثلاثية «المريخ» لكيم ستانلي روبنسون. وترجع الريادة في طرح المناقشة العلمية لمفهوم إعادة التأهيل إلى كارل ساجان، الذي كتب عن التغيرات التي يمكن عملها على الزهرة عام ١٩٦١ والمريخ عام ١٩٧٣. تُعرف إعادة التأهيل بأنها عملية تعديل بيئة أحد الكواكب أو الأقمار كي يكون مأهولًا بالبشر.

في ضوء حقيقة أن الشمس ستزداد حرارة، لنستبعد الزهرة من القائمة ونركز على المريخ. إن كوكب المريخ أبعد منا عن الشمس بنسبة ٥٠٪؛ لذا الانتقال إلى هناك قد يكسبنا قدرًا كبيرًا من الوقت أو يمنحنا ملاذًا إن أتلفنا الأرض تمامًا. وإعادة هندسة أحد الكواكب هي مشروع هائل، لكن وكالة ناسا تأخذ الفكرة على محمل الجد بما يكفي لأن تستضيف مؤتمرات عنها وتمول أولى دراسات التصميم المتعلقة بها (الشكل ٨-٣).
fig42
شكل ٨-٣: إن وجود قاعدة على سطح المريخ قد يكون أولى الخطوات تجاه إعادة تأهيل الكوكب الأحمر كي يصير ملائمًا لاستضافة البشر. قد تبلغ تكلفة إقامة قاعدة بسيطة فحسب مئات المليارات من الدولارات، ووجود خط إمدادات من الأرض إلى المريخ أمر مكلف للغاية؛ لذا تعتمد كل خطط إعادة التأهيل على التنقيب عن مواد محلية والتشييد على سطح المريخ من أجل العمل تدريجيًّا على جعل البيئة هناك صالحة للحياة. (NASA/Glenn Research Center)
ثمة ثلاث مراحل تجري خلالها إعادة التأهيل؛ أولًا: لا بد من جعل الكوكب قابلًا للحياة عليه. السطح على كوكب المريخ بارد وجاف ويعتقد أنه مجدب؛ لذا هذا يستلزم منا زيادة درجة الحرارة وتكوين غلاف جوي أكثر سمكًا. كان روبرت زوبرين، مؤسس «جمعية المريخ»، وكريس ماكاي، عالم الأحياء الفلكي في «مركز أميس للأبحاث» التابع لوكالة ناسا، قد توصلا إلى الكيفية التي ربما يُجرى بها ذلك بالتفصيل. من المرجح أن تكلفنا أرخص الطرق مئات المليارات من الدولارات وتستغرق ٥٠ عامًا، وكل هذا فحسب من أجل خلق مستوى أساسي من قابلية استضافة الحياة الميكروبية. يكفي هذا لإصابتنا بالدهشة، لكن تذكر أننا نحاول إنقاذ العالم!٧

يمكن أن نبني على سطح المريخ مرايا تمتد كمرآة واحدة متصلة على مساحة ٨٠ كيلومترًا ونضعها على قطبه الجنوبي من أجل تبخير ثاني أكسيد الكربون المتجمد، لكن مهام الهندسة المرتبطة بذلك صعبة. ويمكن توجيه الكويكبات التي تحتوي على الأمونيا والماء نحو المريخ من نطاق المجموعة الشمسية الخارجي، مع الاستخدام الماهر للغازات المتطايرة المتجمدة كوقود للصواريخ التي قد تعمل على نقل الكويكب. وربما تُوجَّه المذنبات إلى المريخ بالطريقة نفسها. قد يكون لكلا النوعين من الارتطامات تأثير جانبي مفيد يعمل على تحرير النيتروجين من تربة كوكب المريخ كي يعمل كحاجز في الغلاف الجوي الجديد. وتشمل آخر طريقة تشييد محطات لتوليد الطاقة على سطح الكوكب، مع تصنيع مركبات الكلوروفلوروكربون لكي تعمل كغازات دفيئة قوية. ويمكن أيضًا ضغط تلك الغازات وتوصيلها من كوكب الأرض عن طريق الصواريخ.

الهدف من عملية إعادة تأهيل المريخ هو استخدام التعزيز الإيجابي لمصلحتنا، فمع تحرير ثاني أكسيد الكربون من مخزنه المتجمد في القطبين سيعمل كأحد غازات الدفيئة، متسببًا في احترار الكوكب وزيادة سرعة ذوبان القطب. يعتقد زوبرين وماكاي أنه يمكن زيادة سمك الغلاف الجوي وتسخين السطح بدرجة كافية لتكون المياه الراكدة والدورة المائية البيولوجية. ويمكن شفط المياه من طبقات المياه الجوفية بواسطة المضخات وآلات الحفر.

ستكون المرحلة التالية هي تكوين غلاف حيوي، وسيتم ذلك على الأرجح باستخدام كائنات البيئات القاسية المعدلة وراثيًّا من أجل المهمة. قد تكون مقاومة للإشعاع ومنتجة للأكسجين كي تبدأ المرحلة الثالثة وهي: مهمة جعل عناصر الغلاف الجوي صالحة لتنفس البشر. ومع ذلك، ربما يمكن للأفراد أن يعيشوا على سطح المريخ في المرحلة الثانية مستخدمين أجهزة تنفس لكن دون سترات الضغط، ويمكن بناء مناطق سكنية كبيرة قابلة لتوسيعها. قد يستغرق العمل على جعل المريخ مماثلًا تمامًا لكوكب الأرض آلاف السنوات، وقد يتعين علينا إنفاق مزيد من الأموال إن تطلب إنجاز الأمر على نحو أسرع.

إن أصحاب الرؤى المستقبلية الذين يضعون الخطط لإعادة التأهيل هم علماء ومهندسون يتصفون بالحصافة، لكنهم يجنحون إلى الطيش أحيانًا. فإنشاء وطن جديد لمليارات البشر سيكون مكلفًا على نحو ضخم، والوصول إلى هناك سيتطلب دون شك رحلات فضائية دورية وأسطولًا من الصواريخ عالية الكفاءة كي تقوم بدور «الحافلات» بين الكوكبين؛ لذا الأمر يستحق التفكير في استراتيجيات أخرى.٨

(٢-٣) هندسة المستقبل

ناقشنا بالفعل احتمالية اصطدام أحد النجوم المارة بسحابة من المذنبات بحيث ترسل العديد منها في اتجاهنا، لكن وفق المقاييس الزمنية الأطول للتطور المستقبلي للشمس ثمة احتمال أن يمر نجم قريب عبر المجموعة الشمسية بما يكفي لإخراج الأرض عن مسارها تمامًا. وفي ضوء ما سنواجهه قد لا تكون تلك نتيجة سيئة، لكن احتمال حدوث هذا الأمر قبل أن تصير الشمس عملاقًا أحمر هو ١ إلى ١٠٠ ألف، وهناك احتمال أقل قدره ١ إلى ٢ مليون أن يلتقطنا أحد النجوم المارة؛ من ثمَّ نحظى بوطن جديد وفرصة جديدة للعيش. لكن كما يقولون، ليس الأمل استراتيجية يعتمد عليها.

ماذا عن نقل الأرض عمدًا إلى مكان أكثر أمانًا؟ تلك مهمة صعبة لا يسعنا تحقيقها بأن نجعل سكان الصين يقفزون في الوقت ذاته (الأمر الذي لا تأثير له على الإطلاق)، أو أن يوجه الجميع مفرقعاتهم النارية إلى السماء في الوقت نفسه. سيتعين علينا أن نطوق كويكبًا ضخمًا ونرسله تجاه الأرض، لا لكي يصطدم بالأرض بل لكي يقترب منها بدرجة كافية بحيث يوفر دفعة جذبوية نحو الخارج. هل نثق حقًّا في قدرة علماء الصواريخ على تنفيذ مثل هذه المخاطرة؟

الأمر ليس خياليًّا كما قد تعتقد، فقد استخدمت وكالة ناسا هذه الطريقة بالفعل في بداية عملها؛ إذ استخدمت المشتري وزحل من أجل «دفع» مسباري جاليليو وكاسيني الفضائيين وإرسالهما إلى أعماق المجموعة الشمسية. وإليك الطريقة: إن أرسلنا مسبارًا نحو مسار أحد الكواكب بحيث يلحق بالكوكب من خلفه فسيكسب بعض الطاقة من الحركة المدارية للكوكب، ومن ثم ستزيد سرعة المسبار وتبطئ سرعة الكوكب، مما يجعله يقترب من الشمس قليلًا. يتسم كوكب المشتري بأنه ضخم للغاية، حتى إنه لن يتأثر أبدًا بفقد الطاقة، لكنه ساعد في دفع المسبار جاليليو في طريقه. وقد نجح الأمر في الاتجاه الآخر أيضًا، فإذا أرسلنا مسبارًا أمام الكوكب، فسيفقد المسبار الطاقة ويمنحها للكوكب الذي سيبتعد قليلًا عن الشمس.

توصل العلماء دون كوريكانسكي وجريج لافلين وفريد آدامز إلى التفاصيل ونشروها على نحو جدي في دراسة لعلم الفلك خضعت لمراجعة الأقران.٩ كل ما يتطلبه الأمر هو كويكب يماثل جزيرة لونج آيلاند في حجمه ومرفق به صواريخ (تعمل بالطاقة الشمسية) لتوجيهه حتى مسافة ١٦ ألف كيلومتر من الأرض، وستُدفع الأرض مسافة ١٦ ألف كيلومتر بعيدًا عن الشمس. ليس ذلك بالقدر الكبير؛ لذا علينا أن نعيد استخدام الكويكب، وهو ما يعني إرساله نحو مدار المشتري أو زحل لاستعادة بعض الطاقة ثم نؤرجحه عن طريق كوكب الأرض من أجل تمريرة أخرى. قد يستغرق إتمام كل تمريرة ١٠ سنوات، وبعد مليون تمريرة سنكون قد نقلنا الأرض إلى مدار يعادل مدار المريخ. بصورة أساسية نحن نحول الكويكب إلى مكوك ينقل الطاقة من المشتري أو زحل ويسلمها إلى الأرض لزيادة حجم مدارها.

يبدو الأمر رائعًا، لكنه «شديد» الخطورة، فعلى مسافة ١٦ ألف كيلومتر سيبدو الكويكب مروعًا؛ إذ سيلوح في الأفق مماثلًا في حجمه القمر في السماء. ستبلغ قوته المدية أكبر ١٠ مرات من قوة القمر، وهذا سيسبب أمواج تسونامي وعواصف كبيرة. وفي كل مرة يمر فيها بالأرض سيكون علينا أن نستعد لأوقات عصيبة. سيتعين علينا أن نفعل ذلك مليون مرة، وفي كل مرة سيكون هامش الخطأ قليلًا. ومن شأن عملية حسابية واحدة غير صحيحة أن تؤدي إلى تصادم من شأنه — كما أشار واضعو الدراسة في جفاء — «أن يفني المحيط الحيوي تمامًا، على الأقل حتى مستوى البكتيريا». وحسبما يوضح لافلين: «ثمة قضايا أخلاقية عميقة مرتبطة بالأمر، وتكلفة الفشل عالية على نحو غير مقبول.» دعونا نأمل ألا نصل إلى النقطة التي يكون فيها ذلك اختيارًا إجباريًّا.

(٢-٤) الإنسان الخارق قادم

ما نوعية الأشخاص الذين سيتعاملون مع هذه الخيالات المستقبلية التي ستعيشها المجموعة الشمسية في المستقبل؟ لقد قابلنا بالفعل مَن يجمِّدون أنفسهم أملًا في إعادتهم للحياة بواسطة تقنية لم تبتكر بعد، وقابلنا راي كرزويل الذي يتنبأ بأننا سنسمو عما قريب عن أجسادنا البيولوجية. هذه مجرد نزعات في حركة فلسفية أكبر يطلق عليها اسم «ما بعد الإنسانية».

إن حركة ما بعد الإنسانية حركة دولية تستكشف استخدام العلم والتكنولوجيا في تعزيز قدراتنا الذهنية والجسدية والتغلب على الجوانب البشرية كالمرض والشيخوخة والموت اللاإرادي، إنها تفترض أن الإنسان سيخضع لتحسينات تجعل منه ما يشبه البطل الخارق (الشكل ٨-٤).
fig43
شكل ٨-٤: صورة تقديرية للإنسان الخارق، توضح تحسينات مصممة من أجل دعم إمكانية طول العمر أو حتى الخلود. والكثير منها صور متقدمة لتقنيات نعمل على تطويرها الآن. (Natasha Vita-More, Extropy Institute)

مع أن هذه الحركة مستقبلية فإنها تعكس أفكارًا قديمة لقصة جلجامش، وتربطها خيوط متصلة ببعض كبار مفكري المدرسة الإنسانية في عصر النهضة. وفي العصر الحديث تأثرت هذه الحركة بعالم كمبيوتر يدعى مارفين مينسكي، وارتبطت بمجموعة من الأكاديميين بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس في ثمانينيات القرن العشرين. كان أحدهم رجلًا يدعى إف إم-٢٠٣٠ (إف إم إسفاندياري سابقًا)، وهو روائي فارسي كتب قصصًا واقعية وكذلك خيالية، وهو واحد ممن جمدت جثتهم شركة ألكور. وقد قال ذات مرة: «أنا شخص ينتمي إلى القرن الحادي والعشرين وجرى إطلاقه في القرن العشرين على سبيل الخطأ، ولدي حنين شديد للمستقبل.»

أيضًا أثرت حركة ما بعد الإنسانية على الحركة النسوية من خلال كتابات دونا هاراواي. وقد انتقل مقالها بعنوان «بيان البشر الآليين» بعيدًا عن القصص المبنية على المسيحية أو عقدة أوديب نحو اعتناق الإنسانية التي تسمو فوق ازدواجية النوع.١٠ وتأسست «الجمعية العالمية لما بعد الإنسانية» عام ١٩٨٨ وضمت ٥٥٠٠ عضو من ١٠٠ دولة، ومؤخرًا غيرت اسمها إلى «الإنسانية+»، ويحرر رسالتها الإخبارية التي تحمل الاسم نفسه آر يو سيريوس (كين جوفمان سابقًا) الذي ترشح لرئاسة الولايات المتحدة عام ٢٠٠٠ عن حزب الثورة.
تتصف حركة ما بعد الإنسانية بأنها محل جدال وكثيرًا ما يساء فهمها. والطابع العام الأساسي لفكر ما بعد الإنسانية يركز على مخاطر، وأيضًا مزايا، تغيير البشر من أجل أن يحيوا حياة أفضل وأطول، علاوةً على أنه يبدي الاهتمام لعدم المساواة المحتمل في إمكانية الوصول إلى هذه التقنيات. كان عالم الوراثة جي بي إس هالدين قد لاحظ عام ١٩٣٢ أن كل تقدم في علم الأحياء أو علم الوراثة قد «يبدو أولًا للمرء على أنه تجديف أو ضلال». وليس هناك الكثير من الحركات التي يمكن أن يصفها أحد النقاد، كفرانسيس فوكوياما، على أنها «أكثر الأفكار خطورة في العالم»، ويصفها أحد المؤيدين، كرونالد بيلي، على أنها «الحركة التي تجسد بصورة مصغرة أكثر طموحات الإنسانية جرأة وشجاعة وخيالية ومثالية». ويوضح تخطيط مفاهيمي التقنيات التي ستعتمد عليها الحركة كي تحقق هدفها (الشكل ٨-٥).
fig44
شكل ٨-٥: نموذج مفاهيمي لما بعد الإنسانية. يوضح النموذج المسارات التي قد تتطرق بها أبحاث التقنيات الجديدة للقضايا الأساسية كالشيخوخة والموت البيولوجي. وتدعو الاستراتيجية التزايدية للتحسين؛ بحيث يكون الهدف النهائي هو الخلود. (Danila Medvedev, Russian Transhumanist Movement)
عند سماع هذه الأفكار من نيك بوستروم تبدو جدية ومعقولة، ويبدو من غير النضج ألا توضع في الاعتبار بجدية. لقد شارك بوستروم في تأسيس الجمعية العالمية لما بعد الإنسانية، وهو أستاذ للفلسفة وأيضًا مدير معهد مستقبل البشرية بجامعة أكسفورد، وهو يعتقد أن أي وفاة سابقة للموت الحراري للكون هي سابقة لأوانها، ويعتقد أن التكنولوجيا التي تعمل على «تحميل» العقول بالبيانات على نحو مستقل عن المخ البيولوجي ممكنة بالفعل. يقول: «يمكنك تجميد المخ وتجزئته إلى شرائح صغيرة ثم مسح كل شريحة بواسطة إحدى التقنيات المجهرية ثم استخدام برنامج معالجة الصور لاستخلاص تخطيط ثلاثي الأبعاد للشبكة العصبية التي يعمل بها مخك.» ويوضح بحث مكون من ١٤٠ صفحة موجود على موقعه الإلكتروني خطة عمل لمحاكاة المخ بالكامل.١١ ويعتقد بوستروم أن معظم الأكاديميين يبدون انتباهًا ضئيلًا لمثل هذه الموضوعات، وهدفه هو «محاولة تمكين البشرية — على نحو منطقي ومدروس — من التفكير في مستقبلها وأن تتطرق لهذه التحديات بحكمة أكبر».

يبدو أن الأتباع الجامحين لهذه الحركة شديدو الغرابة، لكن حركة ما بعد الإنسانية تواجه قضايا ستحتل الصدارة في القرن الحادي والعشرين. ويعلن بيانها الرئيسي أنه عن طريق «اعتناق التقنيات الجديدة سيكون لدينا فرصة أفضل لتحويلها إلى مصلحتنا أكثر مما لو حاولنا منعها أو حظرها». لا تعتبر هذه الحركة الإنسانية مركزًا للوجود؛ فهي تدعو إلى «نجاح كل صور الإدراك؛ سواء على صورة أشخاص ذوي ذكاء اصطناعي أو بشر عاديين أو بشر خارقين أو حيوانات غير بشرية». وربما يكون أكثر الأسئلة إثارة من «ما الذي سيوجد في المستقبل؟» هو «من الذي سيوجد في المستقبل؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤